Telegram Web Link
لم أكن يوماً، وغالبا لن أكون؛ من محبي "الفسيخ" ولا من أولئك المنبهرين به حدّ الهذيان
أولئك الذين يرون فيه تجسيداً للهوية الوطنية وأيقونة للمذاق الأصيل
ربما تذوقته، عدة مرات على مضضٍ تحت ضغطٍ اجتماعيٍّ
مراتٍ تعدّ على أصابع اليد لم ينتج عنها ذلك العشق الأعمى الذي يضرب قلوب الكثير من المصريين بشكل مثير للدهشة
لكنها والحق يقال لم تؤدِ أيضاً إلى ذلك النفور العنيف الذي يجعل البعض الآخر يفرّون منه كما يفرّون من الطاعون.
موقفي كان دائماً بالنسبة لطعمه شبه محايد
عادي.. مجرد سمكةٍ بائسة قرروا وأدها في برميل ملح، لأسابيع لتُصبح شيئاً يشبه في أفضل أحواله ذلك الشيء المدعو "السيمون فيميه" والذي يتناوله الأثرياء في حفلات الكوكتيل الفاخرة، وتذوقته مرة أو مرتين في مؤتمرٍ طبيٍّ أو ما شابه..

مشكلتي كلها كانت مع أمرين

أولهما طبعا تلك الخطورة المفرطة التي حذر منها الأطباء في كثير جدا من المقالات والبرامج وتسببها تلك البكتيريا المسماة clostridium botulinum والتي تطلق سما يصيب الجهاز العصبى، مما يؤدى للإصابة بالشلل وحتى الوفاة وعلى المستوى الشخصي أعرف من كان هذا التسمم سببا في وفاته
منذ ذلك الحين أعد تناول الفسيخ مغامرة مرعبة وغير مفهومة خصوصا أن أهل التخصص أجمعوا على كون هذا التسمم يشبه في خطورته التسمم بأقراص الغلة وأن أقصى حالات الطواريء تكون في مواجهة هذين التسممين ويا عالم هل سيجد المصاب الترياق المضاد (والغالي جدا بالمناسبة) أم سيجده قد نفد؟ !
لا أتصور أحدا يعرف كل ذلك ويقبل على تناول الفسيخ إلا إن كانت لديه بعض الميول الا.نـ.تـ.حـ.ارية أو أن حب المغامرة لديه أقوى من حبه للحياة

أما الإشكال الثاني لي مع الفسيخ فهي تلك الرائحة..
وهذه قصةٌ أخرى تماماً.
قصة مؤلمة لحاسة الشم عندي وتتكرر فصولها كل "شم نسيم" وقد أكون من أكثر من يعانون منها بحكم مهنتي التي أرفض أن أتوقف عن ممارستها في هذا اليوم

هذه الرائحة التي تُشبه مزيجاً من مستنقعٍ آسن وجوارب منتنة لم تمسها المياه منذ عقود = هي الحاجز النفسي الرئيسي بيني وبين الفسيخ

رائحةٌ تمتلك قدرةً خارقة على اختراق الجدران، والتسلل تحت الأبواب، والتمسك بخلاياك الشمّية لأيامٍ
رائحةٌ تجعلني أُخطط لهروبي من أي تجمعٍ عائلي يُشتبه في أن قائمة طعامه سيتوسطها هذا الضيف الثقيل
لكنني مؤخراً ولأسبابٍ قاهرة تتعلق ببر الوالدين وصلة الأرحام وتجنب الحروب الأهلية العائلية؛ دعيت لتجمعٍ أُقيم على شرف هذا "الفسيخ" المبجّل.
ذهبتُ وأنا أُقدم اعتذاراً رسمياً لأنفي الذي سيُجبر على خوض هذه المعركة غير المتكافئة لساعات، ومُعزّياً نفسي بأن دفء الأسرة وأنس التجمع قد يُهوّنان عليّ هول الصدمة الشمية.

لكن الحقيقة الصادمة، أن ما هوّن الأمر لم يكن دفء التجمع الأسري في المقام الأول،
لقد كان شيئا آخر لم أتوقعه
الإلف... التعود... التكيّف...
سمّه ما شئت

في البداية، وكما كنت اتوقع، كادت أنفاسي أن تتوقف، وشعرتُ بأن رئتاي ترفضان استقبال هذا الهواء المُحمّل بجزيئات العفونة المركزة نظرا للكميات الضخمة التي أتوا بها لتكفي هذا الحشد مدعومة بكميات أخرى من الرنجة والسردين والملوحة والأنشوجة وساذر ما يمكن تمليحه من مخلوقات البحر.
ضاق صدري، وكدتُ لوهلة أن أهرب أو أجلب من عيادتي قناع الغاز ذي الفلاتر الذي كنا نتحصن به أيام (كـ.ور.ونا)
لكن رويداً رويداً، وبشكلٍ تدريجي بدأتُ أتعود.
دقائق وصارت بعدها الرائحة مجرد "إزعاجٍ محتمل".
بعد قليل - ويا لغرابة المخ البشري وقدرته على التكيف = لم أعد أُلاحظ الرائحة أصلاً!
كأنها تبخرت، أو كأن أنفي قرر أن يُضرب عن العمل احتجاجاً!

أو ربما زالت الرائحة من الجو بعد انقضاء معركة التهامه عن آخره...
لكن وجوه الأقارب الذي وصلوا متأخرين تنبيء بوجود الرائحة حين تتقلص بشكل ملحوظ بمجرد دخلوهم خصوصا إن كانوا من فصيلة كارهي تلك الرائحة مثلي

لماذا إذا زالت من أنفي؟
هل أنا الذي كنتُ أُبالغ؟
هل الرائحة ليست بهذا السوء؟
هل كنتُ أعيش في وهم "الأنف المرهف"؟ همستُ لنفسي بهذه الأسئلة. لكن العقل الباطن صرخ بالحقيقة: لا يا هذا!
إنها فعلاً سيئة!
رائحةٌ منتنة لا تختلف كثيراً عن رائحة أي مخلوق آخر يُترك ليتحلل على جانب الطريق
الفارق الوحيد أن الأخير سيكون قد مات بحادثٍ ما، بينما الفسيخ تم اغتياله ببطءٍ وعن سبق إصرارٍ وترصد في برميل ملح!

إذاً، لماذا استسلم أنفي بهذه السهولة؟
لماذا لم يعد ينفر؟
كيف وصلتُ إلى هذه الدرجة من التبلد الحسي لأسأل نفسي أصلاً عن بديهيةٍ كهذه؟
بل كيف يصل الأمر بإحدى قريباتي العزيزات التي أقدرها جدا وأقدر عقليتها رغم اختلافنا الفسيخولوجي؛ أن تُعلن على الملأ عشقها لهذه الرائحة، وتتمنى لو أن عباقرة العطور الفرنسية يخترعون لنا "بارفان الفسيخ" لنحتفظ به في زجاجاتٍ أنيقة ونتعطر به في المناسبات السعيدة؟!
"Eau de Fesikh"... يا له من اسمٍ ساحر لعطرٍ جديد!
وربما يتبعه بعد حينبـ "عطر الثوم القوي"، و"إكسير البصل المركز"، و"كولونيا الكرنب الأصلية"...
ما المانع؟
طالما أن "التعود" قد فعل فعله، وأفسد بوصلة الذوق، وأقنعنا بأن النتن قد يكون عِطراً!

هذا "الإلف"، يا صديقي، هو الخطر الحقيقي.
إنه ذلك المُخدّر البطيء الذي يُغيّر معاييرنا دون أن نشعر.
يُحوّل القبيح إلى مقبول، والمرفوض إلى مألوف، والمُنكر إلى مُستساغ.
يبدأ برائحةٍ كريهة نعتادها، وينتهي كثيرا – للأسف – بقيمٍ ومبادئ وأخلاقٍ نُفرّط فيها ونُطبّع مع نقيضها، فقط لأننا اعتدنا رؤيتها أو سماعها أو التعايش معها.

"أرَى المُتَشاعِرينَ غَرُوا بذَمّي.... ومَن ذا يَحمَدُ الدّاءَ العُضالا
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ.... يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا"
المتنبي متحدثا عمن انقلبت لديهم حقائق الأشياء فاستحسنوا الداء وكان الماء العذب مرا في حلوقهم

"إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات"

هكذا بيَّن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه تلك الحقيقة التي لا نلحظها مع طول الأمل واعتياد الأشياء
حقيقة تغير المعايير والتعريفات
لقد تغير حكم من عاصرهم سيدنا أنس وتحولت نظرتهم لبعض الأمور مع مرور الوقت وطول الأمد فصارت أشياء هينة بسيطة وصغرت في أعينهم حتى صارت أدق من الشعر رغم أنها كانت يوما -قبل اعتيادها- من الموبقات
وربما لو مد الله في عمر سيدنا أنس أعواما لوجد من لم يعد يراها أدق من الشعر بل لم يعد يراها أصلا
وماذا لو مكث قرونا بعد ذلك وعاش إلى زماننا هذا؟
ماذا سيقول عن "موبقاتنا" التي أصبحت "تريندات" ومادة للسخرية والضحك؟
أليس من الممكن أن يجد من اعتادوا تلك (الموبقات) حتى صارت هي الأصل وصار المستغربون المستهجنون هم من يتقونها أو حتى يأنفون منها ويضايقهم وقوعها

أعتقد أن هذه الافتراضات لا يمكن استبعادها فنحن بالفعل نراها ونعيشها والتي تعد أهون صورها هي تلك التي تظهر في تعامل الكثيرين مع تلك الرائحة المنتنة التي مهما تعود عليها البعض وألفوها وأحبوها أو حتى عبأوها في زجاجات وتعطروا بها فستظل في حقيقتها منتنة مقززة
لن يتحول الفسيخ أبدا إلى شربات
سيظل الفسيخ فسيخاً مهما زيّنوه بالليمون والبصل، والعفن لن يُستخلص منه بارفانٌ أبداً
ستظل المشكلة دائماً وأبداً في الأنوف التي قررت أن تتعود أو تتخلى عن حساسيتها وتتصالح مع ما يزكمها حتى إنها قد لا تمانع يوما أن تتعطر بعطر مستمد منها
عطر الفسيخ
مقال جميل لشيخنا الجميل الدكتور محمد علي يوسف نفع الله به 😊
#ورد_القرآن_اليومي
الآيات من 243 إلى 245 من سورة البقرة
Forwarded from محمود مجاهد
التلاوة
٢٠- حفظ اللسان - كتاب ال...
شريف علي
٢٠- حفظ اللسان - كتاب الرقاق - شريف علي
الأرض المقدّسة أسيرة، وأهلها في كرب شديد، وعلى الأمة كلها أن تلتفت إلى هناك.
Live stream started
Live stream finished (45 minutes)
2025/06/29 20:59:56
Back to Top
HTML Embed Code: