وهذا من تقدير النبي عليه الصلاة والسلام لظروف الناس ومراعاته لأحوال الخلق جميعاً؟.

🌾حتى إن رحمته تجلت بأعدائه عليه الصلاة والسلام، فقد مرض غلام يهودي كان يخدمه، فعاده النبي ﷺ ووقف عند رأسه
🌳 وقال له: يا غلام أسلم، نظر الغلام إلى أبيه وكان عنده،
فقال: أطع أبا القاسم . فأسلم الغلام ، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام
وهو يقول: *الحمدُ للهِ الَّذي أنقَذه مِن النَّار*ِ ، .


*والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم*

🌹🌳 🌾 🌳🌹
♥️جلسة الصفا ♥️

21 ربيع الأول 1437
1 كانون الثاني 2016

لفضيلة الشيخ🔸
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸

💥 بعنوان

* خطورة ازدراء الناس(5)


📔تكلمنا عن القسم الأول من تعريف الكبر ، وهو بطر الحق ، وتحدثنا عن صور رد الحق.

📔ونتكلم اليوم عن القسم الثاني من تعريف الكبر ، وهو غمط الناس يعني
📌 ازدراءهم واحتقارهم
📌 والغض من شأنهم
📌 والاستهزاء بهم
📌 والسخرية منهم ،
وهذا يجري كثيراً على الألسنة من حيث قد لا يدري الإنسان، من ذلك الكلمات الدارجة التي يقولها بعض الناس: هذا (لا يساوي فلساً)أو هذا (أجير بكعكة)، وغيرها من الكلمات التي يراد منها انتقاصهم والنيل من كرامتهم، فهل شرع الله للناس أن يقوموا بتقييم بعضهم ؟

ثم الذي يزدري أحداً هل يدري ما هي منزلته عند الله سبحانه وتعالى؟؟!!،

ثم ألا يخاف أن يؤدبه الله سبحانه وتعالى لأنه سخر من إنسان قد يكون ولياً من أولياء الله؟؟!!،
🌳والنبي ﷺ نقل عن الله عز وجل أنه قال:
من عادى لي ولياً آذنته بالحرب .

🏮فهذا الأمر خطير يجب على العاقل أن يكون في غاية الحذر من انتقاص الآخرين
إن غمط الناس وازدراءهم واحتقارهم والانتقاص منهم غالباً ما يكون مقترناً مع بطر الحق،
🌳 فالنبي ﷺ عرف الكبر ، فقال :
هو بطر الحق وغمط الناس
وكثيراً ما يجتمعان معاً ، فيكون الذي يزدري الناس يبطر الحق أيضاً ، ويرفضه ولا يخضع له، والدليل على ذلك ما ذكره ربنا في القرآن الكريم عن الأقوام الذين كذبوا رسلهم ،
فذكر الله سيدنا نوحاً عليه السلام وموقف قومه منه ، فقال تعالى :

💫وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ (25) أَن لَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ أَلِيمٖ (26) فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۢ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ (27)

فهم كذبوا نبيهم واحتقروا من اتبعه، فردَّ عليهم سيدنا نوح عليه السلام ،فقال :

💫وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ .

ثم قال لهم:

💫وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ

فقد نبه سيدنا نوح إلى أمر أساسي بأن هذا الذي أمامك وتعتقد بأن لا قيمة له، ربما يكون عند الله ذا شأن وذا منزلة عالية ، فقال سيدنا نوح:
💫اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ،
ثم قال:
💫إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ،
يعني أكون قد ظلمت نفسي وظلمت الحقيقة لو قلت لهؤلاء الذين تزدريهم أعينكم بأنه لا شأن لهم ولا قيمة ولا منزلة عند الله سبحانه و تعالى.

والأمر نفسه جرى مع الكفار الذين لم يستجيبوا للرسول ﷺ، وورد هذا في آيات كثيرة في القرآن الكريم .

🌳 روى الإمام أحمد في المسند عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:
مرَّ ملأٌ من قريش على رسول الله ﷺ،( و كلمة ملأ تدل على علية القوم، وسموا بالملأ لأنهم يملؤون العين إعجاباً ومهابةً) وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار(وهؤلاء من المستضعفين)،
فقالوا: يا محمد رضيت أن نكون تبعاً لهؤلاء؟؟!!، ( فاحتقروهم وازدروهم وسخروا منهم)
فقالوا له: نحِّهم ونكون معك (يعني إذا كنت تريد ذلك)،
🌳 وفي رواية:
اطرد هؤلاء ونحن نعتنق دينك،
والنبي عليه الصلاة والسلام يرفض ذلك، فقالوا له مرة أخرى:
إذا كان لا بد فاجعلهم في مؤخرة الصفوف (وذلك كي لا يجلسوا معهم)،
فنزل قول الله تعالى في سورة الأنعام:
💫وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ

🏮إن المنزلة الحقيقية للناس يعلمها الله سبحانه و تعالى وحده ، فإذا رأيت إنساناً بمنظر بسيط وبثياب غير متناسقة أو مهترئة، فإياك أن تزدريه، فالله لم يجعل لك تقييم الناس ، ومنزلتهم ليست بالأمر الذي تتوقعه،
🌳فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام يخوفنا أن نقدم على تقييم الناس :
ربَّ أشعث أغبر ذي طمرين(ثيابه مهلهلة) مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره
فالحقائق ليست في المظاهر التي تبدو لنا ولا بالتقييم الذي نضعه نحن للآخرين .
لذلك قلنا: إن بطر الحق وغمط الناس غالباً ما يكونان مقترنين مجتمعين، كما قص الله تعالى علينا في القرآن الكريم، من حال قوم نوح وقوم سيدنا محمد ﷺ، فمن شدة بطرهم الحق هزؤوا بالرسل أنفسهم وليس بأتباعهم فقط!!!، ولذلك قال الله تعالى:
💫يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

وقال:
💫وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
فالكفار يبدؤون الاستهزاء بأتباع الرسل ثم يتابعون الاستهزاء بالرسل أنفسهم، لأن هذا المرض يستشري ويتوسع في عقل الإنسان وفكره وتصوراته .

🏮قد يهزأ بعض الناس من الذين يرتادون المساجد ، ثم ينتقلون إلى الاستهزاء بدعاة الحق والعلماء الذين يريدون أن يهدوهم إلى الطريق القويم ليكونوا من أصحاب الجنة ، ولو علموا منزلة هؤلاء الذين هزؤوا منهم عند الله تعالى لتوقفوا عن ذلك .

قال تعالى:
💫زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يوم القيامة يعني إنهم يستهزئون بهم في الدنيا لكنهم فوقهم يوم القيامة .
ثم إن هذا الذي يُستَهزأ به قد يتغير حاله ويغدو أحسن حالاً في الدنيا ممن استهزأ به :
🌳 روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت هذه الآية:
💫ولا تطرد الذين بدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ،

نزلت في ستة من أصحاب الرسول ﷺ ، أنا وابن مسعود وآخرين(خباب وصهيب وبلال وعمار)
🌾وإذا بسيدنا سعد بن أبي وقاص الذي كان يُهزأ به في صدر الإسلام يصبح قائداً من أعظم قواد الإسلام ، وفتح الله على يديه الفتوحات العظيمة، وأثنى عليه النبي ﷺ ، وصار من الرجال الكبار ومن العشرة المبشرين بالجنة.

🌾وسيدنا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه صعد مرة إلى شجرة الآراك ليقطف ثمرها، فنظروا إلى حموشة ساقيه(كان ضئيل الجسم نحيلاً جداً) فضحكوا،
فقال النبي ﷺ: مم تضحكون؟؟!!!،
قالوا: من دقة ساقيه يا رسول الله،
فقال:
لرٍجْلُ ابن مسعود يوم القيامة في الميزان أثقل من جبل أحد.
*
وصار ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فقيه الأمة ، وصار الناس يأتون إليه من كل حدب وصوب ليتعلموا منه الفقه،
🌳وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حقه : من أراد أن يقرأ القرآن رطباً غضاً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد(يعني عبد الله بن مسعود)، ومناقب ابن مسعود كثيرة شهد له بها الصحابة الكرام وشهدوا أنه من أعلم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وأفقههم
وابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول:
لو سخرت من كلب، لخشيت أن أكون كلباً، يعلمنا ابن مسعود أن لا نسخر حتى من الحيوان ، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه ولم يخلق نفسه بنفسه.

🏮إن السخرية ليست من طبيعة المؤمن وليست من طبيعة المتواضع ، بل هي من شأن المتكبرين الذين تنتظرهم جهنم يُقال لهم: 💫 فبئس مثوى المتكبرين .

وروى الإمام البخاري ومسلم عن سيدنا سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول:
🌳 مرَّ رجل أمام النبي ﷺ، فقال لرجل جالس عنده: ما تقول في هذا؟،
فقال: يا رسول الله، هذا من أشراف الناس، هذا حريٌ إن خطب أن يزوَّج، وإن شفع أن تقبل شفاعته، وإذا تكلم ان يستمع له .فصمت النبي ﷺ ولم يتكلم شيئاً، ثم مرَّ رجل آخر،
فقال: و ما تقول في هذا؟،
قال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، إن خطب لا يزوَّج، وإن شفع لا تقبل شفاعته، وإن تكلم لا يُسمع لقوله،
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.

وروى الإمام البخاري عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال: رأى سعد(في بعض المواقف) أن له فضلٌاً على من دونه،
🌳فقال له النبي ﷺ: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم!!،
وبيَّن النبي ﷺ معنى ذلك ، فقال: إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائهم بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم .

ذلك لأن الضعفاء يكونون منكسرين إلى الله تعالى مفتقرين إلى الله عز وجل فيكون دعاؤهم نابعٌاً من أعماق
قلوبهم .
🏮إن ازدراء الناس من الكبر الذي يجب علينا أن نحذره، فحقيقة الأمور لا يعلمها إلا الله، قال الله تعالى:
💫يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ
وقال لنا:
💫إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
والتقوى محلها القلب، كما قال النبي ﷺ:
🌳 التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا
🏮وهناك قضية مهمة في غاية الأهمية وهي من قواعد شرعنا ومن أسس ديننا ومن مبادئ الشريعة الإسلامية، وهي أن الله سبحانه وتعالى أمرنا باحترام الإنسان لأنه إنسان، لإنسانيته فقط لا لمركزه الاجتماعي ولا لوضعه المادي، ولا لوجاهته وسلطانه، وإنما نحترمه لأنه إنسان فلا نزدريه ولا نسخر منه ، قال الله عز وجل :
💫وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
فهل يصح أن نحتقر من كرمه الله تعالى .

والنبي ﷺ ضرب لنا أروع الأمثلة في مسألة احترام الإنسان،
🌳فورد في صحيح البخاري أنَّ رجلاً كان يقم المسجد(يقوم بتنظيفه)، فافتقده النبي ﷺ ذات مرة ولم يجده ، فسأل عنه ، فقالوا: يا رسول الله مات فدفنَّاه،
فقال لهم: أفلا كنتم آذنتموني به(أعلمتموني بموته)؟؟؟!!، فكأنما صغَّروا أمره،
فقال عليه الصلاة والسلام: دلَوني على قبره، فدلوه على قبره فذهب وصلى عليه ﷺ.

هذا توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم أن نحترم الإنسان لإنسانيته وصلاحه لا لمركزه الاجتماعي .

🤲نسأل الله أن يخلِّقنا بهذه الأخلاق، ونسأل الله أن ينفعنا ويعلمنا ما يُزكّي أخلاقنا، إنه سميع قريب مجيب

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

🌹🌾🌳🍂🌿
♥️جلسة الصفا ♥️

5 ربيع الآخر 1437
15 كانون الثاني 2016

لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸

💥 بعنوان
* من أسباب الكبر المنصب والجاه(6)*

كنا نتكلم في الدروس الماضية عن مرض من أخطر الأمراض القلبية ومن أسوأ الأدواء، هذا المرض هو مرض الكبر، والذي هو شديد السمية، ذرة واحدة منه تمنع الإنسان من دخول الجنة ابتداءً، وهذا الكبر يعبَّر عنه أحياناً بكلمات متعددة:
يُقال له: الغطرسة، يقال له: التجبُّر، يُقال له: الاستعلاء على الآخرين، يقال: نظرة الفوقية، يقال: النرجسية، يقال: الأنانية، كلمات كلها بمعنى واحد، وهي أن يُعظِّم الإنسان نفسه ويزدري الآخرين ويحتقرهم، لذلك كان هذا الكبر من أسوأ ما يُصيب الإنسان من أمراض النفس ومن أمراض القلب، فالكبر هو أم الرذائل كما أن الخمر أم الخبائث، لأن الكبر يتفرع عنه أخلاق مذمومة كثيرة، الكبر يتفرع عنه الحقد ويتفرع عنه الحسد، ويتفرع عنه الرياء، ويتفرع عنه العناد، وهذا الكبر له أثر خطير على المجتمع، فيتفسَّخ المجتمع وتضعف الروابط بين أفراد الأمة، وبين أفراد الأسرة الواحدة حين يكون أحد الإخوة متكبراً متغطرساً لا يرى أحداً أمامه، حينئذٍ تتفكك تلك الأسرة وتنهار، لذلك يجب أن نقف عند هذا الداء الخطير لنحلل أسبابه وعوامله والمؤثرات فيه لنتجنبه، أولاً: لكي لا نحجب عن دخول الجنة، وثانياً: المتكبر يكفي أنه يكون ممقوتاً من الله عز وجل، حيث قال في القرآن الكريم: *إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ* ، فالله تعالى يمقته وهو محجوب عن الله وبالتالي لا يدخل الجنة التي هي دار تكريم الله عز وجل، والله تعالى لا يدخل الجنة من يبغضهم.

هنالك أسباب وعوامل ومؤثرات قد تحمل الإنسان على الكبر، وفي الحقيقة من فكَّر بهذه العوامل والأسباب يجد أنها يجب أن تحمل الإنسان على الشكر لا على الكبر، فهي في الحقيقة نِعَمٌ من الله تعالى يجب أن تحمل صاحبها على الشكر، مثل المال والثروة والعلم والقوة البدنية، والجمال والمواهب الشخصية، والجاه والسلطة والمنصب، والعبادة والاستغراق فيها، هذه الأشياء يجب أن تكون دوافع للشكر لا ذرائع للكبر، لكن من فسدت فطرته ومن فسدت أخلاقه، جعلها ذرائع للكبر بدلاً من أن تكون دوافع للشكر، فهي من نعم الله تعالى على العبد ليختبره بها ولكي يشكر الله تعالى على ما أنعم عليه.

ومن الأسباب التي قد توصل إلى الكبر، المنصب والجاه والسلطة والمركز الرفيع، فمن يتولى المركز الرفيع في البلد أو مؤسسة ما أو في دائرة ما، يصيبه فوراً الغرور والكبر، ويرى أنه أعلى ممن هم تحت يده من الموظفين والعمال وغير ذلك، فينظر إليهم نظرة استعلاء لأنه أعلى منهم وظيفياً، وخاصة إذا كان صاحب هذا المنصب والمركز لديه صلاحيات واسعة، كالإجازات والإيفادات والترفيعات، وبيده مصائر من تحته، فهذا يجعله طعماً سهلاً لاستفحال آفة الكبر عنده، والذي يزيد هذا الكبر عنده الحفاوة البالغة ممن حوله، ويزيده كبراً من الاحترام المبالغ فيه، من أقرانه وموظفيه، وقد يكون هذا الاحترام مصطنعاً وليس احتراماً حقيقياً، هذا الكبر الوظيفي يكون:
بين طبيب أو رئيس أطباء وبين ممرض، فلا يرى له شأناً ولا يرى له فضلاً ويحتقره.
بين مهندس كبير وعامل عادي في ورشته.
بين مدير مؤسسة ومستخدم.
وأحياناً يكون المنصب بسيطاً مثل عريف صف، فيصاب بالغرور ويعتبر هذا المنصب أمر هام ويريد أن يتحكم بالناس من حوله، وهذا الكبر الوظيفي الذي نراه يسبب الكراهية بين الناس.
فالذي ينظر بعين العقل، لكي يستأصل هذا الكبر من قلبه، ولكي لا يشعر بهذه الفوقية ونظرة الاستعلاء على من دونه، وحيث أن الكبر هو نقص في العقل كما مرَّ معنا وهذا ما قاله سيدنا محمد الباقر رضي الله تعالى عنه:
*ما دخل الإنسان شيء من الكبر إلا نقص من عقله بمقدار ما دخل به من الكبر.*
لذلك، صار من الواجب عليه استئصال هذا المرض لهذا السبب.
فصاحب الجاه والمال والمنصب يجب أن يعرف أن احترام الناس له وهذه الحفاوة البالغة حوله ليست لشخصه، وإنما لمسؤوليته ورتبته وماله، حتى بالنظام العسكري يتم أخذ التحية للرتبة وليست للشخص، فعندما يفكر ويعلم بأن تلك الحفاوة ليست لشخصه ولكن للمسؤولية والرتبة، بمعنى إذا أُقيل أو تقاعد من منصبه، قد لا يَسأل عنه أحد بعد ذلك، وخاصة من أصحاب المجاملات والممالئات والاحترام المصطنع، إذن، على ماذا الكبر؟؟!!، فالذي يتكبَّر في منصبه ألا يخسر نفسه؟، بينما الذي يتواضع وهو في الرتبة العالية حينئذٍ يفرض احترامه الحقيقي على الجميع ويفرض محبته، وحينئذٍ يحبه الناس سواء كان داخل الوظيفة أم خارجها، سواء كان داخل المؤسسة أم خارج المؤسسة، لأن التواضع له سحر أخَّاذ في استمالة القلوب، بخلاف التكبر، لا يحصل المتكبر منه إلا كراهيته والنفور منه وازدراء الناس له، لذلك قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: *من تكبَّر على الناس ذلَّ* ، فطريق الرفعة هو التواضع وليس الكبر وخاصة إذا كان لديك منصب أو مركز أو سلطة، يجب أن تشكر الله
تعالى على هذا، أن رفعك إلى هذا المنصب لتقضي حوائج الناس، وحينئذٍ إذا تواضعت تكون قد نجحت في هذا الاختبار الذي اختبرك الله تعالى به.
ويقول علماء النفس:
*المتكبر إنسان لديه عقدة نقص، يشعر بالنقص فيريد أن يغطي نفسه بالتعاظم والتكبر*
وهذا الذي قاله علماء النفس ذكره حكماؤنا السابقين:
فقال الخليفة المأمون:
*ما تكبر أحدٌ إلا لنقصٍ وجده في نفسه، ولا تطاول أحدٌ إلا لوهنٍ أحسه من نفسه*.

وقال أحد الحكماء:
*ما تعاظم أحدٌ على من دونه إلا تصاغر لمن هو فوقه*.

وقال يحيى بن خالد البرمكي أحد وزراء الدولة العباسية:
*لست ترى أحداً تكبر في إمارته إلا وهو يعلم أن الذي ناله هو فوق قدره، ولست ترى أحداً يتواضع في إمارته إلا وهو في نفسه أكثر مما نال*.

وقيل لبعضهم:
فلان غيَّرته الإمارة، يعني صار مدير أو مسؤول فلم يعد أحد يستطيع الكلام معه، فقال:
*إذا ولِّيَ الرجل ولاية فرآها أكبر منه تغيَّر، وإذا ولِّيَ ولاية يرى أنه أكبر منها لم يتغير*.

وقال بعض الحكماء:
*من نال منزلة فأبطرته دلَّ على رداءة أصله وعنصره.*

وقال الجاحظ وهو من كبار الأدباء:
*لم أر ذا كبر قط على من دونه، إلا وهو يذلُّ لمن فوقه بمقدار ذلك ووزنه*.

إذن فكلام كل هؤلاء الفلاسفة والحكماء يدل على أن الكبر دليل نقص في الإنسان، وبعض الفلاسفة قال:
*السنابل الفارغة ترفع رأسها عالياً*، يعني السنابل الممتلئة تتطامن وتخفض رأسها.

وفي الأمثال العربية قيل:
*كلما ارتفع الشريف تواضع، وكلما ارتفع الوضيع تكبَّر*.

فكل هذا التشخيص من أجل أن نحذر من هذا الصفة الخطيرة التي تجر البلاء لنا ولمن حولنا، وذكر لنا ربنا في القرآن أمثلة عمن تكبَّر في جاهه، كالنمرود وفرعون وما جرى بعد ذلك، وعمن وهو في ذروة الجاه كان في غاية التواضع وكان في غاية الشكر لله تعالى، وهو سيدنا سليمان عليه السلام الذي دعا وقال:
*رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي*
فأعطاه ربنا من الملك والسلطان الشيء العجيب، قال تعالى:
*فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)*

أرأيتم هذا الملك العظيم الذي وصل إليه سيدنا سليمان، هو الذي دعا والله تعالى استجاب له، ومع هذا الملك ومع هذا الجاه العظيم، والله سخَّر له من يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين قبل أن يرتد إليه طرفه، وهذا كله بقدرة رب العالمين، فلو كان يريد أن يغفل عن هذه الحقيقة فالمفروض أن ينتفخ ويتعاظم، عرش الملكة بلقيس صار عنده، فقال عنه الله تعالى:
*فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ.*
سيدنا سليمان صاحب هذا الملك العظيم كان يمشي مرة في أبهة الملك وحوله حاشيته من الإنس والجن، فلما رآه فلاح قال: سبحان الله على ما أوتيَ آل داود، سمعه سيدنا سليمان فجاء إليه وقال له: قولك سبحان الله، خيرٌ مما أوتي آل داود، لأن قولك *سبحان الله* يبقى، وما أوتيَ آل داود يفنى ويبلى.

ابن الجوزي له كتاب اسمه "التبصرة" روى فيه عن مالك بن دينار الذي كانت لديه معرفة بكتب أهل الكتاب وأحوال السابقين، يقول مالك بن دينار مما قرأه:
خرج نبي الله سليمان والجن والإنس على يمينه ويساره، فأمر الريح فحملتهم، فارتفع هو ومن معه، فسمع صوتاً من السماء يقول: لو كان في قلب صاحبكم من الكبر مثقال ذرة لخسفت به أبعد مما رفعته، فمع كل هذا الجاه الذي أوتيه سيدنا سليمان كان في غاية التواضع وفي غاية الاعتراف بأن هذا من فضل الله سبحانه وتعالى.

لقد عرفنا عن سيدنا سليمان هذا الأمر، فمن أعظم منه منزلة وجاهاً ورتبة؟؟، إنه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ومرتبته معروفة للجميع يكفي أن الله عز وجل أعدَّ له منزلة في الجنة هي أعلى منزلة وهي الوسيلة، ومن قال بعد الأذان: أتِ سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، يقول النبي ﷺ: وجبت له شفاعتي، ومن تواضع النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: إن الوسيلة منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا، ادعوا لي أن أكون صاحب هذا المنزلة، ما هذا التواضع العجيب؟؟!!!!!، فالنبي عليه الصلاة والسلام مع ما وصل إليه من الرتبة والجاه والمنزلة العالية ومع ذلك قال: *لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى*، وفي رواية: *من قال: أنني خيرٌ من يونس بن متى فقد كذب*.
قد يقول أحدهم: ولكن النبي ﷺ قال: أنا سيد ولد آدم!!، والنبي ﷺ قال: أنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا أول شافع وأول مشفَّع، فكيف التوفيق بين قوله: أنا سيد ولد آدم وبين من قال: أنني خيرٌ من يونس بن متى فقد كذب؟؟!!.
الخطابي أحد العلماء قال في التوفيق بين القولين:
أما قوله: أنا سيد ولد آدم، فهو إخبار عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد والتحدث بنعمة الله عليه وإعلامه لأمته بمكانته عند ربه، ولم يقل ذلك على سبيل الفخر، ولذلك قال ﷺ في نفس الحديث: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أي لا أقول هذا من باب الافتخار، ولكن أذكر لكم ما أنعم الله به عليّ، أما قوله: *لا تقولوا أنا خير من يونس*.
أما القول الثاني: فمن باب الهضم لنفسه وإظهار التواضع لربه، بمعنى: لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير منه، لأن الفضيلة التي نلتها هي كرامةٌ من الله سبحانه وتعالى، وخصوصية لم أنلها من قبل نفسي ولا بلغتها بحولي وقوتي، وإنما هي محض فضلٍ من الله تعالى فليس لي أن افتخر بها وإنما يجب عليَّ أن أشكر عليها ربي، والنبي عليه الصلاة والسلام خصَّ يونس بالذات لأن الله تعالى قال له:
*فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ*
أحياناً يكون اثنان في مؤسسة أو شركة أو غير ذلك، يقول أحدهما للآخر أخوك أفضل منك، فينزعج ويقول: لماذا أفضل مني؟؟!!، ماذا ترى مني؟؟!!، فلا أحد يرضى أن يُقال له: فلان أفضل منك، ولكن النبي ﷺ يقول، وهو أعظم رتبة: لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى.

وورد في سنن ابن ماجه وغيره عن أبي مسعود الأنصاري، أنه لما جاءه رجل فكلمه أخذته هيبة الرسول ﷺ فجاء ترتعد فرائصه ، إشارة إلى الفزع والهيبة، رأى النبي ﷺ ذلك فقال له عليه الصلاة والسلام: هوِّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد(اللحم المجفف) أي كانت من عامة الناس.

وروى الإمام أحمد وابن حبان وغيرهما أن سيدنا جبريل عليه السلام كان جالساً عند النبي عليه الصلاة والسلام، فنظر جبريل إلى السماء وقال: يا محمد هذا ملك نزل ما نزل منذ خلقَ قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك يسألك، أملكاً نبياً يجعلك، أم عبداً رسولاً؟؟، قال: فنظر إلى جبريل فأشار له تواضع لربك، فقال: بل عبداً رسولاً.

أرأيتم إلى هذا التواضع العجيب الذي كان عليه النبي ﷺ؟، هذه الروح التي كانت لدى النبي عليه الصلاة والسلام تشرَّبها الصحابة الكرام، هذه الروح تحققت فيهم، فمهما بلغوا من مراتب كانوا في غاية التواضع، فهذا سيدنا ابو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لما ولِّيَ الخلافة خطب الناس وقال: *يا أيها الناس، ولِّيتُ عليكم ولست بخيركم* لأن الخيرية يعلمها الله سبحانه وتعالى.

وكتب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، إلى أبي موسى الأشعري واليه على الكوفة يقول فيه سيدنا عمر:
*يا أبا موسى إنما أنت واحدٌ من الناس، غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً، إن من يولَّى من أمر المسلمين شيئاً، يجب عليه ما يجب على العبد لسيده*

و سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، حتى يطامن من نفسه، وحتى لا يشعر بالغرور والكبر, جمع الناس وخطب فيهم قائلاً لهم:
*كنت أُسَّمى عميراً ثم صرت عمر ثم صرت أمير المؤمنين، وكنت أرعى الغنم لبعض أهلي على بضع دريهمات، والآن صرت أمير المؤمنين، ونزل* ، فقال له سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قللت من شأن نفسك!!، فقال له: اسكت يا بن عوف، قد حدثتني نفسي أني صرت أمير المؤمنين فأردت أن ألجمها.

وروي عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه أنه رأى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه وهو يحمل قربة ماء على عاتقه، فقال له عروة بن الزبير(والده الزبير بن العوام): يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا!!، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها.
أرأيتم كيف أن الجاه قد يوصل إلى الكبر ، فيجب على صاحب الجاه أن يطامن من نفسه ويخدم الناس ويشعرهم بأنه خادمٌ لهم حتى يتخلص من هذا الداء.

سيدنا عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنه، انطفأ أو تعطل ذات مرة السراج وعنده بعض عامة المسلمين، فقام وأصلح السراج بنفسه، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا نكفيك؟؟؟!!، قال لهم: وما ضرَّني؟؟، قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
ودخل مرة المسجد بعدما ولِّيَ الخلافة ومعه حرسي(مرافق)، فدخل للمسجد فمرَّ في الظلمة برجل نائم فعثر به، فرفع النائم رأسه وقال: أمجنون أنت؟؟، قال: لا، وهم الحرسي ليؤدبه، فقال له عمر: مه، إنما سألني: أمجنون أنت ، فقلت: لا.

لذلك عندما نقرأ قصص هؤلاء، قصص سيدنا سليمان وتواضع النبي عليه الصلاة والسلام، فقط حتى تعلم إذا أصبحت يوماً صاحب جاه ومنزلة وسلطان، إياك أن يكون هذا باعثاً للكبر عندك، يجب ان يكون دافعاً للشكر كما قال سيدنا سليمان: *هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ* ، خاصة وكما ذكرنا، أنه
سيأتي يوم سيترك كل إنسان الجاه والمنصب ويترك متاع الدنيا كله ونقف بين يدي الله عز وجل، لا أتباع ولا عشيرة ولا جاه، اسمعوا إلى قول الله تعالى:
*إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا *(95)
ونذكر قوله تعالى:
*وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ*
ويومئذٍ لا أحد يحمل عنك شيئاً، هذا الموقف الذي نذكره يُحملنا على أن نتواضع لله عز وجل، ولا يؤثر فينا أي سبب من الأسباب التي قد توصل الإنسان إلى الكبر، واحفظوا هذا الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيح والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما، عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه، قال رسول الله ﷺ :
*إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر احدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد*
(وكلمة تواضعوا، أي أنتم يا أصحاب الجاه).
وقال عليه الصلاة والسلام كما ورد في صحيح مسلم عن سيدنا عياض رضي الله تعالى عنه قال ﷺ:
*أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ*
لأن السلطان المقسط لا يكون إلا متواضعاً، والرحيم رقيق القلب لا يكون إلا متواضعاً، والعفيف المتعفف ذو العيال لا يكون إلا متواضعاً.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها يا رب العالمين.

والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
387


جلسة الصفا

26 رمضان 1445
5 نيسان 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*هل انتفعت من صيام رمضان*

ها نحن في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وقد أكرمنا الله تعالى بصيامه وقيامه
، والسؤال الذي يرد هنا بعد انقضاء هذا الشهر المبارك، ماذا فعلت هذه العبادة في نفوسنا؟؟
هل كان الصيام مجرد تغيير أوقات الطعام والشراب، ثم لم يُحدث أي تغيير في أخلاقنا وطباعنا؟
ما هي علامات الانتفاع من رمضان؟
الجواب عن ذلك كامن في تذكر الغاية من الصيام
، إذ ليس الامتناع عن الطعام والشراب مرادا لذاته .
ليس مجرد حرمان من الأطعمة والأشربة
وإنما هو وسيلة إلى غاية مهمة، وطريقة إلى مصلحة راجحة،
هو خطوة إلى حرمان النفس من شهواتها المحرمة ونزواتها المنكرة،
هو إعادة صياغة المسلم صياغة إيمانية تنضبط بقيم الإسلام وأخلاقه،
هو عبادة تعين المسلم على التخلص من أخلاقه الذميمة وعاداته السيئة،
فإن وصل إلى ذلك وتخلص فعلاً من العادات السيئة التي كانت عالقة به قبل رمضان، يكون قد انتفع من عبادة الصيام،

لأن عبادة الصيام هي عبادة التغيير، تتكرر كل عام مرة، وقد بدأ التغيير في العادات الظاهرة، في أوقات الطعام والشراب، فقد استيقظت في وقت السحر لتناول طعام السحور ، ولم تكن هذه عادتك قبل رمضان، وتوقفت عن الطعام والشراب في وقت محدد لا تتجاوزه، لقوله تعالى:
*وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ*
ثم إنك امتنعت عن تناول الطعام والشراب إلى أن أذَّن المغرب، لقوله تعالى:
*ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ*
كنت قبل رمضان تُصلي الفجر في بيتك، وقد تفوتك الصلاة في وقتها، فإذا بك في رمضان هرعت إلى المسجد وصلِّيت مع المصلين في صلاة الجماعة.
قبل رمضان كنت لا تُصلي قيام الليل، وقد لا يخطر في بالك ذلك، فإذا بك في رمضان تصلي قيام الليل بعد صلاة العشاء طمعاً في مغفرة الله تعالى، لقوله ﷺ:
*من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه*.
وهذا التغيير في أوقات طعامك وشرابك وذهابك إلى المسجد في الفجر وفي التراويح، إنما هو تغيير شكلي، وليس هو المقصود لذاته،
وإنما المقصود أن تتغلغل عبادة الصيام في أعماق نفسك، فتهذب طباعك وتصقل أخلاقك، وتعدل مزاجك.
ماذا يفيد اللهَ تعالى تركُك الطعام والشراب؟
حين ذكر الله تعالى الهدي والأضاحي في الحج، قال سبحانه:
*لَنْ يَنَالَ اللَّه لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ*
وكذلك هنا، لن ينال اللهَ تعالى جوعُك وعطشك ، وإنما يريد منك التقوى، يريد أن تصل إلى أخلاق التقوى، وذكر الله تعالى ذلك جلياً بيِّناً في قوله تعالى: *لعلكم تتقون*.
ولذلك قال النبي ﷺ:
*من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشراب*
يعني ان الله تعالى أمرك أن تدع طعامك وشرابك ليكون ذلك معيناً لك على ترك الأخلاق الذميمة من الزور والكذب والاحتيال، فإن لم تدع ذلك، لم تستفد من الصيام شيئاً.
حقيقة عبادة الصيام أن تَزُمَّ نفسك وتضبط تصرفاتك ولا تنطلق دون قيد خلف نزواتك وغضبك وانفعالاتك،
وضح النبي ﷺ هذه الحقيقة الساطعة في قوله عليه الصلاة والسلام:
*الصيام جنة، فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، وإن امرؤ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني صائم إني صائم* ، مرتين،
فقولك : إني صائم هو شعار التغيير والالتزام،
هذه الحقيقة أكدها النبي ﷺ مراراً، وهي أن الامتناع عن الطعام والشراب ليس مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة إلى تغيير الأخلاق الرديئة والعادات السيئة، فقال عليه الصلاة والسلام:
*ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث*
أي الفحش من الكلام وجميع القبائح.
وفي رواية عنه ﷺ:
*اعفو الصيام، فإن الصيام ليس من الطعام و لا من الشراب، ولكن الصيام من المعاصي*.
هذه النصوص القرآنية والنبوية تُنادي بكل وضوح أنك إن لم تغير طباعك الذميمة وعاداتك السيئة، لم تنتفع من عبادة الصيام، ولا نفعك الامتناع عن الطعام والشراب نهار رمضان.
كما قال الله تعالى: (*ولَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ*).
إن كنت غضوباً، يريد الله تعالى منك أن تتصف بصفات المتقين وتحمل نفسك على التخلق بها، ينبغي أن تعودك على الحلم وكظم الغيظ، لأن ذلك من التقوى، قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ )،

عبادة الصيام ينبغي أن تُعوِّدك على الطيب من القول والحسن من الكلام لأن ذلك من التقوى.
عبادة الصيام ينبغي أن تُعوِّدك على كبح الشهوات المحرمة من النظر إلى النساء ومشاهدة المسلسلات الخليعة الفاضحة، لأن ذلك من التقوى، ونحن في رمضان ندعو الله تعالى على الإعانة على الصيام، وندعوه كذلك على الإعانة على غضِّ البصر وحفظ اللسان.
عبادة الصيام يجب أن تحملك على ترك العادات السيئة التي استعبدتك خارج رمضان، مثل شرب الدخان والأركيلة، وإن لم تقلع عن ذلك بعد رمضان فما انتفعت من رمضان وعبادة الصيام.
عبادة الصيام هي عبادة الصبر، وسمَّى النبي ﷺ رمضان شهر الصبر، فعلامة انتفاعك بها أن تصبر على طاعة الله تعالى بعد رمضان وتصبر على ترك المعاصي والمنكرات، والجلوس في أماكن اللهو والعبث والمجون .
عبادة الصيام يجب أن تحدث في قلبك الرحمة لعباد الله تعالى وخاصة للفقراء والمساكين، لأنك في رمضان عشت الحرمان الذي يعيشونه طيلة العام، وأحسست بواقعهم وظروفهم، فإن لم يُحدث الصيام فيك هذه الرحمة والرقة في القلب، فإنك لم تنتفع من هذه العبادة الراقية.
الصيام يجب أن يحدث رحمة في قلب التاجر، فلا يطلب الربح الفاحش، وأن يحدث رحمة في قلب الطبيب فلا يطلب الأجرة الفاحشة، ورحمة في رب العمل، فيُعطي عماله ما يستحقونه ويُكرمهم مما يستطيع، يجب أن تكون الرحمة في قلب كل من يحتاج الناس إليه من محامي وصناعي وحرفي وغيرهم.
عبادة الصيام يجب أن تحدث فيك حب العطاء والكرم والسخاء، أنظر إلى نبيك وحبيبك وقدوتك سيدنا محمد ﷺ ، يروي عنه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه أنه ﷺ كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه وجبريل، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة.
فإن لم ينتزع الصيام من نفسك الشح والبخل فإنك لم تنتفع بهذه العبادة الراقية.
عبادة الصيام يجب أن تقتلع من قلبك الحسد والحقد على أخيك وصاحبك وتجتثَّ من قلبك البغضة والقطيعة بينك وبينه، لأنك إن لم تفعل ذلك فلن ترتفع عبادتك إلى الله تعالى، ألا تذكر حديث رسول الله ﷺ أن الله لا يرفع إليه أعمال المتخاصمين ولا يغفر لهم، ويقول: *أنظروا هذين حتى يصطلحا*.
إن كنت حريصاً على المغفرة ورفع أعمالك والعتق من النار، فنظِّف قلبك الآن من الحسد والحقد والشحناء والبغضاء لتكون مقبولاً عند الله تعالى.
وقد ورد أن هذا الشهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، يعني إن تراحمنا في العشر الأول من الشهر، غفر الله تعالى لنا في العشر الثاني، وإن غفر لنا في العشر الثاني اعتقنا من النار في نهاية الشهر، فالعتق من النار متوقف على الرحمة والتراحم.
هذه هي علامات الانتفاع من رمضان فهل نحن ممن انتفع من رمضان؟، أم نحن لا سمح الله تعالى نكون ممن حذر منه النبي ﷺ حين قال: رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر؟؟
الأمر بيدك، وميزانك بيدك ، فانظر هل انتفعت أم لا؟.
إن لم تكن تغيرت، فتدارك نفسك، فإن ربك غفور رحيم.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
388

جلسة الصفا

10 شوال 1445
19 نيسان 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*المفهوم المشوه للعبادة*

ها قد انقضى شهر رمضان ، وأكرمنا الله تعالى فيه بالصيام والقيام وتلاوة القرآن

ولكن ما أن انقضت أيام هذا الشهر حتى انفضَّ الناس أو كثيرٌ منهم من المساجد، فخلت المساجد منهم في صلاة الفجر وفي صلوات الجماعة، ورجع بعضهم أو كثير منهم إلى ما كان عليه قبل رمضان من مجالس اللهو والعبث والرفث .

وقد تبيَّن أن ثمة مفهوماً مشوها للعبادة، وذلك من خلال بعض المظاهر،
من ذلك ما ظهر من بعض النساء اللواتي كن في صلاة قيام الليل والتهجد يلبسن لباس الصلاة الساتر لجسم المرأة، حتى إذا انقضت الصلاة، خلعن لباس الصلاة السابغ فظهرن بثيابهن المتبرجة، وزينتهن الظاهرة، ولا تتورع إحداهن عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع الحكيم من سفور وزينة أو اختلاط وغير ذلك.

وكذلك الحال عند بعض الرجال، عاد بعد رمضان إلى ما كان عليه من العادات السيئة والأخلاق المنكرة، فلا يتورع عن مجالس اللهو وسهرات العبث مقرونة بما نهى الشرع عنه من الأراكيل والدخان وغير ذلك من الغيبة والنميمة، ولا يتورع في تجارته عن الغش في البيع والشراء، ولا في أي عمل من الأعمال من الالتزام بأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه . فالعبادة عند هؤلاء عباءة تلبس في وقت ما، ثم تخلع بعد ذلك.
إن المفهوم المشوه للعبادة أن يُظَن أن العبادة محصورة في إقامة هذه الشعائر من الصلاة وقيام الليل والتهجد والصيام، وأن يُظن أن من أتى بهذه الشعائر فقد استكمل دينه وأتى بالعبادة بحذافيرها، وأن ما سوى ذلك من جوانب الحياة ومجالاتها العديدة، فالأمر يعود فيها لما جرت عليه العادات والأهواء وما تعارف عليه الناس، ولو كان متناقضاً مع المنهج الرباني المسطور في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ، ويقنعون أنفسهم بأنهم قضوا جميع ما عليهم من الواجبات الدينية من خلال صيام هذه الأيام المعدودات وقيام لياليها أو بعضها

وقد يؤدون هذه الشعائر بأية صورة كانت، ولو كان أداءً آلياً بغير روح ، فالصيام عندهم كان صياماً عن الطعام والشراب، ولم يكن صياماً عن قول الزور والعمل به، وعن الصخب والغضب والرفث.

والصلاة عندهم كانت مجرد حركات بلا خشوع ولا تدبر لما يتلى من آيات القرآن الكريم.

والحج عندهم بأداء مناسكه ولو لم تدرك معانيها ومقاصدها وغاياتها، وفي بعض الأحوال يكون بعضهم حريصاً على أن يكون حجه في غاية الترف والرفاهية، ولو أنفق الملايين المُمَلْيَنة، مع أن أخاه أوقريبه بائسٌ ومحتاجٌ ومسكين، ولا استعداد عنده لتحمل أدنى مشقة أو تعب، كما يقال حج VIP، ورأينا من ذلك صوراً تؤلم القلب ويُندى لها الجبين، وهذا يحتاج إلى بحث خاص لنعلم كيف كانت حجة النبي ﷺ وكيف حج الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم.

المهم أن بعض الناس يظن أن العبادة قاصرة على أداء هذه الشعائر ومحصورة في رحاب المسجد، وما سوى ذلك فلا علاقة للدين به، ولا صلة للعبادة به، فهم يقولون: ما للدين وحجاب المرأة؟؟!، وما للدين والمعاملات التجارية، وما للدين والصناعات، وما للدين والاقتصاد بشكل عام، وما للدين والإعلام، وما للدين والعادات الاجتماعية، إلى آخر هذا الهذيان والتحريف في حقيقة الدين والتشويه في مفهوم العبادة التي أمر الله تعالى بها.

إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيِّهم سيدنا شعيب عليه السلام، بعد أن دعاهم إلى عبادة الله تعالى:
قالُوا يا شُعَيْبُ أصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أوْ أنْ نَفْعَلَ في أمْوالِنا ما نَشاءُ
هم يقولون: يا شعيب ما دخل عبادتك وصلاتك في حياتنا الاقتصادية وفي عاداتنا واتباعنا لآبائنا وطاعتهم فيما كانوا يعبدون؟؟!!!.
فالذي يجب أن يُعلم أن العبادة الحقة ليست محصورة في أداء الشعائر من صيام أيام معدودات وصلوات محدودات.

إن العبادة الحقة التي أمرالله تعالى بها ، هي الالتزام الكامل بالمنهج الرباني في جميع جوانب الحياة، وذلك وفق ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ، هي في التخلق بالأخلاق الحسنة وفي التورع عن المال الحرام، وعن أكل أموال الناس بالباطل، وفي صلة الرحم وبر الوالدين والإحسان إليهم وفي صدق الحديث وترك الفواحش، إلى آخر ما أوصى به الله تعالى ورسوله.
قال أحد كبار العلماء:
العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وتشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعها، وتستغرقُ مناشطه وأعماله كافة.
فلا يوجد شأن من شؤون الإنسان إلا وللدين فيه حكم وتوجيه وإرشاد، كما قال تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.

قال الحافظ ابن رجب: الدين القويم يشمل فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها.
والأدلة على شمول العبادة للحياة كلها وأنها ليست مقتصرة على أداء الشعائر، عديدة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.
من ذلك أن الله تعالى لما ذكر الصيام المؤقت عن المباحات في قوله تعالى:
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ
وبعد أن ذكر أحكام الصيام، انتقل بعد ذلك مباشرة إلى أحكام الحياة العامة، فقال تعالى:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

وفي آية أخرى قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
وقوله في السلم، أي : في الإسلام، قال امرؤ القيس بن عابس:
فلست مبدلا بالله ربا...ولا مستبدلا بالسلم ديناً
وقال الشاعر الكندي:
دعوت عشيرتي للسلم لما....رأيتهم تولوا معرضينا.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ولا يدعوا منها شيئاً.
ثم قال تعالى بعد هذه الآية:
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قال ابن كثير:
أي إن عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله عزيز أي في انتقامه، لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب، حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.

ومن الأحاديث النبوية التي تُبيِّن أن أداء الشعائر وحدها لا يكفي، وليست هي العبادة الشاملة، وأنه لا بد من التزام المنهج الرباني في الأخلاق والسلوك، ما رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قيل للنبي ﷺ: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتتصدق، لكن تؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله ﷺ: لا خير فيها، هي من أهل النار.
ويدل على ذلك حديث آخر رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
* أتدرون من المفلس؟، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه الصلاة والسلام: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة(يعني أتى بالشعائر)، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طرح في النار*
هذا الرجل فهم أن العبادة هي في أداء هذه الشعائر فقط، وتفلَّت بعد ذلك من بقية أحكام الإسلام،
وهذه الشعائر أصلا هي لتقوية المرء على التمسك بمنهج الله تعالى، ولإعانته على الالتزام الدائم بشرع الله تعالى، فالصيام: لعلكم تتقون، والصلاة: تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذه الشعائر روافد للمسلم لمزيد من التمسك بالعبادة بمعناها الشامل، وإلا فإنها لا تنفع صاحبها على الإطلاق.

هذا المفهوم الصحيح للعبادة أشار إليه سيدنا عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه حين قال: لا تغرنكم صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن أنظروا من إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدى، وإذا أشفى ورع ، أي إذا أشرف على الدنيا وأقبلت عليه تورَّع عما لا يحل له منها، أو إذا هم بالمعصية تورع فلم يقع بها

وروى الإمام مالك في الموطأ أن رجلاً من جهينة يقال له: الأسيفع كان يسبق الحجاج، فيشتري الرواحل، فيغلي بها الثمن، ثم يسرع السير، فيسبق الحجاج، فأفلس، فرُفِعَ أمره إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: أما بعد، أيها الناس، فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحجاج، فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بين الغرماء، ثم قال: *لا تغرنكم طنطنة الرجل بالليل يعني: صلاته في الليل، فإن الرجل كل الرجل، من أدى الأمانة إلى من ائتمنه، ومن سلم المسلمون من لسانه ويده.

وكلنا يعلم قصة من جاء يزكي رجلاً أتاه ليشهد على قضية، فقال له عمر: ائت بمن يعرفك، فجاء برجل، فقال له: هل تزكيه هل عرفته، قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟، هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟، قال: لا، قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بها أمانة الرجال؟، قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، قال عمر: فلعلك رأيته في المسجد راكعاً ساجداً فجئت تزكيه؟؟، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر: اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل، ائتني برجل يعرفك، فهذا لا يعرفك.
هذا يُظهر أن تدينك لا يعرف من وجودك في المسجد، إنما يعرف وأنت في السوق في متجرك في بيعك وشرائك تنصح الناس وترفق بهم، ولا تأكل الربا والمال الحرام.
يعرف تدينك وأنت في عيادتك ترأف بمرضاك وتصدق في معالجتهم وتشخيص مرضهم و تقدير ظروفهم.

يعرف تدينك وأنت في مكتبك تعامل الناس بالخلق الحسن وبالصدق.

يعرف تدينك في بيتك في معاملة أهلك باللطف والمعروف والإحسان.

يعرف تدينك وأنت في منصبك ومحل مسؤوليتك ترأف بالناس وتقضي حوائجهم.

هذه هي العبادة الحقة بمعناها الشامل للحياة بجميع فروعها وتفاصيلها.

اللهم اجعلنا من الصادقين في عبادتنا لك والفاهمين لحقيقتها والواعين لشموليتها، يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
389


جلسة الصفا

17 شوال 1445
26 نيسان 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*خطر تشويه عبادة الحج والانحراف عن مقاصدها*

الحج من أعظم العبادات، وقد كان آخر أركان الإسلام فريضة، وذلك بعد أن انقادت النفوس لله تعالى ، واستجابت لأوامره ، وخضعت لأحكامه وتشريعاته ،وتخلصت من شوائب الشرك .

ولذلك كانت عبادة الحج تمثل التوحيد الخالص لله تعالى، وتمثل كذلك التجرد عن مظاهر الدنيا والانعتاق من زينتها وزخرفها، والإقبال بلهفة وشوق لأداء هذه الشعيرة العظيمة والطواف حول البيت بحب وهيام، وتحققت فيه دعوة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام حين قال:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ

ولكي تكون هذه العبادة تعلقاً تاماً بالله عز وجل وتطلعاً خالصاُ إلى مغفرته ومرضاته، ولكي لا يعكر صفو هذه العبادة التفات القلب إلى الدنيا بمظاهرها المتعددة وبهرجاتها المختلفة، فقد تميَّزت عبادة الحج بأحكام تجعل الحاج يعيش معاني التوجه الى الله تعالى وحده ، وتضعه في حالة تعينه على تعلُّق قلبه بالله تعالى دون سواه، ومن غير أن تشوش على عبادته زخارف الدنيا وزينتها ومتاعها.

من ذلك أن الله تعالى لم يجعل الحج إلى مكان فيه جنات وروضات وبساتين وأنهار ، تلفت الأنظار وتشغل القلب عن التفكر والاعتبار، إنما جعله إلى واد غير ذي زرع، أي لا يصلح للزرع، وذلك لكي يكون التوجه إلى الله تعالى وحده دون ملهيات أو مغريات دنيوية تصرف القلب عن الله تعالى.

ومن ذلك أن من أركان الحج الإحرام، وهو أن يخلع الرجل المخيط من الثياب ويكتفي بلبس الرداء وإلازار الذي يستر العورة، وفي لباس الإحرام هذا تزول الفوارق بين الناس ، ويلغى التفاوت بين الطبقات، فلا شريف ولا وضيع ولا غني ولا فقير، ويستوي الضابط الكبير والجندي، والكل سواسية كأسنان المشط،

ويقتضي الإحرام بعد خلع المحيط من الثياب، اجتناب كل ما فيه ترفيه وترف فلا يجوز مسُّ الطيب ولا قص الشعر ولا تقليم الأظافر، وهذا يستوي فيه الرجال والنساء.

إذن الحال التي ينبغي أن يكون عليها الحاج، هي التجرد من المظاهر الدنيوية وترك الاقتراب منها، والتفرغ التام للتوجه إلى الله تعالى وحده، وقلبه ولسانه يردد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

وفي عبادة الحج أمر الله تعالى ألا يتميَّز أحد على أحد، فالكل في مظهرهم وملبسهم سواء وكلهم في مكان واحد وعلى صعيد واحد هو صعيد عرفة،
وقد كانت قريش، قبل الإسلام لأنفتها لا تقف في عرفات لأن عرفة هي خارج الحرم ويقولون: نحن ولاة البيت وقاطنوا مكة، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، لذلك كان يقفون في مزدلفة وهي من الحرم، وينتظرون الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة، فيفيضون معهم، فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يأتي عرفة ويقف فيها ثم يفيض منها، وأمر قريشا بذلك، فقال تعالى:
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)

أراد الله تعالى أن يكون الناس في الحج سواءً، في وقوفهم في عرفات و في إحرامهم وفي ترك الترفه وزخارف الدنيا.

إذ الحج عبادة كما أنها تمثل التوحيد الخالص لله تعالى، تمثل كذلك التواضع والتذلل والمسكنة لله عز وجل والتجرد من حظوظ الدنيا.

ولتأكيد هذا التواضع والتذلل لله تعالى في الحج، لم يحج النبي ﷺ في مواكب فاخرة وخيول فارهة، إنما حجَّ فيما رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، وقال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، (والرحل للبعير هو كالسرج للفرس، والقطيفة قطعة قماش أو ثياب توضع فوق الرحل ليكون أكثر ليونة عند الركب عليه).

ومع أن هذه الراحلة كانت في غاية التواضع، دعا النبي ﷺ الله تعالى أن يجعلها حجة خالصة من مراءاة الناس، وليس فيها طلب للشهرة بينهم، فقال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.

ومن الأدلة على أن في الحج ترك الترفه من حلق الشعر ومس الطيب وتقليم الأظفار، قال تعالى في سورة الحج يذكر أحكام الحج:
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)
قال المفسرون: التفث هو الشعث وطول الشعر و الأظفار و قضاؤه هو إذهابه، فإذا قضى الحاج نسكه وخرج من إحرامه بالحلق وقص الأظفار ولبس الثياب ومس الطيب ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه.

قال الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، في ذكر الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة في الحج:
ومن الآداب أن يكون الحاج رث الهيئة أشعث غير مستكثر من الزينة ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر فيكتب في ديوان المتكبرين والمترفهين ويخرج عن جماعة الضعفاء والمساكين وخصوص الصالحين، وقد نهى النبي ﷺ عن المبالغة في التنعم والرفاهية، وفي الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجه والبغوي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: سأل رجلٌ رسول الله ﷺ: ما الحاج؟؟، قال: الشعث الثفل،( الشعث يعني في ترك تسريح الشعر، والثفل في ترك الطيب)
.
وروى الإمام أحمد وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: إن الله تعالى يُباهي بأهل عرفات ملائكة أهل السماء، فيقول: أنظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً.

هذه النصوص وغيرها، تُبين أن الحاج ينبغي ليحقق مقاصد الحج، أن يميل إلى جانب الزهد والتقشف وإلى ترك المبالغة في التنعم والرفاهية، وإلى ترك التوسع في المآكل والاعتناء بفاخر المساكن والأثاث مما يتطلب إنفاق الكثير من الأموال، المهم أن يعتني بما هو نظيف وطاهر من الأماكن.

قال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب:
الترغيب في التواضع في الحج والتبذل ولبس العادي من الثياب، اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وقال الإمام النووي:
الحكمة في لباس الإزار والرداء للمحرم إن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل.
وقال غيره من العلماء:
الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه وترك أنواع الاستمتاعات، فلا يلبس اللباس المعتاد، ولا يتطيب ولا يتزيَّن، ويلازم الخشوع والاخشيشان، ويقصد بيت الله تعالى أشعث أغبر.

قال أبو نعيم:
قدم الخليفة المهدي مكة وسفيان الثوري بمكة، فدعاه المهدي، فقال له سفيان وقد رأى ما هيأه المهدي للحج: ما هذه الفساطيط؟؟ ما هذه السرادقات؟ اتق الله، واعلم أن عمر بن الخطاب حجَّ، فسأل: كم أنفقنا في حجتنا هذه، فقيل: كذا وكذا ديناراً، ذكروا شيئا يسيرا، فقال: لقد أسرفنا.
و في رواية: أن سفيان الثوري قال للمهدي: حج عمر بن الخطاب، فلم ينفق إلا خمسة عشر ديناراً، وكان ينزل تحت الشجر، فقال له المهدي: أتريد أن أكون مثلك؟؟!!، فقال له سفيان: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه.
وسئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟، قال: أن تعود زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة
.
أمام هذه النصوص وغيرها الكثير مما لم أذكره، والتي تحث على التقشف والزهد وترك المبالغة في الرفاهية، ماذا نقول في حال حج هذه الأيام؟؟، حيث في عرفات وهي مكان التذلل والخضوع والمسكنة لله عز وجل، نجد أفخر أنواع الطعام والشراب والعديد من أطباق الطعام المتعددة، وكذا الحال في الفنادق، حيث فيها من المآكل ما لذ وطاب، وفيها الموائد المفتوحة، وكأن الحج رحلة ترفيهية أو سياحية، لكن سياحة دينية.
وفي بعض مخيمات عرفات كان يصطف بعض الفتيات لاستقبال الحجاج بالورود الحمراء!!!!
وبعض الحجاج يكتفي بالصلاة في غرفهم مقتدين بإمام الحرم في الفنادق المطلة على الحرم.

ومن الخلل والانحراف عن مقاصد الحج، إيثار الراحة في الطواف والسعي للقادر على المشي فيؤثر ركب الكراسي المتحركة.
ومن الخلل والانحراف عن مقاصد الحج الاختلاط والتساهل في الحديث مع نساء الفوج كالأصحاب، مع قلة غض الأبصار.

ومن الانحراف عن مقاصد الحج غفلة أحدهم عن حرمة الزمان والمكان، وينسى قول الله تعالى:
(ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰاتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ)
فتراه يجادل ويماري ويصخب ويغضب إذا لم تقدم له الوجبات في أوقاتها المحددة أو توهم تقصيرا في حقه، أو يقع بعض الحجاج في أحاديث الدنيا واللعب بالجوال وهم في الحرم المكي أو النبوي.

ويحرص بعضهم على أن يكون سكنه ملاصقاً للحرم ويدفع لذلك الأموال الطائلة التي لو صرف الحاج بعضها في إعانة محتاج أو إغاثة ملهوف أو تفريج كرب مكروب لكان خيراً له في الدنيا والآخرة.
وقد يعذر في ذلك من كان مريضاً كبير السن ضعيف البدن لا يقوى على السير، أما من كان صحيح البدن معافى، فماذا يضيره أن يسكن في فندق لا بأس به يبعد عن الحرم بمقدار مشي عشر دقائق أو أقل أو أكثر، ويوفر المال لعملٍ فيه خير للناس.

ومما ساعد في انتشار هذه الظاهرة الدعايات المغرية والإعلانات المشوقة لبعض حملات الحج، حيث يعلنون عن مساكن مجهزة بجميع وسائل الراحة والرفاهية مع وجود خدمة الانترنت، وثلاث وجبات متنوعة من الطعام بنظام البوفيه المفتوح مع توفير المشروبات الساخنة والباردة على مدار الساعة،

وقسمت بعض الحملات أسعارها إلى فئات: الأولى الذهبية، والثانية الفضية، والثالثة المميزة، والرابعة الفاخرة، ولا مكان عندها للفئة المتقشفة الزاهدة،

وانتشرت اليوم وللأسف عبارة حج VIP ، حيث الحج الفاخر والمريح، والنزول في فنادق عشر نجوم.
مع أن النبي ﷺ قال: *الحج جهاد لا شوكة فيه*
وقال للسيدة عائشة رضي الله تعالى عنها حين أرسلها لأداء العمرة: *وأجرك على قدر نصبك*،
ومعلوم أنه ليس مطلوباً تكلف المشقة، وكذلك ليس مطلوباً تكلف الرفاهية والمبالغة في التنعم والراحة.
فهل الحج VIP أقرب إلى الله تعالى وإلى القبول، من الحج الذي ليست فيه هذه الصفة؟؟.
ماذا لو يقتصر الأمر في الحملات على توفير الطعام العادي والسكن العادي بدون إسراف ولا تفاخر، أما يحصل المقصود ويتفرغ القلب للمعبود سبحانه؟؟!!.

إن ثمة، وللأسف، انحرافاً كبيراً عن مقاصد الحج وأهدافه وآدابه .
ومن هذا الانحراف ما نراه من عديد من الحجيج وهو ممسك بجواله أثناء الطواف، أو أثناء السعي أو في عرفة، ويلتقط الصور لنفسه أو لمن حوله، أو يطلب من أحدهم أن يصوره وهو رافع يديه في الدعاء، ويرسل الصور والمقاطع إلى أصحابه، ويشغل بذلك نفسه عن أذكار الطواف وقراءة القرآن وعن الدعاء الذي هنا محله ووقته.

قال نافع مولى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لقد أدركت أقواماً يطوفون بهذا البيت كأن على رؤوسهم الطير تخشعاً.

وقال عطاء بن أبي رباح: طفت وراء عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما فلم أسمع أحداً منهما يتكلم في الطواف.
وذكرت لكم قصة عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه وكيف خطب عروة بن الزبير ابنته وهو في الطواف، فلم يرد عليه ابن عمر، ولما لقيه بعد ذلك عاتبه وقال له : ذكرت لي سودة بنت عبد الله ونحن في الطواف نتخايل الله عز وجل بين أعيننا، وكنت قادراً على أن تلقاني في غير ذلك الموطن؟؟!!.

فيا من يريد الحج، عليك بهدي النبي ﷺ والتزام آدابه ومقاصده، وألا يعكر عليك حجك مظاهر زائفة ورفاهية زائدة،

وعلى أمناء الأفواج أن يعينوا الحجاج على ذلك ، فيهيؤوا لهم من الظروف والأحوال ما يحقق مقاصد الحج ولا يتطلب المبالغ الباهظة والأموال الطائلة، وأن يعلموهم أن يضعوا أموالهم فيما فيه خير للعباد، وهذا يحتاج إلى بحث خاص والله أعلم.
وأخيراً، نقول لمن أكرمه الله تعالى بالحج ألا يُعيد الحج، لأنه قام بتأدية الفريضة التي فرضها الله عليه، فهناك حاجات وضروريات إنفاق الأموال فيها أفضل من الحج بمئات المرات، قد يقول أحدهم: أنا لا أقصِّر في أعمال البر والخير وأرغب في أن أحج، فتقول له: لو انتهت الحاجات والضرورات عند الناس، فيإمكانك الذهاب إلى الحج مرة أخرى، ولكن الحاجيات والضروريات في هذه الأيام كثيرة، وهذا المال الذي ستنفقه في الحج، أنفقه في محل آخر يرضي الله تعالى، الذي فرض عليك الحج مرة واحدة فقط
وهذا ما فهمه الفقهاء الكبار وما فهمه المحدثون أمثال عبد الله بن المبارك وغيره.

اللهم أرنا الحق حقاً وارقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

نسألك اللهم حجا لا رياء فيه ولا سمعة، يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
2024/05/01 22:53:14
Back to Top
HTML Embed Code: