حسّ سليم
Photo
التنويري أو الملحد الجديد هو الطفل الأوديبي (عقدة أوديب) الذي قتل أباه (الرب) ليخلو له المجال مع أمه (المسيحية)، يعتقد أن أباه لم يقدر أمه كما تستحق لهذا يستحق الموت، وسيفعل ذلك هو جيدا لو أزاحه، وقد صدق في هذا.
المسيحية بالنسبة للتنويري ليست مجرد دين كبقية الأديان، هي سلفه المشترك المباشر، ما يجعلها في نظره هي الدين الأكثر تحضرا ورقيا، وهي المعيار الذي تقاس عليه بقية الأديان لتعرف هل هي حقاً مجرد أديان أم تحمل إضافات أخرى غير دينية وغير مسيحية، فكل ما يتجاوز الحالة الروحية المسيحية فهو ليس ديناً.
نظرة التنويري للحياة كانت دائما مسيحية، وقيمه وتصوراته وأيديولوجياته المعاصرة كذلك، فهو لم يسقط صدفة من السماء على أرض مسيحية بل خرج من تربتها ولا يعرف مجالا آخر سواها فهو فيها مثل السمكة في البحر، وحتى عندما يبدو وكأنه يعاتب المسيحية فهو لا يعاتبها سوى على أنها ليست مسيحية بالقدر الكاف.

ودوكينز هنا لم يقل سوى الحقيقة، يقول أنه مسيحي غير مؤمن بل مسيحي ثقافة. لكن غير مؤمن بماذا؟ هو غير مؤمن بالله فقط، أما من حيث المسيحية فهو لا يقل عن آباء الكنيسة.

أما التنويري العربي فعقدة النقص لديه أمام المسيحية قديمة، فمنذ القرن 19 وهو يتحسر أن أمه لم تكن المسيحية ويحسد أبناءها عليها ويقسم أنها لو كانت أمه لأبرها أكثر منهم. التنويري العربي لم يستيقظ بعد من صدمة تعرفه على الغرب في القرن 19 ومشاعره ما تزال هناك دون تحديث، وما يزال يعتقد أنه من رقي الإنسان أن يكون مسيحيا لأن الأوروبي كان مسيحيا، وعندما يرى الأقليات المسيحية في بلاده يهرع إليهم والدموع تسبقه ليقول: أحبابي أحبابي يا ليتني كنت منكم.
طبعا هو لا يقول هذا صراحة، لكن عيون العاشق تقول أكثر من لسانه، لهذا من الصعب أن تجد تنويري عربي مثل دوكينز يقول باعتزاز: أن مسلم ثقافة، وإن قالها فستكون بنبرة: أنا للأسف مسلم ثقافة. لأن التنويري الأصلي تحركه عقدة أوديب أما النسخة المقلدة فهي مجرد عقدة نقص.
لم تكن الكنيسة يوما مسيحية كما هي اليوم، ولم يكن على رأسها بابا مسيحي كما هو حال البابا فرنسيس، ولا يكره هذا البابا أحد مثل اليمين المسيحي في أوروبا الذي يعتبره يساريا لا لشيء إلا لأنه يحاول أن يكون مسيحيا. وهذه من المفارقات تنفرد بها المسيحية في أوروبا، فأكثر الناس ادعاءً للمسيحية (اليمين) هم أبعد الناس عنها، وأكثر الناس رفضا للمسيحية (اليسار) هم أقرب الناس إليها في الجوهر… كما يقال في العامية: المهم، خالوطة وخلاص.
مهما ضُرب حرسها الثوري في الخارج، ومهما ضُرب حلفاءها ووكلاءها، فإن إيران ليست حمقاء كثور تستفزه بخرقة حمراء للدرجة التي تجعلها تصعد من ردة فعلها إلى مستوى قد يورطها في حرب شاملة حتى لو أبيد حلفاءها وقادة حرسها الثوري الذين يلعبون دور ممتص الصدمات بالنسبة لها، هذا لا يعني أن حلفاءها يفكرون مثلها، لكن من وجهة نظر إيران الخاصة هم من عليهم حمايتها وليس العكس مقابل تمويلهم وتسليحهم، كل هذا من أجل غايتها الكبرى وهدفها الإستراتيجي الأول حاليا الذي هي مستعدة للتضحية بكل شيء من أصل الوصول إليه: القنبلة النووية. وحدها القنبلة النووية مع منظومة صواريخ ذات كفاءة عالية يمكنها أن تمنح إيران أو أي دولة حصانة من التهديدات العسكرية.
في كثير من الأحيان تسيء لنفسك عندما تحاول الحديث بموضوعية وبنوع من التجرد عن جهة ما بغية فهم الواقع على حقيقته أمام الغوغاء دون دفع ثمن الدمغة من السب واللعن لتلك الجهة والاتيان بكل تاريخها أولا، لأن ما ستقوله سيفهم تلقائيا كتجميل أو دعم لتلك الجهة، يجب أن تبدأ حديثك أمامهم بوصفها بأنها بنت كذا وكذا ثم يمكن أن تأخذ راحتك في الحديث.
كمثال على هذا نجد بعض المتحدثين في الإعلام الغربي عندما ينوي أحدهم الحديث عن فلسطين، يجب أولا أن يبدأ حديثه بلعن حركة حماس ووصفها بالإرهابية ووصف 7 أكتوبر بأنه الجريمة البشعة التي لا قبلها ولا بعدها، ثم يمنح تأشيرة العبور نحو محاولة وصف الواقع كما هو.
هذا لا ينفي وجود من يدعي الموضوعية لغرض مخالف، لكن يمكن كشف زيف موضوعيته من خلال انتقائيته وحيده عن تلك الموضوعية عندما يتعلق بمواقف أخرى.
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
الدرس الأول في التنمية البشرية وأشياء أخرى
إيران حاليا مثل لاعب بوكر لا يملك أوراقا قوية بين يديه لكنه وعلى غير عادته تجرأ وقامر بكل شيء دفعة واحدة وأربك بذلك خصمه الذي لم يتوقع ذلك منه ولا يدري هل يتبعه أم ينسحب.
ما فعلته إيران الليلة الماضية من حيث الواقع الملموس هو مشهد استعراضي ضخم (ليس من باب التقليل منه فهو يبقى سابقة) وهو ربما أقصى ما يمكنها فعله بمسيراتها وصواريخها أمام أنظمة الدفاع الإسرائيلية والأمريكية، لكن ورغم ذلك فهي تضع إسرائيل في مأزق، فليس أمام الأخيرة إما أن تقلل من شأن ما حدث وتعلن أنها ردت الهجوم بنجاح وتطوي الملف وكل طرف في زاويته يدعي النصر (الخيار الأكثر أمانا للطرفين)، أو أن تعظم وتهول من شأن ما حدث وعندها سيكون عليها الرد بالمثل وضرب الأراضي الإيرانية مباشرة وهذا قد يورط الولايات المتحدة في مواجهة لا تريدها ولا يدري أحد كيف ومتى ستنتهي.
من يدعون أنها مسرحية صنفين، صنف المطبعين بفخر وهؤلاء لا يمكنك فهم سيكولوجيتهم إلا من خلال مثال العا**ة التي ترمي بقية النساء بالنفاق والعـ** المتخفي (أحيانا هذا صحيح) لتبدو في النهاية هي الصادقة وصاحبة المبدأ، هذا السلوك لا بد منه بالنسبة لهذا الصنف للحفاظ على نوع من الاستقرار النفسي. ونوع ثان ضد التطبيع بصدق وفي نفس الوقت ضد ما فعلته إيران بالمنطقة فاختلطت الأمور عليه لرؤيته العالم على أنه إما أبيض أو أسود.

ندع جانبا الصنف الأول، أنت الذي يعتقد أنها مسرحية ومجرد تمثيلية وضد التطبيع حقا، من تعتقد أنهم يخدعون بهذه التمثيلية، هل يخدعون الصنف الأول أم يحاولون خداعك أنت؟ وإن كنت أنت المستهدف بهذه الخدعة فمن أجل ماذا؟ ما الذي يضيفه موقفك ومعك 200 مليون آخرين في الواقع؟

هذه الحنكة الشعبوية سببها أن الناس لا تستوعب أنه في العلاقات الدولية ليس هناك فريق للخير يضم كل الأخيار مقابل فريق للشر يضم كل الأشرار، وبالتالي يكون الصراع بين شرين أو عدوين لهم هو أمر مستحيل، وإن حدث فهو مجرد خدعة بصرية حتى وإن كان لا يدري أحد ما الجدوى منها. يضاف إلى هذا وهم شعبوي يجعل الناس تعطي نفسها أهمية أكثر مما تستحق، سواءً في المسائل الوطنية أو الدولية يعتقد هؤلاء أن الحكومات الوطنية والأجنبية ترتعد خوفا من موقف الرأي العام وكل ما تفعله هو من أجل إلهائه وخداعه حتى لا يستيقظ ويبطش بها.

هذا لا ينفي أنه قد تجري أحيانا تمثيليات حتى بين أشد الدول عداوة في ما بينها، لكن ليس بمنطق المقاهي بل الذي يحدث هو تنسيق محدود لغاية مشتركة، وإيران بمشروعها التوسعي الحالي في المنطقة لا يسعها إلا أن تصطدم بإسرائيل بغض النظر عن طبيعة النظام، وتركيا كذلك لو فكرت في مد نفوذها مرة أخرى في المنطقة كما حاولت في وقت من الأوقات، ستصطدم بإيران وإسرائيل بلا شك، وكذلك أي دولة ذات طموح إمبراطوري ومهما كان شكل أيديولوجيتها.

خلاصة الكلام، وحتى تريح رأسك من البحث في نوايا الدول، أنظر لما يحدث على أنه دائما رغبة في تحقيق مصالح وطنية، قد لا يكون هذا دقيقا دائما، لكن في غالب الأحيان الأمر كذلك، وما تفعله إيران أو السعودية أو الأردن أو مصر كله بدافع المصلحة الوطنية أولا، قد تختلف في تقدير تلك المصلحة وتعتبر أن السياسة المتبعة خاطئة، لكن ما يحدث ليس من باب الرغبة في العمالة لأحد لدى البعض، وليس من باب الطهارة الثورية لدى البعض الآخر، كلهم على استعداد لفعل أي شيء لتحقيق ما يعتبرونه مصالح وطنية في إطار الممكن والمتاح أمامهم، وقد فعلوا ذلك كلهم في وقت من الأوقات بما في ذلك مدعي الطهارة منهم. هذا لا يعني تبني موقف عدمي تتساوى فيه كل المواقف بل تبني موقف مبني على فهم الواقع كما هو لا على أوهام، فتختار مساندة فريق ما وأنت غير مهتم بصدقه أو كذبه بل تنظر إلى أين توجهه مصالحه.
نفس من يطالبون اليوم غيرهم بتجاوز ما فعلته إيران في المنطقة باسم القضية الفلسطينية وتحرير الأقصى ومناهضة الكيان، هم أنفسهم الذين لم يشفع لصدام عندهم قصفه ومناهضته للكيان وتسليحه للمقاومة بدعوى ما فعله بهم وبإيران.
هناك علاقة غريبة بين انحدار البشر وخروجهم حاسري الرأس، وكأن الإنسان نزع ما على رأسه ومعه الفاصل بين الخاص والعام وإحساسه بالرمزيات والمقدس والشرف.
من العبث ومن الحماقة أحيانا أن تحاول جعل الخنزير يشمئز من التمرغ في الوحل والفضلات، بالنسبة له أنت في عالم وهو في عالم آخر تماما بقوانين أخرى. هو سعيد بتلك الفضلات كسعادتك أنت بالصابون، والوحل بالنسبة له هو حمام أندلسي فاخر.
القصد هو أن محاولة اقناع كل الناس هي قضية خاسرة لا محالة، لأن ما تعتبره أنت انحطاطا سيكون دائما بالنسبة للبعض عين الرقي، فلا جدوى من أن تقول لابن عصره البار أن ما في زمانه من كذا وكذا هو انحطاط لأنه يعشق زمانه بالتحديد بسبب كذا وكذا. الشيء الوحيد عبر التاريخ الذي كان يحسم هذه الجدلية هي القوة، فإما أن تفرض الصابون أو عليك تحمل وجود الفضلات.
حسّ سليم
Photo
الفكرة السائدة عن جيل الشباب الحالي الأقل من 30 سنة، أو بالتحديد ما يعرف بـ Gen Z، هو أنه جيل أكثر يسارية وليبرالية من الأجيال السابقة، وهذا صحيح لو أخذنا هذا الجيل كله ككتلة واحدة. لكن لو دققنا في الأمر، سيظهر لنا مشهد مختلف تماما يتضمن مفارقة غريبة حيث نجد هذا الجيل مفرطا في تقدميته في مسائل معينة ومحافظا جدا في مسائل أخرى.

بحسب دراسة نشرتها صحيفة الفاينانشال تايمز في بداية السنة الجارية شملت الدول الغربية وبعض الدول غير الغربية مثل الصين وكوريا الجنوبية وتونس، يتضح لنا أن تلك المفارقة تعبر في الحقيقة عن توسع الهوة الأيديولوجية بين الذكور والإناث؛ حيث أصبح الذكور أكثر محافظة بالمقارنة مع آبائهم، وأصبحت الإناث أكثر تقدمية من أمهاتهن. وكانت كوريا الجنوبية صاحبة الهوة الأوسع بفارق يتجاوز 50 نقطة بين الذكور والإناث.

نأتي الآن إلى محاولة فهم الأرقام وسبب هذه الهوة بين الجنسين ولدى هذا الجيل بالتحديد. ولفهم هكذا ظاهرة لا بد لنا من محاولة تجنب العامل الواحد الذي يخترل كل شيء (كل الاقتراحات مرحب بها).

1 - الفروق الطبيعية بين الذكور والإناث من حيث الثورة/المحافظة: حيث نلمس لدى الذكور ومنذ الصغر ميولاً- تكاد تكون غريزية- نحو الراديكالية والثورة والتمرد على القوانين والسلطة، لهذا نجد أن الذكور هم قوام الثورات (الثورات الحقيقية وليس ثورات المراهقات) و أنهم أكثر من نجدهم في السجون. في المقابل تميل الإناث نحو المحافظة لكونهن الحلقة الأضعف في حال أي اضطراب سياسي واجتماعي، ولأنهن يبحثن غريزيا عن الاستقرار نظرا لكونهن المكلفات بالحمل والرعاية. والمحافظة هنا تُفهم بالمعنى الحرفي للكلمة وليس بالمعنى الاصطلاحي السائد؛ بمعنى أن النساء يفضلن المحافظة على ما هو سائد، أي الأفكار التقدمية التي تهيمن حاليا على العالم كله تقريبا بدرجات متفاوتة. في حين يفضل الذكور الحركات والأحزاب الرجعية التي تعتبر ثورية في عصر تقدمي. ومن تجليات هذا الفارق التزايد الرهيب في نسبة من يعرفن أنفسهن بالشذوذ مقارنة بالذكور، حيث نجد أن 28,5% من بنات هذا الجيل في الولايات المتحدة يعرفن أنفسهن بالشذوذ مقابل 10,6 للذكور، في حين أن هذه النسبة كانت قبل ثلاثة أجيال (جيل البومرز والثورة الجنسية) 1,9% للإناث و2,7% للذكور (تأثير السائد والموضة واضح جدا)

2 - ميل الإناث نحو التسامح مع الخطأ وتقديم الحجج العاطفية مقابل ميل الذكور نحو النظام والحجج الصارمة: وهذا ما يتجسد في الواقع بعدم اهتمام الأنثى بالشأن العام إلا ضمن ما يؤثر مباشرة على الشأن الخاص، ومن هنا يجد التقدميون صعوبة في دمجها في الحياة السياسية رغم ما يقدمونه من تسهيلات وتمييز إيجابي. وحتى عندما تنخرط الأنثى في الشأن العام فإنها تدخله في غالب الأحيان من باب النسوية (ذاتها)، في حين يفضل الرجل القضايا المجردة التي تتجاوز ذاته كشخص، فنرى لديه تصلبا أقوى في قضايا تتعلق بالمهاجرين أو المتحولين جنسيا ..إلخ (طبعا هذه "الإطلاقات" تثير غيظ المعاصرين، وهذا الممتع فيها)

3 - ميزان الربح والخسارة: ترى الإناث أن الحركات التقدمية تمنحهن مميزات أكثر، في حين أن الذكور يعتبرون أن الحركات التقدمية ذهبت إلى حد أصبحوا معه الخاسرين في اللعبة سواءً في التعليم أو العمل أو الأسرة، وبالتالي أصبحوا يشعرون بالضياع ويبحثون عن طرق لقلب الطاولة بما عليها (هذا لا يشمل الأقلية المهيمنة من الذكور).

ملاحظة: التمرد والمحافظة ليستا فضيلتين في حد ذاتهما دون طرح سؤال: "على ماذا؟". وبالتالي لا يعيب المرأة محافظتها ولا يشرف الذكر تمرده، وإلا فلا معنى لمقولة: "الرجل والمرأة يكملان بعضهما البعض". المراهقون فقط هم من يتحدثون عن تكامل الأدوار بين الجنسين ثم يعيبون على المرأة أدوارها.
الوحيد الذي يقع هنا في أزمة تناقض هو التقدمي الذي لطالما جعل التمرد لمجرد التمرد (التمردقراطية) الفضيلة العظمى ومغادرة القطيع هدفا ساميا في حد ذاته لينتهي به الأمر فردا في أكبر قطيع في التاريخ.
حسّ سليم
Photo
يقال: "لا أسوء من عمى الذي لا يريد أن يرى". فكرة أن لدى الإناث ميل نحو المحافظة والاستقرار ونزوع الذكور نحو الثورة والمغامرة لا ينكرها إلا معاصر أعمت بصيرته دوغمائيات عصره التي لا تريد رؤية الفروق بين الجنسين حتى وهي جلية أمامها كالشمس في كبد السماء.

يمكن لأي شخص أن يلاحظ ميل الإناث نحو المحافظة منذ سنوات الطفولة الأولى: اسأل الآباء والأمهات من أكثر الأبناء طاعة و"سماعا للكلام" وسيقولون لك البنات، واسأل المعلمين من أكثر الطلاب انضباطا والتزاما بتعليمات المدرسة وسيقولون لك الطالبات، واسأل أرباب العمل من أكثر الموظفين التزاما بلوائح الشركة وتعليمات المدراء وسيقولون لك الموظفات، واسأل الشرطة من أكثر المواطنين احتراما للقانون والنظام العام وسيقولون لك المواطنات، واسأل موظفي السجون من أقل النزلاء لديهم وسيقولون لك السجينات، واسأل المسعفين من أقل الناس مخاطرة بحياتهم وسيقولون لك النساء. كل هذه الأمثلة وغيرها كثير تحتم على كل ذي عقل سليم الإقرار بوجود نمطين متباينين بين الإناث والذكور وأن هناك طبيعتين مختلفتين، لكن التقدمي المعاصر قد يفقأ عينيه حتى لا يرى ذلك لأن دوغما عصره أخبرته بانعدام الفروق الطبيعية بين الجنسين التي تتجاوز مجرد الاختلاف الفيزيولوجي لبعض الأعضاء، وإن تبقى القليل من عقله ولم يفقأ كلتا عينيه سيحاول كعادته دحض القاعدة بالاستثناء ويحدثك عن ابنة أخته وحماته وجارة ابن خالة صديقه أو يأتيك بحالة ما في بقعة ما في زمن ما توافق زعمه في نظره، ومشكلته هنا أنه في الأساس لا يفهم فكرة وجود أنماط عامة، ولا يستوعب أن التعميم لا يشمل كل فرد بالضرورة، ولا يدرك أن استثناءاته لا تنفي القاعدة بل تؤكدها.

أما لو ألقينا نظرة على تاريخ الثورات السياسية والأيديولوجية ضد ما هو سائد وضد السلطة السياسية فلن نجد ثورة كان قوامها الرئيسي من النساء أو حتى بمساواة بين النساء والرجال، وحتى الحركة النسوية لم تكن ثورية بالمعنى الحقيقي لا من حيث الوسائل ولا من حيث فلسفتها، بل كانت مجرد حلقة أخرى ضمن سلسلة طويلة بدأها الرجال بالتمرد على ما كان قائما من أجل المساواة ونيل الحقوق للأفراد ثم لحقت بهن النساء بعد عقود طويلة ضمن نفس الاتجاه والنسق عندما أصبحت "الثورة" لا تشكل خطرا حقيقيا على الحياة، وبالتالي لم تكن الحركة النسوية سوى تقليد من النساء لما سبق من ثورات ويكاد يكون الأمر حتمية تاريخية أو كما يقال مجرد تحصيل حاصل.

كمثال على الثورات التي كان فيها صدام مباشر مع السلطة السياسية (حتى وإن كانت ضمن روح العصر) سنأخذ كمثال فقط أخر انتفاضة في أيامنا وهي انتفاضة 2022 في إيران (يبدو أننا لن نرتاح من مواضيع إيران والبعض لن يرى من المنشور سواها) التي قدمها وما يزال يقدمها الإعلام الغربي على أنها انتفاضة النساء ضد حكم الملالي، سنجد فيها أمرين: أولا أنها في الحقيقة انتفاضة طبقة برجوازية (هذا اللفظ لا يعني الثراء الفاحش) من سكان المدن الكبرى التي تعيش في الأساس في بيئة ذات نسق غربي يهيمن على العالم (بهذا المعنى، النظام هو الثوري)، بالإضافة إلى الأقليات على الهامش التي ترى نفسها مضطهدة من قبل النظام (هنا كانت الإنتفاضة أشد والرد عليها أقسى). ثانيا أن إجمالي عدد القتلى في هذه الانتفاضة كان 449 قتيلا منهم 29 امرأة فقط وضعف هذا العدد (60) كانوا من الأطفال، وبالتالي حتى في الثورات التي تصفها بروباغاندا التقدميين بثورات النساء، هي في الواقع بعيدة عن أن تكون ثورة نساء، وما يدعيه التقدميون من رومانسيات ثورية للنساء لا يتجاوز الـ "البرافو" التي نقولها للأطفال عندما نرغب في رفع معنوياتهم أو التحفيزات التي يستخف بها دجالو التنمية البشرية عقول ضحاياهم.

طبعا لا ينبغي أن يُفهم مما سبق أن كل الرجال ثوريون أو ثوريون بنفس الدرجة، بل الفكرة أن سقف تحمل دفع ثمن الثورة لدى عموم الرجال أعلى منه لدى عموم النساء، ولو أخذنا الموضوع من باب الأفراد بغض النظر عن جنسهم فسنجد أن غالبية الناس قادر على الثورة إلى حد معين فقط، فهناك من يترك الثورة خوفا من نظرة، وهناك من تخيفه كلمة، وهناك من يردعه حظر حسابه على مواقع التواصل، وهناك من يتراجع عند دفع غرامة مالية، وهناك من يجب أن تفصله من عمله، وهناك من يجب أن تسجنه، وهناك تحتاج لتعدمه ليتوقف. ومن غير عامل نوع الجنس تتدخل أمور أخرى في مدى ثورية الفرد مثل شجاعته، وشبابه، وحالته العائلية (صاحب العيال جبان)، وحالته الاجتماعية (الغنى/الفقر).
وفي النهاية نذكر أن الثورة أو المحافظة ليستا فضيلتين في حد ذاتهما فترفع الثورة من ذاك وتحط المحافظة من الك كما يفعل التقدميين الذين جعلوا التمرد من أجل التمرد الغاية العظمى ثم انقلب عليهم ذلك عندما وجدوا أنفسهم في أكبر قطيع، العبرة في الثورة على ماذا؟ والمحافظة على ماذا؟
حسّ سليم
Photo
مبدئيا الحزب الديموقراطي والجمهوري قد يختلفان في كل شيء إلا دعم إسرائيل، هذا الثابت الوحيد تقريبا في السياسة الحزبية الأمريكية، لكن قد يتغير هذا في العقود القادمة مع اكتشاف جزء من نخبة الشباب الديموقراطي الذي كان يعتاش الحزب الديموقراطي سياسيا على تغذية أيديولوجيات العدالة الاجتماعية عندهم (مهاجرين، شذوذ، نسوية، مناهضة العنصرية… ) لقضية يجمع عليها النظام الأمريكي ويتعامل مع من يعارضه فيها بخشونة وإقصاء بشكل سيدفع هؤلاء الشباب المتعطشون بطبيعتهم لتبني كل ما يشعرهم بالثورية (الثورة من أجل الثورة) إلى التمسك بها أكثر. هؤلاء الشباب يكتشفون حاليا بذهول تام أن قضايا العدالة الاجتماعية التي كانوا يدافعون عنها هي مجرد لعب أطفال مقابل دعم إسرائيل، وهذا ما سيجعلهم يتشبثون أكثر بالكنز الثوري الذي سقط عليهم من حيث لا يدرون مثل عجوز أمسكت بلص، فلسطين اليوم تكاد تكون قبلة حياة لكل ثوري يساري.

حاليا الحزب الديموقراطي في موقف لا يحسد عليه، فهو بين أن يواجه اللوبي الإسرائيلي ويتخلى عن دعمه لإسرائيل، وهذا مستحيل سياسيا وأيديولوجيا (الصهيونية) بالنسبة للجيل الحاكم اليوم في الحزب، أو عليه أن يتنكر لأيديولوجيات العدالة الاجتماعية والثورية الشبابية التي يقوم عليها الحزب، وهذا انتحار حرفي له لأنه يعني إزالة الفروق الأيديولوجية بينه وبين الحزب الجمهوري، والأصل دائما أفضل من التقليد. ما لم يجد عجائز هذا الحزب حلا مبتكرا يسمح بغسل عقول أولئك الشباب أو عزلهم عن البقية حتى لا تنتقل العدوى فإن النتيجة في الحالتين ستكون مثيرة للاهتمام.

ملاحظة: من الحماقة أن تتخذ من مناهضة اليسار دوغما تمشي خلفها كمشجع كرة تحركه ألوان قمصان اللاعبين، والأحمق من هذا أن تجعل من قضية فلسطين صك غفران فلا ترى شيئا بعد ذلك.
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
إذا أردت رؤية اليمين الأوروبي أو الأمريكي وهو يتبنى كل الأساليب اليسارية التي يندد بها طوال السنة فما عليك سوى الحديث عن أبناء العم، سيتحول إلى يساري خالص: مظلومية ولعب دور الضحية، إبتزاز، إقصاء، وصم (معاداة السامية)، ثقافة الإلغاء، صراخ وسلوك هيستيري، تشويش على المنتديات. في خلال ثانية ستجد بين شابيرو يتحول إلى نسوية كوير نباتية ومدافعة عن البيئة والحيوانات.
حسّ سليم
Photo
الخطاب العام المعاصر يتجنب دائما تحميل الأفراد المسؤولية المباشرة أو وصفهم بالأنانية أو التقصير أو الحماقة، يجب دائما تحميل المسؤولية الكاملة لجهة ما قد تكون الرأسمالية "المتوحشة" أو المجتمع "المتخلف" أو الأهل "Toxic"، المهم أن لا يشعر الفرد بتأنيب الضمير نتيجة خياراته في الحياة، ولتحقيق ذلك يتم توجيهه نحو الشعور بالمظلومية وأنه ضحية قوة أكبر منه. هذا ما يمكنك أن تستشعره بوضوح في هذه الحلقة للمخبر الاقتصادي عن حليب الأطفال، حيث أن كل ما قيل فيها تقريبا يدفعك إلى تصور أن الاستبدال الواسع لحليب الأم بالحليب الصناعي سببه الأول والأهم هو مؤامرة رأسمالية حاكتها شركات صناعة حليب الأطفال من خلال استغفال الأمهات الساذجات والتلاعب بعقولهن. أما السبب الرئيسي والأول حقيقة، والذي لا يحتاج الأمر للكثير من الذكاء لتخمينه فقد تم كنسه تحت البساط بجملتين أو ثلاث لرفع العتب، لأنه ليس من الصائب سياسيا (مرادف "العيب" قديما) أن تقول بوضوح أن خروج النساء بشكل كثيف إلى العمل بعد الحرب العالمية الثانية ولساعات طويلة بعيدا عن المنزل هو سبب التراجع الكبير للرضاعة الطبيعية، قولك هذا سيفهم على أنه وصف للأمهات العاملات بأنهن أمهات سيئات وأنهن لسن Super Mamies يمكنهن القيام بكل ما يلزم وكل الأدوار في وقت واحد كما قيل ذلك لهن في المسلسلات وبرامج الثرثرة التي تقدمها برجوازيات يعملن لتحقيق ذواتهن (الترجمة: ملأ الفراغ).

مهما بلغ مكر الشركات ومستوى دهاءها في ترويج حليبها -وهذا موجود فعلا- فسيبقى الدافع الأول لاستعمال الحليب الصناعي بالنسبة للأم (بغض النظر عن دوافعها للعمل دور الرأسمالية في ذلك) هو الساعات العشر التي تقضيها بعيدا عن رضيعها الذي تركته مع مربيات الحضانة أو مع والدتها العجوز، أما التأثير الأكبر لشركات الحليب فيكون حول اختيار العلامة وليس فكرة الحليب الصناعي في حد ذاتها (طبعا سيوجد دائما من قد يعتقدن أن الحليب الصناعي أفضل للرضيع) كما حاولت أن تقدم ذلك اللجان الحكومية لمناقشة مسؤولية الشركات ثم انتهت إلى لا شيء عمليا لأنها تبحث في المكان الخطأ بسبب العمى الأيديولوجي، لكن لا بد لها في النهاية من مذنب ليصلب.

ومع نهاية الحلقة قد يعود إليك الأمل مع عودة المتحدث إلى السبب الأول، لكنه أمل في غير محله، لأنه عاد إليه ليقول أن المشكلة إما في الشركات غير الصديقة للأمهات لأنها على ما يبدو لا تحول مقراتها إلى حضانات أو في الدولة التي لا تقدم عطل أمومة طويلة ليتبنى بعد ذلك منطق ملكة فرنسا عندما قالت: "لماذا لا يأكلون البسكويت (البريوش) إذا لم يجدوا الخبز؟" بانتقاله إلى مثال النرويج الرائدة في مجال الرضاعة الطبيعية (الأعور يُتوج ملكا في بلد العميان) فقط لأن 78٪؜ من الرضع يحضون برضاعة طبيعية إلى غاية 6 أشهر و48٪؜ إلى 12 شهر (نسبة أعلى من الكثير من الدول العربية وفق المتحدث) وكأن النرويج على ضعف نموذجها بالمقارنة مع الوضع الطبيعي للبشر الذي كان سائدا قبل عقود فقط (100٪؜ رضاعة طبيعية) هو نموذج قابل للاستنساخ أينما تريد وكيفما تريد على كوكب زمردة.

ومن غير الرضاعة الطبيعية يمكنك أن تلاحظ نفس الصوابية السياسية والطابوهات في مجالات أخرى قريبة مثل مسألة ازدياد احتمال أن تلد الأم طفلا مختلا عقليا بعشرات المرات كلما كبرت في السن وخاصة مع تجاوز الأربعين، لن تسمع هنا كثيرا من لا يصدقون إلا "العلم" ولا شيء غير العلم يتحدثون عن هذا ويصدعون رؤوس الناس بحملات التوعية عنها لتشجيع النساء على الانجاب خلال فترة الشباب الأولى لأن ذلك يخالف التصورات النسوية عن تحقيق الذات من خلال العمل وتصورات البرامج الديموغرافية: "سيدتي، أخري الانجاب قدر استطاعتك، في حالة حدوث أي مشكلة نحن هنا لتسميتها متلازمة الحب".

خلاصة الموضوع هي أن المعاصرين يرفضون التصالح مع فكرة أنه ما من نموذج حياة قد يختارونه إلا وله ضريبة يجب دفعها فورا أو بعد حين، وعندما يصل دورهم عند محصل الضرائب يبحثون عن جهة ما يحملونها المسؤولية كما يحمل الإنسان الشيطان رذائله بدعوى أنه هو من زينها له.

ملاحظة: ليس موضوع المنشور هو المخبر الاقتصادي في حد ذاته بل هو مجرد مثال لتوضيح الفكرة، المخبر الاقتصادي ما هو سوى وسيلة إعلامية تتحدث مثل غيرها من إعلام Mainstream وفق روح العصر مع كل طابوهاته وصوابيته السياسية.
2024/05/03 06:01:44
Back to Top
HTML Embed Code: