••
من أساسيات وعي الإنسان أن يحتفظ في داخله بجذوة السؤال، ذاك النور الذي يفضح العادة، ويوقظ القلب من رقدة التلقين، لكنّ الحياة المعاصرة ـ بماديتها الصاخبة، وعجلتها الطاحنة ـ تحاول أن تُخدّر الإنسان عن السؤال، وتغريه بالاكتفاء بما يُلقى إليه، لا بما يُوقظ فيه، وهي تُحسن أن تُسكتك لا أن تُجيبك؛ تُغريك بالمشهد لا بالمغزى، وبالمنتج لا بالمبدأ، وبالسطح لا بالغور، تُخدّرك بعجلة التفاصيل، وتروّضك على القبول، حتى تنسى أن تسأل: لماذا؟ وإلى أين؟
وحين يخفت صوت السؤال، يبدأ الانقياد الصامت، وتتحول من فاعل إلى منفعل، من مختار إلى تابع، فالنجاة كلّ النجاة: أن تسأل أن تصون بصيرتك من الزوال، وتحفظ وهج السؤال من الذبول.
••
من أساسيات وعي الإنسان أن يحتفظ في داخله بجذوة السؤال، ذاك النور الذي يفضح العادة، ويوقظ القلب من رقدة التلقين، لكنّ الحياة المعاصرة ـ بماديتها الصاخبة، وعجلتها الطاحنة ـ تحاول أن تُخدّر الإنسان عن السؤال، وتغريه بالاكتفاء بما يُلقى إليه، لا بما يُوقظ فيه، وهي تُحسن أن تُسكتك لا أن تُجيبك؛ تُغريك بالمشهد لا بالمغزى، وبالمنتج لا بالمبدأ، وبالسطح لا بالغور، تُخدّرك بعجلة التفاصيل، وتروّضك على القبول، حتى تنسى أن تسأل: لماذا؟ وإلى أين؟
وحين يخفت صوت السؤال، يبدأ الانقياد الصامت، وتتحول من فاعل إلى منفعل، من مختار إلى تابع، فالنجاة كلّ النجاة: أن تسأل أن تصون بصيرتك من الزوال، وتحفظ وهج السؤال من الذبول.
••
••
ما أكثر ما نتحدث عن ضعف الإيمان، وخمول القلب، وغياب لذة الطاعة، ثم نمضي نتساءل: لِمَ هذا الجفاف؟ وما منشأ هذا التصحُّر الروحي؟ولا نكاد ننتبه أن في حياتنا نافذة صغيرة، تُطلّ منها نظرة، ثم ثانية، ثم سلسلةٌ من الانهيارات الصامتة، حتى يغدو القلب كفتيل المصباح الذي أنهكه الدخان، فلا نور، ولا دفء، ولا أثر.
النظر المحرّم ليس تفصيلًا صغيرًا في منظومة الإيمان، بل هو أحد مفاتيح الانحدار، هو الثقب الأسود الذي يلتهم حيوية القلب، ويُضعف بوصلة الطريق، ويجعل المؤمن يستهلك “الجميل الممنوع” حتى يفقد ذائقته للجميل المشروع، ومع الهواتف الذكية، صرنا نحمل “رفيق السوء” في جيوبنا لا يطرق الباب، بل يسكن اليد والعين والذاكرة، والمصيبة أن هذا الباب لا يَدخل منه الشيطان فقط، بل يَخرج منه الإيمان.
وكل محاولات التبرير، وكل التأويلات النفسية، وكل “التطبيع العاطفي” لهذا الذنب، تتهاوى أمام الآية الحاسمة: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم”
فالأمر واضح، والموقف محسوم، ولا شيء أبلغ من نصٍ قرآني يربط الإيمان بالبصر.
العفّة ليست ثقافة، ولا سلوكًا اجتماعيًا، بل نورٌ داخلي، مصباحٌ من مصابيح القلب، فإن انطفأ هذا المصباح، ساد الظلام، واضطربت الخطى، والعاقل لا يُطفئ نوره بيده.
••
ما أكثر ما نتحدث عن ضعف الإيمان، وخمول القلب، وغياب لذة الطاعة، ثم نمضي نتساءل: لِمَ هذا الجفاف؟ وما منشأ هذا التصحُّر الروحي؟ولا نكاد ننتبه أن في حياتنا نافذة صغيرة، تُطلّ منها نظرة، ثم ثانية، ثم سلسلةٌ من الانهيارات الصامتة، حتى يغدو القلب كفتيل المصباح الذي أنهكه الدخان، فلا نور، ولا دفء، ولا أثر.
النظر المحرّم ليس تفصيلًا صغيرًا في منظومة الإيمان، بل هو أحد مفاتيح الانحدار، هو الثقب الأسود الذي يلتهم حيوية القلب، ويُضعف بوصلة الطريق، ويجعل المؤمن يستهلك “الجميل الممنوع” حتى يفقد ذائقته للجميل المشروع، ومع الهواتف الذكية، صرنا نحمل “رفيق السوء” في جيوبنا لا يطرق الباب، بل يسكن اليد والعين والذاكرة، والمصيبة أن هذا الباب لا يَدخل منه الشيطان فقط، بل يَخرج منه الإيمان.
وكل محاولات التبرير، وكل التأويلات النفسية، وكل “التطبيع العاطفي” لهذا الذنب، تتهاوى أمام الآية الحاسمة: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم”
فالأمر واضح، والموقف محسوم، ولا شيء أبلغ من نصٍ قرآني يربط الإيمان بالبصر.
العفّة ليست ثقافة، ولا سلوكًا اجتماعيًا، بل نورٌ داخلي، مصباحٌ من مصابيح القلب، فإن انطفأ هذا المصباح، ساد الظلام، واضطربت الخطى، والعاقل لا يُطفئ نوره بيده.
••
••
كل نصيحة تُقال، هي رسالة عائدة بالزمن، ما هي إلا صوتُ إنسان يُحادث نسخة قديمة منه، يوبخها، يُرشدها، أو يُهدهد وجعها.
حين يُلقي أحدهم نصيحته إليك، فهو لا يراك بوضوح، أنت مرآةٌ لتجربةٍ مرَّ بها، أو خطأٍ ارتكبه، كل نصيحة تُلقى هي في حقيقتها شهادة ذاتية، قد كُتبت بمداد التجربة وختمت بالندم أو الفهم المتأخر، و هي ليست موجهة لك وحدك لتسقط مقامك، بل هي اعترافٌ غير معلن، وبحثٌ عن تطهير داخلي.
من ينصحك، هو فعلاً يخوض صراعًا مع نفسه السابقة، يُعيد قراءة ماضيه من خلالك، يُفصّل الدرس الذي تعلمه على مقاس أوجاعه لا أوجاعك.
وهنا عليك أن تُحسن فهمها، لا أن تأخذها كما هي، بل أن تقرأها قراءة العاقل الذي يأخذ العبرة دون أن يُثقل كاهله بماضي غيره.
••
كل نصيحة تُقال، هي رسالة عائدة بالزمن، ما هي إلا صوتُ إنسان يُحادث نسخة قديمة منه، يوبخها، يُرشدها، أو يُهدهد وجعها.
حين يُلقي أحدهم نصيحته إليك، فهو لا يراك بوضوح، أنت مرآةٌ لتجربةٍ مرَّ بها، أو خطأٍ ارتكبه، كل نصيحة تُلقى هي في حقيقتها شهادة ذاتية، قد كُتبت بمداد التجربة وختمت بالندم أو الفهم المتأخر، و هي ليست موجهة لك وحدك لتسقط مقامك، بل هي اعترافٌ غير معلن، وبحثٌ عن تطهير داخلي.
من ينصحك، هو فعلاً يخوض صراعًا مع نفسه السابقة، يُعيد قراءة ماضيه من خلالك، يُفصّل الدرس الذي تعلمه على مقاس أوجاعه لا أوجاعك.
وهنا عليك أن تُحسن فهمها، لا أن تأخذها كما هي، بل أن تقرأها قراءة العاقل الذي يأخذ العبرة دون أن يُثقل كاهله بماضي غيره.
••
Forwarded from قناة مَسَار | محمود أبو عادي
أكرمني الأستاذ عبدالله المحيلان بهذه الاستضافة الكريمة خلال شهر رمضان في برنامج (سردية)، وعبدالله لمن لا يعرفه مثقّف ودود، وله ذائقة رفيعة في الأدب والشعر، وأقول هذا لأنّه أوجد بذكائه وإذكائه مساحة عفوية لتدفّق الأفكار ومراقصة التصوّرات التي أصوغها في ذهني من واقع العلاج النفسي وعلم النفس، وقد ترك لي فُسحة آمنة أوقدت الفضول المعرفي بأدبه وأسئلته الرشيقة وهي أمور أُجلّها في نفسي وأقدّرها لِمَن يُتيحها لضيفه بوضوح وثقة وارتياح.
بدأنا هذا اللقاء بأطروحة سفيند برينكمان في كتابه (الثقافات التشخيصية) وعن أنّنا نعيش بشكل متزايد في عالَم يتمّ فيه قراءة معاناتنا، وحزننا، وحتى خبراتنا من خلال عدسة التشخيصات النفسية وعبر منظور طبّي يختزل الإنسان كظاهرة طبّية.
والإنسان بهذا المعنى إمّا أن يكون مريضًا أو متعافي من مرض ما، ولا شيء غير ذلك. وهي قراءة تختزل وتسطّح الخبرة البشرية والظاهرة الإنسانية إلى مُجرّد تصنيفات طبّية، يجعل بعض الأفراد يتفاخرون بتشخيصاتهم بوصفها منتهى فهمهم لذواتهم وبوصفه فهم عميق وجديد للذات البشرية، ولكنّه لا يعدو أن يكون مجرّد عنوان طبّي لغايات تشخيصية.
حاولت أن أتناول أكثر المخاوف الوجودية الأربع لدى الإنسان، بحسب العلاج النفسيّ الوجوديّ بوصفها جذور أساسية لكلّ علّة من الاعتلالات النفسية، وهي مخاوف تعيد إنتاج نفسها على الدوام، بدءًا من قلق الحرّية الذي يأتي منذ الّلحظة التي نُقذَف فيها خارج أرحام أمّهاتنا، ومرورًا بقلق المعنى والخواء وقلق العزلة والوحدة وانتهاءً بالخوف الوجوديّ الأبرز قلق الموت، العُقدة التي تطاردنا حين نعي أنّنا كائنات فانية (أغوى بها إبليس آدم عليه السلام، حين وعده بالخلود والمُلك الذي لا يبلى).
والانعكاسات السلوكية للأزمات الوجودية عديدة ومثيرة، منها سلوكيات السخافة والتهريج خوفًا من العزلة وضمن رغبة عصابية لإثارة إعجاب الآخرين، وهي محاولات توسّل صارخة للآخرين بألّا يتركوك وحيدًا. ومرورًا بانحرافات جنسية عديدة كالسادية والمازوخية، كردّ فعل سلوكي على القلق العميق من الحرّية.
أخيرًا، أودّ الإشارة لمقاربة (قلق الموت) ونظرية إدارة الذعر، بوصفها واحدة من أبرز الأمور الّلافتة في سياقنا الحضاري والأمّمي، حيث دراسات متفرّقة لارتفاع مستويات (قلق الموت) لدى عيّنات المسلمين مقارنة بكثير من الحضارات الأخرى، وهو قلق لا أتناوله من منظور مَرَضي أو سريري فحسب، بل أحاول أن نظر للخطابات التي شكّلته، وللتشخيص النبويّ لعجز الأمّة في آخر الزمان، بالوَهَن. وما الوهن؟ قال ﷺ:
«حب الدنيا، وكراهية الموت»
هناك مقاربات ثقافية وحضارية هامّة، يمكن البناء عليها من هذا المنظور (ولم أتطرّق لهذه الأبعاد في هذا اللقاء) عبر 3 تشخيصات رئيسية لأي عجز أممي مُحتَمَل يضعه التصوّر النبوي في أحاديث آخر الزمان:
1. كراهية الموت (قلق الموت) ومحاولة تفاديه بشكل لاواعي وعصابي كحاصل من حواصل العلمنة
2. التعالق المَرَضي مع الحياة عبر الإخلاد والتثاقل إلى الأرض (ولكنّي أخشى أن تُبسَطَ عليكم الدّنيا فتنافسوها) كنتيجة طبيعية لنسيان اليوم الآخر.
3. فُرقة المسلمين وتشتّت أمرهم وقسوتهم على بعضهم (وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها) وهي مفارقة السؤال الخاصّ بتعريف (مَن هو المُسلِم اليوم؟) حيث لا ينفكّ المسلم من تأثيم إخوته، وحصر الخلافات الفقهية في رأي أحادي، واستعداء كل من يخالفه في طريقة عيشه وظروفه التي نشأ عليها.
من المفارقات المثيرة للاهتمام في دراسات قلق الموت، أنّ العلاقة بين التديّن وقلق الموت ليست علاقة خطية كما قد يُتوقّع (أيّ من غير الصحيح أنّه كلّما زاد تدّين المرء زاد قلق الموت لديه ولا العكس) فقد كشفت التحليلات المنهجية لأكثر من ١٠٠ دراسة عالمية (مثل دراسة جونغ وزملائه عام ٢٠١٨) أنّ العلاقة غالبًا ما تأخذ شكلًا منحنيًا على هيئة حرف U، حيث يظهر أنّ الأشخاص المتديّنين جدًا والملحدين بقناعات صارمة، هؤلاء، يُسجّلون مستويات أقل من قلق الموت، بينما يُعاني الأشخاص متوسطو التديّن أو المتذبذبون في معتقداتهم من مستويات قلق أعلى!
من شأن هذا التحليل أن يُساعدنا على الفهم، وعلى الإجابة عن السؤال القائل: لماذا قد نجد مسلمين متديّنين يعانون من قلق موت مرتفع؟
ليس لضعف إيمانهم بالضرورة، ولكنّ لتشوّهه، وتحديدًا تصوّراتهم المأزومة حول الدّين وعدم اليقين من مصيرهم النهائيّ من شدّة التلويم والإذناب، وهو أمر تكرّسه خطابات وعظية عديدة غير منضطبة أصوليًا، خلقت مسلمين متأرجحين بين يقين لا ينعكس على سلوكهم وحياتهم اليومية، وبين هواجس شخصية ونفسية لا تتطابق مع مضامين الخطاب الدّيني، للأسف. ولي عودة وتفصيل في هذا الجانب في منشورات أخرى بإذن الله.
وحتّى ذلك الحين، أرجو أن تكون مشاهدة ممتعة، وأن يكون الطرح مفيد ونافع، والله وليّ التوفيق.
https://www.youtube.com/watch?v=3WG6NC7AhlA
بدأنا هذا اللقاء بأطروحة سفيند برينكمان في كتابه (الثقافات التشخيصية) وعن أنّنا نعيش بشكل متزايد في عالَم يتمّ فيه قراءة معاناتنا، وحزننا، وحتى خبراتنا من خلال عدسة التشخيصات النفسية وعبر منظور طبّي يختزل الإنسان كظاهرة طبّية.
والإنسان بهذا المعنى إمّا أن يكون مريضًا أو متعافي من مرض ما، ولا شيء غير ذلك. وهي قراءة تختزل وتسطّح الخبرة البشرية والظاهرة الإنسانية إلى مُجرّد تصنيفات طبّية، يجعل بعض الأفراد يتفاخرون بتشخيصاتهم بوصفها منتهى فهمهم لذواتهم وبوصفه فهم عميق وجديد للذات البشرية، ولكنّه لا يعدو أن يكون مجرّد عنوان طبّي لغايات تشخيصية.
حاولت أن أتناول أكثر المخاوف الوجودية الأربع لدى الإنسان، بحسب العلاج النفسيّ الوجوديّ بوصفها جذور أساسية لكلّ علّة من الاعتلالات النفسية، وهي مخاوف تعيد إنتاج نفسها على الدوام، بدءًا من قلق الحرّية الذي يأتي منذ الّلحظة التي نُقذَف فيها خارج أرحام أمّهاتنا، ومرورًا بقلق المعنى والخواء وقلق العزلة والوحدة وانتهاءً بالخوف الوجوديّ الأبرز قلق الموت، العُقدة التي تطاردنا حين نعي أنّنا كائنات فانية (أغوى بها إبليس آدم عليه السلام، حين وعده بالخلود والمُلك الذي لا يبلى).
والانعكاسات السلوكية للأزمات الوجودية عديدة ومثيرة، منها سلوكيات السخافة والتهريج خوفًا من العزلة وضمن رغبة عصابية لإثارة إعجاب الآخرين، وهي محاولات توسّل صارخة للآخرين بألّا يتركوك وحيدًا. ومرورًا بانحرافات جنسية عديدة كالسادية والمازوخية، كردّ فعل سلوكي على القلق العميق من الحرّية.
أخيرًا، أودّ الإشارة لمقاربة (قلق الموت) ونظرية إدارة الذعر، بوصفها واحدة من أبرز الأمور الّلافتة في سياقنا الحضاري والأمّمي، حيث دراسات متفرّقة لارتفاع مستويات (قلق الموت) لدى عيّنات المسلمين مقارنة بكثير من الحضارات الأخرى، وهو قلق لا أتناوله من منظور مَرَضي أو سريري فحسب، بل أحاول أن نظر للخطابات التي شكّلته، وللتشخيص النبويّ لعجز الأمّة في آخر الزمان، بالوَهَن. وما الوهن؟ قال ﷺ:
«حب الدنيا، وكراهية الموت»
هناك مقاربات ثقافية وحضارية هامّة، يمكن البناء عليها من هذا المنظور (ولم أتطرّق لهذه الأبعاد في هذا اللقاء) عبر 3 تشخيصات رئيسية لأي عجز أممي مُحتَمَل يضعه التصوّر النبوي في أحاديث آخر الزمان:
1. كراهية الموت (قلق الموت) ومحاولة تفاديه بشكل لاواعي وعصابي كحاصل من حواصل العلمنة
2. التعالق المَرَضي مع الحياة عبر الإخلاد والتثاقل إلى الأرض (ولكنّي أخشى أن تُبسَطَ عليكم الدّنيا فتنافسوها) كنتيجة طبيعية لنسيان اليوم الآخر.
3. فُرقة المسلمين وتشتّت أمرهم وقسوتهم على بعضهم (وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها) وهي مفارقة السؤال الخاصّ بتعريف (مَن هو المُسلِم اليوم؟) حيث لا ينفكّ المسلم من تأثيم إخوته، وحصر الخلافات الفقهية في رأي أحادي، واستعداء كل من يخالفه في طريقة عيشه وظروفه التي نشأ عليها.
من المفارقات المثيرة للاهتمام في دراسات قلق الموت، أنّ العلاقة بين التديّن وقلق الموت ليست علاقة خطية كما قد يُتوقّع (أيّ من غير الصحيح أنّه كلّما زاد تدّين المرء زاد قلق الموت لديه ولا العكس) فقد كشفت التحليلات المنهجية لأكثر من ١٠٠ دراسة عالمية (مثل دراسة جونغ وزملائه عام ٢٠١٨) أنّ العلاقة غالبًا ما تأخذ شكلًا منحنيًا على هيئة حرف U، حيث يظهر أنّ الأشخاص المتديّنين جدًا والملحدين بقناعات صارمة، هؤلاء، يُسجّلون مستويات أقل من قلق الموت، بينما يُعاني الأشخاص متوسطو التديّن أو المتذبذبون في معتقداتهم من مستويات قلق أعلى!
من شأن هذا التحليل أن يُساعدنا على الفهم، وعلى الإجابة عن السؤال القائل: لماذا قد نجد مسلمين متديّنين يعانون من قلق موت مرتفع؟
ليس لضعف إيمانهم بالضرورة، ولكنّ لتشوّهه، وتحديدًا تصوّراتهم المأزومة حول الدّين وعدم اليقين من مصيرهم النهائيّ من شدّة التلويم والإذناب، وهو أمر تكرّسه خطابات وعظية عديدة غير منضطبة أصوليًا، خلقت مسلمين متأرجحين بين يقين لا ينعكس على سلوكهم وحياتهم اليومية، وبين هواجس شخصية ونفسية لا تتطابق مع مضامين الخطاب الدّيني، للأسف. ولي عودة وتفصيل في هذا الجانب في منشورات أخرى بإذن الله.
وحتّى ذلك الحين، أرجو أن تكون مشاهدة ممتعة، وأن يكون الطرح مفيد ونافع، والله وليّ التوفيق.
https://www.youtube.com/watch?v=3WG6NC7AhlA
YouTube
سردية | فهم النفس البشرية في زمن التحولات | أ.محمود أبو عادي
#سردية | فهم النفس البشرية في زمن التحولات | أ.محمود أبو عادي
في هذه الحلقة من “سردية”، يناقش الأستاذ محمود أبو عادي، الأخصائي والباحث في علم النفس، تأثير التحولات النفسية والاجتماعية على الإنسان، من تطور نظرة الإنسان لذاته، دور الاضطرابات النفسية، وتأثير…
في هذه الحلقة من “سردية”، يناقش الأستاذ محمود أبو عادي، الأخصائي والباحث في علم النفس، تأثير التحولات النفسية والاجتماعية على الإنسان، من تطور نظرة الإنسان لذاته، دور الاضطرابات النفسية، وتأثير…
••
•| حين تجهل ما يؤلمك |•
ليس دائمًا ما يكون الخلل واضحًا، ولا التعب مسمّى، كثيرون يعيشون شعورًا باهتًا لا يُوصف: همةٌ تتناقص، روحٌ تبهت، عزيمةٌ تتآكل من الداخل، والكل يتابع الحياة كأن شيئًا لم يحدث، لكن في أعماقهم شيءٌ ما ليس على ما يرام، تجدهم أحرص ما يكونون على التقييم والمراجعة، يتحدثون عن مشاريع مؤجلة، وهمم منطفئة، وخطط قرائية لا تكتمل، وفتورٍ في الطاعة، وغيابٍ عن كتاب الله، لكنك – وأنت تستمع إليهم – تُدرك أن ثمة أمرًا ما لا يزال غائبًا، وعن شعورٍ غامض بالتّيه، لا تجد له اسماً، ولا عنوانًا، كأنّ الشكوى جاءت كاملة في ظاهرها، لكنها ناقصة في جوهرها.
وحين تسألهم: ما الخلل؟ يصمتون، لا لأنهم يخفونه، بل لأنهم يجهلونه، كأنّ هناك ثقلًا غير مرئي، أو خللًا لا يُصاغ، أو وجعًا لا تلتقطه اللغة، ذلك الألم الذي يسكن في الروح، ويعجز العقل عن وصفه ورسمه.
وهنا تكمن أزمة هذا الجيل، أننا نُجيد التعرّف على الأمراض الجسدية بسهولة: صداعٌ، إرهاقٌ، حرارة، اضطراب نوم، لكنّ الأوجاع التي تُصيب الروح، قد تبقى تئنّ طويلًا في الداخل، ونحن نظن أنها من تغير الطقس أو ضغط المهام، أو تقلب المزاج، بينما هي في حقيقتها: روحٌ جفّت من البُعد عن المصدر، وعقلٌ تاه عن قبلة الفهم، وقلبٌ لم تُسكبه آيات القرآن منذ زمن.
وهنا، يكون أول الدواء، وأصدق البدايات: أن يعود الإنسان إلى القرآن لا كقارئ، بل كمريض، أن يقرأه لا ليُتمّ وردًا، بل ليُطبّب قلبًا قد أعيته الجراح التي لا تُرى، ويُداوي كسورًا لا يعرف حتى أسماءها.
اسأل نفسك بصدق: متى كانت آخر مرة قرأت فيها القرآن بنية الاستشفاء؟ وقلت“يا رب، هذا قلبي مريض، فاشفِه.”
القرآن – يا صاحبي – لا ينتظر أن تُسمّي وجعك، هو يعرفه قبلك، ويُلامسه فيك قبل أن تُدركه، يكشف موضع الكسر، ويضع عليه بلسم الرحمة، ويأخذ بيدك من حيرة التعب، إلى يقين الطمأنينة، تلك الآيات التي مررتَ بها مئة مرة، قد تراها للمرة الأولى حين تقرأها بقلبٍ موجوع، وحينها فقط، تُشفى من أمراضٍ لم تعلم أنك كنت تشتكيها.
فالقرآن لا يُصلح ما تعرف فقط، بل يُصلح ما لا تدري أنه معطوب.
••
•| حين تجهل ما يؤلمك |•
ليس دائمًا ما يكون الخلل واضحًا، ولا التعب مسمّى، كثيرون يعيشون شعورًا باهتًا لا يُوصف: همةٌ تتناقص، روحٌ تبهت، عزيمةٌ تتآكل من الداخل، والكل يتابع الحياة كأن شيئًا لم يحدث، لكن في أعماقهم شيءٌ ما ليس على ما يرام، تجدهم أحرص ما يكونون على التقييم والمراجعة، يتحدثون عن مشاريع مؤجلة، وهمم منطفئة، وخطط قرائية لا تكتمل، وفتورٍ في الطاعة، وغيابٍ عن كتاب الله، لكنك – وأنت تستمع إليهم – تُدرك أن ثمة أمرًا ما لا يزال غائبًا، وعن شعورٍ غامض بالتّيه، لا تجد له اسماً، ولا عنوانًا، كأنّ الشكوى جاءت كاملة في ظاهرها، لكنها ناقصة في جوهرها.
وحين تسألهم: ما الخلل؟ يصمتون، لا لأنهم يخفونه، بل لأنهم يجهلونه، كأنّ هناك ثقلًا غير مرئي، أو خللًا لا يُصاغ، أو وجعًا لا تلتقطه اللغة، ذلك الألم الذي يسكن في الروح، ويعجز العقل عن وصفه ورسمه.
وهنا تكمن أزمة هذا الجيل، أننا نُجيد التعرّف على الأمراض الجسدية بسهولة: صداعٌ، إرهاقٌ، حرارة، اضطراب نوم، لكنّ الأوجاع التي تُصيب الروح، قد تبقى تئنّ طويلًا في الداخل، ونحن نظن أنها من تغير الطقس أو ضغط المهام، أو تقلب المزاج، بينما هي في حقيقتها: روحٌ جفّت من البُعد عن المصدر، وعقلٌ تاه عن قبلة الفهم، وقلبٌ لم تُسكبه آيات القرآن منذ زمن.
وهنا، يكون أول الدواء، وأصدق البدايات: أن يعود الإنسان إلى القرآن لا كقارئ، بل كمريض، أن يقرأه لا ليُتمّ وردًا، بل ليُطبّب قلبًا قد أعيته الجراح التي لا تُرى، ويُداوي كسورًا لا يعرف حتى أسماءها.
اسأل نفسك بصدق: متى كانت آخر مرة قرأت فيها القرآن بنية الاستشفاء؟ وقلت“يا رب، هذا قلبي مريض، فاشفِه.”
القرآن – يا صاحبي – لا ينتظر أن تُسمّي وجعك، هو يعرفه قبلك، ويُلامسه فيك قبل أن تُدركه، يكشف موضع الكسر، ويضع عليه بلسم الرحمة، ويأخذ بيدك من حيرة التعب، إلى يقين الطمأنينة، تلك الآيات التي مررتَ بها مئة مرة، قد تراها للمرة الأولى حين تقرأها بقلبٍ موجوع، وحينها فقط، تُشفى من أمراضٍ لم تعلم أنك كنت تشتكيها.
فالقرآن لا يُصلح ما تعرف فقط، بل يُصلح ما لا تدري أنه معطوب.
••
••
كنتُ أتأمل ظاهرة النفور من المقالات الطويلة، فخطر لي أنها ليست مجرّد ميلٍ عابرٍ أو فتورٍ مؤقت، بل هي ـ في حقيقتها ـ صورة من صور الكسل المعرفي، ومظهر من مظاهر التحوّل الإدراكي الذي طرأ على الجيل الرقمي، حيث صار التلقّي يتشكّل على هيئة “لقطة”، أو “اقتباس منتزع”، لا على “مسار علمي مترابط”.
وهذا التحوّل له ما وراءه، فليس هو مجرد خللٍ في العادة، بل اختلال في بوصلة الوعي. عقلٌ لا يصبر على مطوّلات الفكر، ولا يأنس بجريان الحجة، ولا يقوى على عبور الجسور المعرفية الطويلة، لن يستطيع بناء موقف راسخ، ولا فهم حقيقة عميقة، ولن يقدر على ممانعة شبهات الفكر ولا زخرف القول.
العلماء الربانيين، لا يُقرأ لهم من طرف الصفحة، بل تُشرع لهم الأذهان، وتُطرق لهم أبواب الفهم مرارًا وتكرارًا، فليس من الإنصاف في شيء أن تطلب غزارة الفكر في مقاس تغريدة.
ولذلك، فإن من النسك المعرفي الذي يُوصى به في هذا العصر، أن تُمرّن النفس على مجاهدة هذا الكسل، وتُروّضها على طول المكث مع الفكرة، وطول النفس في التلقي، ففي هذا المجاهدة عبودية خفية، وفي هذا التحمل بركة يُنبت الله بها فقهًا، ويجعل بها للعبد قدم صدق في طريق “العلم النافع والعمل الصالح”.
••
كنتُ أتأمل ظاهرة النفور من المقالات الطويلة، فخطر لي أنها ليست مجرّد ميلٍ عابرٍ أو فتورٍ مؤقت، بل هي ـ في حقيقتها ـ صورة من صور الكسل المعرفي، ومظهر من مظاهر التحوّل الإدراكي الذي طرأ على الجيل الرقمي، حيث صار التلقّي يتشكّل على هيئة “لقطة”، أو “اقتباس منتزع”، لا على “مسار علمي مترابط”.
وهذا التحوّل له ما وراءه، فليس هو مجرد خللٍ في العادة، بل اختلال في بوصلة الوعي. عقلٌ لا يصبر على مطوّلات الفكر، ولا يأنس بجريان الحجة، ولا يقوى على عبور الجسور المعرفية الطويلة، لن يستطيع بناء موقف راسخ، ولا فهم حقيقة عميقة، ولن يقدر على ممانعة شبهات الفكر ولا زخرف القول.
العلماء الربانيين، لا يُقرأ لهم من طرف الصفحة، بل تُشرع لهم الأذهان، وتُطرق لهم أبواب الفهم مرارًا وتكرارًا، فليس من الإنصاف في شيء أن تطلب غزارة الفكر في مقاس تغريدة.
ولذلك، فإن من النسك المعرفي الذي يُوصى به في هذا العصر، أن تُمرّن النفس على مجاهدة هذا الكسل، وتُروّضها على طول المكث مع الفكرة، وطول النفس في التلقي، ففي هذا المجاهدة عبودية خفية، وفي هذا التحمل بركة يُنبت الله بها فقهًا، ويجعل بها للعبد قدم صدق في طريق “العلم النافع والعمل الصالح”.
••
••
من سنن الدنيا أن وقع المصائب يخف إذا عمّ، وأن المشاركة في الألم تخفف من لسعته، ولهذا كانت مشاركة الناس في الوجع عزاءً غير مباشر.
إلا أن هذا القانون النفسي يُعطَّل يوم القيامة، فالظالم يومئذٍ، وإن أحاطت به جموع من الظالمين مثله، فلن يجد في هذا الاجتماع عزاء، ولا في توحّد المصير سلوى، بل يجتمع عليه حرّ العذاب، ووحشة الانفراد، إذ لا رابطة بينه وبين من حوله، ولا معنى يُشترك فيه، ولا وجدان يُتبادل.
دركة خاصة بالظلمة، تفرّدت بشدة وقعها، وغلظة وقعها، وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى الجليل بقوله: ﴿ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون﴾ [الزخرف: ٣٩].
••
من سنن الدنيا أن وقع المصائب يخف إذا عمّ، وأن المشاركة في الألم تخفف من لسعته، ولهذا كانت مشاركة الناس في الوجع عزاءً غير مباشر.
إلا أن هذا القانون النفسي يُعطَّل يوم القيامة، فالظالم يومئذٍ، وإن أحاطت به جموع من الظالمين مثله، فلن يجد في هذا الاجتماع عزاء، ولا في توحّد المصير سلوى، بل يجتمع عليه حرّ العذاب، ووحشة الانفراد، إذ لا رابطة بينه وبين من حوله، ولا معنى يُشترك فيه، ولا وجدان يُتبادل.
دركة خاصة بالظلمة، تفرّدت بشدة وقعها، وغلظة وقعها، وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى الجليل بقوله: ﴿ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون﴾ [الزخرف: ٣٩].
••
••
الآخرة في نصوص الوحي ليست مجرد "غدٍ منتظر"، بل هي "ميزان" توزن به المواقف، و"بوصلة" تعاد بها هندسة القرار.
••
الآخرة في نصوص الوحي ليست مجرد "غدٍ منتظر"، بل هي "ميزان" توزن به المواقف، و"بوصلة" تعاد بها هندسة القرار.
••
Forwarded from قناة أحمد عبد المنعم
تأتي لحظات صادمة للعقل المسلم -مثل أحداث 11 سبتمبر- تجعله يشعر بأهمية فهم الأحداث الواقعية والعالمية من حوله؛ لما يترتب عليها من تغييرات مختلفة وعلى مستويات متعددة.
ثم انتشرت بعد أحداث الربيع العربي أهمية القراءة في الكتب الفكرية والعلوم الإنسانية لمحاولة فهم الواقع الذي كان غامضا وخافيا على كثير من الشباب، وكانت الرؤى الموجودة عند أغلب الإسلاميين جزئية وسطحية، ولكن بعد سقوط الجُدر الفاصلة بين كثير من المجتمعات وانتشار وسائل التواصل= شعر كثير من الشباب بأهمية القراءة في الكتب الفكرية لفهم الواقع والعالم من حولنا، ومحاولة فهم موازين القوى وموقع الإسلام من العالم وقدرة العاملين للدين على التغيير وفرص العمل لنشر الدين وطبيعة المجتمعات وإعادة اختبار المقولات القديمة وتوزيع الخريطة الدينية وتنوعها وغير ذلك.
كانت هذه القراءة تزيد في الوعي وتزيد في الآلام في نفس الوقت؛ لأنها تبصرك بحقيقة الواقع وحجم التحديات وضعف الكوادر والأدوات.
ولكن بعد كثير من الأزمات السياسية والاقتصادية عاد الأغلب للتفكير الفردي الضيق الذي لا يرى أبعد من انشغالاته أو مجموعة عمله، وحاول أن يتناسى المعارف ويمحو الذاكرة.
ونشأ جيل لم يعاصر كثيرا من الأحداث، نشأ مشتتا مشغولا (مَدْووشا) بعروض الحياة وخلافات وسائل التواصل، ليس لديه مساحة نفسية لفهم الواقع والعالم من حوله، نعم، هو أكثر انغماسا ومعرفة بالجزئيات من الجيل السابق ولكنه أكثر تشتتا وجريا.
جاءت لحظة الطوفان وتوقف الزمان وظهر اللون الأحمر المسلم الطاهر بكثافة على كل الشاشات، وصعدت الأرواح والتكبيرات والدعوات إلى السماء، وأفاق كثير من الشباب من غفوته واستيقظ من نومته، وكنا نظنها أياما فكانت شهورا وربما سنوات.
لم يعد يحتاج الشباب إلى القراءة في الكتب الفكرية ليعلم نجاسة الحداثة، ووحشية الغرب، وتخاذل العرب، وتفرق المسلمين، وطغيان الفردانية، وضعف المصلحين، وخسة المنافقين.
لم تعد بحاجة لقراءة كتاب عن آثار الدولة الحديثة في تغير مفاهيم الولاء والبراء، وعن مظاهر تأخر المسلمين وتفرقهم، وعن أثر توظيف الدين للمصالح الشخصية، وعن غياب الأولويات عند بعض الدعاة وطلبة العلم، وعن تغير المبادئ تبعا لتغير موازين القوى، وغير ذلك.
أصبح الواقع عاريا بدمائه وخزيه وعاره.
ولكن ماذا بعد هذا الوضوح؟
(ومن الناس من يعبد الله على حرف)
من الناس من عاد إلى نومته وغفلته وانشغاله بلقمة عيشه ولم يتحمل رؤية هذه الحقائق، ومنهم من أنكرها وجحدها بعدما استيقنتها نفسه، ومنهم من أصابته الحقيقة بالإحباط واليأس فألقى سلاحه وأخلد إلى الأرض، ومنهم من تعجّل التغيير وناطح السُّنَن وجاء بأفكار ساذجة ومتهورة، ومنهم ومنهم.
فإن سألتني: وما الحل؟
أقول لك: لا أعلم، ولكن الذي أعلمه أننا ينبغي أن نموت على الطريق نرفع إحدى أيدينا بالدعاء، ونسعى بالأخرى لبذل ما نستطيعه من نشر هذا الدين، نسعى لإيقاظ الغافلين وتعليم المسلمين وتحريض المؤمنين، نسعى لرفع الوعي بالفساد المحيط بنا وبالتفاهات التي غزت بيوتنا، نسعى لجمع كلمة المسلمين وعدم التفريق بينهم وتقليل حدة الخلاف وهوة الشقاق، نسعى لبث روح الأمل والبشرى والعزة والتطلع للسماء ونزع لباس الذل والمهانة والركون إلى الأرض، نسعى لأن نزيد من أعداد أولو البقية الذين ينهون عن السوء ويجانبون أهل الظلم والترف.
افعل ما استطعت من ذلك حتى تقضي نحبك أو تعيش منتظرا غير مُبدّل ولا مُغيّر.
لا أقول أن هذا سيغير الواقع ويأتي بالتمكين الذي تحلم به، ولكنه قد ينجيك أمام ربك إذا سألك: فيم كنت؟
اللهم استعملنا فيما يرضيك وبصّرنا بما تحب.
ثم انتشرت بعد أحداث الربيع العربي أهمية القراءة في الكتب الفكرية والعلوم الإنسانية لمحاولة فهم الواقع الذي كان غامضا وخافيا على كثير من الشباب، وكانت الرؤى الموجودة عند أغلب الإسلاميين جزئية وسطحية، ولكن بعد سقوط الجُدر الفاصلة بين كثير من المجتمعات وانتشار وسائل التواصل= شعر كثير من الشباب بأهمية القراءة في الكتب الفكرية لفهم الواقع والعالم من حولنا، ومحاولة فهم موازين القوى وموقع الإسلام من العالم وقدرة العاملين للدين على التغيير وفرص العمل لنشر الدين وطبيعة المجتمعات وإعادة اختبار المقولات القديمة وتوزيع الخريطة الدينية وتنوعها وغير ذلك.
كانت هذه القراءة تزيد في الوعي وتزيد في الآلام في نفس الوقت؛ لأنها تبصرك بحقيقة الواقع وحجم التحديات وضعف الكوادر والأدوات.
ولكن بعد كثير من الأزمات السياسية والاقتصادية عاد الأغلب للتفكير الفردي الضيق الذي لا يرى أبعد من انشغالاته أو مجموعة عمله، وحاول أن يتناسى المعارف ويمحو الذاكرة.
ونشأ جيل لم يعاصر كثيرا من الأحداث، نشأ مشتتا مشغولا (مَدْووشا) بعروض الحياة وخلافات وسائل التواصل، ليس لديه مساحة نفسية لفهم الواقع والعالم من حوله، نعم، هو أكثر انغماسا ومعرفة بالجزئيات من الجيل السابق ولكنه أكثر تشتتا وجريا.
جاءت لحظة الطوفان وتوقف الزمان وظهر اللون الأحمر المسلم الطاهر بكثافة على كل الشاشات، وصعدت الأرواح والتكبيرات والدعوات إلى السماء، وأفاق كثير من الشباب من غفوته واستيقظ من نومته، وكنا نظنها أياما فكانت شهورا وربما سنوات.
لم يعد يحتاج الشباب إلى القراءة في الكتب الفكرية ليعلم نجاسة الحداثة، ووحشية الغرب، وتخاذل العرب، وتفرق المسلمين، وطغيان الفردانية، وضعف المصلحين، وخسة المنافقين.
لم تعد بحاجة لقراءة كتاب عن آثار الدولة الحديثة في تغير مفاهيم الولاء والبراء، وعن مظاهر تأخر المسلمين وتفرقهم، وعن أثر توظيف الدين للمصالح الشخصية، وعن غياب الأولويات عند بعض الدعاة وطلبة العلم، وعن تغير المبادئ تبعا لتغير موازين القوى، وغير ذلك.
أصبح الواقع عاريا بدمائه وخزيه وعاره.
ولكن ماذا بعد هذا الوضوح؟
(ومن الناس من يعبد الله على حرف)
من الناس من عاد إلى نومته وغفلته وانشغاله بلقمة عيشه ولم يتحمل رؤية هذه الحقائق، ومنهم من أنكرها وجحدها بعدما استيقنتها نفسه، ومنهم من أصابته الحقيقة بالإحباط واليأس فألقى سلاحه وأخلد إلى الأرض، ومنهم من تعجّل التغيير وناطح السُّنَن وجاء بأفكار ساذجة ومتهورة، ومنهم ومنهم.
فإن سألتني: وما الحل؟
أقول لك: لا أعلم، ولكن الذي أعلمه أننا ينبغي أن نموت على الطريق نرفع إحدى أيدينا بالدعاء، ونسعى بالأخرى لبذل ما نستطيعه من نشر هذا الدين، نسعى لإيقاظ الغافلين وتعليم المسلمين وتحريض المؤمنين، نسعى لرفع الوعي بالفساد المحيط بنا وبالتفاهات التي غزت بيوتنا، نسعى لجمع كلمة المسلمين وعدم التفريق بينهم وتقليل حدة الخلاف وهوة الشقاق، نسعى لبث روح الأمل والبشرى والعزة والتطلع للسماء ونزع لباس الذل والمهانة والركون إلى الأرض، نسعى لأن نزيد من أعداد أولو البقية الذين ينهون عن السوء ويجانبون أهل الظلم والترف.
افعل ما استطعت من ذلك حتى تقضي نحبك أو تعيش منتظرا غير مُبدّل ولا مُغيّر.
لا أقول أن هذا سيغير الواقع ويأتي بالتمكين الذي تحلم به، ولكنه قد ينجيك أمام ربك إذا سألك: فيم كنت؟
اللهم استعملنا فيما يرضيك وبصّرنا بما تحب.
••
المدخل الأول للاستقرار النفسي لا يبدأ بتغيير الخارج، بل بتسوية الداخل، وأول معالم هذه التسوية: الصدق في التوصيف، فإن تسمية الأشياء بأسمائها، وتحديد المقامات بحسب حقائقها، هو من تمام العقل وسداد الرؤية.
فكم من اضطرابٍ منشأه التزييف اللغوي، وكم من توترٍ سببه مجاملة العناوين، وكم من قلقٍ مردّه إلى تحميل الأشخاص أو الوقائع ما لا تحتمله حقائقهم.
وما لم يكن للوعي بوصلة تُعيد الأشياء إلى مواضعها، فلن يهدأ القلب، ولو زُيّن له ظاهر الحال؛ لأن النفوس تتعب من التصنّع، وتذبل في زحام الادّعاء.
فإذا صدقتَ مع نفسك، سكنت، وإذا سكنت، أُعيدت المعاني إلى نصابها، وظهرت لك الأشياء على حقيقتها، فسهل التعامل معها كما هي، لا كما تحب أن تراها.
••
المدخل الأول للاستقرار النفسي لا يبدأ بتغيير الخارج، بل بتسوية الداخل، وأول معالم هذه التسوية: الصدق في التوصيف، فإن تسمية الأشياء بأسمائها، وتحديد المقامات بحسب حقائقها، هو من تمام العقل وسداد الرؤية.
فكم من اضطرابٍ منشأه التزييف اللغوي، وكم من توترٍ سببه مجاملة العناوين، وكم من قلقٍ مردّه إلى تحميل الأشخاص أو الوقائع ما لا تحتمله حقائقهم.
وما لم يكن للوعي بوصلة تُعيد الأشياء إلى مواضعها، فلن يهدأ القلب، ولو زُيّن له ظاهر الحال؛ لأن النفوس تتعب من التصنّع، وتذبل في زحام الادّعاء.
فإذا صدقتَ مع نفسك، سكنت، وإذا سكنت، أُعيدت المعاني إلى نصابها، وظهرت لك الأشياء على حقيقتها، فسهل التعامل معها كما هي، لا كما تحب أن تراها.
••
••
•| قتل الوقت |•
عبارة تنزلق من أفواه كثيرين بسلاسة عجيبة، لكنها في حقيقتها تكشف مقدار الانفصال عن أعظم معاني العبودية: شرف الزمان، وحرمة العمر، وقداسة اللحظة، حين يستخف الإنسان بالزمن، فهو في الحقيقة لا يستخف بلحظات تمضي، بل يستهين بالفرص التي كتب الله فيها له أن يعبده، أن يتقرب، أن يتطهّر، أن يزكو، فإذا قيل تلك العبارة، فالذي يُقتل في الحقيقة ليس الوقت، بل معنى الحياة، ومفهوم الاستخلاف، وشرف الامتحان.
وهذه العبارة تنتمي إلى ثقافة فارغة، ترى الزمن مساحة ترف، لا ساحة تكليف، وتتعامل مع اليوم وكأنه فائضٌ عن الحاجة، لا آية من آيات الله، ولا فرصة معلّقة على رقبة العبد، والمؤلم أن هذه العبارة لم تعد تصدر عن غافلٍ يجهل، بل عن شابٍ مسلم، قرأ قوله تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62] ثم مرّ عليه الحديث: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع… وعن عمره فيما أفناه»، ثم يقول بعد ذلك: “أقتل الوقت”!
والمفارقة الموجعة، أن من يقتل الوقت اليوم، هو ذاته من يُمسكه في آخره بيده المرتجفة، وهو يرجو ساعةً واحدة ليُصلح ما أفسده، لكنّه لا يُستجاب.
••
•| قتل الوقت |•
عبارة تنزلق من أفواه كثيرين بسلاسة عجيبة، لكنها في حقيقتها تكشف مقدار الانفصال عن أعظم معاني العبودية: شرف الزمان، وحرمة العمر، وقداسة اللحظة، حين يستخف الإنسان بالزمن، فهو في الحقيقة لا يستخف بلحظات تمضي، بل يستهين بالفرص التي كتب الله فيها له أن يعبده، أن يتقرب، أن يتطهّر، أن يزكو، فإذا قيل تلك العبارة، فالذي يُقتل في الحقيقة ليس الوقت، بل معنى الحياة، ومفهوم الاستخلاف، وشرف الامتحان.
وهذه العبارة تنتمي إلى ثقافة فارغة، ترى الزمن مساحة ترف، لا ساحة تكليف، وتتعامل مع اليوم وكأنه فائضٌ عن الحاجة، لا آية من آيات الله، ولا فرصة معلّقة على رقبة العبد، والمؤلم أن هذه العبارة لم تعد تصدر عن غافلٍ يجهل، بل عن شابٍ مسلم، قرأ قوله تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62] ثم مرّ عليه الحديث: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع… وعن عمره فيما أفناه»، ثم يقول بعد ذلك: “أقتل الوقت”!
والمفارقة الموجعة، أن من يقتل الوقت اليوم، هو ذاته من يُمسكه في آخره بيده المرتجفة، وهو يرجو ساعةً واحدة ليُصلح ما أفسده، لكنّه لا يُستجاب.
••
..
ولا نقطع الأمل في الله في أن يروي حياتنا إيماناً تتضلع منه، ولا نفقد الأمل في الله في أن يخلق التفاؤل في نفسٍ سقطت عميقًا تحت أنقاض اليأس، ولا نقطع الأمل في الله في أن يكتب الإفاقة على من نسي نفسه ونسي من حوله، ولا نقطع الأمل في الله في أن يجعل الحياة تدب في صدر أطبق عليه الكسل والفتور، ولا نبتر الأمل في الله في أن يحرِّر مَن أحاطت به مصاعب الدنيا بأذرع كأذرع الأخطبوط، ولا نقطع الأمل في الله أن ينصر إخواننا في غزة ولو بعد حين.
..
ولا نقطع الأمل في الله في أن يروي حياتنا إيماناً تتضلع منه، ولا نفقد الأمل في الله في أن يخلق التفاؤل في نفسٍ سقطت عميقًا تحت أنقاض اليأس، ولا نقطع الأمل في الله في أن يكتب الإفاقة على من نسي نفسه ونسي من حوله، ولا نقطع الأمل في الله في أن يجعل الحياة تدب في صدر أطبق عليه الكسل والفتور، ولا نبتر الأمل في الله في أن يحرِّر مَن أحاطت به مصاعب الدنيا بأذرع كأذرع الأخطبوط، ولا نقطع الأمل في الله أن ينصر إخواننا في غزة ولو بعد حين.
..
••
من أخصّ حقوق الأخوّة في الله، أن لا يُترك المؤمن وحده في زمن الكربة، ولا يُنسى عند انقباض الحال، فإن لحظات الضيق ليست موضعًا للعِتاب، ولا لمُساءلة الوفاء، بل هي ميدان صدق المحبّة، وموضع وزن الأخلاق، ومرآة الإيمان الخفيّ.
فحين قال الشافعي – وهو الإمام الذي قعدت له الدنيا بأسرها – لتلميذه يونس بن عبد الأعلى: “لا تغفل عنّي، فإني مكروب”، فإنه لم يكن يستجلب دعاءً فحسب، بل يُرشد الأمة إلى أن المكروب لا يبتغي من أخيه أكثر من الحضور الصادق، والدعاء الخفي، والمواساة الرفيقة.
و المكروب لا يطلب من أخيه أكثر من أن يشعر به، ويدعو له، ويكون عنده حضور القلب قبل حضور الجسد، وهذا ما يغيب كثيرًا في العلاقات التي أُديرت بعقل المصلحة لا بنور الإيمان، ومن لم يُمارس أخوّته في زمن الكرب، فلا تُعَوِّل على حفاوته في زمن الانفراج.
••
من أخصّ حقوق الأخوّة في الله، أن لا يُترك المؤمن وحده في زمن الكربة، ولا يُنسى عند انقباض الحال، فإن لحظات الضيق ليست موضعًا للعِتاب، ولا لمُساءلة الوفاء، بل هي ميدان صدق المحبّة، وموضع وزن الأخلاق، ومرآة الإيمان الخفيّ.
فحين قال الشافعي – وهو الإمام الذي قعدت له الدنيا بأسرها – لتلميذه يونس بن عبد الأعلى: “لا تغفل عنّي، فإني مكروب”، فإنه لم يكن يستجلب دعاءً فحسب، بل يُرشد الأمة إلى أن المكروب لا يبتغي من أخيه أكثر من الحضور الصادق، والدعاء الخفي، والمواساة الرفيقة.
و المكروب لا يطلب من أخيه أكثر من أن يشعر به، ويدعو له، ويكون عنده حضور القلب قبل حضور الجسد، وهذا ما يغيب كثيرًا في العلاقات التي أُديرت بعقل المصلحة لا بنور الإيمان، ومن لم يُمارس أخوّته في زمن الكرب، فلا تُعَوِّل على حفاوته في زمن الانفراج.
••
Forwarded from منصت
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
من معين أنباء المرسلين
القصص الحق مع الشيخ فهد الجريوي
قريباً 🤩
القصص الحق مع الشيخ فهد الجريوي
قريباً 🤩
••
•| نزيف الانشغال بالغير |•
لو أن النفس كُفَّت عن التلهّي بعثرات غيرها، وأقبلت على عيوبها في صدقٍ ومناجاة، تتبصّر مواطن الخلل، وتستخرج ما ران على القلب من غفلة، لما بقي في الصدر متّسعٌ للغمز، ولا في العقل مسارب للظنون، ولصفَت الروح من شوائب الفضول، وانصرف الفكر لما ينفع، وسكنت الجوارح عن محاربة الأشباح المتوهَّمة في الناس.
فإن أعظم ما يُنهك النفس أن تتلبّس بغير شأنها، وأن تهجر ورشة البناء الداخلي لتقيمَ عيادةً في ضمير الآخرين، تُشخّص وتُحلّل وتُعلّق، بينما الأعطاب تزداد في الجوف، والصمت عن الذات يعلو، وأعظم ما يستنزف القلب ليس كثرة الشكايات من الخارج، بل الغفلة الطويلة عن الداخل، تلك الغفلة التي تدفع المرء إلى مراقبة كل شيء إلا نفسه، إلى تفتيش النوايا في الخلق، وهو لم يُمحّص نيّته بين يدي خالقه.
فما أكثر ما يُهدر من العمر تحت ستار “الاهتمام”، وما أكثر ما يُلبَّس من هوى في صورة “حرص” أو “نقد بناء”، بينما هو – في جوهره – تهرّبٌ خفيّ من مسؤولية إصلاح النفس، وتطهير القلب، وحراسة الباطن.
ولو أن القلوب انشغلت بعيوبها كما تنشغل بأخبار غيرها، لارتفع عنها حجاب الغفلة، وسكنت زوابع الهوى، وخفّت وطأة المقارنة، وزكا فيها نور الصدق، ورجعت إلى ربها تائبةً من جناية الانشغال بما لا يعني.
ولو أن الإنسان إذا رأى الزلل، عاد ببصره إلى عجزه، وإذا لمح التقصير، تذكّر تفريطه، وإذا سمع السوء، انشغل بالدعاء لا بالإذاعة، لاندفعت عنه غوائل التكلّف، ولحُجب عنه سمُّ الكِبر المقنّع بثوب الإصلاح.
ولو أن امرأً كفَّ لسانه عن تتبّع زلّات الآخرين، وصرف همّه عن تفتيش النوايا، وعكف على عيوب نفسه يرُمّ ثقوبها، ووجّه بصره إلى فوضاه الداخلية ليهذبها، واشتغل بضعفه ليقوّمه، لانقشع عن روحه غبار الحسد، وانطفأت نيران المقارنة، وسَلم الناس من أذاه، وسَلِم هو من شتات القلب.
فما أكثر ما يُهدر من الأعمار في ملاحقة سراب الفضول، وتفتيت العقل في شؤون لا تعنيه، ثم يشكو صاحبها ضيق الصدر، ووحشة الروح، وثقل الحياة؛ وما هو إلا صدى انشغالٍ بما ليس له، وغفلةٍ عمّا خُلق له.
وما ضرّ أحدٌ نفسه بمثل اشتغاله بغيره، وما نفعها بمثل صدقه معها.
••
•| نزيف الانشغال بالغير |•
لو أن النفس كُفَّت عن التلهّي بعثرات غيرها، وأقبلت على عيوبها في صدقٍ ومناجاة، تتبصّر مواطن الخلل، وتستخرج ما ران على القلب من غفلة، لما بقي في الصدر متّسعٌ للغمز، ولا في العقل مسارب للظنون، ولصفَت الروح من شوائب الفضول، وانصرف الفكر لما ينفع، وسكنت الجوارح عن محاربة الأشباح المتوهَّمة في الناس.
فإن أعظم ما يُنهك النفس أن تتلبّس بغير شأنها، وأن تهجر ورشة البناء الداخلي لتقيمَ عيادةً في ضمير الآخرين، تُشخّص وتُحلّل وتُعلّق، بينما الأعطاب تزداد في الجوف، والصمت عن الذات يعلو، وأعظم ما يستنزف القلب ليس كثرة الشكايات من الخارج، بل الغفلة الطويلة عن الداخل، تلك الغفلة التي تدفع المرء إلى مراقبة كل شيء إلا نفسه، إلى تفتيش النوايا في الخلق، وهو لم يُمحّص نيّته بين يدي خالقه.
فما أكثر ما يُهدر من العمر تحت ستار “الاهتمام”، وما أكثر ما يُلبَّس من هوى في صورة “حرص” أو “نقد بناء”، بينما هو – في جوهره – تهرّبٌ خفيّ من مسؤولية إصلاح النفس، وتطهير القلب، وحراسة الباطن.
ولو أن القلوب انشغلت بعيوبها كما تنشغل بأخبار غيرها، لارتفع عنها حجاب الغفلة، وسكنت زوابع الهوى، وخفّت وطأة المقارنة، وزكا فيها نور الصدق، ورجعت إلى ربها تائبةً من جناية الانشغال بما لا يعني.
ولو أن الإنسان إذا رأى الزلل، عاد ببصره إلى عجزه، وإذا لمح التقصير، تذكّر تفريطه، وإذا سمع السوء، انشغل بالدعاء لا بالإذاعة، لاندفعت عنه غوائل التكلّف، ولحُجب عنه سمُّ الكِبر المقنّع بثوب الإصلاح.
ولو أن امرأً كفَّ لسانه عن تتبّع زلّات الآخرين، وصرف همّه عن تفتيش النوايا، وعكف على عيوب نفسه يرُمّ ثقوبها، ووجّه بصره إلى فوضاه الداخلية ليهذبها، واشتغل بضعفه ليقوّمه، لانقشع عن روحه غبار الحسد، وانطفأت نيران المقارنة، وسَلم الناس من أذاه، وسَلِم هو من شتات القلب.
فما أكثر ما يُهدر من الأعمار في ملاحقة سراب الفضول، وتفتيت العقل في شؤون لا تعنيه، ثم يشكو صاحبها ضيق الصدر، ووحشة الروح، وثقل الحياة؛ وما هو إلا صدى انشغالٍ بما ليس له، وغفلةٍ عمّا خُلق له.
وما ضرّ أحدٌ نفسه بمثل اشتغاله بغيره، وما نفعها بمثل صدقه معها.
••
••
لو أن المرء في دوائر القرب، في بيته، وبين أصحابه، جعل لجميل الفعل صدى، ولحُسن الخلق موضع إشادة، كما يحرص على تعقّب الزلل والتنبيه على الخطأ، لأثمرت علاقاته ألفةً ثابتة، وبقيت النفوس قريبة من نور الطمأنينة، فكما أن البستان لا يثمر إن غاب عنه ضوء الشمس، كذلك القلوب لا تزهر إن لم تتعرض لدفء الكلمة الطيبة، فإنها كالغيث على تربة عطشى، تُحيي فيها ما كاد أن ييبس، وتُزهر فيها أخلاقًا طمرها الإهمال.
والناس، في جوهرهم، أقرب إلى النخيل: يحتاجون التلقّف بلين، والدعم بلطافة، والاعتراف بثمرهم قبل أن يُطلب منهم مزيد النضج، ولو عقل الناس أن النفوس تُروى بالثناء كما تُهذّب بالنقد، وأن الكلمة الطيبة تسبق في الأثر عشر كلماتٍ من اللوم، لعرفوا أن بناء الإنسان لا يتمّ بإصلاحه فحسب، بل بتثبيت الخير فيه وتكبيره.
••
لو أن المرء في دوائر القرب، في بيته، وبين أصحابه، جعل لجميل الفعل صدى، ولحُسن الخلق موضع إشادة، كما يحرص على تعقّب الزلل والتنبيه على الخطأ، لأثمرت علاقاته ألفةً ثابتة، وبقيت النفوس قريبة من نور الطمأنينة، فكما أن البستان لا يثمر إن غاب عنه ضوء الشمس، كذلك القلوب لا تزهر إن لم تتعرض لدفء الكلمة الطيبة، فإنها كالغيث على تربة عطشى، تُحيي فيها ما كاد أن ييبس، وتُزهر فيها أخلاقًا طمرها الإهمال.
والناس، في جوهرهم، أقرب إلى النخيل: يحتاجون التلقّف بلين، والدعم بلطافة، والاعتراف بثمرهم قبل أن يُطلب منهم مزيد النضج، ولو عقل الناس أن النفوس تُروى بالثناء كما تُهذّب بالنقد، وأن الكلمة الطيبة تسبق في الأثر عشر كلماتٍ من اللوم، لعرفوا أن بناء الإنسان لا يتمّ بإصلاحه فحسب، بل بتثبيت الخير فيه وتكبيره.
••