جلسة الصفا

17 شوال 1437
22 تموز 2016

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

*الخلق الحسن وأثره في قبول الأعمال*

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدثنا في درس الأسبوع الماضي أن المؤمن بعد أداء العبادات التي كلف بها، تتوق نفسه ليعلم هل قبل الله تعالى منه عبادته؟
هل قبل الله تعالى منه صيامه وقيامه وطاعته وإنفاقه؟
وكنا نتكلم في هذه القضية ونلتمس من أحاديث المصطفى ﷺ العلامات التي تدل على قبول العمل، وذكرنا هذه العلامات.
ومن جملة العلامات التي تدل على قبول العمل: المداومة على العمل وعدم الانقطاع عنه، وذكرت لكم حديث المصطفى ﷺ:
*"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"*
وإذا كان الله تعالى يحب العمل الذي يداوم صاحبه عليه، معنى هذا أن الله تعالى يقبله منه ويثيبه عليه.
وسنتحدث اليوم عن علامة أخرى وهي مهمة جداً، وقد تكون شرطاً من شروط قبول العبادات، وقد وردت هذه العلامة في كتاب الله تعالى في آيات قرآنية، و وردت في أحاديث المصطفى ﷺ، ومن يتأمل تلك الآيات والأحاديث يستنبط منها هذه العلامة، وأردت اليوم أن نشترك جميعاً في استنباط هذه العلامة.
*النص الأول:*
هو حديث النبي ﷺ الذي رواه الإمام أحمد؛ والبخاري في الأدب المفرد؛ وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
قال رجل: يا رسول الله؛ إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال عليه الصلاة والسلام:
*"لا خير فيها؛ هي في النار".* فقال هذا الرجل: يا رسول الله؛ فإن فلانة يذكر من قلة صلاتها وصيامها وصدقتها (أي تقتصر على الفرائض) وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط، (أي بالشيء القليل مما في حوزتها)، ولا تؤذي جيرانها، فقال: *"هي في الجنة".*
*النص الثاني:*
هو الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد؛ والبخاري في الصحيح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".*
وفي رواية: "من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به، فليس لله حاجة لأن يدع طعامه وشرابه".
وفي رواية: "من لم يدع الخنى والكذب، فليس لله حاجة لأن يضع طعامه وشرابه".
*النص الثالث:*
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال عليه الصلاة والسلام:
*"تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين؛ فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا".*
وفي رواية: "دعوا هذين حتى يصطلحا".*
الشحناء: المشاحن هو المباغض والمخاصم والمقاطع والحاقد والحاسد.
*النص الرابع:*
ما رواه الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*"من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".*

وثمة أحاديث أخرى تدل عليها في المعنى، ولكن لا نريد أن نطيل في سردها، وهذه الأحاديث التي ذكرناها تغني عنها.
*النص الخامس:*
قول الله تعالى في سورة البقرة:
*"يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تُبطِلوا صَدَقاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذى"*

والسؤال:
ما هو الجامع بين هذه النصوص؟
بين هذه الآية الكريمة وبين الأحاديث التي قبلها؟

إذا نظرنا في هذه النصوص نجد أن الجامع بينها أن أصحاب هذه الأعمال والعبادات قد حرموا أجرها وثوابها بسبب سوء خلقهم، وفحش أقوالهم وأفعالهم، كما حرم صاحب الضغينة والحقد من المغفرة.
أما حديث المرأة التي يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها فالأمر واضح، هذا الخلق السيء الذي كانت عليه جعلها من أهل النار ولم يشفع لها كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها.
والحديث الثاني: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة لأن يدع طعامه وشرابه، ذكر شراح الحديث هذا المعنى جلياً واضحاً، فقال ابن المنير -وهو من كبار شراح صحيح البخاري وينقل عنه كثيراً الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري- يقول في شرح هذا الحديث:
قوله ﷺ: فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه: كناية إلى عدم القبول، فالمراد: رد صيام المتلبس بالزور وقبول السالم منه (أي من لم يقع في قول الزور والعمل بالزور، قبل الله تعالى صيامه وقيامه).
وقال كذلك ابن العربي في هذا الحديث:
مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه.
وقال الإمام البيضاوي:
قوله: ليس لله حاجة: مجاز عن عدم القبول، فنفى السبب وأراد المسبب.
وأما في الآية الكريمة فالأمر واضح جداً، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تُبطِلوا صَدَقاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذى، فهذا الذي أحبط ثواب الصدقة ورد عمله هو المن بالصدقة، لأن المن من أسوأ الأخلاق، ولأن المن نوع من الكبر والعجب والتعالي والغرور، إذن سوء خلقه بالمن أبطل ثواب عمله.
ثم نظرنا فوجدنا حديثاً عن النبي ﷺ يذكر القاعدة العامة التي تندرج تحتها هذه الأحاديث، من قوله ﷺ الذي روي من طرق عديدة ويقوي بعضها بعضاً، روي عن عدد من الصحابة الكرام وهم: أنس بن مالك وابن عمر و أبو هريرة رضي الله تعالى عنهم. رووا أن رسول الله ﷺ قال:
*"إن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل".*

نستنتج من هذا: أن حسن الخلق؛ وسلامة القلب من الضغينة والغل والحقد؛ ونظافة اللسان من الفحش والبذاءة؛ هو ضمانة لقبول العبادات وقبول الأعمال الصالحة؛ وللحصول على المغفرة حين ترفع الأعمال إلى الله سبحانه و تعالى.
وهذا المعنى جاء بإجمال رائع في القرآن الكريم في قول الله تعالى مبيناً من الذين يتقبل الله سبحانه وتعالى منهم، قال تعالى:
*"إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"*
و(إنما) في اللغة تفيد الحصر، يعني: لا يتقبل الله تعالى إلا من المتقين. والمتقون: هم المخلصون الذين خلت قلوبهم من الغل و الحقد والحسد، وتحلوا بالأخلاق الحسنة والصفات الجميلة، لأن التقوى معناها المكارم والفضائل ومحاسن الأخلاق. ولقد وضح الله سبحانه وتعالى معنى التقوى في القرآن الكريم؛ حين قال في أحد المواضع:
*"أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"*
إذن التقوى هي هذه الأخلاق الفاضلة الحسنة.
وهذا يؤكد لنا حقيقة مهمة جداً، وهي: أن الخلق الحسن من أعظم مقاصد هذا الدين بعد توحيد الله عز وجل، بل على الخلق الحسن بنيت جميع أحكام الإسلام من بيع وشراء ومعاملة الأسرة، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن هدف وغاية بعثته أن يتمم مكارم الأخلاق، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور:
*"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".*
فلما كانت بعثته ﷺ لإتمام مكارم الأخلاق وترسيخها وتثبيتها في المجتمع، نجد في القرآن الكريم ربطاً محكماً بين الإيمان وبين الأخلاق الحسنة، قال تعالى:
*"قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (1) ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ (2) وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ (3) وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ (4) وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ (7) وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ (8)"*
أرأيتم كيف ربط الله تعالى ربطاً محكماً بين الإيمان والبذل والعطاء والعفة والترفع عن اللغو والعبث؟
هذه صفات المؤمنين: أداء الأمانة؛ الوفاء بالعهد.. فهذه الآية بينت أن من ثمرات الإيمان هذه الأخلاق الحسنة.
بعض الباحثين أحصى الآيات التي تحث على الأخلاق الحسنة في القرآن الكريم، فوجد أنها تزيد على 1500 آية، ولعل عدد تلك الآيات أكثر من هذا، حتى آيات الأحكام بنيت على الأخلاق الحسنة.
اقرؤوا مثلاً سورة البقرة، حتى آيات الطلاق والفصل بين الزوجين بنيت على الأخلاق الحسنة، قال تعالى:
*"الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ".*
والعبادات التي هي أركان الإسلام، إذا قرأنا الآيات القرآنية نجد أن الله تعالى جعلها وسائل للتخلق بالأخلاق الحسنة، وجعلها معارج لارتقاء الإنسان ولحمل النفس على التخلق بهذه الأخلاق، مثلاً:
في الصلاة، قال تعالى:
*"وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ"*

وفي الصيام، قال تعالى:
*"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"*

والتقوى هي جماع الفضائل والأخلاق الفاضلة.

وفي الزكاة، قال تعالى:
*"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"*
فهي تطهر الأغنياء من الشح والبخل، وتطهر الفقراء من الحقد والحسد، وتطهر المجتمع كله من الأحقاد. وتزكيهم: تنمي فيهم الخير وتنمي فيهم حب الخير لبعضهم.

وفي عبادة الحج، قال تعالى:
*"الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ".*
إذن، هذه الحقيقة يجب أن لا ينساها المسلمون أبدا، وهي أن دين الإسلام دين الأخلاق الحسنة، والنبي عليه الصلاة والسلام بين أن الله تعالى أرسله ليؤكد هذه الأخلاق ويرسخها ويثبتها في حياة المسلمين.
إن التزام المسلم بهذا الدين وتمسكه به، يقاس بما يتحلى به من هذه الأخلاق الفاضلة، وليس بكثرة صلاته وصيامه، ولا بكثرة الحج والعمرة.
قال ابن القيم:
الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين.
وكان النبي ﷺ يرسخ هذه الحقيقة في جميع خطبه التي خطبها في المدينة المنورة والتي تزيد عن خمسمائة خطبة، يقول أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال:
*"ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لم لا عهد له".*

لذلك، لا يحسبن من صلى وصام وحج واعتمر فقط ولم يتخلق بأخلاق الإسلام من الحلم والتواضع والصفح والبذل، لا يحسبن أنه مسلم على النحو الذي يريده الله سبحانه وتعالى، ولا يحسبن أن الله تعالى راض عنه إذا لم يتخلق بهذه الأخلاق، بل قال النبي عليه الصلاة والسلام:
*"إن الله ليبغض الفاحش البذيء".*
والله تعالى لا يقبل عمل من يبغضه.
لذلك، المسلم الذي يصوم ويصلي ويزكي ويحج ويعتمر ويرتاد المساجد؛ ولكنه فظ غليظ مؤذ، لا يسلم الناس من لسانه ويده، سيء الخلق لا يرعوي عن حرام ولا يدع أكل أموال الناس بالباطل، بدءاً من أهله ثم من كان حوله، هذا سبة على الدين، وهو من أسباب طعن الناس بهذا الدين، لأنه يشوه صورته ويغير حقيقته، لذلك تبرأ النبي ﷺ ممن ساء خلقه، ولو كان مصلياً صائماً؛ فقال عليه الصلاة والسلام:
*"إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء".*
فلا يغترن أحد بأنه مصل وصائم إذا كان فظاً غليظاً مؤذياً؛ بلاء على الناس.

فالميزان الحقيقي للمسلم، ليس كثرة صلاته وصيامه، فتلك بينه وبين ربه، الميزان والمعيار الحقيقي للمسلم، هو التزامه بأخلاق الإسلام، التزامه بسماحة هذا الدين، وهذه الحقيقة أفصح عنها الصحابة الكرام؛ وبينها سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه الذي أثنى النبي ﷺ على فهمه وعقله، والذي شهد له النبي ﷺ، قال: *"إن يكن فيكم محدثون فعمر بن الخطاب".* رضي الله تعالى عنه، والذي وافقه الوحي في بعض المسائل، يقول سيدنا عمر الذي فهم حقيقة الإسلام:
(لا يغرنكم صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى صدق حديثه إذا حدث، وإلى أمانته إذا اؤتمن، وإلى ورعه إذا أشفى).
أشفى: أي أشرف على الدنيا.

والخلاصة:
أن من علامات قبول العبادات التحقق بثمراتها والوصول إلى غاياتها وأهدافها من الخلق الحسن؛ والذي هو من أعظم مقاصد الشرع.

اللهم زك نفوسنا يا رب العالمين

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق؛ واصرف عنا سيء الأخلاق يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.
جلسة الصفا

24 شوال 1437
29 تموز 2016

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

ما هو مقياس التزام المؤمن بدينه؟
ومن هو صاحب الدين؟

بسم الله الرحمن الرحيم

تبين لنا في الدرس الماضي من خلال استعراض النصوص في كتاب الله عز وجل؛ وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن سوء الخلق يحبط أجر كثير من العبادات، يدل على ذلك قول الله تعالى:
*"يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى"*
والمن من الأخلاق السيئة التي تؤذي الناس في مشاعرهم وأحاسيسهم وكرامتهم، ودل على ذلك قوله النبي ﷺ في تلك المرأة التي ذكروا كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها؛ غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال عليه الصلاة والسلام: *"هي في النار".*
وأحاديث أخرى مرت معنا، بينت لنا أن لحسن الخلق أثراً كبيراً في قبول العبادات والأعمال الصالحة عند الله سبحانه وتعالى.
وفي الحقيقة؛ إذا مضينا في هذا المجال، وأردنا أن نتعرف إلى أهمية الخلق الحسن؛ وما لصاحب الخلق الحسن من فضل وأجر ومنزلة عند الله تعالى، فسنجد أمراً عجيباً يبين أهمية الخلق الحسن في الإسلام، نجد نصوصاً نبوية صحيحة تجعل لحسن الخلق النصيب الأوفر من العبادة، والأجر الأعظم من الثواب، نصوصاً نبوية تبين أن لصاحب الخلق الحسن المنزلة العليا في الجنة، وأنه من أحب الناس إلى الله تعالى وإلى رسوله ﷺ.
من ذلك ما رواه الإمام الترمذي وابن حبان عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*"ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن".*
ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أن رسول الله ﷺ قال:
*"إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم".*
ومن ذلك ما رواه الإمام الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله ﷺ سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال لهم: *"تقوى الله وحسن الخلق".*

والسؤال:
*لم كان لحسن الخلق هذا الثواب العظيم وهذا الأجر الجزيل؟*
ولم كان لصاحب حسن الخلق درجة الصائم القائم -مع أنه يكون مفطراً في النهار ونائماً في الليل- ومع ذلك له أجر صائم النهار وقائم الليل؟
الجواب عن ذلك نأخذه من واقع العبادات الشعائرية من صلاة وصيام وزكاة وحج، تعالوا لنرى كم تشغل من الحياة؟ وما هو الحيز الذي تستغرقه من الزمان؟
*الصلاة* التي هي عماد الدين وعمود الإسلام كما ورد عن النبي ﷺ -بأوقاتها الخمسة وركعات فرائضها السبع عشرة- تستغرق على الأكثر ساعة واحدة كل 24 ساعة، معنى هذا أنها تستغرق من اليوم على الأكثر 5%.
*الصيام* وهو عبارة عن شهر في السنة؛ يستغرق 8.5 %.
*الزكاة* تدفع مرة واحدة في العام.
*والحج* مرة واحدة في العمر.

على أن كثيراً من الناس لا تجب عليهم الزكاة لأنهم ليسوا أغنياء ولا يملكون النصاب، ولا يجب عليهم الحج، لأنهم ليسوا ممن يستطيعون إليه سبيلاً.
فهذه الفرائض من العبادات هي لأكثر الناس 5% في اليوم؛ و8.5% في العام، والله تعالى قال:
*"وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون"*
فهل عبادة الله تعالى التي خلقنا من أجلها محصورة في 5% باليوم و 8.5% في العام؟؟؟
فأين تحقيق العبادة بالمساحة الواسعة من الحياة؟ وفي الوقت الفسيح الباقي من العمر ليتحقق قوله تعالى:
*"وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون"؟*
الجواب:
العبادة التي تستغرق الحياة كلها وتشمل العمر كله، إنما هي الخلق الحسن، وإنما هي التخلق بأخلاق هذا الدين والتي جاءت بها آيات الله تعالى من أول ما نزل كتاب الله عز وجل: إذ كانت آيات الله في مكة تؤكد على الإيمان والعقيدة؛ وتؤكد مع ذلك على الأخلاق الحسنة، والتي فاضت بها أحاديث رسول الله ﷺ.
فالتمسك بفضائل الإسلام وآدابه وقيمه يكون بدءاً من خلق العفة -والذي يقتضي ترك كل حرام من المال والشهوات المحرمة- وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق.
وفي ضوء هذه الحقيقة ندرك لماذا قال النبي ﷺ:
*"ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق".*
ولذلك ندرك لم قال النبي ﷺ:
*"إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم".*
وندرك لم قال النبي ﷺ:
*"إن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقاً".*
ولم قال:
*"إن خياركم أحسنكم أخلاقاً".*
قال هذا لأن الخلق الحسن هو العبادة التي تستوعب الحياة كلها وتستغرق العمر كله.
وبعد أن عرفنا هذا، نخلص إلى نتيجة مهمة جداً، وهي أن معيار تدين المسلم وقياس التزامه بهذا الدين، هو بمقدار التزام المسلم بأخلاق الإسلام وتمسكه بفضائله وقيمه وآدابه، هذا هو المعيار وهذا هو مقياس التدين والالتزام، وليس مقياس التدين مجرد الالتزام بالعبادات الشعائرية من الصلاة والصيام والزكاة والحج فحسب، إذا كان يؤديها سيء الخلق مؤذياً للخلق، يتحاشى الناس شره وسوءه ولسانه ويده.
نعم؛ ليس التدين هو الالتزام بهذه العبادات فقط؛ على أهميتها القصوى وعلى أنها فرائض لا يجوز التهاون بها ولا تركها ولا التكاسل في أدائها في أي حال من الأحوال. وقد بين الله تعالى والنبي ﷺ كذلك أن هذه العبادات إنما هي روافد للأخلاق الحسنة، وأن هذه العبادات تحمل في جوهرها قيماً أخلاقية من المطلوب أن تنعكس على سلوك المسلم المؤدي لهذه العبادة؛ و أن تتضح جلياً في شخصيته وتعامله مع الناس أجمعين.
إذن؛ هذه العبادات على أهميتها ليست هي المعيار وحدها في مقدار تدين المسلم والتزامه بهذا الدين، بل يضاف إليها التزامه بأخلاق الإسلام.
وبعبارة أخرى، لا نقول عن إنسان ما: (هو صاحب دين) إذا كان يغش ويخدع ويكذب؛ ويأكل أموال الناس بالباطل؛ ويأكل حقوق أهله وذويه: ولو كان يصلي في اليوم ألف ركعة؛ ويصوم رمضان وكل اثنين وخميس؛ ويحج ويعتمر كل عام.
هذا الرجل هو سبة على الدين؛ وفتنة للكافرين وفتنة لتاركي الصلاة وفرائض الدين، ومنفر للناس عن الدين وعن المصلين. إن كلمة (صاحب دين) تقال لمن يؤدي فرائض الله تعالى ويتحلى بأخلاق الإسلام التي أمر بها الله تعالى وأمر بها رسوله ﷺ.
يجب أن يعلم الناس جميعاً أن شعار الإسلام هو الخلق الحسن، وأن عنوانه ومضمونه الخلق الحسن، و بالخلق الحسن دخل الناس في دين الله أفواجاً، ولا يزالون يدخلون إلى الإسلام بالخلق الحسن رغم ضعف المسلمين، لكن أخلاق الناس تجذب الناس لأنها تخاطب الفطرة وتخاطب العقل والمنطق السليم.
ولقد بين لنا النبي عليه الصلاة والسلام أن للأخلاق الحسنة ارتباطاً بحسن الإيمان، فقال في الحديث الصحيح:
*"الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها وأفضلها قول: (لا إله إلا الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".*

هذا الإسلام لا يتفرع منه إلا محاسن الأخلاق، لذلك:
حين تكظم غيظك: أنت في عبادة.
حين تتكلم الكلام الطيب والألفاظ المهذبة: أنت في عبادة.
حين تبتسم في وجه أخيك: أنت في عبادة.
حين تكون لطيفاً مع أهلك: أنت في عبادة.
حين تكون نظيفاً في ثيابك وبيتك ومحلك: أنت في عبادة.
حين تكون متواضعاً مع أقرانك ومع من هو دونك: أنت في عبادة.
حين تؤدي الأمانة إلى أهلها: أنت في عبادة.
حين تصدق في حديثك: أنت في عبادة.
حين ترفض المال الحرام من ربا ورشوة وغير ذلك: أنت في عبادة.
حين تكون سمحاً في بيعك وشرائك وتنصح ولا تغش: أنت في عبادة.
حين تكون حليماً صبوراً: أنت في عبادة.
وحين تعطي مريضك حقه وتشخص مرضه بعناية -أيها الطبيب- أنت في عبادة.
وأنت أيها الموظف؛ حين تلبي حاجة مراجعيك وتيسر أمورهم وتقضي حوائجهم: أنت في طاعة وعبادة.
وحين تتجنب الغلظة والفظاظة وتكف لسانك عن الفحشاء والبذاءة: أنت في عبادة.
حين تؤدي للناس حقوقهم ولا تماطل ولا تظلم: أنت في عبادة.
حين تكون باراً بأبويك؛ واصلا لرحمك: أنت في عبادة.
حين ترحم المسكين والفقير والمحتاج: أنت في عبادة.

أرأيتم كيف أن الخلق الحسن هو أعظم عبادة؟ وأنه هو الذي يشمل الحياة كلها؟ ولذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:
*"ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن من خلق حسن، وإن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".*
لذلك، لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام:
أي المؤمنين أفضل؟ قال: *"أحسنهم خلقاً".*
لم يقل: أكثرهم حجاً وعمرة، لم يقل: أكثرهم قياماً بالليل وصياماً بالنهار.
لذلك، لما كان صاحب الخلق الحسن يعطي الصورة الصحيحة عن دين الله تعالى الذي جاء به رسول الله ﷺ، كان صاحب الخلق الحسن من أحب الناس إلى الله تعالى، ومن أحب الناس إلى رسوله ﷺ، فقد روى ابن حبان والطبراني عن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه قال:
*"كنا جلوساً عند النبي ﷺ؛ إذ جاءه أناس فقالوا: يا رسول الله، من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: أحسنهم خلقاً".*
وهم أحب الناس إلى رسول الله ﷺ كذلك، فروى الإمام الترمذي عن سيدنا جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
*"إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً".*
وفي رواية عند الإمام أحمد وابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله ﷺ قال :
*"ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟"* يقول راوي الحديث عبد الله بن عمرو: فأعادها مرتين أو ثلاثة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: *"أحسنكم خلقاً"*.

هذا هو الخلق الحسن الذي هو العبادة التي تستغرق الزمان؛ وتستوعب العمر كله؛ وبذلك يتحقق قول الله تعالى:
*"وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون".*

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف سيئها إلا أنت، يا رب العالمين.

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
446

جلسة الصفا

3 ذي الحجة 1446
30 أيار 2025

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

*فضل عشر ذي الحجة وكيف نغتنمه*

بسم الله الرحمن الرحيم

نحن في أيام يظنها بعض الناس أنها كغيرها من الأيام، فلا يلقي لها بالاً، ولا يعيرها اهتماماً، ولو عرف الناس فضلها وقدرها عند الله تعالى لاستنفروا استنفاراً تاماً لاغتنامها، واغتنام أيامها وساعاتها، لأن اغتنامها يزيد من رصيدهم من الأجر يوم القيامة، ويثقل ميزان حسناتهم، ويرفع درجاتهم يوم الحساب، يكفي لبيان فضلها أن الله تعالى جعلها تعويضاً لمن لم يقدر على الحج، فجعل الله موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
من أين استنبط ابن رجب هذا المعنى؟
الجواب:
استنبطه من أدلة عديدة أولها حديث النبي ﷺ فيما رواه الإمام أحمد والطبراني وغيرهما أن النبي ﷺ قال:
*"ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن، من أيام العشر".*
وقال ﷺ:
*"ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".*
يعني: خرج مجاهداً فاستشهد في سبيل الله وأنفق ماله كله في سبيل الله.
وفي رواية توضح فضل هذه الأيام، قال رسول الله ﷺ:
*"أفضل أيام الدنيا أيام العشر".*
وهذا يدل على أن هذه الأيام أفضل من أيام رمضان الذي يهتم به الناس ويحتفلون به ويغتنمون أيامه ولياليه، فقوله ﷺ عن أيام العشر أفضل أيام الدنيا تفيد أنها أفضل الأيام على الإطلاق؛ بما فيها أيام شهر رمضان.
وكذلك يكفي لبيان فضلها أن الله تعالى أقسم بها في القرآن الكريم في الآية التي نعرفها جميعاً، وهي قوله تعالى:
*{وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}*
قال الطبري وابن كثير: المراد بها عشر ذي الحجة. وهو ما قاله عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم، ومجاهد المفسر، وغير واحد من السلف والخلف.
قال الإمام الأوزاعي:
"بلغني أن العمل في اليوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله تعالى، يصوم نهارها ويحرس ليلها؛ إلا أن يختص امرؤ بشهادة".
لذلك فإن الصالحين وأحباب الله تعالى والذين يحرصون على التقرب من الله عز وجل، يفرحون ببلوغهم هذه الأيام ليغتنموها ويعمروها بالأعمال الصالحة التي القيام بها أحب إلى الله من غيرها من الأيام.
تصوروا رجلاً يحب الله تعالى حباً شديداً يسمع أن الله تعالى يحب الأعمال الصالحة في هذه الأيام، فهل يقعد فيها و يتكاسل عن العمل الصالح فيها؟ أم إنه تقوى عزيمته وتشتد رغبته في القيام بما يحبه الله تعالى حتى يكرمه الله تعالى بمقام المحبة والقرب والوداد؟
هذا بعينه ما كان يفعله أحباب الله تعالى، فروي عن سعيد بن جبير أنه كان إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يحث الناس كذلك على اغتنام العشر، فكان يقول:
"لا تطفؤوا سرجكم في ليالي العشر".
وقال أبو عثمان النهدي وهو من كبار التابعين والمحدثين:
"كانوا يعظمون ثلاث عشرات، العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من محرم".
وكان الحافظ بن عساكر يعتكف في العشر الأواخر من رمضان وفي عشر ذي الحجة.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول:
"لا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة".
وكان سعيد بن جبير يقول:
"أيقظوا خدمكم يتسحرون لصيام يوم عرفة".
ومن العمل الصالح في هذه الأيام كثرة ذكر الله تعالى، وقد نص عليه النبي ﷺ وأمر به، فقال بعد ذكر فضل هذه الأيام:
*"فأكثروا فيهن من التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير".*
أي من قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وهذه الأذكار من أحب الكلمات إلى الله تعالى، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
*"أحب الكلام إلى الله: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".*
ولذلك كانت مناسبة لهذه الأيام التي الأعمال الصالحة فيها أحب إلى الله من غيرها من الأيام.

ومن العمل الصالح: قراءة القرآن الكريم، فإن استطعت قراءة ختم كامل من القرآن فهنيئاً لك.

ومن العمل الصالح: الصيام. روى الإمام أحمد وأبو داود عن بعض أزواج النبي ﷺ قالت:
*"كان رسول الله ﷺ يصوم تسع ذي الحجة".*
وأما قول السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:
"ما رأيت رسول الله ﷺ صائماً في العشر قط" فقد أجاب عنه الإمام أحمد فقال:
يعني: لم يصمه كاملاً، ويكون المراد بقول بعض أزواج النبي ﷺ أنه كان يصوم تسع ذي الحجة أنه كان يصوم أكثره.
والصيام عمل صالح من جملة العمل الصالح الذي يحبه الله تعالى في هذه الأيام.
قال الإمام النووي:
"صيام عشر ذي الحجة مستحب استحباباً شديداً".
وآكد هذه الأيام وأفضلها صيام يوم عرفة، قال عليه الصلاة والسلام:
*"صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده".*
ومن العمل الصالح: القيام، فلا تفوتنك بضع ركعات تصليها بعد صلاة العشاء أو في وقت السحر.
ومن أهم الأعمال صلاة العشاء في جماعة وصلاة الفجر في جماعة، قال عليه الصلاة والسلام:
*"من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله".*

ومن العمل الصالح: الدعاء وكثرة الدعاء، وخاصة أن ندعو أن يُمكِّن الله تعالى لنا في بلادنا ويصرف عنا كيد أعدائنا، وأن ندعو الله تعالى أن يفرج عن أهل غزة الأبطال الميامين الذين سطروا بصمودهم بطولات أسطورية لا تصدق لولا أننا نراها ونشاهدها.

ومن العمل الصالح ومن أهمه وأفضله: الصدقات، حيث يضاعف أجرها في هذه الأيام؛ خاصة أن هناك محتاجين وفقراء ومعوزين، فما أعظم أن نكفيهم حاجاتهم ونزيل عوزهم في هذه الأيام المباركة، ليكرمنا الله تعالى بمزيد من الفضل والبركات.
والإنفاق من أول صفات المتقين الذين يحبهم الله تعالى.

ومن العمل الصالح: الأضاحي .

ومن العمل الصالح وأهمه وآكده: صفاء القلوب من الأحقاد؛ وصفاء النفوس من الخلافات؛ وأن يصفح كل منا عن أخيه ويسامحه إن أخطأ معه.
وصفاء القلوب يتوقف عليه قبول الأعمال، فكم سمعنا النبي ﷺ يقول:
*"تعرض الأعمال كل يوم اثنين وخميس؛ فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً؛ إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا -ثلاث مرات-".*

اللهم اجعلنا ممن يغتنمون هذه الأيام المباركة، يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
447


جلسة الصفا

17 ذي الحجة 1446
13 حزيران 2025

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان

العطلة الصيفية وحفظ القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

نحن في بداية فصل الصيف حيث ينهي الطلاب دراستهم في هذه السنة الدراسية ويستقبلون العطلة الصيفية، فهل معنى العطلة الصيفية أنهم لا يقومون بأي عمل ويتعطلون عن أي نشاط، و تنقطع صلتهم بكتبهم ودراستهم؟
إن كان الأمر كذلك فهذه العطلة تعطيل للطاقات وتضييع للأوقات، فلا يجوز أن تكون العطلة كذلك، بل ينبغي أن تكون كما يقال: "استراحة محارب" واستدراك تقصير، يستدرك فيها الطلاب ما قصروا فيه خلال العام، ويملؤون أوقاتهم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، إذ الفراغ للشباب من أخطر أسباب المفاسد؛ كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
"نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل"
لذلك يجب أن يتوجه شبابنا وطلابنا ذكورا وإناثا إلى اغتنام أيام الصيف، وأن تكون أيام عمل ودأب ونشاط لا أيام خمول وكسل وتعطل عن الأعمال.

ومما ينبغي أن يملؤوا به أوقاتهم:
أولا: استدراك ما يعوزهم من العلوم؛ كالرياضيات والفيزياء واللغة؛ وغير ذلك مما يعرفه كل واحد من نفسه.
ثانيا: الإقبال على حفظ كتاب الله تعالى، لما لذلك من فوائد جليلة عظيمة لهم في مختلف جوانب حياتهم كما سنذكر.
وإنما كان إقبالهم على حفظ كتاب الله تعالى في أيام الصيف؛ لأن هذه المرحلة العمرية التي يمرون بها هي من أفضل المراحل لحفظ كتاب الله تعالى، فهذه السن -سواء في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية- هي أصلح المراحل وأفضلها لحفظ كتاب الله تعالى.
وقد رأينا أن كبار العلماء ممن يشار إليهم بالبنان؛ وصاروا نجوما في سماء العلم والفقه وغير ذلك؛ إنما حفظوا القرآن الكريم وهم صغار.
ويروي لنا التاريخ أسماء عدد غير قليل ممن برعوا في العلم؛ حفظوا القرآن الكريم في سن الصغر، ومن هؤلاء: الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج الإمام البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال:
"توفي رسول الله ﷺ وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم".
وترجم الإمام البخاري لهذا الأثر بقوله:
(باب تعليم الصبيان القرآن). يقول الإمام ابن حجر: "كأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك".
وأخرج الإمام البخاري بسنده عن عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه قال:
"لم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم إماما، وأنا ابن ست أو سبع سنين".
قال صاحب مناهل العرفان في علوم القرآن:
وكان حفاظ القرآن في حياة الرسول ﷺ جما غفيرا، منهم الخلفاء الأربعة وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وحذيفة وسالم مولى أبي حذيفة وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس وعمرو بن العاص وابنه عبد الله، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن السائب والسيدة عائشة وحفصة وأم سلمة، وهؤلاء كلهم من المهاجرين.
وحفظ القرآن من الأنصار في حياته ﷺ أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو الدرداء ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك، وقيل: إن بعض هؤلاء أكمل حفظه القرآن بعد وفاة النبي ﷺ.

قال الإمام ابن كثير:
"تعليم القرآن في الصبا قد يكون مستحبا أو واجبا، لأن الصبي إذا تعلم القرآن، بلغ وهو يعرف ما يصلي به، وحفظه في الصغر أولى من حفظه كبيرا وأشد علوقا بخاطره، وأرسخ وأثبت كما هو المعهود من حال الناس".
وقال الإمام السيوطي:
"تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشأون على الفطرة، وتسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال".
وقال ابن خلدون عالم الاجتماع الشهير:
"اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أعصارهم؛ لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات".
وقد كان السلف من أشد الناس حرصا على التعليم في الصغر، لأن التعليم في الصغر أدعى للحفظ والفهم والإتقان.
قال الإمام الشافعي:
"حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر".
وذكر ابن الجزري إمام القراءات في ترجمة حمزة بن حبيب الزيات؛ أنه حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين.
وابن سينا -الذي هو من أعلام الأطباء- حفظ القرآن وأكمله ولم يتجاوز العاشرة من عمره.
وكثير من الفقهاء والقراء والعلماء حفظوا القرآن في صغرهم.
وأخرج الإمام البيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال:
"من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا".
وقال عطاء بن يسار: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة".
قال طاووس: "سألت ابن عباس ما معنى قول الناس: (أهل القرآن عرفاء أهل الجنة)، فقال: "يعني رؤساء أهل الجنة".
وكان الإمام الأوزاعي يسأل الغلام الذي يأتيه ليتعلم: يا غلام، أقرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ: (يوصيكم الله في أولادكم)، وإن قال: لا، قال: اذهب فتعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.
وقال ابن الجوزي:
"ينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنوات على التشاغل بالقرآن وسماع الحديث، ليحصل له من المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمن الحفظ إلى خمسة عشر عاما".
وللحفظ المبكر لدى الناشئة للقرآن الكريم فوائد عديدة شخصية وسلوكية واجتماعية.
فمن فوائده الشخصية:
ما ذكره أساتذة الصحة النفسية، قالوا:
ثبت أن حفظ القرآن الكريم في الصغر يضمن تفوق الأبناء ونجاحهم في الكبر، وينمي مدارك الأطفال واستيعابهم بدرجة أكبر من غيرهم، بالإضافة إلى تمتعهم بقدر كبير من الاتزان النفسي والاجتماعي، وقدرة كبيرة على تنظيم الوقت. ويساهم حفظ القرآن للصغار في تقويم اللسان وتطوير المهارات اللغوية والتعرف على عدد كبير من مفردات اللغة العربية لدى الطفل مما يجعله يتحدث بوضوح وسلاسة.
كما يساهم في تطوير مهارات الاستماع والفهم وتقوية الذاكرة لدى الطفل، وزيادة القدرة على التذكر، إلى آخر ما ذكروا في هذا المجال.

أما الفوائد السلوكية الأخلاقية:
فالقرآن الكريم يربي الجيل على الآداب الجليلة والأخلاق الرفيعة والقيم الفاضلة، فيربيهم على الصدق والأمانة والرحمة والتسامح والتواضع والإحسان.
وإذا أردتم أن تدركوا أهمية القرآن وأثره في الأجيال، فانظروا إلى أثره في مجتمع الصحابة:
قال ابن القيم: "لم يكن للصحابة كتاب يدرسونه وكلام يحفظونه يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم ﷺ ، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك".
وذلك من أسباب تفردهم وتميزهم وسبقهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
القرآن الكريم يعلم ولدك الأدب والتواضع، كيف لا وهو يقرأ قول الله تعالى:
((وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا))
وقوله تعالى:
((وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ))
القرآن الكريم يعلم الشاب العفة وترك الحرام، فهو يقرأ قوله تعالى:
((وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا))
وقوله تعالى:
((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ))
إلى آخر هذه الأخلاق الحميدة الراقية الرفيعة.

أما الفوائد الاجتماعية لحفظ القرآن الكريم:
فحافظ القرآن بار بوالديه، وكيف لا يكون كذلك وهو يقرأ قوله تعالى:
((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))
وغير ذلك من الآيات التي تحث على بر الوالدين.
وهو حريص على صلة أرحامه وعلى حسن التعامل معهم، فهو يقرأ قوله تعالى :
((وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ))
وهو حريص على الإحسان إلى جيرانه وهو يقرأ قوله تعالى:
((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ))
وحافظ القرآن لا يمكن أن يعتدي على حق أحد؛ ولا يسلب مال أحد، وخاصة ضعاف الناس، فهو يقرأ قوله تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ))
وقوله تعالى:
((وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ))
وقوله تعالى:
((وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ))
وقوله تعالى:
((وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) ))
وحامل القرآن الكريم لا ينساق وراء الخرافات والشطحات؛ ولا يتبع الأوهام والخيالات؛ فهو يقرأ قوله تعالى:
((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا))
فحفظ القرآن ضمان لهذه الأخلاق والفضائل والقيم كلها.

وعلى صعيد البلاد والوطن:
فإن حامل القرآن لا يمكن أن يخون بلاده ولا أن يخون أمته؛ ولا يقصر في تقديم أية خدمة تعلي من شأن بلاده وأمته.
ذكروا عن سالم مولى أبي حذيفة أنه كان حامل الراية يوم اليمامة، فقيل له: إياك أن نؤتى من قبلك، فقال:
"بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي".
وهذا غيض من فيض من فوائد حفظ القرآن وتعلم أحكامه على الصعيد القيمي والاجتماعي والوطني، وهذا غير الفائدة العظيمة للأبوين يوم القيامة.
فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وأبو يعلى من حديث معاذ بن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أن رسول الله ﷺ قال:
"من قرأ القرآن، وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجا يوم القيامة، ضوؤه مثل ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا!".
وفي رواية:
"ويكسى والداه حلتين ﻻ تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن".
وفي رواية:
"بتعليم".

اللهم اجعل أولادنا وأحفادنا من أهل القرآن يا رب العالمين


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
2025/06/26 18:15:56
Back to Top
HTML Embed Code: