Telegram Web Link
أفهم جيداً غربة ألا تُفهم، أن تضحك الوحدة في غمرة الوعي، أن ترى السياق الكبير للحياة وتعلم تمامًا دورك الإنساني فيه، وأفهم أنك حين تجلس بصحبة الأصدقاء وتحاول بكل الحماس الذي في العالم أن تشرح أنك إمتداد لشيء أهم من وجودك البشري الضئيل، ثم تكتشف أن ذلك أمر قطعت فيه أشواطاً من التفكير والتأمل والسعي والعمل بينما لم يمشي الآخرون فيه خطوة واحدة، أنك تحاول صنع شيء يستحق الخلود بينما الآخرون غارقون في يومياتهم ومتعهم الآنية، لا بأس أن تستغرق الآن في عالمك الخاص، ألا تستطيع شرح هذه الرحلة لأحد، أن يكتنفك الشعور بالهرب الدائم من الأمسيات المرتبة والأحاديث السطحية التي تُثير فيك أفظع أنواع الضجر، والأشخاص الذين لا ينظرون أبعد من أقدامهم، أعلم رعب أن تعرف أكثر ليشعرك ذلك بالعجز التام إزاء أحداث العالم ومجرياته، الوعي مُثير للحزن رُبما، لكنني أُفضّل أن أخوض العمر بهذا الحجم المُتعاظم من الإدراك على ألا أفهم، وأنا حين ينتابني وعي جارف كهذا، كيقظةٍ كُلية باهرة لا يجرحها الشعور، لا أعلم إن كان علي حينها أن أُصفق أمام هذا السياق العظيم أم أبكي .
‏عشتُ بحذَرٍ وسعيتُ طوال عمري خلف النجاة، بيد أنيَ لم أكن يومًا عُرضةً للخطر، تجنّبت الحقيقة، طاردتُ أوهامًا وطاردني الندم، استعجلت غنيمتي كأني جندي في مقدمة الجيش، قبلتُ فنائي ولم أخشى موتي، بل كنتُ أخشى الحياة .
‏تائهٌ ‏كأني ‏منذ وقتٍ بعيد ‏تورّطتُ بحكايةٍ ليست ‏هي حكايتي،‏ لكن عليَّ أن أرويها ‏وأسردها بتفاصيلها ‏حتى النهاية .
لا شيء عندي سوى جرحٍ أُرتله، يصفق الناس لي والجرح لا يبرأ .
‏هذا الشرود ليس طارئاً، هو أثر إصابة قديمة .
لا أركض خلف شيء، لا وهم ولا شعور ولا نصف حقيقة أبحث عن كمال حقيقتها .. إنني الآن وبالكامل لا يقيدني الإنتظار ولا تحدني التوقعات ولا أمسك بأسباب الأمور، ولا أحاول أن أنجو من هنا أو هناك، لا أرتبط بالماضي ولا أخشى المستقبل ولا أهتم بما إن كان ما أود حدوثه سيحدث أو سيندثر ! يكفي بأنني يومًا ما أردته بحقيقة كاملة وبذلت لأجله يقيني، وما بعد ذلك؟ سيكفيني أن يكون في أمانة الله ولطف رعايته ومعرفته، يقال بأنها المرحلة الملكية ولكنني أظنها «الحرية » تلك التي يخشى الناس إمتلاكها ويرغبون بالحصول عليها، تلك التي لا يجرؤ عليها إلا المتجرّدين من مخاوفهم، وهم تحديداً من لا ينتظرون شيئًا ولا شيء ينتظرهم، أعلم جيدًا كم سيبدو الأمر مُخيفاً وأنت تحب رحابة اللاشعور ولكنه من الرائع أن لا يربطك الشعور بسلاسل الوهم والتوقعات وأن لا تنهش الأسئلة عقلك ولا تُبعثر قلبك الذي لا تملك سواه، أن تمضي من بين الأيام وكل ما تملكه هو خفتك وراحتك، وما دون ذلك؟ لا شأن لك به، إنني وكما قال محمود درويش أقول معه الآن: لقد إستنزف الطريق الطويل مشاعري وتوقعاتي، لا أشعر الآن بشيء ولا أتوقع شيئاً .
يقضي الإنسان معظم حياته وهو يشعر أن ثمّة شيء ما يضيع، يذوي، وتنطفئ جذوته وهذا الشعور يُلازمه مثل غراءٍ لاصق، ويتصوّر غالبًا أن الشيء الذي يضيع منه هو موضوع من الموضوعات الخارجية، لكنه في لحظة من لحظات حياته يعي أنه هو من يضيع، وأنه كان طوال حياته موضوعًا لذاته، وموضوعًا للضياع دون أن يُدرك ذلك .
فجأة كل الأشياء فيك تُقرر أن تهدأ، رُغم أن الأحداث كانت تتطلب منك الإنفجار، لكنّك ببساطة تهدأ وتموت فيك كل طاقات الثوران .
‏ويطولُ بك الشرود، كأنّ كل ما نسيته خطر على بالك فجأة .
هذه الصلابة في حقيقتها خسارات مرصوفة .
إنها الرغبة في التوقف لا للإسترخاء وليس من أجل التعب، بل لأني لم أعد أعرف ما أركض إليه، الغاية التي انطلقت نحوها طال طريقها كثيراً لأجهلها، لتفقد جاذبيتها، ولتصبح غير مرغوبة، المسافات التي استمتعت بقطعها، ألفتها لدرجة لم أرغب بمفارقتها، والتخلّي عنها من أجل غاية، أحببت السير دون اتجاه، والخطو دون أن أعلم أين أضع قدمي في الخطوة القادمة، اعتدت الضياع حتى أنّي أراه وجودًا، الحيرة التي يتبعها قرار مجنون، الضحكة عند الفشل في القيام بما لا يمكن تحقيقه، والنظر إلى ماهو أقرب مما يلتصق بجسدي، والبعيد عما لا يمكن للعين أن تلتقطه، هي أشياء لا أود التنازل عنها، أشياء لم تجعلني أحلم، ولم تجعلني أصل، لكنها جعلتني أنتمي وأرضى وأكون .
‏كان ميدان العمر مزحومًا برؤيا غير واضحة، ومع ذلك أصررت على وجود نصيبي من الأمل ولو كان ضئيلا، جاريت الأيام، مشيت بعيدًا وقريبًا، ذهبت بقلبي نحو أشياء كثيرة ليتعلّم، وثقت بنسيم بارد حل على روحي، وامتنعت عن كل أسباب القسوة، واجهت الحياة بقلبي هذا، ورأيت إمكانية العيش بعدما تؤمن وتصدق، وكم كان باهظاً ثمن هذا الإيمان والتصديق .
‏وكم يُبهجني ‏هذا النسيان ‏الخفيف، ‏هذا الطفو الطارئ والمُؤقت، حتى وإن جرّ خلفه ‏ما لم أكن أنتظره، ‏رُبَّ لحظة شرودٍ ‏أشتريها بعمرٍ كامل .
2024/06/16 23:45:55
Back to Top
HTML Embed Code: