••
ليس الألمعي من يحسن الرد فحسب، ولا الحكيم من يملأ المجلس حديثًا، بل من يملأه نباهةً وحضورًا، فإذا لمح وجهًا احتقن، أو لسانًا تعثر، أو عينًا اضطربت، ألقى طوق النجاة بذكاء، لا يُشعر صاحبه أنه كان غريقًا، بل يسنده برفقٍ حتى يظن أنه لم يتعثر قطّ.
يبادر بحيلة لبقة، فيُلبس الموقف لباس الطرافة، أو ينساب بالحديث إلى وادٍ غير الذي همّ القوم بالخوض فيه، لا يقطع الكلام، بل يحرفه، ولا يحرج المخطئ، بل يستره، وكأنما يمسك بخيوط المجلس بيدٍ خفية، ينسج بها سترًا لصاحبه دون أن يدري أحد، فهكذا يكون الفضل، لا في الانتصار على الناس، بل في إنقاذهم من أنفسهم، وصون هيبتهم حتى عن أعينهم.
••
ليس الألمعي من يحسن الرد فحسب، ولا الحكيم من يملأ المجلس حديثًا، بل من يملأه نباهةً وحضورًا، فإذا لمح وجهًا احتقن، أو لسانًا تعثر، أو عينًا اضطربت، ألقى طوق النجاة بذكاء، لا يُشعر صاحبه أنه كان غريقًا، بل يسنده برفقٍ حتى يظن أنه لم يتعثر قطّ.
يبادر بحيلة لبقة، فيُلبس الموقف لباس الطرافة، أو ينساب بالحديث إلى وادٍ غير الذي همّ القوم بالخوض فيه، لا يقطع الكلام، بل يحرفه، ولا يحرج المخطئ، بل يستره، وكأنما يمسك بخيوط المجلس بيدٍ خفية، ينسج بها سترًا لصاحبه دون أن يدري أحد، فهكذا يكون الفضل، لا في الانتصار على الناس، بل في إنقاذهم من أنفسهم، وصون هيبتهم حتى عن أعينهم.
••
••
يُخيّل إليّ أحيانًا أن أعذب لحظات الفكر لا تكون عند اتفاق العقول، بل عند اختلافها إذا صادف وعيًا ونُبلًا، فالنقاش مع صاحب عقل راجح، وإن خالفك، لا يُطفئ فيك شعلة اليقين، بل يُذكيها، يفتح لك نوافذ ما كنت تحسب لها بابًا، ويهديك إلى مفازة لم تكن في خرائطك.
تخرج من مجلسه، لا كما دخلت؛ وقد نضج فيك المعنى، واتسعت في قلبك فسحة الفهم، فطوبى لمن وهبه الله وعيًا، يُحسن به الخلاف، كما يُحسن به الاتفاق.
••
يُخيّل إليّ أحيانًا أن أعذب لحظات الفكر لا تكون عند اتفاق العقول، بل عند اختلافها إذا صادف وعيًا ونُبلًا، فالنقاش مع صاحب عقل راجح، وإن خالفك، لا يُطفئ فيك شعلة اليقين، بل يُذكيها، يفتح لك نوافذ ما كنت تحسب لها بابًا، ويهديك إلى مفازة لم تكن في خرائطك.
تخرج من مجلسه، لا كما دخلت؛ وقد نضج فيك المعنى، واتسعت في قلبك فسحة الفهم، فطوبى لمن وهبه الله وعيًا، يُحسن به الخلاف، كما يُحسن به الاتفاق.
••
#أسئلة_البوت
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وبارك الله فيكم، وجعل ما سطّرتم من دعاءٍ مورِقًا في صحائف أعمالكم، وجزاكم عن حسن الظن خيرًا.
وأمّا ما سألتم عنه – نفع الله بكم – من حال القلم إذا أبى أن يجري، والفكرة إذا استعصت على البيان؛ فإنه مشهد يمرّ بكل مشتغلٍ بالمداد، ومُتفكّرٍ في المعاني؛ بل لعلّه من دلائل الصدق في الطلب، أن تتمنّى أن تقول شيئًا فلا تُعينك العبارة عليه، كأنّ المعنى يختبئ عنك ليختبر صدق لهفتك إليه.
وفي مثل هذا الحال، أوصي نفسي وإياكم بثلاث:
أولها: أن لا تُكابر الفكرة، فإنها إن تعسّرت فقد تحتاج إلى مهلة، وهدوء، وانصرافٍ مؤقت؛ فربّ خاطرةٍ استعصت في وقت، ثم انسكبت رقراقة بعد حين.
وثانيها: أن تُطيل التأمل في كلام الرب سبحانه، ففي القرآن بيانٌ لا يضاهيه بيان، وإذا تشرّبت النفس بلاغته، رقّت ألفاظها، وسهل انسيابها، وربما تفتّقت عندك العبارة من غير تكلف.
وثالثها: أن تُطالع لأساطين البيان، ممن زُرعت فيهم ملكة التصوير، كالجاحظ وابن قتيبة وابن تيمية والرافعي ومن سار في ركبهم، فإنهم يفتحون في الذهن أبوابًا من التراكيب والمعاني، ويريحونك من عناء ابتداع الطريق وحدك.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وبارك الله فيكم، وجعل ما سطّرتم من دعاءٍ مورِقًا في صحائف أعمالكم، وجزاكم عن حسن الظن خيرًا.
وأمّا ما سألتم عنه – نفع الله بكم – من حال القلم إذا أبى أن يجري، والفكرة إذا استعصت على البيان؛ فإنه مشهد يمرّ بكل مشتغلٍ بالمداد، ومُتفكّرٍ في المعاني؛ بل لعلّه من دلائل الصدق في الطلب، أن تتمنّى أن تقول شيئًا فلا تُعينك العبارة عليه، كأنّ المعنى يختبئ عنك ليختبر صدق لهفتك إليه.
وفي مثل هذا الحال، أوصي نفسي وإياكم بثلاث:
أولها: أن لا تُكابر الفكرة، فإنها إن تعسّرت فقد تحتاج إلى مهلة، وهدوء، وانصرافٍ مؤقت؛ فربّ خاطرةٍ استعصت في وقت، ثم انسكبت رقراقة بعد حين.
وثانيها: أن تُطيل التأمل في كلام الرب سبحانه، ففي القرآن بيانٌ لا يضاهيه بيان، وإذا تشرّبت النفس بلاغته، رقّت ألفاظها، وسهل انسيابها، وربما تفتّقت عندك العبارة من غير تكلف.
وثالثها: أن تُطالع لأساطين البيان، ممن زُرعت فيهم ملكة التصوير، كالجاحظ وابن قتيبة وابن تيمية والرافعي ومن سار في ركبهم، فإنهم يفتحون في الذهن أبوابًا من التراكيب والمعاني، ويريحونك من عناء ابتداع الطريق وحدك.
••
من أعظم منن المودّة، أن يُرزق القلبُ سَكينة القَبول قبل أن ينشغل بزينة التجمُّل، أن تعيش مع من يُبهجه حضورك البسيط، لا نسختك المعدّلة، أن تُصادَفَ بوجهٍ لا يرصد زلّتك، بل يتبسّم لعفويتك، ويستبقيك كما أنت، لا كما ينبغي أن تكون.
ذاك الأمان الخفيّ الذي يمنح النفس فسحة التفتّح، فيخرج منك صوتٌ أكثر دفئًا، ونكتةٌ أكثر عفويّة، ووجهٌ يتأنّق لا ليُعجب، بل لأنه ارتاح، في حضرة من أحبّك حقاً؛ تُطلق نسختك الأصدق، لا الأجمل.
••
من أعظم منن المودّة، أن يُرزق القلبُ سَكينة القَبول قبل أن ينشغل بزينة التجمُّل، أن تعيش مع من يُبهجه حضورك البسيط، لا نسختك المعدّلة، أن تُصادَفَ بوجهٍ لا يرصد زلّتك، بل يتبسّم لعفويتك، ويستبقيك كما أنت، لا كما ينبغي أن تكون.
ذاك الأمان الخفيّ الذي يمنح النفس فسحة التفتّح، فيخرج منك صوتٌ أكثر دفئًا، ونكتةٌ أكثر عفويّة، ووجهٌ يتأنّق لا ليُعجب، بل لأنه ارتاح، في حضرة من أحبّك حقاً؛ تُطلق نسختك الأصدق، لا الأجمل.
••
••
ما أكثرَ ما يخدعُ المرءَ ضوءُ اللحظة، إذا أقبلت عليه بوجهها المشرق أو المُكفهر، فالفرحُ إذا طغى، جرّد النفس من حذرها، وأطلق اللسان بوعودٍ لا تُملك، والحزنُ إذا استبدّ، أعماها عن عواقب القول والفعل، فكتبت في ساعة الكرب ما لا تمحوه الأعوام.
الاستغراقُ في اللحظة الحاضرة، وإن بدا بريئًا في مظهره، يحمل بين طيّاته بذور القرار، وأشواك الندم أو ورد الأثر، فلا تُسلِم زمامك لفرحةٍ خادعة، ولا لحسرةٍ مُغرِقة، فما كلُّ شعورٍ يُستشار، ولا كلُّ انفعالٍ يُطاع.
محاضرة | الاستغراق في اللحظة الحاضرة.
https://www.tg-me.com/monsit/937
••
ما أكثرَ ما يخدعُ المرءَ ضوءُ اللحظة، إذا أقبلت عليه بوجهها المشرق أو المُكفهر، فالفرحُ إذا طغى، جرّد النفس من حذرها، وأطلق اللسان بوعودٍ لا تُملك، والحزنُ إذا استبدّ، أعماها عن عواقب القول والفعل، فكتبت في ساعة الكرب ما لا تمحوه الأعوام.
الاستغراقُ في اللحظة الحاضرة، وإن بدا بريئًا في مظهره، يحمل بين طيّاته بذور القرار، وأشواك الندم أو ورد الأثر، فلا تُسلِم زمامك لفرحةٍ خادعة، ولا لحسرةٍ مُغرِقة، فما كلُّ شعورٍ يُستشار، ولا كلُّ انفعالٍ يُطاع.
محاضرة | الاستغراق في اللحظة الحاضرة.
https://www.tg-me.com/monsit/937
••
••
يا هذا… المجّانية فتنة!
يا صاحبي، لكلّ نفسٍ حظّها من الزلل، وسهمها من العثار، فلن تكتمل طبائع الخلق وفيهم بقايا طين، ونفَسٌ من العجز يسري في العروق سريانَ الدم، فالغلط أوّل الطريق، والتعثّر من دلالة السعي، ومن رام الكمال في ابتدائه، فقد طلب المحال.
لكن الذي يُورث الأسى، ويُقيم الحزن في القلب، أن يألف المرء عثرته، ويأنس بموطن نقصه، حتى يُصبح الخطأ له كالوطن، لا يستنكره، ولا يغترب عنه، بل يسكن إليه سُكنى المُطمئن، وكأنّ العفو دائم، والصفح ممدود بلا حساب.
والذي يُتعب القلب، ويُثقِل الكاهل، ليس وقوع الخطأ، بل التمادي فيه، والاستئناس به كأنّه مأمنٌ لا يُسأل فيه أحد، والناس إذا أُعطوا مساحة الرحمة، بالغوا في استثمارها حتى يُوشك أن يضيع ميزان العدل.
يا هذا… المجّانية فتنة!
تُنسيك حجمك، وتُغريك بالإفراط، حتى إذا امتدّ بك الرجاء في الحِلم، نسيت أن الحليم لا يغفل، وأن الكريم لا يُستدرج، ولذلك من كمال العقل أن يستحي المرء من تكرار السقوط، وإن كان مغفورًا.
••
يا هذا… المجّانية فتنة!
يا صاحبي، لكلّ نفسٍ حظّها من الزلل، وسهمها من العثار، فلن تكتمل طبائع الخلق وفيهم بقايا طين، ونفَسٌ من العجز يسري في العروق سريانَ الدم، فالغلط أوّل الطريق، والتعثّر من دلالة السعي، ومن رام الكمال في ابتدائه، فقد طلب المحال.
لكن الذي يُورث الأسى، ويُقيم الحزن في القلب، أن يألف المرء عثرته، ويأنس بموطن نقصه، حتى يُصبح الخطأ له كالوطن، لا يستنكره، ولا يغترب عنه، بل يسكن إليه سُكنى المُطمئن، وكأنّ العفو دائم، والصفح ممدود بلا حساب.
والذي يُتعب القلب، ويُثقِل الكاهل، ليس وقوع الخطأ، بل التمادي فيه، والاستئناس به كأنّه مأمنٌ لا يُسأل فيه أحد، والناس إذا أُعطوا مساحة الرحمة، بالغوا في استثمارها حتى يُوشك أن يضيع ميزان العدل.
يا هذا… المجّانية فتنة!
تُنسيك حجمك، وتُغريك بالإفراط، حتى إذا امتدّ بك الرجاء في الحِلم، نسيت أن الحليم لا يغفل، وأن الكريم لا يُستدرج، ولذلك من كمال العقل أن يستحي المرء من تكرار السقوط، وإن كان مغفورًا.
••
••
تأمّلتُ كثيرًا في تقلّبات الفهم، وتفاوت الناس في تقدير الأمور، فوجدت أن العقول، مهما أوتيت من ذكاءٍ ولمعان، تبقى محدودة المدار، محكومة الإطار، تُبصر بقعة وتغيب عنها أخرى، تميل حيث عاطفتها أو تجربتها، وتظن أنها رأت كلّ الصورة، وهي لم ترَ إلا طرفها اللامع.
تأملتُ حال فكري، فإذا هو يُبصر طرفًا ويغفل أطرافًا، يُعظم زاوية، ويهمل زوايا، ويُرهق نفسه بترميم التصوّرات، حتى إذا ركنتُ إلى القرآن، شعرت أن بصري يُعاد ترتيبه من جديد.
وكلّما ازددتُ تأمّلًا في طرائق التفكير، ازددتُ قناعة أن العدل لا يتم، ولا التوازن يُنال، إلا إذا استضاء العقل بنورٍ من خارج ذاته، نورٍ لا ينبع منها، بل يضبطها، وهذا ما يفعله الوحي؛ لا يُعادي العقل، بل يُهذّبه، لا يُقصيه، بل يُقوّمه، فإذا نظرتَ بالقرآن، رأيت الأمور كما أراد الله أن تُرى، لا كما تمليها مشاعرك، ولا كما تضخمها زواياك الضيقة.
ذلك هو المعراج الحقيقي للفهم: أن ترتقي بالبصيرة، لا أن تغرق في حواشيها، أن تتعلّم أن الوضوح لا يُؤخذ من ضجيج المفاهيم البشرية، بل من سكينة الوحي الإلهية.
••
تأمّلتُ كثيرًا في تقلّبات الفهم، وتفاوت الناس في تقدير الأمور، فوجدت أن العقول، مهما أوتيت من ذكاءٍ ولمعان، تبقى محدودة المدار، محكومة الإطار، تُبصر بقعة وتغيب عنها أخرى، تميل حيث عاطفتها أو تجربتها، وتظن أنها رأت كلّ الصورة، وهي لم ترَ إلا طرفها اللامع.
تأملتُ حال فكري، فإذا هو يُبصر طرفًا ويغفل أطرافًا، يُعظم زاوية، ويهمل زوايا، ويُرهق نفسه بترميم التصوّرات، حتى إذا ركنتُ إلى القرآن، شعرت أن بصري يُعاد ترتيبه من جديد.
وكلّما ازددتُ تأمّلًا في طرائق التفكير، ازددتُ قناعة أن العدل لا يتم، ولا التوازن يُنال، إلا إذا استضاء العقل بنورٍ من خارج ذاته، نورٍ لا ينبع منها، بل يضبطها، وهذا ما يفعله الوحي؛ لا يُعادي العقل، بل يُهذّبه، لا يُقصيه، بل يُقوّمه، فإذا نظرتَ بالقرآن، رأيت الأمور كما أراد الله أن تُرى، لا كما تمليها مشاعرك، ولا كما تضخمها زواياك الضيقة.
ذلك هو المعراج الحقيقي للفهم: أن ترتقي بالبصيرة، لا أن تغرق في حواشيها، أن تتعلّم أن الوضوح لا يُؤخذ من ضجيج المفاهيم البشرية، بل من سكينة الوحي الإلهية.
••
••
من يتأمل في مدوّنة التراث الإسلامي، ويمدّ طرفه في صفحات كتب الأدب والزهد والحِكم، يدرك أن كثيرًا مما يُسطّر اليوم في كتب التنمية الذاتية الغربية، من تقويم النفس، وترتيب الأفكار، وتهذيب الخُلق، قد سُبق إليه عندنا، ولكن في ثوبٍ أكثر اختصارًا، وأشدّ عمقًا، وأقرب إلى الفطرة.
ولا أقول ذلك استنقاصًا لنفعٍ قد يُؤخذ من كلام غيرنا، ولكن لأجل تبيين غِنى تراثنا، وإحياء ما غاب عن القارئ المسلم من كنوزٍ في كتبه، فما بين سطور ابن حزم، ونفائس ابن القيم، وذخائر الماوردي، وخواطر ابن الجوزي، وأدب ابن المقفع والجاحظ، يوجد من دقائق التأمل في النفس، وأسرار الأخلاق، ما يُغني عن كثير من القول المتكلّف في أدبيات اليوم.
فالعاقل لا يزهد في نفعٍ حيثما كان، لكنه يبدأ من حيث بدأ نور قومه، ويأخذ بحقه من الميراث الذي تركه أهله، قبل أن يمدّ يده إلى موائد الآخرين.
••
من يتأمل في مدوّنة التراث الإسلامي، ويمدّ طرفه في صفحات كتب الأدب والزهد والحِكم، يدرك أن كثيرًا مما يُسطّر اليوم في كتب التنمية الذاتية الغربية، من تقويم النفس، وترتيب الأفكار، وتهذيب الخُلق، قد سُبق إليه عندنا، ولكن في ثوبٍ أكثر اختصارًا، وأشدّ عمقًا، وأقرب إلى الفطرة.
ولا أقول ذلك استنقاصًا لنفعٍ قد يُؤخذ من كلام غيرنا، ولكن لأجل تبيين غِنى تراثنا، وإحياء ما غاب عن القارئ المسلم من كنوزٍ في كتبه، فما بين سطور ابن حزم، ونفائس ابن القيم، وذخائر الماوردي، وخواطر ابن الجوزي، وأدب ابن المقفع والجاحظ، يوجد من دقائق التأمل في النفس، وأسرار الأخلاق، ما يُغني عن كثير من القول المتكلّف في أدبيات اليوم.
فالعاقل لا يزهد في نفعٍ حيثما كان، لكنه يبدأ من حيث بدأ نور قومه، ويأخذ بحقه من الميراث الذي تركه أهله، قبل أن يمدّ يده إلى موائد الآخرين.
••
••
من سُنن الله الجارية: أن الارتقاء لا يُؤتَى بالانعزال، بل يُرزقه المرء حين يُسهِم في رفع غيره، وأن أرزاق السماء لا تتنزل على المُنغلقين على ذواتهم، بل على أولئك الذين صاروا جسورًا تعبر من خلالها النِّعم إلى الآخرين، فإذا رأيتَ قلبًا تُطرَقه السعادة، فاعلم أن يدًا منه كانت تطرق قلوب الآخرين بلُطف، وفي الحياة ناموسٌ خفيّ لا يُخطئ: أن من أعطى بصدق، عاد العطاء إليه ــ وإن تأخّر ــ مبرّأ من شوائب المنّ، مضمّخًا ببركة لا تُخطئها العين.
••
من سُنن الله الجارية: أن الارتقاء لا يُؤتَى بالانعزال، بل يُرزقه المرء حين يُسهِم في رفع غيره، وأن أرزاق السماء لا تتنزل على المُنغلقين على ذواتهم، بل على أولئك الذين صاروا جسورًا تعبر من خلالها النِّعم إلى الآخرين، فإذا رأيتَ قلبًا تُطرَقه السعادة، فاعلم أن يدًا منه كانت تطرق قلوب الآخرين بلُطف، وفي الحياة ناموسٌ خفيّ لا يُخطئ: أن من أعطى بصدق، عاد العطاء إليه ــ وإن تأخّر ــ مبرّأ من شوائب المنّ، مضمّخًا ببركة لا تُخطئها العين.
••
التامور.pdf
13 MB
••
#توصية
أنصح بقراءة كتاب “التامور” لشيخنا الفقيه الأديب د.سليمان العبودي.
هذه الورقات لا تُخاطب العقل المجرد، بل تتسلل إلى طبقات الروح العميقة، وتوقظ في القلب إحساسه الغائب بالمآل والمصير.
••
#توصية
أنصح بقراءة كتاب “التامور” لشيخنا الفقيه الأديب د.سليمان العبودي.
هذه الورقات لا تُخاطب العقل المجرد، بل تتسلل إلى طبقات الروح العميقة، وتوقظ في القلب إحساسه الغائب بالمآل والمصير.
••
••
من أعجب مسالك النفوس، وأدقّ طرائق التربية على التواضع العلمي: أن تكتشف خطأ رأيٍ كنتَ تراه بالأمس يقينًا لا يتزعزع، ثم تُقرّ بخطئك، وتنتقل إلى نقيضه عن بصرٍ وبصيرة.
و التأمل العميق في هذه الحالة لا ينبغي أن يتوقف عند مجرد التحول، بل ينبغي أن يمتد إلى الروح التي تُصاحب هذا التحول.
فإذا كانت القناعات السابقة قد تبدّدت تحت وهج الدليل، فما الذي يمنع أن تكون قناعاتك الجديدة هي الأخرى قابلة للتراجع والانكسار إن تبيّن وجه الخطأ فيها؟
وإن كان يقين الأمس قد زال، أفلا يجدر بيقين اليوم أن يكون أقل صخبًا، وألين عبارة، وأشد احترازًا من تسلّط “القطع” و”التشنيع” و”الوصم”؟!
إن من نعمة الله على العبد، أن يُعيد ترتيب أفكاره، لكن من تمام هذه النعمة أن يُنقّى قلبه أيضًا من التعصّب للثوب الجديد، كما كان متعصّبًا للثوب المخلوع.
و يتربّى المرء، لا على التنقّل من قولٍ إلى قول حسب المزاج العلمي، ولكن على الانتقال من حدّة الانتصار للذات، إلى تواضع الباحث عن الحق.
••
من أعجب مسالك النفوس، وأدقّ طرائق التربية على التواضع العلمي: أن تكتشف خطأ رأيٍ كنتَ تراه بالأمس يقينًا لا يتزعزع، ثم تُقرّ بخطئك، وتنتقل إلى نقيضه عن بصرٍ وبصيرة.
و التأمل العميق في هذه الحالة لا ينبغي أن يتوقف عند مجرد التحول، بل ينبغي أن يمتد إلى الروح التي تُصاحب هذا التحول.
فإذا كانت القناعات السابقة قد تبدّدت تحت وهج الدليل، فما الذي يمنع أن تكون قناعاتك الجديدة هي الأخرى قابلة للتراجع والانكسار إن تبيّن وجه الخطأ فيها؟
وإن كان يقين الأمس قد زال، أفلا يجدر بيقين اليوم أن يكون أقل صخبًا، وألين عبارة، وأشد احترازًا من تسلّط “القطع” و”التشنيع” و”الوصم”؟!
إن من نعمة الله على العبد، أن يُعيد ترتيب أفكاره، لكن من تمام هذه النعمة أن يُنقّى قلبه أيضًا من التعصّب للثوب الجديد، كما كان متعصّبًا للثوب المخلوع.
و يتربّى المرء، لا على التنقّل من قولٍ إلى قول حسب المزاج العلمي، ولكن على الانتقال من حدّة الانتصار للذات، إلى تواضع الباحث عن الحق.
••
••
مواطن الإجابة: هي تلك اللحظة التي لا تحتاج فيها أن ترفع صوتك، يكفي أن يئنّ قلبك، هي المسافة الأقصر بين الأرض والسماء، حين يكون بين سؤالك والإجابة؛همسة افتقار صادقة.
••
مواطن الإجابة: هي تلك اللحظة التي لا تحتاج فيها أن ترفع صوتك، يكفي أن يئنّ قلبك، هي المسافة الأقصر بين الأرض والسماء، حين يكون بين سؤالك والإجابة؛همسة افتقار صادقة.
••
••
•| مرآيا الفتوى |•
من موارد الفقه الدقيق في فَهم أحوال المجتمعات، وتأمل منازع التدين في زمنٍ ما، النظر لا إلى مظاهر الشعائر وحدها، بل إلى ما يثير السؤال والفتوى.
ذلك أن ما يُسأل عنه، هو غالبًا ما يُشكل على الناس، أو يُستعظم في صدورهم، أو يُطلب له تخريج وتبرير شرعي يطمئن له القلب، فيكون باب الفتوى بمثابة مرآة تعكس حركة التدين، وما انزلق منه، أو ما تراجع، أو ما طفا على سطح الاهتمام.
ومن هذا المدخل، فإن تتبّع الفتاوى الصادرة في بلدٍ ما، يُنبئك – دون كثير تأويل – عن “مكامن التحوّل”، وعن مواضع الغبش أو الوضوح في تصورات التدين لديهم.
وهكذا يصير “سؤال الفتوى” نفسه مؤشّرًا اجتماعيًا لا يُستهان به، يُنبئ عن خريطة التديّن، وعن مستوى الالتزام والانحراف، والتأثر بالثقافات الوافدة.
فمثلاً:
• إذا رأيت كثرة الفتاوى في مسألة الاختلاط أو اللباس في زمنٍ معيّن، فهذا يدل على أن ثوابت العفاف تواجه موجة جدل أو زحف تأويلي.
• وإذا كثر السؤال عن أحكام التعاملات الربوية، دلّ ذلك على دخول المجتمعات في تحوّلات اقتصادية تتطلب إعادة ضبط ميزان الحلال والحرام.
• وإذا غلبت الأسئلة حول أعياد غير المسلمين، فثمّ تداخل ثقافي ملحوظ.
بل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كان السؤال ذاته ينبئ عن حالة المجتمع، ففي صحيح مسلم (رقم 2358) عن أبي هريرة قال: “سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح…” فالسؤال عن “أفضل الصدقة” يُشير إلى روح التنافس في العطاء آنذاك، وليس إلى الجفاف أو الإمساك.
فقراءة الفتاوى بمنظار تحليلي – لا فقهي فقط – تُعد من أعظم أدوات تفكيك مشهد التدين الاجتماعي، لأنها تُظهر ما وُضع تحت المجهر من قضايا، وتُخفي ما سُكت عنه باعتباره محسومًا ومستقرًا.
وهذا يشبه ما قاله المفكر الفرنسي ميشيل فوكو عن الخطاب في كتابه نظام الخطاب "بأنه ليس فقط ما يُقال، بل أيضًا “ما يُسمح له أن يُقال”، وما توجّهت إليه الأسئلة.
فالفتاوى ليست أجوبة فقهية وحسب، بل خرائط اجتماعية، وملامح خفية لمستوى القرب والبعد عن الشريعة في زمنٍ معين، ومن عرف هذا الباب، علم أن الطريق إلى فهم المجتمع لا يمرّ فقط عبر سلوك أفراده، بل عبر أسئلتهم أيضًا.
••
•| مرآيا الفتوى |•
من موارد الفقه الدقيق في فَهم أحوال المجتمعات، وتأمل منازع التدين في زمنٍ ما، النظر لا إلى مظاهر الشعائر وحدها، بل إلى ما يثير السؤال والفتوى.
ذلك أن ما يُسأل عنه، هو غالبًا ما يُشكل على الناس، أو يُستعظم في صدورهم، أو يُطلب له تخريج وتبرير شرعي يطمئن له القلب، فيكون باب الفتوى بمثابة مرآة تعكس حركة التدين، وما انزلق منه، أو ما تراجع، أو ما طفا على سطح الاهتمام.
ومن هذا المدخل، فإن تتبّع الفتاوى الصادرة في بلدٍ ما، يُنبئك – دون كثير تأويل – عن “مكامن التحوّل”، وعن مواضع الغبش أو الوضوح في تصورات التدين لديهم.
وهكذا يصير “سؤال الفتوى” نفسه مؤشّرًا اجتماعيًا لا يُستهان به، يُنبئ عن خريطة التديّن، وعن مستوى الالتزام والانحراف، والتأثر بالثقافات الوافدة.
فمثلاً:
• إذا رأيت كثرة الفتاوى في مسألة الاختلاط أو اللباس في زمنٍ معيّن، فهذا يدل على أن ثوابت العفاف تواجه موجة جدل أو زحف تأويلي.
• وإذا كثر السؤال عن أحكام التعاملات الربوية، دلّ ذلك على دخول المجتمعات في تحوّلات اقتصادية تتطلب إعادة ضبط ميزان الحلال والحرام.
• وإذا غلبت الأسئلة حول أعياد غير المسلمين، فثمّ تداخل ثقافي ملحوظ.
بل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كان السؤال ذاته ينبئ عن حالة المجتمع، ففي صحيح مسلم (رقم 2358) عن أبي هريرة قال: “سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح…” فالسؤال عن “أفضل الصدقة” يُشير إلى روح التنافس في العطاء آنذاك، وليس إلى الجفاف أو الإمساك.
فقراءة الفتاوى بمنظار تحليلي – لا فقهي فقط – تُعد من أعظم أدوات تفكيك مشهد التدين الاجتماعي، لأنها تُظهر ما وُضع تحت المجهر من قضايا، وتُخفي ما سُكت عنه باعتباره محسومًا ومستقرًا.
وهذا يشبه ما قاله المفكر الفرنسي ميشيل فوكو عن الخطاب في كتابه نظام الخطاب "بأنه ليس فقط ما يُقال، بل أيضًا “ما يُسمح له أن يُقال”، وما توجّهت إليه الأسئلة.
فالفتاوى ليست أجوبة فقهية وحسب، بل خرائط اجتماعية، وملامح خفية لمستوى القرب والبعد عن الشريعة في زمنٍ معين، ومن عرف هذا الباب، علم أن الطريق إلى فهم المجتمع لا يمرّ فقط عبر سلوك أفراده، بل عبر أسئلتهم أيضًا.
••
••
اللهم إننا لا نملك إلا أن نرفع إليك هذا القلب المكسور، والصوت المبحوح من الألم، والروح المُثقَلة بما يجري، إليك نشكو ضعفنا حين عزّ الناصر، وقلة حيلتنا حين استكبر العدوّ، وهواننا على من لا يخشاك.
يا الله، كن لغزّة، كن لقلوبها المتعبة، ولأهلها الصابرين، لأطفالٍ أنهكهم الجوع، ولنسوةٍ تقاسمن الألم والخوف، ولشيوخٍ عجزت أجسادهم وبقيت أرواحهم يرجون نصرك.
اللهم عليك بالصهاينة المجرمين، أربِك خطاهم، وضيّق عليهم الأرض بما رحُبت، زلزل قلوبهم قبل حصونهم، واقطع نسل ظلمهم، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُبقِ لهم غاية، واجعل فيهم آيةً نراها قبل أن نلقاك.
••
اللهم إننا لا نملك إلا أن نرفع إليك هذا القلب المكسور، والصوت المبحوح من الألم، والروح المُثقَلة بما يجري، إليك نشكو ضعفنا حين عزّ الناصر، وقلة حيلتنا حين استكبر العدوّ، وهواننا على من لا يخشاك.
يا الله، كن لغزّة، كن لقلوبها المتعبة، ولأهلها الصابرين، لأطفالٍ أنهكهم الجوع، ولنسوةٍ تقاسمن الألم والخوف، ولشيوخٍ عجزت أجسادهم وبقيت أرواحهم يرجون نصرك.
اللهم عليك بالصهاينة المجرمين، أربِك خطاهم، وضيّق عليهم الأرض بما رحُبت، زلزل قلوبهم قبل حصونهم، واقطع نسل ظلمهم، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُبقِ لهم غاية، واجعل فيهم آيةً نراها قبل أن نلقاك.
••
••
•| القراءة المجوفة |•
في زمنٍ بات فيه “الإنجاز السريع” شعارًا، تسلّلت عدوى العجلة إلى ميدانٍ لا يُثمر إلا بالصبر: القراءة، وغدت “القراءة السريعة” – على نفعها في مواضعها – بوابة توهم عند كثير من طلاب العلم، فحسبوا أن المرور العابر على السطور كافٍ لتحصيل المعنى، واكتساب الفهم، وبناء الوعي.
لكنّ الحقيقة أن هذا الضرب من القراءة، إذا استُعمل على الدوام، وصار دَيْدن المرء، أورثه سطحية في الإدراك، وهشاشة في البناء العلمي، وربما أغراه بظنٍّ زائف أنه بلغ، ولم يبلغ.
ولعلّ أضرّ ما فيها: أنها تقتل ملكة التحليل، وتُضعف روح التأمل، وتُميت لذة التكرار، تلك اللذة التي لا يعرفها إلا من ذاقها، وهي عند أهل الرسوخ مفتاح التثبيت، وسُلّم التمكين.
إن القراءة العابرة ليست بذاتها خطأ، ولكن الخطأ أن تتحوّل إلى نمطٍ دائم، وأن يعتاد الإنسان أن يقرأ ليجتاز، لا ليغوص، ليعرف الاسم، لا ليفهم المعنى، ليجمع العناوين، لا ليبني التصوّر.
وغالب الظن أن هذا الميل للقراءة السريعة ما نشأ إلا من وحشة التكرار، وقلة الصبر على المعاودة، واستعجال النتائج، وكلها خصال لا تُنشئ عالمًا، ولا تُنضج عقلًا.
فمن أراد الفهم، فليغرس قدميه على أرض الصبر، وليألف التكرار، وليُدمن الوقوف على المعنى حتى يتشرّبه، فإن التمهل طريق التمكّن، ومن أحبّ الرسوخ احتمل البطء.
••
•| القراءة المجوفة |•
في زمنٍ بات فيه “الإنجاز السريع” شعارًا، تسلّلت عدوى العجلة إلى ميدانٍ لا يُثمر إلا بالصبر: القراءة، وغدت “القراءة السريعة” – على نفعها في مواضعها – بوابة توهم عند كثير من طلاب العلم، فحسبوا أن المرور العابر على السطور كافٍ لتحصيل المعنى، واكتساب الفهم، وبناء الوعي.
لكنّ الحقيقة أن هذا الضرب من القراءة، إذا استُعمل على الدوام، وصار دَيْدن المرء، أورثه سطحية في الإدراك، وهشاشة في البناء العلمي، وربما أغراه بظنٍّ زائف أنه بلغ، ولم يبلغ.
ولعلّ أضرّ ما فيها: أنها تقتل ملكة التحليل، وتُضعف روح التأمل، وتُميت لذة التكرار، تلك اللذة التي لا يعرفها إلا من ذاقها، وهي عند أهل الرسوخ مفتاح التثبيت، وسُلّم التمكين.
إن القراءة العابرة ليست بذاتها خطأ، ولكن الخطأ أن تتحوّل إلى نمطٍ دائم، وأن يعتاد الإنسان أن يقرأ ليجتاز، لا ليغوص، ليعرف الاسم، لا ليفهم المعنى، ليجمع العناوين، لا ليبني التصوّر.
وغالب الظن أن هذا الميل للقراءة السريعة ما نشأ إلا من وحشة التكرار، وقلة الصبر على المعاودة، واستعجال النتائج، وكلها خصال لا تُنشئ عالمًا، ولا تُنضج عقلًا.
فمن أراد الفهم، فليغرس قدميه على أرض الصبر، وليألف التكرار، وليُدمن الوقوف على المعنى حتى يتشرّبه، فإن التمهل طريق التمكّن، ومن أحبّ الرسوخ احتمل البطء.
••
••
•| ثمرات أنصاف الحلول |•
يا صاحبي..
كلما تَقدّم بك العمر خطوة، واتسع صدرك للحياة شِبْرًا، ازداد يقينك أنّ هذه الدنيا ليست ساحةً مثالية تُدار بقوانين الرياضيات، ولا هي خشبةَ مسرحٍ لا يُسمح فيها إلا بالنصّ الكامل والأداء الكامل، بل هي حياة؛ والحياة ظلٌّ مائل، وخُطا متعثّرة، وهموم لا تستأذن، ورضا منقوص، وسعادة مشوبة.
في بدايات العمر، كان القلبُ يرفض المهادنة، وكان العقل لا يعرف التدرّج، وكانت الأحكام تُطلَق دفعةً واحدة: إمّا بياضًا ناصعًا، أو سوادًا قاتمًا، فإذا كبُر المرء، ونضجت فيه التجربة، وأوشكت النار أن تهدأ تحت الرماد، أدرك أن الحياة لا تمضي على صراطٍ مستقيم من الخيارات المثالية، بل على جسورٍ متقطّعة من التنازل الجميل، والرضا الجزئي، والسعي المُجتزَأ.
ومن أبهى شواهد هذا المعنى في سيرة النبوة: صلح الحديبية؛ ذلك الصلح الذي قبله النبي صلى الله عليه وسلم، رغم ما فيه من ظاهر الإجحاف للمسلمين، ولقد تنازل فيه النبي عن كتابة “رسول الله” في الوثيقة، وقَبِل أن يعود عن العمرة التي أحرم لأجلها، ويردّ من جاءه مسلمًا من قريش، ولا يُردّ إليه من ارتدّ عن الإسلام إليهم! وكلّها كانت ـ في موازين ذلك الزمن ـ أنصاف حلول بدت كأنها انكسار.
لكن الأيام أثبتت أن الحديبية كانت فتحًا مبينًا، فتحًا لم يكن بالسيف، بل بالحكمة النبوية، فتحًا لم يكن في مرمى البصر، بل في مدى البصيرة، ولقد علّمنا الحبيب في هذا الموقف العظيم أن الرضا بأنصاف الحلول، حين تكون المآلات مرعيّة، هو عينُ القيادة، ولبّ التوكل.
وكان يظنّ المرء في مطالع الشباب، أن العلاقات لا بد أن تكون كما كتبها الشعراء: صفاءً لا يعكّره غبار، ووفاءً لا يخونه تردّد، ثم إذا كبر وعركته الحياة، أدرك أن العلاقة التي تشوبها شوائب، ثم تصفو، ثم تعود فتضطرب، لكنها تبقى؛ هي خيرٌ من القطيعة المجلّلة بالنقاء.
وكان يظن أن راحته النفسية مشروطة بأن يُرتّب فوضاه كلها: يقفل ملفات الماضي، ويسوّي كل خصومة، ويُرضي كل من خاصمه، ثم أدرك أن بعض الأبواب خُلقت لتُغلق دون وداع، وأن بعض الندوب لا تلتئم، لكنها لا تنزف.. وكفى بها علاجًا.
وترى نفسك يومًا تقف عند مفترق قرار، فترغب في المشروع الكامل، والخطّة المحكمة، واليقين التام، ثم تتذكّر أن نصفَ خطوةٍ في طريق الحق، خيرٌ من انتظار الوضوح الكامل،وهكذا تمضي بمشروعٍ ناقص، لكنه قائم، وبحلمٍ غير مكتمل، لكنه يُثمِر.
في صغر سنك، تؤمن أن الحق لا يكون إلا أبيضَ ناصعًا، وأن الخير لا يُقبَل إلا كاملًا، وأن الصواب لا يُطاق إلا إذا اكتمل على عينك ووفق تصوّرك، ثم تكبر، ويشتد عود التجربة فيك، وتكتشف أن أنصاف الحلول، في كثير من الأحيان، هي الحلول الكاملة.
وترى الصديق الذي لا يُحسن التعبير، ولا يعرف أن يواسيك بالكلام، لكنه يجيء في أشد اللحظات، صامتًا، حاضرًا بفعله؛ فتدرك أنه نصف صديقٍ في البيان، لكنه صديق كاملٌ في الوفاء.
حتى في الإيمان، تظنّ أول أمرك أن المؤمن لا بد أن يكون في يقين أبي بكر، وفي زهد الحسن، وفي دمعة الفُضيل، ثم تدرك بعد مشقة أن الناجين ليسوا الكاملين فحسب، بل أولئك المذنبين الذين لم يُغلقوا أبواب التوبة، الذين مشَوا إلى الله وإن عرجت خُطاهم، الذين اختاروا المضيَّ بنصف طريق بدل التيه الكامل.
هكذا تُعلِّمك الأيام أن “الوسط” ليس خيانةً للمبدأ، بل انحناءة نُبلٍ في مهبّ رياح الضرورة، وأن “التنازل” ليس ضعفًا، بل بُعدُ نظرٍ يختصر الطريق، وأن “القبول الناقص” هو في بعض المواطن، أرقى صور الامتنان.
نعم، إن أنصاف الحلول ليست ترفًا، ولا هروبًا، بل هي أحيانًا قمّة الوعي، ولبُّ الفقه بالحياة، وتلك هي سِمَة الكبار، الذين لم ينكسروا، ولم يتعجرفوا، بل فقط نضجوا.
وفي نهاية الأمر، الركنُ الذي احتمى فيه الناجون، لم يكن قصرًا متكاملَ الزينة، بل كان كِسرةَ بابٍ فُتحت لهم، فدخلوا منها، وبكوا على العتبة، وانتظروا النور.
وهذا يكفي.
••
•| ثمرات أنصاف الحلول |•
يا صاحبي..
كلما تَقدّم بك العمر خطوة، واتسع صدرك للحياة شِبْرًا، ازداد يقينك أنّ هذه الدنيا ليست ساحةً مثالية تُدار بقوانين الرياضيات، ولا هي خشبةَ مسرحٍ لا يُسمح فيها إلا بالنصّ الكامل والأداء الكامل، بل هي حياة؛ والحياة ظلٌّ مائل، وخُطا متعثّرة، وهموم لا تستأذن، ورضا منقوص، وسعادة مشوبة.
في بدايات العمر، كان القلبُ يرفض المهادنة، وكان العقل لا يعرف التدرّج، وكانت الأحكام تُطلَق دفعةً واحدة: إمّا بياضًا ناصعًا، أو سوادًا قاتمًا، فإذا كبُر المرء، ونضجت فيه التجربة، وأوشكت النار أن تهدأ تحت الرماد، أدرك أن الحياة لا تمضي على صراطٍ مستقيم من الخيارات المثالية، بل على جسورٍ متقطّعة من التنازل الجميل، والرضا الجزئي، والسعي المُجتزَأ.
ومن أبهى شواهد هذا المعنى في سيرة النبوة: صلح الحديبية؛ ذلك الصلح الذي قبله النبي صلى الله عليه وسلم، رغم ما فيه من ظاهر الإجحاف للمسلمين، ولقد تنازل فيه النبي عن كتابة “رسول الله” في الوثيقة، وقَبِل أن يعود عن العمرة التي أحرم لأجلها، ويردّ من جاءه مسلمًا من قريش، ولا يُردّ إليه من ارتدّ عن الإسلام إليهم! وكلّها كانت ـ في موازين ذلك الزمن ـ أنصاف حلول بدت كأنها انكسار.
لكن الأيام أثبتت أن الحديبية كانت فتحًا مبينًا، فتحًا لم يكن بالسيف، بل بالحكمة النبوية، فتحًا لم يكن في مرمى البصر، بل في مدى البصيرة، ولقد علّمنا الحبيب في هذا الموقف العظيم أن الرضا بأنصاف الحلول، حين تكون المآلات مرعيّة، هو عينُ القيادة، ولبّ التوكل.
وكان يظنّ المرء في مطالع الشباب، أن العلاقات لا بد أن تكون كما كتبها الشعراء: صفاءً لا يعكّره غبار، ووفاءً لا يخونه تردّد، ثم إذا كبر وعركته الحياة، أدرك أن العلاقة التي تشوبها شوائب، ثم تصفو، ثم تعود فتضطرب، لكنها تبقى؛ هي خيرٌ من القطيعة المجلّلة بالنقاء.
وكان يظن أن راحته النفسية مشروطة بأن يُرتّب فوضاه كلها: يقفل ملفات الماضي، ويسوّي كل خصومة، ويُرضي كل من خاصمه، ثم أدرك أن بعض الأبواب خُلقت لتُغلق دون وداع، وأن بعض الندوب لا تلتئم، لكنها لا تنزف.. وكفى بها علاجًا.
وترى نفسك يومًا تقف عند مفترق قرار، فترغب في المشروع الكامل، والخطّة المحكمة، واليقين التام، ثم تتذكّر أن نصفَ خطوةٍ في طريق الحق، خيرٌ من انتظار الوضوح الكامل،وهكذا تمضي بمشروعٍ ناقص، لكنه قائم، وبحلمٍ غير مكتمل، لكنه يُثمِر.
في صغر سنك، تؤمن أن الحق لا يكون إلا أبيضَ ناصعًا، وأن الخير لا يُقبَل إلا كاملًا، وأن الصواب لا يُطاق إلا إذا اكتمل على عينك ووفق تصوّرك، ثم تكبر، ويشتد عود التجربة فيك، وتكتشف أن أنصاف الحلول، في كثير من الأحيان، هي الحلول الكاملة.
وترى الصديق الذي لا يُحسن التعبير، ولا يعرف أن يواسيك بالكلام، لكنه يجيء في أشد اللحظات، صامتًا، حاضرًا بفعله؛ فتدرك أنه نصف صديقٍ في البيان، لكنه صديق كاملٌ في الوفاء.
حتى في الإيمان، تظنّ أول أمرك أن المؤمن لا بد أن يكون في يقين أبي بكر، وفي زهد الحسن، وفي دمعة الفُضيل، ثم تدرك بعد مشقة أن الناجين ليسوا الكاملين فحسب، بل أولئك المذنبين الذين لم يُغلقوا أبواب التوبة، الذين مشَوا إلى الله وإن عرجت خُطاهم، الذين اختاروا المضيَّ بنصف طريق بدل التيه الكامل.
هكذا تُعلِّمك الأيام أن “الوسط” ليس خيانةً للمبدأ، بل انحناءة نُبلٍ في مهبّ رياح الضرورة، وأن “التنازل” ليس ضعفًا، بل بُعدُ نظرٍ يختصر الطريق، وأن “القبول الناقص” هو في بعض المواطن، أرقى صور الامتنان.
نعم، إن أنصاف الحلول ليست ترفًا، ولا هروبًا، بل هي أحيانًا قمّة الوعي، ولبُّ الفقه بالحياة، وتلك هي سِمَة الكبار، الذين لم ينكسروا، ولم يتعجرفوا، بل فقط نضجوا.
وفي نهاية الأمر، الركنُ الذي احتمى فيه الناجون، لم يكن قصرًا متكاملَ الزينة، بل كان كِسرةَ بابٍ فُتحت لهم، فدخلوا منها، وبكوا على العتبة، وانتظروا النور.
وهذا يكفي.
••