Forwarded from عبدالله الوهيبي
«حَرِيٌّ بك أن تستكثر من مفردات اللغة وألفاظها، فإن من الأفكار ما لا يدركه العقل إلا بوجود اللفظ الدالّ عليه. وقد قيل: «ما يكون للإنسان من فكرة إلا على قدر ما استقر في ذهنه من ألفاظ!»؛ فكلما ازدادت حصيلتك اللغوية؛ قوي عقلك على نحت الأفكار وصوغها».
في مثل هذه الليلة، يتقدّم الجمعة بخطاه الهادئة، كموعدٍ للروح مع الرحمة.
ولمن أراد أن يأنس بجمال المعنى في صحبة الحرف، فليجعل بين يديه كتاب كثبان المسك، للشيخ فايز الزهراني، ففيه من رائحة الجمعة ما يُبهج القلب ويسكن الخاطر.
ولمن أراد أن يأنس بجمال المعنى في صحبة الحرف، فليجعل بين يديه كتاب كثبان المسك، للشيخ فايز الزهراني، ففيه من رائحة الجمعة ما يُبهج القلب ويسكن الخاطر.
Forwarded from قناة فايز الزهراني
كثبان المسك_فايز الزهراني.pdf
1.6 MB
الحمد لله، صدر كتابي:
« كثبان المسك »
فضل يوم الجمعة وبرنامج المسلم فيه
وقد أتحته للنشر الإلكتروني PDF ، راجياً المولى الكريم أن ينفع به الكاتب والقارئ.
وبإذن الله سيكون قريباً في المكتبات والمعارض.
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
••
|• معاقل الوحي |•
كنتُ أقلب نظري في مشهد هذا الزمن المتسارع، وأتأمل ذاتي في خلوة السكون، فجرى على خاطري سؤالٌ قديمٌ جديد: كيف تُبنى الأمم؟ سؤالٌ ما أزال أعود إليه كلما اختلطت عليّ الأصوات، واضطربت المعايير.
فوجدتني أُحدث نفسي: إنّ كل أمة لا تُبنى على مشاريعها الظاهرة ولا على موازناتها الصاخبة، بل على ما تُغرس في وجدان ناشئتها من المعاني الأولى، والمفاهيم المؤسسة، والموازين الفطرية.
فإن غُرست فيهم لغة السوق، تشكّلت نفوسهم على مقادير الأرباح والخسائر، وإن سُقوا الترفيه، ترسّخت فيهم هشاشةُ اللهو، وإن نُفث في أرواحهم من الوحي، استقامت الوجهة، وتعلّقت القلوب بالسماء، وصار للقرآن في حياتهم مقام المرجع والبوصلة.
ثم نظرتُ إلى طوفان المشاريع الإعلامية، وحراك المبادرات الجماهيرية، فإذا هي تُدهش العين في لحظتها، ثم لا تلبث بعضها أن تخفت وتغيب، أما الذي يمكث، فهو ذاك العمل البعيد عن الأضواء، البعيد عن لافتات التسويق، القريب من أصل الإنسان.
هو ذاك المجلس القرآني الصغير في مسجدٍ هادئ، حيث يُتلى القرآن لا لأجل المسابقة، بل لتتشرّب به النفس وتستقيم به الحياة، هو عملٌ لا تفتنه الشهرة، ولا يُغريه التصفيق، لأنه ببساطة: لا ينتمي لهذه الأرض، بل يتصل بالسماء.
حلقات القرآن في القرى والمدن ليست مشروعات تعليمية فحسب، بل هي مواطن إحياء، تُعيد للناس صلتهم بخالقهم، وتُعيد تشكيل الوعي على معيار الوحي، لا على موجات الرأي العام، من هذه الحلقات تخرج الفطرةُ من ركامها، وتُسقى الأرواح التي أرهقها الضجيج، وتُبنى الهوية من جذورها، لا من قشور الانفعال.
حين تنعقد حلقة في مسجد صغير بأطراف قرية، أو في زاوية مدرسة، قد لا يُحدث ذلك ضجيجًا في الواقع الظاهر، لكنك إن تأملتَ آثارها بعد سنوات، رأيتَ رجولةً تُبنى، وبصائر تُشحذ، وقلوبًا تتشكل على موازين الوحي، لا على هوى الواقع.
تأمل هذا الأثر البعيد في ضوء كلمةٍ جامعة قالها الإمام مالك:“فُتحت المدينة بالقرآن، يعني: أنَّ أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن.” [تفسير ابن رجب الحنبلي: ١ / ٩٠]
ليس الحديث هنا عن مدينةٍ جغرافية فحسب، بل عن مدينة القلب، قلب الطفل الذي يبدأ الانتماء فيه من أول “ألف لام ميم”، قلب الشاب الذي لم تحصّنه أطروحات الحداثة، فحصّنه القرآن، قلب الفتاة التي لم تُقنعها الشعارات النسوية، لكن أبكتها آية.
المعلم في حلقة القرآن لا يُدرّس فقط، بل يُعيد تشكيل الإدراك، ويغرس مفاهيم الولاء، ويُعيد تعريف النصر، ويزرع في النفوس أن العاقبة للمتقين، معلّمو القرآن ومعلماته لا يعملون على نص جامد، بل يحيون النفوس بما أحيا الله به القلوب، هم يبنون الجدار الأعمق في معركة الهوية، يصنعون الوعي الذي لا يُغيّره الرأي العام، ويُقيمون سوق الآخرة في زمنٍ طغى فيه سوق الشهرة والهوى.
أما أولئك الذين ظنوا أن الحلقات تكرارٌ لما حُفِظ، أو تقليدٌ لما سبق، فقد غفلوا عن أن هذه الحلقات هي من أعظم مشروع لبناء الأمة، منها يخرج جيل يعرف من أين يبدأ، وإلى أين يتجه، وبماذا يرتبط.
فيا من رزقك الله مكانًا في تعليم كتابه، لا تظن أن دورك صغير، كل آية تُرسخ في قلب صغير، هي لبنة في بناء أمة، وكل حرفٍ يتعلمه تلميذك، قد يكون فارقًا يوم تُرفع الموازين، ويا من مررت على مسجد فيه حلقة قرآن، فلا تنظر إليه كأنه هامش في مشهد المدينة، ولربما كانت الهوامش في أعيينا هي مراكز التغيير الحقيقة.
وفي زمان الفوضى، كل بيتٍ يُخرّج حافظًا، وكل مسجد يُقيم حلقة، هو جدار صدّ في معركة الهوية الكبرى.
اللهم يا مؤنسَ أهل القرآن، ومُوقِدَ أنوار القلوب بكلامك، اجعل لمعلّمي كتابك نصيبًا من جلالك، وذخرًا من كرمك، وأثرًا لا يندثر في صدور العباد، وارفعهم مقاماتٍ لا تبلغها الألسن، بما علّموا من حروفك، وبما غرسوا من هُداك، فإنهم عمّار مساجدك، وسُقاة رياضك، وأمناءُ نورك في الأرض.
••
|• معاقل الوحي |•
كنتُ أقلب نظري في مشهد هذا الزمن المتسارع، وأتأمل ذاتي في خلوة السكون، فجرى على خاطري سؤالٌ قديمٌ جديد: كيف تُبنى الأمم؟ سؤالٌ ما أزال أعود إليه كلما اختلطت عليّ الأصوات، واضطربت المعايير.
فوجدتني أُحدث نفسي: إنّ كل أمة لا تُبنى على مشاريعها الظاهرة ولا على موازناتها الصاخبة، بل على ما تُغرس في وجدان ناشئتها من المعاني الأولى، والمفاهيم المؤسسة، والموازين الفطرية.
فإن غُرست فيهم لغة السوق، تشكّلت نفوسهم على مقادير الأرباح والخسائر، وإن سُقوا الترفيه، ترسّخت فيهم هشاشةُ اللهو، وإن نُفث في أرواحهم من الوحي، استقامت الوجهة، وتعلّقت القلوب بالسماء، وصار للقرآن في حياتهم مقام المرجع والبوصلة.
ثم نظرتُ إلى طوفان المشاريع الإعلامية، وحراك المبادرات الجماهيرية، فإذا هي تُدهش العين في لحظتها، ثم لا تلبث بعضها أن تخفت وتغيب، أما الذي يمكث، فهو ذاك العمل البعيد عن الأضواء، البعيد عن لافتات التسويق، القريب من أصل الإنسان.
هو ذاك المجلس القرآني الصغير في مسجدٍ هادئ، حيث يُتلى القرآن لا لأجل المسابقة، بل لتتشرّب به النفس وتستقيم به الحياة، هو عملٌ لا تفتنه الشهرة، ولا يُغريه التصفيق، لأنه ببساطة: لا ينتمي لهذه الأرض، بل يتصل بالسماء.
حلقات القرآن في القرى والمدن ليست مشروعات تعليمية فحسب، بل هي مواطن إحياء، تُعيد للناس صلتهم بخالقهم، وتُعيد تشكيل الوعي على معيار الوحي، لا على موجات الرأي العام، من هذه الحلقات تخرج الفطرةُ من ركامها، وتُسقى الأرواح التي أرهقها الضجيج، وتُبنى الهوية من جذورها، لا من قشور الانفعال.
حين تنعقد حلقة في مسجد صغير بأطراف قرية، أو في زاوية مدرسة، قد لا يُحدث ذلك ضجيجًا في الواقع الظاهر، لكنك إن تأملتَ آثارها بعد سنوات، رأيتَ رجولةً تُبنى، وبصائر تُشحذ، وقلوبًا تتشكل على موازين الوحي، لا على هوى الواقع.
تأمل هذا الأثر البعيد في ضوء كلمةٍ جامعة قالها الإمام مالك:“فُتحت المدينة بالقرآن، يعني: أنَّ أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن.” [تفسير ابن رجب الحنبلي: ١ / ٩٠]
ليس الحديث هنا عن مدينةٍ جغرافية فحسب، بل عن مدينة القلب، قلب الطفل الذي يبدأ الانتماء فيه من أول “ألف لام ميم”، قلب الشاب الذي لم تحصّنه أطروحات الحداثة، فحصّنه القرآن، قلب الفتاة التي لم تُقنعها الشعارات النسوية، لكن أبكتها آية.
المعلم في حلقة القرآن لا يُدرّس فقط، بل يُعيد تشكيل الإدراك، ويغرس مفاهيم الولاء، ويُعيد تعريف النصر، ويزرع في النفوس أن العاقبة للمتقين، معلّمو القرآن ومعلماته لا يعملون على نص جامد، بل يحيون النفوس بما أحيا الله به القلوب، هم يبنون الجدار الأعمق في معركة الهوية، يصنعون الوعي الذي لا يُغيّره الرأي العام، ويُقيمون سوق الآخرة في زمنٍ طغى فيه سوق الشهرة والهوى.
أما أولئك الذين ظنوا أن الحلقات تكرارٌ لما حُفِظ، أو تقليدٌ لما سبق، فقد غفلوا عن أن هذه الحلقات هي من أعظم مشروع لبناء الأمة، منها يخرج جيل يعرف من أين يبدأ، وإلى أين يتجه، وبماذا يرتبط.
فيا من رزقك الله مكانًا في تعليم كتابه، لا تظن أن دورك صغير، كل آية تُرسخ في قلب صغير، هي لبنة في بناء أمة، وكل حرفٍ يتعلمه تلميذك، قد يكون فارقًا يوم تُرفع الموازين، ويا من مررت على مسجد فيه حلقة قرآن، فلا تنظر إليه كأنه هامش في مشهد المدينة، ولربما كانت الهوامش في أعيينا هي مراكز التغيير الحقيقة.
وفي زمان الفوضى، كل بيتٍ يُخرّج حافظًا، وكل مسجد يُقيم حلقة، هو جدار صدّ في معركة الهوية الكبرى.
اللهم يا مؤنسَ أهل القرآن، ومُوقِدَ أنوار القلوب بكلامك، اجعل لمعلّمي كتابك نصيبًا من جلالك، وذخرًا من كرمك، وأثرًا لا يندثر في صدور العباد، وارفعهم مقاماتٍ لا تبلغها الألسن، بما علّموا من حروفك، وبما غرسوا من هُداك، فإنهم عمّار مساجدك، وسُقاة رياضك، وأمناءُ نورك في الأرض.
••
••
من السهل أن ترى المرء منهمكًا في حركة لا تهدأ، يدرس ويعمل، ينتج ويشارك، ولكنه بين كل تلك الحركة لا يذوق طمأنينة واحدة، لأن الحركة التي لا تتصل بالله، لا تهدئ القلب، وإن أثارت الإعجاب.
••
من السهل أن ترى المرء منهمكًا في حركة لا تهدأ، يدرس ويعمل، ينتج ويشارك، ولكنه بين كل تلك الحركة لا يذوق طمأنينة واحدة، لأن الحركة التي لا تتصل بالله، لا تهدئ القلب، وإن أثارت الإعجاب.
••
••
النفس حين لا تجد تعريفها من داخلها، تبدأ في استيراد المعنى من الخارج، وكلما بَعُد التعريف عن خالق النفس، ازداد التيه، واشتدّ الظمأ.
••
النفس حين لا تجد تعريفها من داخلها، تبدأ في استيراد المعنى من الخارج، وكلما بَعُد التعريف عن خالق النفس، ازداد التيه، واشتدّ الظمأ.
••
••
التوكل | مدرسة النجاة
في هذا المساء الذي ينام على أطراف عاشوراء، لا يعود الزمان إلى الوراء ليسرد الحكاية، بل يتقدّم بنا إلى الأمام ليعيد ترتيب الإدراك، هذه ليست مجرد ذكرى نصر، بل لحظة وعي تربوي يُبنى بها الإيمان من داخله، لا من أطرافه، ويُصاغ فيها معنى التوكّل لا كفكرة وعظية، بل كقوة داخلية تقلب معادلات الحياة، ففي الطريق إلى البحر، لم يكن موسى عليه السلام مسلّحًا بالحسابات، بل بيقين يفتح البحر، ويوقف الماء، موسى عليه السلام لم ينتظر تغيّر الواقع، بل تقدّم بثقةٍ أعمق من الظرف، وأصفى من التفسير، فقال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فكان البحر في خدمة التوجّه، لا في طاعة العُرف.
ولم يكن البحر هو المعجزة، بل اليقين الذي تقدّم نحو الموج دون خارطةٍ ولا جسر، في منطق الوحي، البحر ليس عائقًا، بل اختبار توكّل، والتقدّم ليس مخاطرة، بل طاعة تُفتح بها المغاليق، موسى عليه السلام لم يكن يُدير أزمة، بل يُقدّم عبوديةً خالصة أمام الله، فجعل الله له من بين يديه ممرًا، ومن خلفه غرقًا للطغيان.
الله لا يصنع النجاة عبر الطرق الآمنة، بل يخلقها من قلب الخوف، ومن فم البحر، ومن بين جدران المستحيل، فكل عاشوراء تمرّ، تُعيد للمؤمن السؤال: ما الذي يفتح البحر في حياتك؟ وأين موقع الطاعة في جغرافيا انتظارك؟
••
التوكل | مدرسة النجاة
في هذا المساء الذي ينام على أطراف عاشوراء، لا يعود الزمان إلى الوراء ليسرد الحكاية، بل يتقدّم بنا إلى الأمام ليعيد ترتيب الإدراك، هذه ليست مجرد ذكرى نصر، بل لحظة وعي تربوي يُبنى بها الإيمان من داخله، لا من أطرافه، ويُصاغ فيها معنى التوكّل لا كفكرة وعظية، بل كقوة داخلية تقلب معادلات الحياة، ففي الطريق إلى البحر، لم يكن موسى عليه السلام مسلّحًا بالحسابات، بل بيقين يفتح البحر، ويوقف الماء، موسى عليه السلام لم ينتظر تغيّر الواقع، بل تقدّم بثقةٍ أعمق من الظرف، وأصفى من التفسير، فقال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فكان البحر في خدمة التوجّه، لا في طاعة العُرف.
ولم يكن البحر هو المعجزة، بل اليقين الذي تقدّم نحو الموج دون خارطةٍ ولا جسر، في منطق الوحي، البحر ليس عائقًا، بل اختبار توكّل، والتقدّم ليس مخاطرة، بل طاعة تُفتح بها المغاليق، موسى عليه السلام لم يكن يُدير أزمة، بل يُقدّم عبوديةً خالصة أمام الله، فجعل الله له من بين يديه ممرًا، ومن خلفه غرقًا للطغيان.
الله لا يصنع النجاة عبر الطرق الآمنة، بل يخلقها من قلب الخوف، ومن فم البحر، ومن بين جدران المستحيل، فكل عاشوراء تمرّ، تُعيد للمؤمن السؤال: ما الذي يفتح البحر في حياتك؟ وأين موقع الطاعة في جغرافيا انتظارك؟
••
••
•| قبل أن تقول |•
حين يتربى القلب على مهابة الوحي، لا يُسرع إلى القول في دين الله، ولا يتسابق إلى منصة الفتيا، بل يتلبّس صاحبه بشعورٍ داخلي عميق: أن الكلمة في الدين ليست حروفًا تُنسج، بل شهادة تُكتب، وأن النطق في مسائل الشرع مقامٌ يتقدّمه طهور الباطن، ويصحبه صدق الوجهة، ويتبعه ميزان التقوى.
فالعقلاء لا يتقدّمون إلى مواطن الفتيا بمحض الفصاحة أو اتساع المدارك، بل يبحثون عن السكينة التي تُرافق أهل الصلاح، وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله– حين سُئل عمّن يُسأل بعده، قال: “سل عبدالوهاب بن عبد الحكم”، فقيل له: إنه ليس واسع العلم، فقال: “إنه رجل صالح، مثله يُوفّق لإصابة الحق”. فإصابة الصواب ليست بنت القراءة وحدها، بل ثمرة استقامةٍ تُستنزل بها التوفيقات.
والرؤية القرآنية في هذا المقام أن صلاح الباطن وتقوى السرائر هي التي تُورِث التوفيق في النطق بالحق، لا مجرد غزارة العلم أو براعة الجواب، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]. فالفقه – في حقيقته – ثمرة للورع، والتعليم من الله جزاء للتقوى، لا ذكاء يُدرك بالاجتهاد وحده.
والعبد أعرف الناس بنفسه، فإن علم منها خيانة خفية، أو ضعف يقين، أو انصراف قلب عن الله، فليُدرك أنه ليس في موضع يؤهّله لقولٍ يُبنى عليه دين، أو لرأيٍ تُستفتح به القلوب، فليعظّم مقام الكلام في الشرع، وليستكثر من الدعاء والخوف والسكوت، فإن سكوت المتردّد عبادة، وصمت الخائف من زلل نفسه فقه.
••
•| قبل أن تقول |•
حين يتربى القلب على مهابة الوحي، لا يُسرع إلى القول في دين الله، ولا يتسابق إلى منصة الفتيا، بل يتلبّس صاحبه بشعورٍ داخلي عميق: أن الكلمة في الدين ليست حروفًا تُنسج، بل شهادة تُكتب، وأن النطق في مسائل الشرع مقامٌ يتقدّمه طهور الباطن، ويصحبه صدق الوجهة، ويتبعه ميزان التقوى.
فالعقلاء لا يتقدّمون إلى مواطن الفتيا بمحض الفصاحة أو اتساع المدارك، بل يبحثون عن السكينة التي تُرافق أهل الصلاح، وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله– حين سُئل عمّن يُسأل بعده، قال: “سل عبدالوهاب بن عبد الحكم”، فقيل له: إنه ليس واسع العلم، فقال: “إنه رجل صالح، مثله يُوفّق لإصابة الحق”. فإصابة الصواب ليست بنت القراءة وحدها، بل ثمرة استقامةٍ تُستنزل بها التوفيقات.
والرؤية القرآنية في هذا المقام أن صلاح الباطن وتقوى السرائر هي التي تُورِث التوفيق في النطق بالحق، لا مجرد غزارة العلم أو براعة الجواب، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]. فالفقه – في حقيقته – ثمرة للورع، والتعليم من الله جزاء للتقوى، لا ذكاء يُدرك بالاجتهاد وحده.
والعبد أعرف الناس بنفسه، فإن علم منها خيانة خفية، أو ضعف يقين، أو انصراف قلب عن الله، فليُدرك أنه ليس في موضع يؤهّله لقولٍ يُبنى عليه دين، أو لرأيٍ تُستفتح به القلوب، فليعظّم مقام الكلام في الشرع، وليستكثر من الدعاء والخوف والسكوت، فإن سكوت المتردّد عبادة، وصمت الخائف من زلل نفسه فقه.
••
••
•| سدرة الكمـــال |•
في نفس الإنسان توق للنقاء، لا كصفة، بل كشرطٍ للوجود؛ فيشترط على نفسه أن لا ينفع إلا إذا اكتمل، ولا يُعلّم إلا إذا زكّى كلّ خُلقه، ولا يظهر إلا إذا طهرت نيّته كطهارة الملائكة، يريد أن يدخل مضمار الحياة بلا عثرة، ويعظ الناس بلا هوى، ويُصلح غيره وقد كفّ عن لوم نفسه، فإن أحسّ بانكسار خفي، أو ضعف دفين، آثر الصمتَ الطويل، والانسحاب العميق، حتى يُصلح ما بدا له أنه الخلل الذي يُبطل أهليّته.
وهذه المثالية المُلجمة، تُعيدُ إنتاج العجز في صورة زهد، والتردد في صورة ورع، والانكفاء في هيئة خشية، فيغدو المرء حبيس شرط لم يُطلب منه، ويظل يفتّش عن كمالٍ لم يُكلّف ببلوغه، بينما يمرّ الوقت ويذبل الأثر، وهو ما يزال يُرتّب نيّته في العزلة، ويُنقّب عن شوائبه في المرايا المغلقة، وكأن الفضل لا يَثبت إلا بعد بلوغ سدرة الكمال.
وهذا النزوع – رغم صفائه في ظاهره – يُنتج صنفًا من العجز المُقنّع، إذ يجعل المرء ينتظر تهيؤ جميع الشروط قبل أن يبادر، وينتظر تصفية داخله من كل شائبة قبل أن يخطو خطوة واحدة في النفع أو الدعوة أو الإصلاح، فلا هو اتّقى على قدره، ولا نفع على قدره، بل بقي محبوسًا خلف مرايا ذاته، يرتّب هيئته النفسية أمامها كلّ صباح، ثم لا يخرج!
ألم يقل الله جلّ شأنه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩]؟ فالهداية مشروطة بالمجاهدة، لا بالكمال. وقال سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]، فلا يُطلب من العبد ما لا يطيق، بل ما يقدر عليه من تقوى وجهد وصدق، ولو خالطه النقص والتقصير. وقد قال نبيّه ﷺ: “سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنَّه لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة” [متفق عليه]، فالسداد، لا الكمال، هو المأمور به، والمقاربة، لا الإحاطة، هي ميدان النجاة.
وقد أشارت دراسة في Harvard Business Review (2018) إلى أن المثاليين غالبًا ما يُصابون بالجمود وتجنّب المبادرة، بسبب شعور داخلي بأن ظهورهم للناس لا يصحّ قبل اكتمالهم، وهو ما يُفضي إلى العزلة وخسارة الأثر (Curran & Hill, 2018)
فالسير إلى الله لا يشترط الوصول قبل الانطلاق، والعمل لا يتوقف حتى يكتمل الإخلاص، بل هو اختبار الإخلاص ذاته، والمفيد ليس من يعمل بعد الفراغ من كل شبهة، بل من يغالبها وهو يعمل، ويطردها في الطريق، ويشقى في التخلّص منها كما يشقى في العمل نفسه.
وما الصفاء إلا زكاة العمل، لا شرطه.
••
•| سدرة الكمـــال |•
في نفس الإنسان توق للنقاء، لا كصفة، بل كشرطٍ للوجود؛ فيشترط على نفسه أن لا ينفع إلا إذا اكتمل، ولا يُعلّم إلا إذا زكّى كلّ خُلقه، ولا يظهر إلا إذا طهرت نيّته كطهارة الملائكة، يريد أن يدخل مضمار الحياة بلا عثرة، ويعظ الناس بلا هوى، ويُصلح غيره وقد كفّ عن لوم نفسه، فإن أحسّ بانكسار خفي، أو ضعف دفين، آثر الصمتَ الطويل، والانسحاب العميق، حتى يُصلح ما بدا له أنه الخلل الذي يُبطل أهليّته.
وهذه المثالية المُلجمة، تُعيدُ إنتاج العجز في صورة زهد، والتردد في صورة ورع، والانكفاء في هيئة خشية، فيغدو المرء حبيس شرط لم يُطلب منه، ويظل يفتّش عن كمالٍ لم يُكلّف ببلوغه، بينما يمرّ الوقت ويذبل الأثر، وهو ما يزال يُرتّب نيّته في العزلة، ويُنقّب عن شوائبه في المرايا المغلقة، وكأن الفضل لا يَثبت إلا بعد بلوغ سدرة الكمال.
وهذا النزوع – رغم صفائه في ظاهره – يُنتج صنفًا من العجز المُقنّع، إذ يجعل المرء ينتظر تهيؤ جميع الشروط قبل أن يبادر، وينتظر تصفية داخله من كل شائبة قبل أن يخطو خطوة واحدة في النفع أو الدعوة أو الإصلاح، فلا هو اتّقى على قدره، ولا نفع على قدره، بل بقي محبوسًا خلف مرايا ذاته، يرتّب هيئته النفسية أمامها كلّ صباح، ثم لا يخرج!
ألم يقل الله جلّ شأنه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩]؟ فالهداية مشروطة بالمجاهدة، لا بالكمال. وقال سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]، فلا يُطلب من العبد ما لا يطيق، بل ما يقدر عليه من تقوى وجهد وصدق، ولو خالطه النقص والتقصير. وقد قال نبيّه ﷺ: “سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنَّه لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة” [متفق عليه]، فالسداد، لا الكمال، هو المأمور به، والمقاربة، لا الإحاطة، هي ميدان النجاة.
وقد أشارت دراسة في Harvard Business Review (2018) إلى أن المثاليين غالبًا ما يُصابون بالجمود وتجنّب المبادرة، بسبب شعور داخلي بأن ظهورهم للناس لا يصحّ قبل اكتمالهم، وهو ما يُفضي إلى العزلة وخسارة الأثر (Curran & Hill, 2018)
فالسير إلى الله لا يشترط الوصول قبل الانطلاق، والعمل لا يتوقف حتى يكتمل الإخلاص، بل هو اختبار الإخلاص ذاته، والمفيد ليس من يعمل بعد الفراغ من كل شبهة، بل من يغالبها وهو يعمل، ويطردها في الطريق، ويشقى في التخلّص منها كما يشقى في العمل نفسه.
وما الصفاء إلا زكاة العمل، لا شرطه.
••