Telegram Web Link
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

وتشير «الآية الخامسة» أيضاً إلى عبادة الأوثان لدى قوم‌ (نمرود) عندما واجههم إبراهيم بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة على سخافة هذه العقيدة من خلال الحوار العقلي والمنطقي حيث تقول الآية: «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» .

ولكن هؤلاء لم يكن لديهم أيّ جواب منطقي في مقابل هذه التساؤلات الحاسمة إلّا أنّهم لاذوا بكهف التقليد الأعمى‌ كما تقول الآية: «قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» .

في حين أنّ الإنسان إذا أراد أن يسلك في خطّ التقليد فعلى الأقل يجب أن يقلد ويتبع العالم والخبير بالوقائع ليشير عليه ما ينفعه في هذا السبيل لا أن يقلد الجاهل والأحمق، ولكنّ حجاب التعصب واللجاجة كان سميكاً إلى درجة انه لن يسمح لأقل شعاع من نور شمس الهداية والمنطق والدليل العقلي في النفوذ إلى أعماقهم ووجدانهم ليضي‌ء باطنهم بنور الحقّ.

«الآية السادسة» تتحدّث عن لجاجة الفراعنة وعنادهم في مقابل المعجزات الواضحة والآيات البيّنة لموسى‌، حيث فضّلوا البقاء على‌ عقائدهم الوثنية الّتي ورثوها من أسلافهم بدافع من اللجاجة والإصرار والعناد حيث تقول الآية: «قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ» .

هؤلاء لم يسألوا من أنفسهم عن دين موسى‌ هل هو حقّ أم باطل، وماذا يمتاز على دين الأسلاف؟ بل كان كلامهم يدور فقط في اننا يجب أن نحفظ دين الآباء والأجداد سواءاً كان حقّاً أم باطلًا، فالقيمة الواقعية لنا تكمن في هذا المنهج فقط، ثمّ قالوا مع كثير من سوء الظن أنّ ما جاء به موسى من الدين الإلهي هو في الواقع مقدّمة لتحصيل مقاصده السياسية وبسط سيطرته وحكومته على الناس، فلا إله في البين ولا الوحي الإلهي، وهكذا كانوا يتحركون من موقع سوء الظن هذا وبسبب ذلك التعصب والعناد في طريق الابتعاد عن الحقّ والإعتذار بتبريرات واهية في سبيل تحكيم موقعيّتهم مقابل دعوة موسى‌.

ولعلّهم كانوا يخافون من أنّه إذا تجلّى‌ نور الهداية الإلهية لشعب مصر عن طريق شريعة موسى‌ فإنّهم سيفقدون بذلك دينهم الخرافي الّذي ورثوه من الآباء وكذلك يفقدون حكومتهم المبنية على هذا الأساس، ولهذا فإنّهم تصدّوا لموسى‌ ودعوته بكلّ ما اوتوا من قوة وتحركوا من موقع تشجيع الناس وتعميق حالة التعصب والعناد فيهم، وبما أنّ الملأ من الفراعنة كانوا يريدون كلّ شي‌ء في سبيل تعزيز حكومتهم وسيطرتهم على الناس فتصوّروا
أنّ موسى‌ وهارون كذلك يريدون الدين كوسيلة واداة للتوصل إلى الحكومة والسيطرة.

وهذا المرض الأخلاقي يستمر مع البشر على طول التاريخ إلى أن نصل إلى زمن الإسلام وعصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله .
1
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

وفي‌ «الآية السابعة» نرى أيضاً أنّ العامل الأساس في انحراف المشركين العرب هو التقليد الأعمى والتعصب لتراث الآباء والأجداد والّذي يوصد أبواب المعرفة من كلّ جانب على أصحاب هذه الصفة الرذيلة فتقول الآية: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ...» .

ولكن القرآن الكريم يجيبهم على هذا التصور الباطل بجواب حاسم وقاطع ويقول: «...
أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» .

ويتضح من سياق هذه الآية أنّ هؤلاء المشركين لم يُنكروا على النبي صلى الله عليه و آله دعوته السماوية وأنّه يتحدّث من قِبل اللَّه تعالى‌ (مَا أَنزَلَ اللَّهُ)، ولكنهم كانوا غارقين في مستنقع التعصب والعناد والجهل إلى درجة أنّهم يفضلون دينهم الّذي ورثوه عن الآباء والأجداد على دين اللَّه وهم يعلمون بأن أسلافهم كانوا يعيشون الجهل والضلالة.

وبهذا نجد أنّ الجهل والتعصب يتسبب في أنّ الإنسان يترك بسهولة (مَا أَنزَلَ اللَّهُ) ويدير له ظهره ويتجه نحو الباطل رغم انه يميز بين الحقّ والباطل من موقع الوضوح في الرؤية.

وتستعرض‌ «الآية الثامنة» قصة الحُديبية حيث يذكر اللَّه تعالى المسلمين بما جرى‌ من حوادث مهمة وأنّ الكفّار رغم رؤيتهم لعلائم حقانيّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلّا أنّهم وبسبب التعصّبات الجاهلية لم يتحرّكوا في خطّ الإيمان، وكانت هذه الرذيلة الأخلاقية قد منعتهم من سلوك طريق السعادة العظمى‌ فتقول الآية: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى‌ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى‌ وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ‌ءٍ عَلِيًما» .

(الحميّة) من مادّة (حَمى‌) (على وزن حَمَدَ) بمعنى‌ الحرارة الّتي يشعر بها الإنسان في بدنه بسبب العوامل الخارجية أو الأشياء الاخرى، ولهذا السبب اطلقت على الحُمّى‌ أيضاً وهي حرارة المرض.

ثمّ اطلقت هذه المفردة على الحالات الروحية والأخلاقية من قبيل: الغضب والتكبّر والتعصب وأمثال ذلك وأنّها بمثابة حالات يعيشها الإنسان في حرارة باطنية كالنار المستعرة في قلب الإنسان.

والملفت للنظر أنّ هذه الآية أضافت الحميّة إلى الجاهلية، وذلك للإشارة إلى التعصبات المنطلقة من موقع الجهل وعدم العلم، وفي نفس الوقت اضافت السكينة الّتي تقع في النقطة المقابلة لها إلى اللَّه تعالى، وهي الحالة من الهدوء والراحة النفسية الّتي يعيشها الإنسان من موقع الإيمان والوضوح والإنسياق مع الحقيقة.
وسيأتي في البحوث اللاحقة الكلام حول التعصّب الإيجابي والسلبي وحول إضافة الحمية إلى الجاهلية .
2
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

«الآية التاسعة» تشير إلى نكتة اخرى‌ في هذا المجال، وتكشف النقاب عن جانب آخر من التعصب الشديد للعرب في عصر الجاهلية وتقول: «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى‌ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنِينَ» .

يعني انّ التعصب القومي والعِرقي لهؤلاء العرب كان إلى درجة من الشدّة بحيث إنّ القرآن مع جميع المعارف السامية والفصاحة والبلاغة والمضامين العظيمة لو كان قد نزل على غير العرب فإنّ تعصبّهم العِرقي يمنعهم من الإيمان به ويسدل عليهم حجاباً يُبعدهم‌ عن إدراك الحقيقة والوصول إلى المقصود.

ورغم أنّ بعض المفسّرين قد ذكر لهذه الآية تفسيرات اخرى، ولكن أوضح التفاسير وأنسبها لسياق هذه الآية هو ما ذُكر آنفاً.

وعلى هذا الأساس ورد في بعض الروايات الإسلامية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّ الأشخاص الّذين يعيشون التعصّب والعناد هم شركاء لأعراب الجاهلية حيث يقول: «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» وحبّةٍ من خردل يُضرب بها المثل بالصغر لدى العرب.

وتأتي‌ «الآية العاشرة» لتكشف النقاب عن هذه الرذيلة الأخلاقية في أقوام بشرية اخرى‌ وأنّ كلّ قوم وطائفة يرون أنفسهم أنّهم الأفضل بدافع التعصب واللجاجة ويتحركوا في تعاملهم مع الآخرين من موقع الإبعاد والنفي ويحسبون أنفسهم أنّهم عباد اللَّه المتميزون على‌ سائر الأقوام والشعوب البشرية، وهذا الأمر هو الّذي تسبب في نزاعات مستمرة وصراعات دائمة بين الأقوام البشرية حيث تقول الآية: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى‌ عَلَى‌ شَىْ‌ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى‌ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى‌ شَىْ‌ءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .

ويُستفاد من سياق هذه الآية أنّ هذا اللون من التعصّبات وأشكال الغرور ينبع من الجهل وعدم المعرفة وأنّ كلّ فئة من الناس تعيش الجهل وعدم المعرفة سوف يتورطون في هذه الرذيلة الأخلاقية.

وعبارة (الّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) لها مفهوم واسع وأحد مصاديقها هم المشركون العرب، ولذلك فسّرها بعض المفسّرين بأنّهم قوم نوح، أو ذكروا في تفسيرها أنّ المراد منها جميع الامم البشرية الّتي عاشت التعصب والعناد بسبب الجهل وعدم المعرفة .
2
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

«الآية الحادية عشر» تتحدّث عن أصل كلّي وعام وتبيّن أنّ حالة التعصب والاصرار على طول التاريخ البشري كان لها الدور المهم في استمرار الأقوام البشرية في سلوكهم في خطّ الكفر ومحاربة التوحيد وتقول: «وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى‌ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى‌ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» .

وسياق الآية يوحي إلى أنّ أهم مانع في مقابل الإيمان واتباع الأنبياء الإلهيين هو التعصب والتقليد الأعمى‌ الناشي‌ء من حالة الجهل الّتي يعيشها الإنسان.
وهنا تتضح الأبعاد الخطيرة لهذه الرذيلة الأخلاقية.

ونقرأ في‌ «الآية الثانية عشر» والأخيرة أنّ الجاهليين وبسبب حالة التعصب واللجاجة كانوا يتهمون أكبر الأنبياء الإلهيين بالجنون ويجعلون ذلك ذريعة لمخالفتهم للدعوات السماوية وتقول: «وَيَقُولُونَ أَئنَّا لَتَارِكُواْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون» .

والعجيب أنّ هؤلاء كانوا غارقين في دوّامة الجهل والتعصّب الأعمى‌ إلى درجة أنّهم لم يكونوا يُدركون أنّ كلامهم هذا متناقض، فإنّ كونه (شاعراً) يدلّ على الذوق السليم والقريحة والتأمّل والتفكر والإطلاع الوافي على دقائق الكلام (والملاحظ أنّ كلمة الشاعر من مادّة الشعور) وهذا ما يتقاطع مع كونه مجنوناً كما هو واضح.

وأحياناً يتهمون الأنبياء بالسحر والجنون كلاهما في حين أنّ السحر يحتاج إلى الإطلاع الواسع على بعض العلوم والمعارف ويستبطن ذكاءاً خاصاً، وكلّ هذا يتقاطع مع الجنون، وهذا يوضّح أنّ كلام هؤلاء المتناقض لم يكن بوحيٍ من العقل والتفكر الهادي‌ء والمنسجم بل بدافع من الجهل والتعصب والعقدة .

النتيجة النهائية:

وبمرور إجمالي على الآيات الكريمة المذكورة آنفاً والّتي هي نموذج من كثير من الآيات القرآنية في هذا المجال تتضح هذه الحقيقة وهي انّ أهم موانع المعرفة والوصول إلى الحقيقة هو حالة التقليد الأعمى‌ الناشي‌ء من التعصب واللجاجة والتحرّك من موقع الرغبات النفسية وبدافع من الأهواء والنوازع الباطنية الّتي تحبس الإنسان في سجن مظلم من الجهل المطبق.
إن الأضرار والخسائر الكثيرة المترتبة على هذه الرذيلة الأخلاقية قد سوّدت صفحات التاريخ البشري وواجه الأنبياء الإلهيين بسببها مشاكل كثيرة في طريق هداية الناس إلى اللَّه والحقّ وسُفكت بسببها الكثير من الدماء، وهذا يكفي في إدراك شناعة هذه الحالة الذميمة في السلوك الإنساني.

لو لم تكن هذه الرذيلة الأخلاقية موجودة في باطن الإنسان فإنّ تاريخ البشرية سيلبس ثوباً آخر ويسطع بوجهٍ جديد في حركة التكامل الحضاري والتقدّم العلمي ولفُتحت الأبواب أمام البشرية للصعود إلى مدارج عالية من الكمال المعنوي وبدلًا من أن تتحوّل طاقاته وامكانياته الكبيرة إلى سيلٍ مخرب بسبب الجهل والتعصب فإنّ من شأنها أن تتحول إلى منظومة واسعة من المعارف الإلهية والسلوكيات الأخلاقية الحميدة والمُثل الإنسانية الّتي تقود الإنسان في كلّ بُعدٍ من أبعاد حياته الدنيوية إلى العمران والتكامل المادي والمعنوي.
التعصب والعناد في الأحاديث الإسلامية:
وقبل أن نستعرض في بحثنا هذا مفهوم التعصب ودوافعه ونتائجه الوخيمة على حياة الإنسان نرى من اللازم أوّلًا استعراض الأحاديث الإسلامية في هذا الباب لأنها تتضمن الكثير من الامور المتعلقة بهذا الموضوع بصوره إجمالية .
3
قال الله تعالى :《 لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ 》الانبياء ٢٢ .

برهان التمانع على وحدانية الله تعالى :

إن الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر هو لإثبات التوحيد ونفي الآلهة . ويمكن إيضاحه بما يلي :

١ . إننا نرى - بدون شك - نظاماً واحداً حاكماً في هذا العالم ، ذلك النظام المتناسق من جميع جهاته ، فقوانينه ثابتة تجري في الأرض والسماء ، ومناهجه متطابقة بعضها مع بعضها ، وأجزاؤه متناسبة .

٢ . إن انسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذا يدل أنها تنبع من عين واحدة ، لأن البدايات إن كانت متعددة ، والإرادات مختلفة ، لم يكن يوجد هذا الانسجام مطلقاً ، وهذا الشيء الذي يعبر عنه القرآن ب‍ (الفساد) يلاحظ في العالم بوضوح .

٣ . إذا كنا من أهل التحقيق والمطالعة - ولو قليلاً - فإنا نستطيع أن نفهم جيدا من خلال تحقيق كتاب ما ، أن كاتبه شخص واحد أم عدة أشخاص ؟ فإن الكتاب الذي يؤلفه شخص واحد يوجد انسجام خاص بين عباراته ، ترتيب جمله ، تعبيراته المختلفة ، كناياته وإشاراته ، عناوينه ورؤوس مطالبه ، طريقة الدخول في البحوث والخروج منها .
والخلاصة : إن كل أقسامه متحدة متناسقة لأنها وليدة فكر واحد ، وترشح قلم واحد .
أما إذا تعهد شخصان أو عدة أشخاص بأن يؤلف كل منهم جزءاً من الكتاب - وإن كان الجميع علماء متقاربين في الروح والتفكير - فستظهر آثار هذه الازدواجية أو الكثرة في العبارات والألفاظ ، وطريقة الأبحاث . وسبب ذلك واضح ، لأن الفردين مهما كانا منسجمين في الفكر والذوق ، فإنهما في النتيجة فردان ، فلو كانت كل أشيائهما واحدة لأصبحا فرداً واحداً ، فبناء على هذا فيجب أن يكون هناك تفاوت فيما بينهما قطعاً ليتمكنا أن يكونا فردين ، وهذا الاختلاف سيؤثر أثره في النتيجة ، وسيبدي آثاره في كتاباتهما .
وكلما كان هذا الكتاب أكبر وأكثر تفصيلاً ، ويبحث مواضيع متنوعة ، فإن عدم الانسجام يلمس فيه أوضح .

٤ . أنّ كتاب عالم الخلقة الكبير الذي نضيع بكل وجودنا في طيات عباراته لعظمته يشمله هذا القانون أيضا .
حقا إننا لا نستطيع مطالعة كل هذا الكتاب حتى لو صرفنا كل عمرنا في مطالعته ، إلا أن هذا القدر الذي وفقنا نحن - وجميع العلماء - لمطالعته منسجم إلى الحد الذي يدل تماماً على وحدة مؤلفه .
إننا كلما تصفحنا هذا الكتاب العجيب فستظهر بين كلماته وسطوره وصفحاته آثار تنظيم عال وانسجام منقطع النظير .

٥ . فإذا كانت هناك إرادات وبدايات متعددة تتدخل في إدارة هذا العالم وتنظيمه ، فهل كان بالإمكان أن يوجد مثل هذا الانسجام ؟
ولو فكرنا لماذا يستطيع علماء الفضاء أن يرسلوا السفن الفضائية إلى الفضاء بدقة كاملة ، وينزلوا العربة على القمر في المحل الذي قدروه من الناحية العلمية بدقة متناهية ، ثم يحركونها من هناك وينزلونها إلى الأرض في المحل الذي توقعوه ؟
ألم تكن هذه الدقة في الحسابات لكون النظام الحاكم على كل الوجود الذي هو أساس حسابات هؤلاء العلماء - دقيقاً ومنسجماً ، بحيث إذا كان هناك شيء من عدم الانسجام - ومن الناحية الزمنية جزء من مائة من الثانية - فستضطرب جميع حساباتهم ؟

ونقول باختصار : إذا كانت هناك إرادتان أو عدة إرادات حاكمة في العالم ، فإن لكل واحدة قضاء وحكم ، وكانت الأخرى تمحو أثر الأولى ، وسيؤول العالم إلى الفساد والدمار عندئذ .

💐 السؤال : إن تعدد الآلهة يكون منشأ للفساد عندما يحارب أحدها الآخر ، أما إذا اعتقدنا بأن هؤلاء أفراد حكماء عالمون ، فإنهم يتعاونون فيما بينهم ويديرون العالم ؟

والجواب : فإن كونهم حكماء لا يزيل تعددهم ، فعندما نقول : إنهم متعددون ، فإن معناه إنهم ليسوا متحدين من جميع الجهات ، لأنهم إن اتحدوا من كل الجوانب أصبحوا إلهاً واحداً ، وبناء على ذلك فأينما وجد التعدد وجد الاختلاف الذي يؤثر في الإدارة والعمل شئنا أم أبينا ، وهذا سيجر عالم الوجود إلى الهرج والمرج .
وقد استند في بعض هذه الاستدلالات إلى أنه لو كان هناك إرادتان حاكمتان على الخلق ، لما كان هناك عالم أصلاً . في حين أن هذه الآية تتحدث عن فساد العالم وإختلال النظام ، لا عن عدم وجود العالم .
3
ومن اللطيف أن نقرأ في حديث يرويه هشام بن الحكم عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب الرجل الملحد الذي كان يتحدث عن تعدد الآلهة ، أنه قال :
" لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا قويين أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً ، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير ، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما تقول ، للعجز الظاهر في الثاني ، وإن قلت : إنهما اثنان ، لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة أو متفرقين من كل جهة ، فلما رأينا الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، واختلاف الليل والنهار ، والشمس والقمر ، دلّ صحة الأمر والتدبير وإئتلاف الأمر أن المدبر واحد .
ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فلابد من فرجة بينهما حتى يكونا اثنين ، فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة ، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتى يكون بينهما فرجتان فيكون خمساً ، ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية في الكثرة .

وفي حديث آخر : إن هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق (عليه السلام) : ما الدليل على أن الله واحد ؟
قال : اتصال التدبير ، وتمام الصنع ، كما قال الله عز وجل : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
2
💍 دروس في تفسير القرآن 💍
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢 «الآية الحادية عشر» تتحدّث عن أصل كلّي وعام وتبيّن أنّ حالة التعصب والاصرار على طول التاريخ البشري كان لها الدور المهم في استمرار الأقوام البشرية في سلوكهم في خطّ الكفر ومحاربة التوحيد وتقول: «وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا…
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

والأحاديث الشريفة في هذا الموضوع كثيرة ونشير إلى نماذج منها:

١ - ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» .

وهذا التعبير يشير إلى أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية إلى درجة من الخطورة بحيث إنّ أدنى‌ درجة منها تتقاطع مع الإيمان الخالص.

٢ - وورد في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «انَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ السِّتَّةَ بِالسِّتَّةِ، الْعَرَبَ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَالدَّهَاقِينَ بِالْكِبْرِ، وَالْامَرَاءَ بِالْجَوْرِ، وَالْفُقَهَاءَ بِالْحَسَدِ، وَالتُّجَّارَ بِالْخِيَانَةِ، وَاهْلَ الرَّسَاتِيقِ بِالْجَهْلِ» .

والملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يذكر التعصب على رأس هذه الامور الستة في حين أنّها جميعاً من الذنوب الكبيرة.

٣ - ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا الَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» .

٤ - وجاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة عن أمير المؤمنين عليه السلام في نفي التكبّر والتعصّب وأنّ هذه الحالات هي السبب الأساس في إنحراف إبليس وشقائه وأنّ اللَّه تعالى عندما أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلّا إبليس فإنه يقول: «اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِاصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللَّهِ امَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الّذي وَضَعَ اسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ» .

٥ - وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَ الْايمَانِ مِنْ عُنُقِهِ» .

ونعلم أنّ التعصّب والعناد هُما لازم وملزوم، ولهذا السبب أوردناهما تحت عنوان واحد، وأما بالنسبة إلى حالة العناد والاصرار في السلوك البشري وآثارها السلبية فلدينا الكثير من الروايات في هذا الباب، منها:

١ - ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ايَّاكَ وَاللِّجَاجةَ، فَانَّ اوَّلَهَا جَهْلٌ وَآخِرَهَا نَدَامَةً» .

٢ - وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ» .

٣ - وفي حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «اللِّجَاجُ بَذْرُ الشَّرِّ» .

٤ - وجاء في نهج البلاغة قوله: «اللِّجَاجَةُ تَسِلُّ الرَّأْيَ» .

٥ - وأيضاً ورد عن هذا الإمام قوله: «لَيْسَ لِلَجُوجٍ تَدْبِيرٌ» .

ومع ملاحظة هذه الروايات الشريفة يتضح التأثير المخرب لهاتين الرذيلتين الأخلاقيتين (التعصّب واللجاجة) في الحياة الفردية والإجتماعية للناس بحيث إنهما يدفعان الإنسان بعيداً عن الإيمان والإسلام ويجعلانه غريباً عن الأجواء الروحية المنفتحة على‌ اللَّه تعالى ويقودانه إلى الكفر والشرك والإقتداء بالشيطان وترك حبل الإيمان، وسوف يأتي لاحقاً الدوافع الكامنة في هذه الحالة الأخلاقية .
1
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

١ - مفهوم التعصّب ودوافعه‌

(التعصّب) من مادّة (عَصَبَ) وهي في الأصل بمعنى‌ الخيوط العصبية والعضلية الّتي تربط بين مفاصل العظام والعضلات، ثمّ استُعملت هذه الكلمة ليُراد بها كلّ نوع من الارتباط الشديد الفكري والعملي والّذي يستبطن غالباً معنىً ومفهوماً سلبياً رغم وجود بعض العلائق الإيجابية أيضاً في مفهومها حيث سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث اللاحقة إن شاء اللَّه.

وبديهي أنّ التعلّقات غير المنطقية بالنسبة إلى شخص ما أو عقيدة معيّنة أو شي‌ء من الأشياء فإنه يقود الإنسان إلى اللجاجة والتقليد الأعمى‌ بالنسبة إلى ذلك الشي‌ء أو الشخص، وبالتالي سيكون العامل المهم في بروز أنواع النزاعات والحروب والاختلافات المستمرة بين البشر.

وكلّما تحرك الإنسان على مستوى‌ إزالة هذه التعصبات من ساحة الحياة البشرية والمجتمع الإنساني فإنّ الناس سوف يتعاملون في ما بينهم من موقع العقل والمنطق والحوار الهادي‌ء والهادف، وبذلك تزول الكثير من الاختلافات وأسباب النزاع ويعود الهدوء ليُخيّم على المجتمع الإنساني ويعيش الإنسان في حركته الإجتماعية بكلّ أشكال الطمأنينة والمحبّة والاخوة.

إن مثل هذا التعصب الّذي يتولد مباشرة من حالة اللجاجة والتقليد الأعمى‌ ينبع من الامور التالية:

١ - حُبّ الذات والتعلّق الشديد بالأسلاف‌

إن الإفراط في حبّ الذات يتسبب في أن يتعلّق الإنسان بالامور المنسوبة إليه بشدّة ويعتبرها جزءاً من شخصيته وكيانه ومن ذلك الرابطة مع الآباء والأجداد والتقاليد المرسومة في مجتمعه.

إنّ هذا التعلّق الشديد يؤدي إلى نقل الكثير من الخرافات والقبائح إلى الأجيال الاخرى بذريعة حفظ الآداب والسنن والرسوم الإجتماعية وبالتالي فسيخلق حجاباً يصدّ الإنسان عن أيّة معرفة جديدة وارتباط بالحقائق والواقعيات.

إن الدفاع الشديد عن القبيلة والعشيرة أحياناً يصل إلى درجة أن أسوأ أفراد القبيلة وأشنع الأعراف والسنن السائدة في هذه القبيلة تتحول في نظر الأشخاص المتعصبين إلى‌ إيجابيات كبيرة وامتيازات مهمة لهذه القبيلة، في حين أنّ أفضل أفراد القبيلة الاخرى وأسمى‌ الآداب والسنن في تلك القبيلة تكون هي الأسوأ والأقبح في نظر هذا الإنسان .
قال الله تعالى : [[ مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) ]] الأنبياء .


خلق السماء والأرض ليس لهوا:

لما كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي: إن الظالمين الذين لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلا الأكل والشرب والملذات، ويظنون أن العالم بلا هدف، القرآن الكريم يقول في الآيات التي نبحثها من أجل إبطال هذا النوع من التفكير، وإثبات وجود هدف عال وسام من وراء خلق كل العالم، وخاصة البشر: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين.

إن هذه الأرض الواسعة، وهذه السماء المترامية الأطراف، وكل هذه الموجودات المتنوعة البديعة التي توجد في ساحتها تبين أن هدفا مهما في خلقها .
نعم، إن الهدف هو بيان قدرة الخالق الجليل، وإبراز جانب من عظمته من جهة، ومن جهة أخرى ليكون دليلا على المعاد، وإلا فإن كل هذه الضجة والغوغاء إن كانت لبضعة أيام فلا معنى لها.
هل يمكن أن يبني الإنسان قصرا في وسط صحراء، ويجهزه بكل الوسائل، وذلك من أجل أن يستريح فيه ساعة واحدة - طول عمره - عند مروره عليه؟

بعبارة موجزة: إذا نظرنا إلى هذا العالم العظيم من منظار الكفار، فسنراه لا فائدة فيه ولا هدف منه، والإيمان بالمبدأ والمعاد هو الذي يجعل له معنى وغاية.

ثم تقول الآية التالية: الآن وقد ثبت أن العالم له هدف فإنه لا ريب في أن الهدف من هذا الخلق لم يكن أن يلهو الله سبحانه وتعالى عن ذلك، فإن هذا اللهو غير معقول، ف‍ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا غافلين.

" اللعب " يعني العمل الغير هادف، و " اللهو " إشارة إلى الأهداف غير المعقولة والملاهي.
هذه الآية تبين حقيقتين:
الأولى: أنه بملاحظة كلمة (لو)، وهي في لغة العرب للامتناع، فهي تشير إلى أن من المحال أن يكون هدف الله هو اللهو.
والاخرى: إنه على فرض أن الهدف هو اللهو، فيجب أن يكون لهوا مناسبا لذاته، كأن يكون من عالم المجردات وأمثال ذلك، لا من عالم المادة المحدود .
قال الله تعالى : (( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ))  ( الجاثية ٢٣) .

الآية توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين، إذ تقول: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون.

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه ؟

غير أن من الواضح الجلي أن الإنسان عندما يضرب صفحا عن أوامر الله سبحانه، ويتبع ما تمليه عليه شهواته، ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر ذلك حقا، فقد عبد هواه، وهذا عين معنى العبادة، إذ أن أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة.

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير مما يبين هذا المعنى كعبادة الشيطان أو عبادة أحبار اليهود، فيقول القرآن - مثلا - في الآية (٦٠) من سورة يس: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان.
ويقول في الآية (٣١) من سورة التوبة: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام أنهما قالا: " أما والله ما صاموا لهم، ولا صلوا، ولكنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا، فاتبعوهم، وعبدوهم من حيث لا يشعرون " .

غير أن بعض المفسرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش، الذين إذا ما عشقوا شيئا وأحبوه صنعوا على صورته صنما ثم عبدوه وعظموه، وكلما رأوا شيئا آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأول وتوجهوا إلى عبادة الثاني، وعلى هذا فإن إلههم كان الشيء الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه

إلا أن تعبير: من اتخذ إلهه هواه أكثر انسجاما مع التفسير الأول.

أما في مورد جملة: أضله الله على علم فالتفسير المعروف هو أن الله سبحانه قد أضلهم لعلمه بأنهم لا يستحقون الهداية، وهو إشارة إلى أن هؤلاء قد أطفأوا بأيديهم كل مصابيح الهداية وحطموها، وأغلقوا في وجوههم كل سبل النجاة، ودمروا وراءهم جسور العودة إلى طريق الحق، فعند ذلك سلبهم الله تعالى رحمته ولطفه، وأفقدهم القدرة على تشخيص الصالح من الطالح، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، وكأنما ختم على قلبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة.
وما كل ذلك في الحقيقة إلا آثار لما اختط هؤلاء لأنفسهم من مسير، ونتيجة مشؤومة لعبادة الآلهة التي اتخذوها.
ولا صنم في الحقيقة أخطر من اتباع هوى النفس الذي يوصد كل أبواب الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟ وكم هو بليغ وعميق الحديث المروي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): " ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى " .

إلا أن بعض المفسرين يعتبر هذه الجملة إشارة إلى أن متبعي الهوى هؤلاء قد اختاروا طريق الضلالة طريقا لهم عن علم ودراية، لأن العلم لا يقارن الهداية دائما، كما لا تكون الضلالة دائما قرينة الجهل.

إن العلم الذي يتمسك الإنسان بلوازمه أساس الهداية، فعليه كي يصل إلى مراده وهدفه أن يتحرك على هدي هذا العلم، وألا يكون كأولئك الكفار العنودين الذين قال بحقهم القرآن: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم .

إلا أن التفسير الأول هو الأنسب بملاحظة أن مرجع الضمائر في الآية إلى الله سبحانه، لأنها تقول: أضله الله وختم على سمعه وقلبه.
مما قلناه يتضح جيدا أن الآية لا تدل - من قريب أو بعيد - على مذهب الجبرية، بل هي تأكيد على أصل الاختيار وتعيين الإنسان مصيره بنفسه.
ملاحظات

١ . أخطر الأصنام صنم هوى النفس

قرأنا في حديث أن أبغض الآلهة إلى الله هوى النفس، ولا مبالغة في هذا الحديث قط، لأن الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة مهمة، أما صنم الهوى وأتباعه، فإنه يغوي الإنسان ويسوقه إلى ارتكاب أنواع المعاصي، والإنزلاق في هاوية الانحراف.

وبصورة عامة، يمكن القول بأن لهذا الصنم من الخصوصيات ما جعله مستحقا لصفة أبغض الآلهة والأصنام، فهو يزين القبائح والسيئات في نظر الإنسان حتى يصل إلى درجة يفخر عندها بتلك الأعمال الطالحة، ويكون مصداقا لقوله تعالى:
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

٢ - أفضل طريق لنفوذ الشيطان هو اتباع الهوى: فما دام الشيطان لا يمتلك قاعدة وأساسا يستند إليه في داخل الإنسان، فلا قدرة له على الوسوسة ودفع الإنسان إلى الانحراف والمعصية، وما تلك القاعدة والأساس إلا اتباع الهوى، وهو ذات الشيء الذي أسقط الشيطان وأرداه، وطرده من صف الملائكة، وأبعده عن مقام القرب من الله.

٣ - إن اتباع الهوى يسلب الإنسان أهم وسائل الهداية، وهي الإدراك الصحيح للحقائق، ويلقي الحجب على عقل الإنسان وعينه، وقد أشارت هذه الآيات إلى هذا الموضوع بصراحة بعد ذكر مسألة اتباع الهوى واتخاذه إلها، وآيات القرآن الأخرى شاهدة على هذه الحقيقة أيضا.

٤ - إن اتباع الهوى يوصل الإنسان إلى مرحلة محاربة الله - والعياذ بالله - كما ابتلي بها إمام عباد الهوى - أي الشيطان الرجيم - فاعترض على حكمة الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم، واعتبره أمرا عاريا عن الحكمة!

٥ - عواقب اتباع الهوى مشؤومة وأليمة، بحيث أن لحظة من لحظات اتباع الهوى قد يصاحبها عمر من الندامة والأسف والحسرة، ولحظة - يتبع فيها الهوى - قد تجعل كل حسنات الإنسان وأعماله الصالحة التي عملها طوال عمره هباء منثورا، ولذلك ورد التأكيد على الحيطة واليقظة في هذا الأمر والتحذير الشديد منه في آيات القرآن والروايات الإسلامية.فقد ورد في الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله): " إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة " .

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه سئل: أي سلطان أغلب وأقوى؟ قال: " الهوى " .

وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): " إن الله تعالى يقول:
وعزتي وعظمتي، وجلالي وبهائي، وعلوي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت همه في آخرته، وغناه في قلبه، وكففت عنه ضيعته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة ".

وورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم " .

وأخيرا ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلا لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب هوى، والفاسق المعلن " .

وفي هذا الباب آيات وروايات كثيرة غنية المضمون.
وننهي هذا الحديث بجملة عميقة المعنى ذكرها البعض كسبب نزول، وكشاهد على مرادنا، فيقول أحد المفسرين: طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق.
فقال له: مه، وما دلك على ذلك؟قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله، وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنه صادق.
قال: فما يمنعك من أن تصدقه وتؤمن به؟
قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة!
واللات والعزى لن أتبعه أبدا.
فنزلت الآية: وختم على سمعه وقلبه .
💍 دروس في تفسير القرآن 💍
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢 ١ - مفهوم التعصّب ودوافعه‌ (التعصّب) من مادّة (عَصَبَ) وهي في الأصل بمعنى‌ الخيوط العصبية والعضلية الّتي تربط بين مفاصل العظام والعضلات، ثمّ استُعملت هذه الكلمة ليُراد بها كلّ نوع من الارتباط الشديد الفكري والعملي…
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

٢ - انخفاض المستوى‌ الثقافي والفكري‌

وكلّما انخفض المستوى الثقافي للناس وعاش أفراد المجتمع في اهتزاز على مستوى الفكر والثقافة فإنّ التعصبات الجاهلية وأشكال العناد والتقليد الأعمى‌ ستكون حاكمة على هؤلاء الأشخاص، بخلاف إذا ارتفع المستوى الثقافي في المجتمع وعاش الناس في علاقاتهم المنطق والعقل والإلتزام الفكري، فإنّ ذلك من شأنه أن ينفي التعصّب واللجاجة وتستبد حالة التقليد الأعمى‌ بالتحقيق والدراسة والحوار الفكري النافع للوصول إلى الحقيقة .

٣ - ضعف الشخصية

والعامل الآخر للتعصّب والتقليد الأعمى‌ هو أنّ الإنسان يعيش أحياناً ضعف الشخصية بالنسبة إلى بعض الشخصيات الّذين يوحون إليه بالقداسة في أفعالهم وأقوالهم وبذلك يصعدون عن مستوى دائرة النقد حتّى لو كان النقد علمياً وأخلاقياً، وهذا الأمر يتسبب في أن يتبعهم بعض العوام بعيون مُغمضة وآذان صمّاء ويضحون بأنفسهم وأموالهم في سبيل الدفاع عن هؤلاء الّذين يرتدون لباس القداسة الزائفة بدون أن يتفكر الإنسان في مضمون كلامهم وبباطن أفعالهم وسلوكياتهم وآثارها على المدى البعيد.

٤ - الإنزواء الإجتماعي والفكري:

والعامل الآخر من عوامل التعصّب هو أنّ الإنسان عندما ينفرد بأفكاره أو بمحيطه الإجتماعي الخاصّ وينفصل عن الجماعات الاخرى والأفكار المخالفة والمتنوعة ويعيش الجهل بالنسبة إلى سائر التيارات الفكرية والثقافية في المجتمعات البشرية الاخرى، فإنّ ذلك من شأنه أن يُفعّل حالة التعصّب والإلتزام الشديد بما لديه من أفكار وعقائد، في حين انه لو انفتح على الآخرين وتلاقح فكره مع أفكارهم وقارن بين هذه الأفكار من موضع استكشاف نقاط الضعف والقوّة واستجلاء العناصر الإيجابية والسلبية في كلٍّ منها، فإنّ ذلك يقوده إلى انتخاب الأفضل منها من موقع الوضوح والإختيار الحرّ .
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢


٢ - الآثار السلبية للتعصّب والعناد

إن الآثار السلبية والنتائج المخربة للتعصّب والاصرار في حركة حياة الإنسان المتعصّب تتجلّى‌ في الكثير من الموارد:

١ - إن التعصّب يعني الإرتباط غير المنطقي بشخص معيّن أو عقيدة أو عادة أو عرف خاصّ كما سبقت الإشارة إليه، وهذا من شأنه أن يُسدل حجاباً سميكاً على عقل الإنسان وبصيرته يمنعه عن إدراك الحقائق وجوانب الخير والشرّ والمصلحة والمفسدة في الامور وبالتالي يُحرمه من العثور على طريق للحل والنجاة.

ولهذا رأينا في الأحاديث السابقة أنّ اللجوج لا يتمتع بمديرية سليمة، ورأينا أيضاً في حالات الشيطان انه لم يتمكن من إدراك البديهيات واوضح الحقائق بسبب تعصبه وعناده، ولذلك قطع عن رقبته طوق العبودية للَّه‌ تعالى فطرد من ساحة القرب الإلهي إلى الأبد.

٢ - إن العصبية والعناد بمثابة النار المحرقة الّتي من شأنها تمزيق العلائق الإجتماعية في المجتمع وتسلب منه روح الوحدة والالفة وتنثر فيه بذور النفاق والفرقة وتقود الطاقات والقوى البنّاءة الّتي يجب أن تُصرف في سبيل إعمار المجتمع في حركته الحضارية باتجاه التضاد والصراع الذاتي فيما بينها، كما نقرأ هذا المعنى في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «اللِّجَاجُ يُنْتِجُ الْحُرُوبَ وَيُوغِرُ الْقُلُوبَ» .

٣ - إن التعصّب والعناد يتسبّبان في ابتعاد الأحبّة والأصدقاء عن الإنسان وتبديل الصداقة إلى عداوة وتضاد.

٤ - إن التعصّب والعناد من الأسباب والعوامل المهمّة للكفر، وانطلاقاً من هذه الحالة نجد أن أكثر الشعوب والامم السالفة وبسبب التعصّب والعناد كانت تسير في خطّ الباطل والكفر برسالات السماء والإمتناع عن قبول الحقّ بدافع من المحافظة على السنن البالية والتقاليد الزائفة.
(وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآيات السابقة).

٥ - إنهما يورثان صاحبهما الألم والتعب والوقوع في زحمة المشاكل الكثيرة، لأنهما يتسببان بالإنسان أن يعيش مدّة طويلة ولسنوات عديدة أحياناً في حالة من الحيرة والضلال، وعندما يصل إلى طريق مسدود فإنه عند ذاك يشعر بالتعب واليأس من هذا الطريق الموحش.
ومن هذا الموقع نقرأ في الحديث الوارد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «ثَمَرةُ اللِّجَاجِ الْعَطَبَ» .

ولهذا السبب فإننا نجد أنّ التعصّب غالباً ما يورث الندم كما تقدّمت الإشارة إليه في الأحاديث السابقة .
قال الله تعالى : وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) البقرة .

جملة وللرجال عليهن درجة تكمل القاعدة السابقة في الحقوق المتقابلة بين الرجل والمرأة، وفي الواقع أن مفهومها هو أن مسألة العدالة بين الرجل والمرأة لا تكون بالضرورة بمعنى التساوي في الحقوق وأن يكونا في عرض واحد، فهل يلزم أن يكون الجنسان متساويين تماما في الواجبات والحقوق ؟

لو أخذنا بنظر الاعتبار الاختلافات الكبيرة بين الجنسين على صعيد القوى الجسمية والروحية لاتضح الجواب عن السؤال .

المرأة بطبيعة مسؤوليتها الحساسة في إنجاب الأبناء وتربيتهم تتمتع بمقدار أوفر من العواطف والمشاعر والإحساسات، في حين أن الرجل وطبقا لهذا القانون أنيطت به مسؤولية الواجبات الاجتماعية التي تستلزم قوة الفكر والابتعاد عن العواطف والأحاسيس الشخصية أكثر، ولو أردنا إقامة العدالة فيجب أن نضع الوظائف الاجتماعية التي تحتاج إلى تفكر وتحمل أكثر بعهدة الرجال، والوظائف والمسؤوليات التي تحتاج إلى عواطف وإحساسات أكثر بعهدة النساء، ولهذا السبب كانت إدارة الأسرة بعهدة الرجل ومقام المعاونة بعهدة المرأة، وعلى أي حال فلا يكون هذا مانعا من تصدي المرأة للمسؤوليات الاجتماعية المتوائمة مع قدراتها الجسمية وملكاتها البيولوجية فتؤدي تلك الوظائف والمسؤوليات إلى جانب أداء وظيفة الأمومة في الأسرة.
وكذلك لا يكون هذا التفاوت مانعا من تفوق بعض النساء من الجهات المعنوية والعلمية والتقوائية على كثير من الرجال.

فما نرى من إصرار بعض المثقفين على مقولة التساوي بين الجنسين في جميع الأمور هو إصرار لا تؤيده الحقائق على أرض الواقع حيث ينكرون في دعواهم هذه الثوابت العلمية في هذا المجال، فحتى في المجتمعات التي تنادي بالمساواة بين الجنسين في مختلف المجالات نشاهد عملا بونا شاسعا مع نداءاتهم، فمثلا الإدارة السياسية والعسكرية لجميع المجتمعات البشرية هي في عهدة الرجال (إلا في موارد استثنائية) حيث يرى هذا المعنى أيضا في المجتمعات الغربية التي ترفع شعار المساواة دائما.

وعلى كل حال، فالحقوق التي يختص بها الرجال مثل حق الطلاق أو الرجوع في العدة أو القضاء (إلا في موارد خاصة أعطي فيها حق الطلاق للزوجة أو حاكم الشرع) ترتكز على هذا الأساس ونتيجة مباشرة لهذه الحقائق العملية.

وأخيرا تقول الآية: والله عزيز حكيم وهذا إشارة إلى ما يرد في هذا المجال من إشكالات وتساؤلات وأن الحكمة الإلهية والتدبير الرباني يستوجبان أن يكون لكل شخص في المجتمع وظائف وحقوق معينة من قبل قانون الخلقة ويتناسب مع قدراته وقابلياته الجسمية والروحية، وبذلك فإن الحكمة الإلهية تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليات الملقاة على عاتقها حقوقا مسلمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحق .
3
💍 دروس في تفسير القرآن 💍
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢 ٢ - الآثار السلبية للتعصّب والعناد إن الآثار السلبية والنتائج المخربة للتعصّب والاصرار في حركة حياة الإنسان المتعصّب تتجلّى‌ في الكثير من الموارد: ١ - إن التعصّب يعني الإرتباط غير المنطقي بشخص معيّن أو عقيدة أو عادة…
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

٦ - انهما يُفقدان الشخص توازنه في اختيار الامور ويجرانه إلى مواقع لن يرغب الولوج فيها، ولهذا ورد في بعض الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «لَا مَرْكَبَ اجْمَحَ مِنَ اللِّجاجِ» .

٧ - وأخيراً فإنّ التعصّب واللجاجة يحوّلان حياة الإنسان في دنياه وآخرته إلى دمار وخراب، لأنهما يورثانه في حياته الدنيا العداوة والفرقة والاخطاء الكثيرة وفقدان الراحة والهدوء والإستقرار، وفي الآخرة يتسببان في ابتعاده عن رحمة اللَّه، وهذا هو ما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ» .

ومرّة اخرى نرى من الضروري الإشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الرذائل الأخلاقية الثلاث (التعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى‌) رغم أنّها تختلف في دائرة المفهوم والمحتوى‌ إلّا أنّها تتحد في دائرة المصداق وترتبط برابطة وثيقة، وفي الإصطلاح: بينهما علاقة اللازم والملزوم، ولذلك أوردناها جميعاً في بحث واحد.

أمّا الدوافع على التعصّب واللجاجة فواضحة أيضاً، لأن أشكال التعصّب الأعمى‌ والمخرّب ينطلق قبل كلّ شي‌ء من الجهل بالامور، ولهذا السبب فإنّ كلّ طائفة تعيش الجهل أكثر فإنّها تعيش حالة التعصّب والتقليد الأعمى‌ أكثر إلى درجة أنّ الإنسان على هذا المستوى غير مستعد لإيجاد التحول والتغيير نحو الأفضل في وضعه وحالته النفسية والإجتماعية، ولذلك كانت العصبية دائماً سبباً للتخلف الحضاري والإجتماعي .

وقد قرأنا في الأخبار السابقة أيضاً ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إياك واللجاجة، فإنّ أولها جهل وآخرها ندامة».

والعامل الآخر الّذي يدفع الإنسان باتجاه التعصّب واللجاج هو الأنانية وحبّ الذات، لأن الشخص الأناني يحبّ كلّما لديه من العلائق والامور الّتي تُنسب إليه وترتبط به حتّى على المستوى الاصول والتقاليد الخاطئة والعقائد الزائفة، ولذلك قد يظهر عصبية شديدة لما عليه قومه وقبيلته من التقاليد والعقائد ويقبل ما ورثه من آبائه من السنن والمعارف من دون أيّ تحرّك فكري واستقلال عقلي.

وأحياناً يكون التقاعس وحبّ الراحة من الدوافع الاخرى الّتي تقود الإنسان للتعصّب واللجاجة، لأن الانتقال من حالة إلى اخرى يحتاج في كثير من الأحيان إلى بذل الجهد والسعي ومواجهة الموانع والتحديات الّتي يفرضها الواقع، وأنّى‌ للكسول والمتقاعس أن يتحرك في هذا السبيل، ولهذا السبب نجده يتمسك دائماً بما لديه من الأفكار والعقائد والأوهام المختلفة .
1
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

٣ - التعصّب الإيجابي والسلبي‌

هناك ثلاث مفاهيم متقاربة في المعنى وهي: التعصّب، الحميّة، التقليد، وكلّ واحدٍ من هذه الامور تنقسم إلى:
إيجابي وسلبي. أو: ممدوح ومذموم،
رغم أنّ مفردة (التعصّب) ترد غالباً في المعنى المذموم والسلبي.

وبشكل عام فإنّ الإنسان إذا ارتبط بالامور غير المنطقية وتحرّك في سلوكه من موقع قبولها والدفاع عنها فهو من التعصّب المذموم، وهذا هو ما ورد في القرآن الكريم بعنوان‌ (العصبية الجاهلية) ولكن إذا خضعت علاقة الإنسان مع هذه الامور للمنطق والعقل وكانت النتائج المترتبة عليها مفيدة وبنّاءة وتعصّب لها الإنسان فهو من التعصّب الممدوح والإيجابي.

ونقرأ في نهج البلاغة في الخطبة (القاصعة) لأمير المؤمنين عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث يقول: «فَاطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَاحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَانَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ» .

فنجد في هذه الخطبة انها تقوم على أساس من ذمّ الكِبر والغرور والتعصّب واللجاجة، ويقول الإمام في مكان آخر أيضاً: «فَانْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الْافْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الْامُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ... فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ، مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالْاخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ» .

فعليه فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشير في هذه الخطبة إلى‌ (التعصّب) بكلا قسميه، وعندما سُأل الإمام زين العابدين عليه السلام عن معنى العصبية ذكر كلا القسمين أيضاً وقال:
«الْعَصَبِيّةُ الَّتِي يَأْثِمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا انْ يَرىَ الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخِرِين! وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ انْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قُوْمَهُ وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيّةِ أنْ يُعِينَ قُوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» .

وطبقاً لهذا الحديث فإنّ العصبية الّتي يعيشها أفراد القوم أو القبيلة ما دامت تسير في خطّ الخير والصلاح فهي إيجابية وممدوحة، لأن هذه العصبية والارتباط الشديد لا يدفع‌ الإنسان إلى ارتكاب الممنوعات ولا يقوده نحو الخطيئات بل يُعمق فيه أواصر المحبّة ويؤكد وشائج المودّة بين الأفراد، امّا التعصّب المذموم فهو أن يسحق العدالة والحقّ تحت قدمه من أجل قومه ويضحي بالقيم الأخلاقية والشرعية للحفاظ على القيم الخرافية والتقاليد الزائفة.
وورد في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً قوله‌ «لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ حَمِيَّةٌ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطِّلِبِ، وَذَلِكَ حِينَ اسْلَمَ غَضَباً لِلنَّبِيِّ فِي حَديثِ السِّلَا الّذي الْقِيَ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه و آله» .

وبديهي أن تعصّب حمزة في الدفاع عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في مقابل المشركين الّذين يعيشون العصبية الحمقاء والجاهلية الزائفة لم يكن تعصّباً خارجاً عن حدود العقل والمنطق والعدالة، ولذلك فهو من التعصّب الممدوح، ولو أنّ حمزة قد سلك في تعصبه هذا في خط الباطل وارتكب ما يخالف الحقّ والعدالة فإنّ ذلك يقع في دائرة التعصّب المذموم والسلبي أيضاً .
3
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

٤ - التقليد البنّاء والأعمى‌

إن‌ (التقليد) ينقسم كالتعصّب إلى قسمين:
ايجابي وسلبي.
وبعبارة أدّق، يمكن تقسيم التقليد إلى أربعة أنحاء وأشكال، ثلاثه منها سلبية وواحد ايجابي.

الأوّل: (تقليد الجاهل للجاهل)

وهو أن يتحرك بعض الجهلاء والسذّج من الناس في أفكارهم وسلوكياتهم بدافع من تقليد طائفة اخرى من الجهال ويستوحون منهم اعتقاداتهم وسننهم وتقاليدهم، فمثل هذا التقليد هو الّذي ورد الذمّ والتوبيخ عليه بشدّة في القرآن الكريم حيث يُعد من أسباب‌ التعصّب واللجاجة وأحياناً من نتائجهما المترتبة عليهما، وهذا هو العامل المهم في انتقال الخرافات من قوم إلى قوم آخرين، وهذا هو ما تصدّى له الأنبياء والدعاة إلى الحقّ من موقع إبطاله ودحوه.

الثاني: (تقليد العالِم للجاهل)

وهو أشنع أنواع التقليد، وهو أن يتحرك الإنسان بالرغم من علمه ومعرفته في السير في خط الباطل ويتبع الجهلاء في ذلك بسبب ما علق على قلبه من حالات التعصّب الذميم.
إن مسألة (الاستعوام) واستسلام العلماء أمام أفكار الجهال والعامّة من الناس هو نوع من تقليد العالم للجاهل.

الثالث: (تقليد العالِم للعالم)

ويكون بصورة أن يتقاعس العالم عن البحث والتحقيق في أمر من الامور ويستسلم للنتائج الّتي توصل إليها عالم آخر من دون دراسة ونظر فاحص، ومن الواضح أنّ هذا النوع من التقليد مذموم أيضاً رغم انه ليس بشناعة القسم الأوّل والثاني، لأنّه ينبغي على العلماء وأهل المعرفة في كلّ قوم وامّة أن يبذلوا ما لديهم من الجهود في دائرة التحقيق والبحث العلمي في كلّ مسألة لإستخلاص النتائج الّذي يفرضها البحث العلمي، ومع توفر الاستعداد والقابلية للتحقيق والبحث فإنّ الاستسلام الأعمى‌ إلى الآخرين ليس من شأن العالم، ولهذا ورد في الفقه الإسلامي أنّ التقليد حرام على المجتهد. وقد ورد في التعبيرات المعروفة في اجازات الاجتهاد هذه العبارة (يُحرم عليه التقليد)، إلّا أن يكونا متخصصين في مجال التخصص العلمي (كالطبيب المتخصّص في أمراض القلب مثلًا يراجع الطبيب المتخصّص بأمراض العين في هذا المورد بالذات) أو يرجع المتخصّص لاستاذه، فهو في الواقع من قبيل القسم الرابع الّذي ستأتي الإشارة إليه .
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

الرابع: (تقليد الجاهل للعالم)

بما يتعلق بعلمه، وبعبارة اخرى: أن يراجع غير المتخصص إلى المتخصص في كلّ فن، وبعبارة ثالثة أيضاً: إن ما لا يحيط به الإنسان عِلماً عليه أن يرجع في ذلك لأهل العلم‌ والخِبرة ليقتبس منهم (كما في رجوع المرضى‌ إلى الأطباء في الأمراض المختلفة) وهذه المسألة تُعد من الاسس والدعائم للحياة الفردية والإجتماعية للإنسان.

وتوضيح ذلك: أنّ العلوم والفنون والمعارف البشرية إلى درجة من السعة والكثرة بحيث إنّ كلّ واحد من البشر لا يمكنه الإحاطة بها جميعاً، وقد كان هذا الحال من قديم الأيّام وقد تجلّى‌ هذا المعنى أكثر في عصرنا الحاضر حيث تشعّبت العلوم والمعارف وتطوّرت بشكل كبير جدّاً بحيث إنّ كلّ إنسان لا يستطيع حتّى‌ في الإحاطة بجميع فروع علم واحد من العلوم كالطب مثلًا أو الهندسة فكيف الحال بالعلوم الاخرى‌؟

ومع هذا الحال فلا مفر أمام الناس إلّا بأن يرجع الجاهل منهم إلى العالم، وهذا أصل مسلّم في حركة الحياة وقد بنيت عليه سيرة العقلاء في جميع العالم، والسير بخلاف هذا المنهج يؤدي قطعاً إلى تخلخل مفاصل المجتمع واهتزاز أركانه وبالتالي انحطاطه الحضاري والثقافي.

وهكذا الحال في المسائل المعنوية والأخلاقية والعلوم الدينية، فلا يمكن أن يتوقع من جميع الناس أن يكونوا أصحاب فكر واجتهاد في جميع العلوم والمعارف الإسلامية، فبعض هذه الفروع العلمية إلى درجة من السعة بحيث تحتاج لدراستها والإحاطة بها إلى خمسين سنة من البحث والتحقيق (من قبيل علم الفقه).

فمن الطبيعي أن يرجع الأشخاص المنشغلين عن هذه العلوم والجاهلين بها إلى العالم والخبير بها، ولكن بالنسبة إلى اصول الدين والعقائد المذهبية الّتي تشكّل دعائم المنظومة في الفكر الديني فإنّ على كلّ إنسان أن يحيط بها بمقدار ما يمكنه ذلك منها ولا يقبل من العقائد إلّا ما كان مستنداً إلى دليل وبرهان، فالتقليد في مثل هذه الامور غير جائز، بل لا بدّ من التحقيق والفحص وعدم قبول المعتقدات الدينية الأساسية إلّا عن دليل وبرهان.

وعلى أيّة حال فإنّ مثل هذا التقليد لا يُعد من القسم المذموم ولا يدخل في دائرة التقليد السلبي بل هو مصداق قوله تعالى: «... فَاسْئَلُوا اهْلَ الذِّكْرِ انْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» . وليس من‌ قبيل قوله تعالى‌: «... انَّا وَجَدْنَا آبَائَنَا عَلَى امَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» .

وهذا لا يرتبط بمسألة التعصّب المذموم الّذي هو الدافع للإنسان إلى سلوك طريق اللجاجة والتقليد الأعمى‌ .
1
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

٥ - طرق العلاج‌

إن الطريق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو كسائر علاج الرذائل الأخلاقية الاخرى‌ فإنه يتطلب في المرتبة الاولى‌ الإلتفات إلى الدوافع والجذور والسعي لإزالتها من واقع الإنسان وباطنه، ومع العلم بأنّ جذور التعصّب هو ما تقدّم من الانانية والافراط في حبّ الذات، انخفاض المستوى‌ الثقافي، ضعف الشخصية، العزلة الاجتماعية والفكرية، وأمثال ذلك.

ولا بدّ لإزالة هذه الصفة الرذيلة وتطهير النفس منها من الصعود بالمستوى‌ العلمي والثقافي للأفراد والسعي للتعرف على الأقوام والشعوب الاخرى والاطلاع على أفكارهم وعقائدهم، وكذلك تعديل حبّ الذات في شخصية الإنسان وقلع الميول والاتجاهات المضرة في نفسه والّتي تورثه التعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى‌.

وكذلك يجب الالتفات إلى الآثار السلبية لهذه الحالات الذميمة من أجل إصلاح النفس وتهذيبها وتطهير القلب من هذه الشوائب والأدران المحيطة بها.

وعندما يدرك الإنسان أنّ التعصّب واللجاجة تسدل على فكره وعقله حجاباً وستاراً مضمراً يمنعه من إدراك الحقائق وفهم الواقعيات وكذلك من شأنه أن يمزق العلائق الإجتماعية بين أفراد المجتمع ويبذر بذور النفاق والاختلاف والفرقة بينهم، ويُفضي إلى الشقاء والتعاسة ويورث الإنسان التعب والدرك وحتّى انه قد يؤدي به إلى الإنزلاق في دوّامة من المشاكل لم يكن يتوقعها أبداً. فمطالعة هذه الامور من شأنها أن تقلّل من شدّة العصبية والعناد وتساعد الإنسان في النزول عن مركب الغرور والتعصّب والتقليد الأعمى‌ وأن يسلك بالتالي في خطّ السعادة والإنصاف ويسلك المنهج العقلاني في التفكير والمعتقد.

وأحد الامور الاخرى في طريق علاج هذه الرذائل الأخلاقية هو تغيير شكلها ومحتواها، بمعنى‌ أنّ الإنسان يقوم بعملية استبدال الدوافع السلبية بدوافع اخرى ايجابية.

مثلًا: الشخص الّذي يعيش التعصّب الشديد بالنسبة إلى الامور غير المنطقية أو الخرافية، فبدلًا من أن يسعى‌ إلى قتل الدافع لهذا التعصب في نفسه يقوم بتحويله إلى الجهة الإيجابية فيتعصب للُامور الحقّة.

وهذا هو ما قرأناه في الخطبة القاصعة للإمام أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «فإنّ كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الامور» .

وإذا كان المفروض على الإنسان أن يتعصب لشي‌ء في علاقاته وتفاعله مع الآخرين فالأفضل أن يكون تعصبه للقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية .
3
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الثاني 🟢

٦ - التسليم مقابل الحقّ‌

النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى‌ هو التسليم مقابل الحقّ الّذي يُعد من الفضائل المهمة الأخلاقية، أيّ أنّ الإنسان يقبل بالحقّ من أيّ شخص كان حتّى لو رآه أبعد الناس وأصغرهم فيسلّم له.

وهذه الفضيلة الأخلاقية هي السبب في التقدّم العلمي والتطور الحضاري للبشرية وتورث الإنسان الحصانة من الوقوع في الضلالة وسلوك طريق الباطل.

ولا يتحلّى بهذه الصفة الأخلاقية الحميدة إلّا أهل الإيمان والصالحون من الناس والّذين يبتعدون عن الافراط في حبّ الذات والتعلقات القومية الذميمة ويجتنبون الميول الذاتية في دائرة الفضيلة والمعتقد.

إن التسليم مقابل الحقّ هو من علامات الإيمان، وسلامة الفكر والروح، وارتفاع‌ المستوى الثقافي لدى‌ الإنسان، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الخصلة الحميدة مخاطباً النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:
«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي انْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .

ويقول في مكان آخر: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ اذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ امْراً انْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ امْرِهِمْ» .

وطبعاً فإنّ التسليم (بعنوان فضيلة أخلاقية) يُستعمل على معنيين:
أحدهما: التسليم مقابل الحقّ والّذي يقع في النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى‌.

والآخر: هو التسليم مقابل القضاء والقدر الإلهيين فيعيش الإنسان في حالة الشكر والرضا بما قسم اللَّه ولا يعيش السخط والكفران.

وموضع البحث في هذا الفصل هو ما يتعلق بالمعنى الأوّل، امّا المعنى الثاني فسوف يأتي الكلام عنه في بحث‌ (الرضا والتسليم) .
2025/10/27 09:00:42
Back to Top
HTML Embed Code: