••
ليست المشكلة في أنك لن تخرج من الحياة حيًّا، فهذه معلومة مشتركة بين البشر جميعًا؛ وإنما المصيبة أن تغادرها خفيفًا من المعنى، خالي الوفاض من الأثر، لم تُخلِّف وراءك شاهدًا يقول: هنا مرّ عبدٌ عرف ربَّه، فترك ما يدلّ عليه.
أن تُدفن وقد كانت أيامك خاليةً من قضية، من كلمة حق، من وجعٍ في وجه الباطل، من عملٍ يتيمٍ خالص، أن تموت ولم تشتبك مع قضاياك، ولم تترك خلفك إلا ضحكاتٍ على مقاطع، وصورًا بأطراف فنجان قهوة، وسيرةً تائهة في أروقة التسلية.
فما أقسى أن يُطوى عمرٌ بكامله، ولا يُرى له في صحف الخلود سطرٌ واحدٌ يثبت أنه عاش لله، وأنه مرّ يومًا في الأرض لا كما يمرّ الغافلون.
••
ليست المشكلة في أنك لن تخرج من الحياة حيًّا، فهذه معلومة مشتركة بين البشر جميعًا؛ وإنما المصيبة أن تغادرها خفيفًا من المعنى، خالي الوفاض من الأثر، لم تُخلِّف وراءك شاهدًا يقول: هنا مرّ عبدٌ عرف ربَّه، فترك ما يدلّ عليه.
أن تُدفن وقد كانت أيامك خاليةً من قضية، من كلمة حق، من وجعٍ في وجه الباطل، من عملٍ يتيمٍ خالص، أن تموت ولم تشتبك مع قضاياك، ولم تترك خلفك إلا ضحكاتٍ على مقاطع، وصورًا بأطراف فنجان قهوة، وسيرةً تائهة في أروقة التسلية.
فما أقسى أن يُطوى عمرٌ بكامله، ولا يُرى له في صحف الخلود سطرٌ واحدٌ يثبت أنه عاش لله، وأنه مرّ يومًا في الأرض لا كما يمرّ الغافلون.
••
••
من دلائل صفاء التوحيد، أن يغدو القلب زاهدًا في التفات الخلق، مشغولًا بنظر الحقّ، فحين يتحرّر العبد من أسر المقابل، وتُعاد هندسة دوافعه على قبلة ﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾، يغدو الامتنان طابعًا لصيقًا بشخصيّته، لا لمبالغة وجدانية، بل لأن كل تقدير من الخلق يبدو له زائدًا على استحقاقه، و هؤلاء لا ينشدون المقابل لأنهم اختاروا الأرفع: وجه الله.
فتراه يُنصت بتأثر لرسالة امتنان من زوجته، ويستحي من ثناء زميلٍ على جهدٍ لم يحتسبه، ويخجل من دعوة عابرٍ أُعجب بابتسامته، ويطأطئ رأسه حين يشكره محتاج أعانه خفية، هذه لحظة التخلّي عن شهوة الجزاء، التي عبّر عنها القرآن ببلاغة فائقة: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾. وحين تستقر هذه القناعة في النفس، تتحوّل أفعال الطاعة إلى سياحة روحية، لا صكوكَ تبادل، ذاك هو العطاء المعلّق بالسماء، لا الأرض.
••
من دلائل صفاء التوحيد، أن يغدو القلب زاهدًا في التفات الخلق، مشغولًا بنظر الحقّ، فحين يتحرّر العبد من أسر المقابل، وتُعاد هندسة دوافعه على قبلة ﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾، يغدو الامتنان طابعًا لصيقًا بشخصيّته، لا لمبالغة وجدانية، بل لأن كل تقدير من الخلق يبدو له زائدًا على استحقاقه، و هؤلاء لا ينشدون المقابل لأنهم اختاروا الأرفع: وجه الله.
فتراه يُنصت بتأثر لرسالة امتنان من زوجته، ويستحي من ثناء زميلٍ على جهدٍ لم يحتسبه، ويخجل من دعوة عابرٍ أُعجب بابتسامته، ويطأطئ رأسه حين يشكره محتاج أعانه خفية، هذه لحظة التخلّي عن شهوة الجزاء، التي عبّر عنها القرآن ببلاغة فائقة: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾. وحين تستقر هذه القناعة في النفس، تتحوّل أفعال الطاعة إلى سياحة روحية، لا صكوكَ تبادل، ذاك هو العطاء المعلّق بالسماء، لا الأرض.
••
••
📖 #كتاب_الأسبوع
•• خلف أسوار المدرسة ••
👤 أ.عمار سليمان
📄 ٢١٦ صفحة
في زمنٍ تكاثفت فيه الأسئلة حول جدوى النظام التعليمي الرسمي، يأتي هذا الكتاب ليقدّم للقارئ زاوية نظر غير مألوفة، تفتح الذهن لا للنقاش حول مناهج التعليم فحسب، بل حول أصل فكرة المدرسة الحديثة: من أنشأها؟ ولماذا؟ وما الهدف منها؟ وهل كانت مشروعًا معرفيًّا خالصًا، أم آلية للضبط الاجتماعي وتسيير السوق؟
يرجع الكاتب إلى الجذور التاريخية لنظام التعليم الإجباري، وينقّب في خلفياته السياسية والفكرية والاجتماعية، في أوروبا وأمريكا، محللاً البواعث التي دفعت لتقنين هذا النمط من التعليم، ويُظهر كيف تم توظيفه لغايات اقتصادية وسياسية، لا ترجع بالضرورة إلى مقصد العلم والتكوين، فيرصد بذلك انحراف المقاصد، وتحوّل التعليم إلى مؤسسة تُنتج الشهادة لا المعرفة، وتُخرج المؤهل لا المتعلّم.
يتطرّق بعد ذلك إلى النماذج الإسلامية، قبل التأثر بالنموذج الغربي، لافتًا إلى ما تميزت به من مرونة في الوسائل، ووضوح في الغاية، ثم يعرض محاولات لتجاوز الاختلالات البنيوية في التعليم الرسمي، مستعرضًا بدائل تربوية كأكاديمية خان، وتجربة منتسوري، وبعض الممارسات اليابانية والفلبينية.
الكتاب – وإن لم يُشبِع الجوع العلمي من حيث المنهجية والتوثيق – إلا أنه يطرح أسئلة تستحق الوقوف، ويوقظ في القارئ نزعة التأمل في ما بدا له سابقًا من المسلّمات. غير أن مما يؤخذ عليه، هو بُعده عن الترتيب المنهجي المتماسك، واستطراده في غير موضع، ما صرف الذهن عن مركز الفكرة في مواضع عديدة.
ومع ذلك، تبقى القيمة الحقيقية للكتاب في بعثه لنقاش عميق حول التعليم لا من حيث آلياته ومناهجه فحسب، بل من حيث فلسفته ووجهته، وهو ما يجعل هذا الطرح نافعًا لكل مربٍ وولي أمر ومهتم بالحالة المعرفية، يبحث لا عن مخرجات الامتحان، بل عن أثر العلم في بناء النفس وتوجيه المسار.
••
في زمنٍ تكاثفت فيه الأسئلة حول جدوى النظام التعليمي الرسمي، يأتي هذا الكتاب ليقدّم للقارئ زاوية نظر غير مألوفة، تفتح الذهن لا للنقاش حول مناهج التعليم فحسب، بل حول أصل فكرة المدرسة الحديثة: من أنشأها؟ ولماذا؟ وما الهدف منها؟ وهل كانت مشروعًا معرفيًّا خالصًا، أم آلية للضبط الاجتماعي وتسيير السوق؟
يرجع الكاتب إلى الجذور التاريخية لنظام التعليم الإجباري، وينقّب في خلفياته السياسية والفكرية والاجتماعية، في أوروبا وأمريكا، محللاً البواعث التي دفعت لتقنين هذا النمط من التعليم، ويُظهر كيف تم توظيفه لغايات اقتصادية وسياسية، لا ترجع بالضرورة إلى مقصد العلم والتكوين، فيرصد بذلك انحراف المقاصد، وتحوّل التعليم إلى مؤسسة تُنتج الشهادة لا المعرفة، وتُخرج المؤهل لا المتعلّم.
يتطرّق بعد ذلك إلى النماذج الإسلامية، قبل التأثر بالنموذج الغربي، لافتًا إلى ما تميزت به من مرونة في الوسائل، ووضوح في الغاية، ثم يعرض محاولات لتجاوز الاختلالات البنيوية في التعليم الرسمي، مستعرضًا بدائل تربوية كأكاديمية خان، وتجربة منتسوري، وبعض الممارسات اليابانية والفلبينية.
الكتاب – وإن لم يُشبِع الجوع العلمي من حيث المنهجية والتوثيق – إلا أنه يطرح أسئلة تستحق الوقوف، ويوقظ في القارئ نزعة التأمل في ما بدا له سابقًا من المسلّمات. غير أن مما يؤخذ عليه، هو بُعده عن الترتيب المنهجي المتماسك، واستطراده في غير موضع، ما صرف الذهن عن مركز الفكرة في مواضع عديدة.
ومع ذلك، تبقى القيمة الحقيقية للكتاب في بعثه لنقاش عميق حول التعليم لا من حيث آلياته ومناهجه فحسب، بل من حيث فلسفته ووجهته، وهو ما يجعل هذا الطرح نافعًا لكل مربٍ وولي أمر ومهتم بالحالة المعرفية، يبحث لا عن مخرجات الامتحان، بل عن أثر العلم في بناء النفس وتوجيه المسار.
••
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
••
|• أنوثة تعقل المودة |•
أحيانًا، في لحظات الصفاء النادرة، أسأل نفسي: كيف كانت تُبنى البيوت قبل أن تُنشأ معاهد الاستشارات الأسرية، وقبل أن تُرصّ كتب العلاقات الزوجية في الرفوف اللامعة؟كيف كانت تُغرس المودة؟ كيف كان يُدار الاختلاف؟ من أين كانت المرأة تستمد حكمتها، والرجل بصيرته؟
ثم أجد الجواب لا في ورش العمل ولا شهادات الاعتماد، بل في وصية أمّ مؤمنة، عرفت بفطرتها ما لم يُسجّله كثير من المختصين، وهي لم تحمل لقب "استشارية أسرية"، ولا استظلّت بفضاء رقميّ، بل عاشت في مجتمع قبليّ، ومع ذلك قدّمت لبنتها وصية تربوية تربو على كتب المناهج بأكملها، هي أمامة بنت الحارث، يوم زفّت ابنتها أمّ إياس، لم تكتب لها رسالة وداعيّة، بل ألقت في قلبها حكمةً تقطر فقهًا في النفس البشرية، وبصيرةً في إدارة العلاقة، وصناعة المودّة، وحفظ العشرة.
وهنا، في هذا النصّ النادر، تُعاد هيكلة العلاقة لا على صراع الأدوار، بل على حكمة التفاهم. فمن تأمل هذه الوصية، عَلِم أن تدبير البيوت لا يصنعه الانفعال، بل الحِكمة، وأن دوام الزواج لا يُبنى على الرغبات، بل على الرعاية، والتفهّم، والعقل الرشيد.
"أي بُنيّة: إن الوصية لو تُركت لفضل أدب، تُركت لذلك منك؛ ولكنها تذكرةٌ للغافل، ومعونةٌ للعاقل. ولو أن امرأةً استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدّة حاجتها إليهما، كنتِ أغنى الناس عنه؛ ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهنّ خُلق الرجال.
أي بُنيّة: إنك فارقتِ الجوَّ الذي منه خرجتِ، وخلفتِ العشَّ الذي فيه درجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فأصبح بملكه عليكِ رقيبًا ومليكًا؛ فكوني له أَمَةً، يكن لكِ عبدًا وشيكًا.
يا بُنيّة: احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذِكرًا:
• الصحبة بالقناعة،
• والمعاشرة بحسن السمع والطاعة،
• والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضوع أنفه؛ فلا تقع عينه منكِ على قبيح، ولا يشمّ منكِ إلا أطيب ريح،
• والكحل أحسن الحسن، والماء أطيب الطيب المفقود،
• والتعهد لوقت طعامه، والهدو عنه عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة،
• والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم جميل التدبير،
• ولا تفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنكِ إن أفشيتِ سرَّه، لم تأمني غدره، وإن عصيتِ أمره، أوغرتِ صدره،
• ثم انقي له الفرح إن كان ترحًا، وإلا فكتئاب عنده إن كان فرحًا؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير،
• وكوني أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لكِ إكرامًا،
• وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة.
واعلمي: أنكِ لا تصلين إلى ما تحبين، حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببتِ وكرهتِ، والله يُخيّر لكِ".
📚 جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة - أحمد زكي صفوت - ١ / ١٤٥.
••
|• أنوثة تعقل المودة |•
أحيانًا، في لحظات الصفاء النادرة، أسأل نفسي: كيف كانت تُبنى البيوت قبل أن تُنشأ معاهد الاستشارات الأسرية، وقبل أن تُرصّ كتب العلاقات الزوجية في الرفوف اللامعة؟كيف كانت تُغرس المودة؟ كيف كان يُدار الاختلاف؟ من أين كانت المرأة تستمد حكمتها، والرجل بصيرته؟
ثم أجد الجواب لا في ورش العمل ولا شهادات الاعتماد، بل في وصية أمّ مؤمنة، عرفت بفطرتها ما لم يُسجّله كثير من المختصين، وهي لم تحمل لقب "استشارية أسرية"، ولا استظلّت بفضاء رقميّ، بل عاشت في مجتمع قبليّ، ومع ذلك قدّمت لبنتها وصية تربوية تربو على كتب المناهج بأكملها، هي أمامة بنت الحارث، يوم زفّت ابنتها أمّ إياس، لم تكتب لها رسالة وداعيّة، بل ألقت في قلبها حكمةً تقطر فقهًا في النفس البشرية، وبصيرةً في إدارة العلاقة، وصناعة المودّة، وحفظ العشرة.
وهنا، في هذا النصّ النادر، تُعاد هيكلة العلاقة لا على صراع الأدوار، بل على حكمة التفاهم. فمن تأمل هذه الوصية، عَلِم أن تدبير البيوت لا يصنعه الانفعال، بل الحِكمة، وأن دوام الزواج لا يُبنى على الرغبات، بل على الرعاية، والتفهّم، والعقل الرشيد.
"أي بُنيّة: إن الوصية لو تُركت لفضل أدب، تُركت لذلك منك؛ ولكنها تذكرةٌ للغافل، ومعونةٌ للعاقل. ولو أن امرأةً استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدّة حاجتها إليهما، كنتِ أغنى الناس عنه؛ ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهنّ خُلق الرجال.
أي بُنيّة: إنك فارقتِ الجوَّ الذي منه خرجتِ، وخلفتِ العشَّ الذي فيه درجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فأصبح بملكه عليكِ رقيبًا ومليكًا؛ فكوني له أَمَةً، يكن لكِ عبدًا وشيكًا.
يا بُنيّة: احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذِكرًا:
• الصحبة بالقناعة،
• والمعاشرة بحسن السمع والطاعة،
• والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضوع أنفه؛ فلا تقع عينه منكِ على قبيح، ولا يشمّ منكِ إلا أطيب ريح،
• والكحل أحسن الحسن، والماء أطيب الطيب المفقود،
• والتعهد لوقت طعامه، والهدو عنه عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة،
• والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم جميل التدبير،
• ولا تفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنكِ إن أفشيتِ سرَّه، لم تأمني غدره، وإن عصيتِ أمره، أوغرتِ صدره،
• ثم انقي له الفرح إن كان ترحًا، وإلا فكتئاب عنده إن كان فرحًا؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير،
• وكوني أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لكِ إكرامًا،
• وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة.
واعلمي: أنكِ لا تصلين إلى ما تحبين، حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببتِ وكرهتِ، والله يُخيّر لكِ".
••
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
••
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]
في هذه الآية يَختزل القرآن سُنن الخروج من الأزمات، لا في وفرة الأسباب، ولا في كثرة التدبيرات، بل في مقامٍ قلبيّ يُسمّى: التقوى، فالتقوى ليست مجرد اجتنابٍ للحرام، بل هي حالة دائمة من اليقظة القلبية مع الله، في السرّ والعلن، في الرضا والغضب، في الحركة والسكون، والعجيب حين تعلم أن مفاتيح الانفراج ليست في يدك، بل في قلبك.
••
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]
في هذه الآية يَختزل القرآن سُنن الخروج من الأزمات، لا في وفرة الأسباب، ولا في كثرة التدبيرات، بل في مقامٍ قلبيّ يُسمّى: التقوى، فالتقوى ليست مجرد اجتنابٍ للحرام، بل هي حالة دائمة من اليقظة القلبية مع الله، في السرّ والعلن، في الرضا والغضب، في الحركة والسكون، والعجيب حين تعلم أن مفاتيح الانفراج ليست في يدك، بل في قلبك.
••
••
في رحلة الإنسان عبر الحياة، سيتعثر غير مرة بمطبات التقييم البشري: هذا يمدحه، وذاك يذمه، وثالثٌ يحكم على قلبه من فتور لحظة، و كلما ازداد بصرك بحقيقة الناس، انزاح عن صدرك عبء الترقب الثقيل، ذاك العبء الذي يجعل القلب رهينة تصفيقهم، أو أسير عبوسهم.
والقلوب التي تربّت على مقاييس الخلق، تمشي في الحياة كمن يمشي على قشر زجاج، كل خطوةٍ تُجرّح، وكل التفاتة تُربك، لأنها لم تعرف الثبات بعد، أما من عرف الناس على حقيقتهم، عرف أنهم كأوراق الخريف، تُحرّكهم رياح المزاج، وتُقلبهم نوازع الهوى، فلا يثبت لهم مدح، ولا يستقيم لهم ذم.
وصدق الفضيل بن عياض حينما قال – وهو ممن فتّش في طبائع البشر ثم اختصرها في سطر – " من عرف الناس استراح، فلا يطرب لمدحهم، ولا يجزع من ذمّهم، لأنهم سريعو الرضا، سريعو الغضب، والهوى يُحرّكهم." تشعر أنك أمام مفتاح من مفاتيح النجاة القلبية، يُخرِجك من سجن الانفعالات إلى سعة التعلق بالواحد الأحد.
••
في رحلة الإنسان عبر الحياة، سيتعثر غير مرة بمطبات التقييم البشري: هذا يمدحه، وذاك يذمه، وثالثٌ يحكم على قلبه من فتور لحظة، و كلما ازداد بصرك بحقيقة الناس، انزاح عن صدرك عبء الترقب الثقيل، ذاك العبء الذي يجعل القلب رهينة تصفيقهم، أو أسير عبوسهم.
والقلوب التي تربّت على مقاييس الخلق، تمشي في الحياة كمن يمشي على قشر زجاج، كل خطوةٍ تُجرّح، وكل التفاتة تُربك، لأنها لم تعرف الثبات بعد، أما من عرف الناس على حقيقتهم، عرف أنهم كأوراق الخريف، تُحرّكهم رياح المزاج، وتُقلبهم نوازع الهوى، فلا يثبت لهم مدح، ولا يستقيم لهم ذم.
وصدق الفضيل بن عياض حينما قال – وهو ممن فتّش في طبائع البشر ثم اختصرها في سطر – " من عرف الناس استراح، فلا يطرب لمدحهم، ولا يجزع من ذمّهم، لأنهم سريعو الرضا، سريعو الغضب، والهوى يُحرّكهم." تشعر أنك أمام مفتاح من مفاتيح النجاة القلبية، يُخرِجك من سجن الانفعالات إلى سعة التعلق بالواحد الأحد.
••
••
من لَطيف سُنن الله في البشر أن في قلوبهم مواضع لا تُفتح بضغوط الأقربين، ولا تُدرك بقوة الملاحظة، بل تبقى مغلقةً كالغرف العُلوية التي لا يُؤذن بدخولها إلا لمن رُزق حظًّا من القبول والطمأنينة، والحقيقة: أن لكل إنسان ساحة داخلية لا تُرى، يضع فيها انكساراته التي لم يجد لها لغة، ودعواتٍ لم يسمعها أحد، وتعبًا طويلًا لا يُحسن شكواه.
فإن قرّبك أحدهم، وأراك صفحة من تلك الذكريات العتيقة، كأنه يقول لك: “دعوتُ اللّه كثيرًا بهذه الأمنية”، أو حدثك عن يأسٍ لم يتجاوزه بعد، أو أخبرك عن عادةٍ يقاومها في خفاء الليل، فإن أذن لك أحدهم بالمرور على هذه الساحة، فاعلم أنه لم يُرِد رأيك، بل أراد قلبًا لا يخونه الفهم ولا يشتدّ عليه الحكم.
وإن أقفل قلبه عنك، فدع الباب في حاله، فما أكثر من طرق الأبواب الخطأ، وظنّ أن المحبة هي في كثرة الإفشاء، ثمة أبواب في الأرواح، جمالها في أن تبقى موصدة، لا لأن وراءها ما يُخاف، بل لأن الله أراد أن يُنعم على صاحبها بالستر، وعلى الزائر بالكفّ.
••
من لَطيف سُنن الله في البشر أن في قلوبهم مواضع لا تُفتح بضغوط الأقربين، ولا تُدرك بقوة الملاحظة، بل تبقى مغلقةً كالغرف العُلوية التي لا يُؤذن بدخولها إلا لمن رُزق حظًّا من القبول والطمأنينة، والحقيقة: أن لكل إنسان ساحة داخلية لا تُرى، يضع فيها انكساراته التي لم يجد لها لغة، ودعواتٍ لم يسمعها أحد، وتعبًا طويلًا لا يُحسن شكواه.
فإن قرّبك أحدهم، وأراك صفحة من تلك الذكريات العتيقة، كأنه يقول لك: “دعوتُ اللّه كثيرًا بهذه الأمنية”، أو حدثك عن يأسٍ لم يتجاوزه بعد، أو أخبرك عن عادةٍ يقاومها في خفاء الليل، فإن أذن لك أحدهم بالمرور على هذه الساحة، فاعلم أنه لم يُرِد رأيك، بل أراد قلبًا لا يخونه الفهم ولا يشتدّ عليه الحكم.
وإن أقفل قلبه عنك، فدع الباب في حاله، فما أكثر من طرق الأبواب الخطأ، وظنّ أن المحبة هي في كثرة الإفشاء، ثمة أبواب في الأرواح، جمالها في أن تبقى موصدة، لا لأن وراءها ما يُخاف، بل لأن الله أراد أن يُنعم على صاحبها بالستر، وعلى الزائر بالكفّ.
••
••
✔️ بشرى لعشّاق العلم.
روى الشيخان عن نبيّ الرحمة صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «مَن يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهْه في الدِّين».
فإذا رأيت الله قد ألهمك حبّ العلم الشرعي، وألان قلبك للعلم، فابسط كفّ الشكر، فإنك على عتبة الخير، وفي مَطلع الهداية.
وها هي “المِرقاة”، في حُلّتها الثالثة، تشعّ كالفجر في دُجى الحيرة، وتستقبل الساعين إلى النور، الطامحين إلى سُلّمٍ يرقى بهم في معارج العلم، دون تكليفٍ أكاديميٍّ أو مشقّةٍ اصطلاحيةٍ تُنَفّر، بل بأسلوبٍ سهلٍ يُشرِعُ أبواب الفهم، ويرسم لغير المختصين خارطةَ ارتقاءٍ منهجية.
✔️ المواد المقررة:
- آداب العلم
- العقيدة
- الفقه
- أصول الفقه
- اللغة العربية
- علوم القرآن
- مصطلح الحديث
- السيرة النبوية
💡مميزات المبادرة:
💯 مجاني
📝 تعليم بلغة علمية عصرية وبطابع غير أكاديمي
📚 ورد يومي ميسر
🌐 منصة إلكترونية للدراسة
📝 تقويمات واختبارات دورية
🌟 لقاءات حصرية في كل علم
🎙 مواد مسموعة ومقروءة
💡 مواد إثرائية متنوعة
👥 مجموعات تفاعلية للجنسين
✉️ شهادة اجتياز
💻 والمبادرة تحتوي على مسارين:
١- المسار الأول | الدراسة الجماعية عن بعد- الدفعة الثالثة- عن طريق قناة التليجرام.
٢- المسار الثاني | الدراسة الفردية عن طريق منصة المرقاة الإلكترونية 👇🏻
🔖 رابط منصة المرقاة:
https://almerqat.msaaq.net/
🗓 بداية الدراسة:
يوم الأحد 1446/10/29 الموافق 2025/4/27
✅️ سارع بالتسجيل عبر الرابط:
https://docs.google.com/forms/d/e/1FAIpQLScWfMZxlxKZOM4tp0q7fOVQkn0WZ7xShnHfxs7hZfzy0rnzrQ/viewform?usp=header
💭 للتواصل عبر بوت المبادرة:
@almerqat1444Bot
✉️ شاركونا في نشر الإعلان 🌹
••
روى الشيخان عن نبيّ الرحمة صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «مَن يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهْه في الدِّين».
فإذا رأيت الله قد ألهمك حبّ العلم الشرعي، وألان قلبك للعلم، فابسط كفّ الشكر، فإنك على عتبة الخير، وفي مَطلع الهداية.
وها هي “المِرقاة”، في حُلّتها الثالثة، تشعّ كالفجر في دُجى الحيرة، وتستقبل الساعين إلى النور، الطامحين إلى سُلّمٍ يرقى بهم في معارج العلم، دون تكليفٍ أكاديميٍّ أو مشقّةٍ اصطلاحيةٍ تُنَفّر، بل بأسلوبٍ سهلٍ يُشرِعُ أبواب الفهم، ويرسم لغير المختصين خارطةَ ارتقاءٍ منهجية.
- آداب العلم
- العقيدة
- الفقه
- أصول الفقه
- اللغة العربية
- علوم القرآن
- مصطلح الحديث
- السيرة النبوية
💡مميزات المبادرة:
١- المسار الأول | الدراسة الجماعية عن بعد- الدفعة الثالثة- عن طريق قناة التليجرام.
٢- المسار الثاني | الدراسة الفردية عن طريق منصة المرقاة الإلكترونية 👇🏻
https://almerqat.msaaq.net/
يوم الأحد 1446/10/29 الموافق 2025/4/27
https://docs.google.com/forms/d/e/1FAIpQLScWfMZxlxKZOM4tp0q7fOVQkn0WZ7xShnHfxs7hZfzy0rnzrQ/viewform?usp=header
@almerqat1444Bot
••
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
قناة | توّاق
•• ✔️ بشرى لعشّاق العلم. روى الشيخان عن نبيّ الرحمة صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «مَن يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهْه في الدِّين». فإذا رأيت الله قد ألهمك حبّ العلم الشرعي، وألان قلبك للعلم، فابسط كفّ الشكر، فإنك على عتبة الخير، وفي مَطلع الهداية. وها هي…
فرسان هذا الميدان أصحاب القنوات، حلفاء الأجر، وسدنة العلم، وندماء الأثر، لا أوصيكم بتعميم المنشور السابق مع محبيكم.
••
•| شهوة النقد بعباءة النصيحة |•
من الظواهر اللافتة عند ملامسة مفاصل الواقع التربوي والعلمي: نزعة التهوين والتقليل، والتعليق الساخر على المشاريع العلمية والبرامج التربوية، حتى وإن كانت نيات أصحابها صالحة، وأهدافها نبيلة، فتجد البرنامج التربوي قد نبت في بيئة جافة، وسُقي بدموع الساعين، ثم ما إن يبدأ في الإزهار، حتى تتكاثر عليه عيون الناقدين، وهذه الظاهرة لم تعد حالةً فردية أو هامشًا عارضًا، بل تحوّلت عند بعضهم إلى “عادة ذهنية” و”نفسية تفاعلية”، لا تكاد ترى مشروعًا نافعًا إلا ويتبع التعليق عليه تنفّس ساخر ممزوجاً بسُكّرِ التقوى، أو مقارنة جارحة، أو لمزٍ ينقض البناء باسم التقييم.
ولعلّ الأخطر في هذا الباب أن هذه اللغة المغموسة في “القيل والقال” لم تكتفِ بساحات الواقع، بل هاجرت إلى الفضاء الافتراضي ووجدت فيه موئلًا خصبًا، تُمارس فيه بأريحية “النقد المستتر”، و”المقارنة الناقمة”، و”التحليل غير المسؤول”، وكل ذلك تحت راية “النية الحسنة” و”الحرص على المصلحة”.
وتحت هذه اللافتات المُلطفة، يتسرب داء القيل والقال، لا ككلام عرضي عفوي، بل كمنهج تنظيري، يفتّ في عضد المشاريع، ويضعف ثقة الطاقات، ويزرع في العقول الصغيرة أن النقد قبل الفهم، وأن الشك قبل التثبّت، وأن الظن السيئ “حرصٌ شرعي” ما دام مغلّفًا بمصطلحات شرعية، وإن أخطر ما في هذا المسلك أن “النيات الحسنة” لا تكفي لتبرير خللٍ منهجيٍّ في النقد، فكم من مريدٍ للخير لم يُصبْه، وكم من ناصحٍ جَرّ بعفويته تشويهًا، لا تقويمًا.
وليس النقد في ذاته مذمومًا، بل هو ضرورة حضارية، ومقومٌ أصيل في البناء العلمي، لكن الإشكال كل الإشكال حين يتحوّل النقد إلى شهوةٍ نفسية، لا إلى غيرةٍ منهجية، وحين يصبح حضور “الخلل” في المشروع، هو مدخل التقييم الوحيد، دون اعتبار لميزان المصالح، أو للجهود المتراكمة، أو لسياقات الزمان والمكان، لكن الحقيقة أن هذه النبرة ليست انطلاقًا من معيار علمي، بقدر ما هي تفريغ لانطباع نفسي لم يُضبط بمنهاج شرعي ولا خلقٍ علمي.
و القلوب أوعية، فإذا امتلأت بشهوة الحديث عن الناس، فرغت من هَمّ الحديث إلى الله” لكن هذه الظاهرة – وإن كانت مشهودة في الواقع – قد تضخّمت أضعافًا حين استُصحبت في العوالم الافتراضية، حيث يُمكن لواحدٍ أن يُجهز على جهد سنين، بتغريدةٍ عائمة، لأن هذا العالم الافتراضي، تتسارع فيه الأحكام، وتنتشر التهم، وتُخزّن الكلمات في أرشيفٍ رقميٍّ لا ينسى، فيكون الأذى فيه مضاعفًا، والبقاء للقول الأشد، لا للأصدق. ونحن في زمن أصبحت فيه اللغة سريعة، وساحات الرأي مفتوحة، لكن القلوب أضيق من أن تتحمّل رؤية نجاح الغير بهدوء، فاستفحلت أمراض النقد المسموم، وتلبّسها لباس الحرص، وغُلفت في ظاهرها بلغة “التقويم”، لكنها في باطنها تحمل كثيرًا من غياب الورع، وضيق الصدر، وحبّ التصدر.
وهنا يحسن أن نتوقف عند مشهد قرآني عظيم، يعيد إلينا ميزان الإنصاف عند اختلاف الرؤية، وخصوصًا في ساحة المشاريع الكبرى: ﴿قال يا ابنَ أُمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيتُ أن تقول فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم تَرْقُب قولي﴾ هذا الحوار النبوي بين موسى وهارون عليهما السلام، فيه من الدروس ما يُذهل العاقل، فموسى – وهو نبيٌ كريم – عاد ليجد قومه قد فُتنوا، فغضب لله، ولامَ أخاه على ما بدا له تقصيرًا، لكن انظر إلى رد هارون، الذي لم يدخل في دائرة الدفاع عن الذات، ولا استدرجته العاطفة إلى التبرير، بل قدّم النية، والخشية من مآلات الفُرقة، وحذر من أن تُستغل الواقعة شماتةً من الأعداء، ونص الإمام السعدي في تفسيره: "﴿وكادوا يَقْتُلونَني﴾؛ أي: فلا تظنَّ بي تقصيرًا، ﴿فلا تُشْمِتْ بيَ الأعداء﴾: بنهرِك لي ومسِّك إيَّايَ بسوءٍ فإنَّ الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرةً أو يطَّلعوا لي على زَلَّة، ﴿ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾: فتعامِلُني معاملتهم." “فلا تشمت بي الأعداء” قاعدة أخلاقية كبرى في نقد العمل الإصلاحي: أن لا يُقدّم نقدك هدية مجانية لأعداء الدين، وأن لا يكون نقد القريب سببًا لشماتة الغريب، حتى وإن كنت محقًا في أصل الملاحظة، ومع ذلك استحضر حديث هارون- عليه السلام- في لحظة النزاع الداخلي خطر أن تتحوّل الخصومة إلى مادة شماتة لأعداء الرسالة، فما بالك بمن يبسط الخلافات التربوية والاختلافات الإدارية والملاحظات على المشاريع العلمية في كل فضاء، دون اعتبارٍ لعدوّ يتربص، ولا جاهلٍ يتأثر، ولا مبتدئٍ قد يتراجع؟!
أليس من العقل والديانة، أن نزن كلماتنا بموازين النبل، وأن لا نُسلم أخطاء المصلحين لأفواه المشككين، وأن ننتصر للحق دون أن نهدم جسور الثقة بين أهل الحق أنفسهم؟فلئن كان الإصلاح فرضًا، فـ “حسن البيان” في الإصلاح أدبٌ واجب، وإن القسوة في الطرح لا تدل بالضرورة على صدق الغيرة.
اجعل النقد شُعلة بناء لا نارَ حطب، واكتم الظنون كما تكتم الزلات، ورحم الله من أصلح وهو يُجِلّ، ونصح وهو يتألّم، ووعظ وهو يتقي الله أن يُشمت بالأخيار.
••
•| شهوة النقد بعباءة النصيحة |•
من الظواهر اللافتة عند ملامسة مفاصل الواقع التربوي والعلمي: نزعة التهوين والتقليل، والتعليق الساخر على المشاريع العلمية والبرامج التربوية، حتى وإن كانت نيات أصحابها صالحة، وأهدافها نبيلة، فتجد البرنامج التربوي قد نبت في بيئة جافة، وسُقي بدموع الساعين، ثم ما إن يبدأ في الإزهار، حتى تتكاثر عليه عيون الناقدين، وهذه الظاهرة لم تعد حالةً فردية أو هامشًا عارضًا، بل تحوّلت عند بعضهم إلى “عادة ذهنية” و”نفسية تفاعلية”، لا تكاد ترى مشروعًا نافعًا إلا ويتبع التعليق عليه تنفّس ساخر ممزوجاً بسُكّرِ التقوى، أو مقارنة جارحة، أو لمزٍ ينقض البناء باسم التقييم.
ولعلّ الأخطر في هذا الباب أن هذه اللغة المغموسة في “القيل والقال” لم تكتفِ بساحات الواقع، بل هاجرت إلى الفضاء الافتراضي ووجدت فيه موئلًا خصبًا، تُمارس فيه بأريحية “النقد المستتر”، و”المقارنة الناقمة”، و”التحليل غير المسؤول”، وكل ذلك تحت راية “النية الحسنة” و”الحرص على المصلحة”.
وتحت هذه اللافتات المُلطفة، يتسرب داء القيل والقال، لا ككلام عرضي عفوي، بل كمنهج تنظيري، يفتّ في عضد المشاريع، ويضعف ثقة الطاقات، ويزرع في العقول الصغيرة أن النقد قبل الفهم، وأن الشك قبل التثبّت، وأن الظن السيئ “حرصٌ شرعي” ما دام مغلّفًا بمصطلحات شرعية، وإن أخطر ما في هذا المسلك أن “النيات الحسنة” لا تكفي لتبرير خللٍ منهجيٍّ في النقد، فكم من مريدٍ للخير لم يُصبْه، وكم من ناصحٍ جَرّ بعفويته تشويهًا، لا تقويمًا.
وليس النقد في ذاته مذمومًا، بل هو ضرورة حضارية، ومقومٌ أصيل في البناء العلمي، لكن الإشكال كل الإشكال حين يتحوّل النقد إلى شهوةٍ نفسية، لا إلى غيرةٍ منهجية، وحين يصبح حضور “الخلل” في المشروع، هو مدخل التقييم الوحيد، دون اعتبار لميزان المصالح، أو للجهود المتراكمة، أو لسياقات الزمان والمكان، لكن الحقيقة أن هذه النبرة ليست انطلاقًا من معيار علمي، بقدر ما هي تفريغ لانطباع نفسي لم يُضبط بمنهاج شرعي ولا خلقٍ علمي.
و القلوب أوعية، فإذا امتلأت بشهوة الحديث عن الناس، فرغت من هَمّ الحديث إلى الله” لكن هذه الظاهرة – وإن كانت مشهودة في الواقع – قد تضخّمت أضعافًا حين استُصحبت في العوالم الافتراضية، حيث يُمكن لواحدٍ أن يُجهز على جهد سنين، بتغريدةٍ عائمة، لأن هذا العالم الافتراضي، تتسارع فيه الأحكام، وتنتشر التهم، وتُخزّن الكلمات في أرشيفٍ رقميٍّ لا ينسى، فيكون الأذى فيه مضاعفًا، والبقاء للقول الأشد، لا للأصدق. ونحن في زمن أصبحت فيه اللغة سريعة، وساحات الرأي مفتوحة، لكن القلوب أضيق من أن تتحمّل رؤية نجاح الغير بهدوء، فاستفحلت أمراض النقد المسموم، وتلبّسها لباس الحرص، وغُلفت في ظاهرها بلغة “التقويم”، لكنها في باطنها تحمل كثيرًا من غياب الورع، وضيق الصدر، وحبّ التصدر.
وهنا يحسن أن نتوقف عند مشهد قرآني عظيم، يعيد إلينا ميزان الإنصاف عند اختلاف الرؤية، وخصوصًا في ساحة المشاريع الكبرى: ﴿قال يا ابنَ أُمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيتُ أن تقول فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم تَرْقُب قولي﴾ هذا الحوار النبوي بين موسى وهارون عليهما السلام، فيه من الدروس ما يُذهل العاقل، فموسى – وهو نبيٌ كريم – عاد ليجد قومه قد فُتنوا، فغضب لله، ولامَ أخاه على ما بدا له تقصيرًا، لكن انظر إلى رد هارون، الذي لم يدخل في دائرة الدفاع عن الذات، ولا استدرجته العاطفة إلى التبرير، بل قدّم النية، والخشية من مآلات الفُرقة، وحذر من أن تُستغل الواقعة شماتةً من الأعداء، ونص الإمام السعدي في تفسيره: "﴿وكادوا يَقْتُلونَني﴾؛ أي: فلا تظنَّ بي تقصيرًا، ﴿فلا تُشْمِتْ بيَ الأعداء﴾: بنهرِك لي ومسِّك إيَّايَ بسوءٍ فإنَّ الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرةً أو يطَّلعوا لي على زَلَّة، ﴿ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾: فتعامِلُني معاملتهم." “فلا تشمت بي الأعداء” قاعدة أخلاقية كبرى في نقد العمل الإصلاحي: أن لا يُقدّم نقدك هدية مجانية لأعداء الدين، وأن لا يكون نقد القريب سببًا لشماتة الغريب، حتى وإن كنت محقًا في أصل الملاحظة، ومع ذلك استحضر حديث هارون- عليه السلام- في لحظة النزاع الداخلي خطر أن تتحوّل الخصومة إلى مادة شماتة لأعداء الرسالة، فما بالك بمن يبسط الخلافات التربوية والاختلافات الإدارية والملاحظات على المشاريع العلمية في كل فضاء، دون اعتبارٍ لعدوّ يتربص، ولا جاهلٍ يتأثر، ولا مبتدئٍ قد يتراجع؟!
أليس من العقل والديانة، أن نزن كلماتنا بموازين النبل، وأن لا نُسلم أخطاء المصلحين لأفواه المشككين، وأن ننتصر للحق دون أن نهدم جسور الثقة بين أهل الحق أنفسهم؟فلئن كان الإصلاح فرضًا، فـ “حسن البيان” في الإصلاح أدبٌ واجب، وإن القسوة في الطرح لا تدل بالضرورة على صدق الغيرة.
اجعل النقد شُعلة بناء لا نارَ حطب، واكتم الظنون كما تكتم الزلات، ورحم الله من أصلح وهو يُجِلّ، ونصح وهو يتألّم، ووعظ وهو يتقي الله أن يُشمت بالأخيار.
••
••
من غرائب مسالك النفوس في الطريق إلى الله: أن يركن بعضهم إلى تديّنٍ قديم، يلوكه حديثًا، ويعيش عليه وجدانًا، وكأن الإيمان عُلبة مغلقة تُخزّن في الذاكرة لا دفقًا متجدّدًا في القلب.
يظلّ العبد يقتات على بقايا إيمانيةٍ من ماضٍ تليد، يروي لك كيف كان يلزم الحلقات، ويحفظ المتون، ويتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار، لكن إذا فتّشت عن حاضره، وجدت القَدمَ موهونة، والنفس ساكنة، والركعات باردة، وكأنّ القلب يعيش على أرشيف لا على اتصال، تراه يستأنس بما كان، لا بما هو كائنٌ بينه وبين الله الآن.
وما علم المسكين أن من أعظم خُسران الطريق: أن يُبدَّل تديّن “اللحظة” بتديّن “الذاكرة”، وأن يُستبدَل العهدُ المتجدد مع الله بتوثيق لحظة قد خلت، فالإيمان الحق ليس وثيقةً في الأرشيف بل نفَسٌ حاضر، وتجديدٌ دائم للعهد، وسجدةٌ اليوم، لا دمعةٌ بالأمس
••
من غرائب مسالك النفوس في الطريق إلى الله: أن يركن بعضهم إلى تديّنٍ قديم، يلوكه حديثًا، ويعيش عليه وجدانًا، وكأن الإيمان عُلبة مغلقة تُخزّن في الذاكرة لا دفقًا متجدّدًا في القلب.
يظلّ العبد يقتات على بقايا إيمانيةٍ من ماضٍ تليد، يروي لك كيف كان يلزم الحلقات، ويحفظ المتون، ويتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار، لكن إذا فتّشت عن حاضره، وجدت القَدمَ موهونة، والنفس ساكنة، والركعات باردة، وكأنّ القلب يعيش على أرشيف لا على اتصال، تراه يستأنس بما كان، لا بما هو كائنٌ بينه وبين الله الآن.
وما علم المسكين أن من أعظم خُسران الطريق: أن يُبدَّل تديّن “اللحظة” بتديّن “الذاكرة”، وأن يُستبدَل العهدُ المتجدد مع الله بتوثيق لحظة قد خلت، فالإيمان الحق ليس وثيقةً في الأرشيف بل نفَسٌ حاضر، وتجديدٌ دائم للعهد، وسجدةٌ اليوم، لا دمعةٌ بالأمس
••
••
الجمعةُ نداء ترميم سماوي، يُعيد تشكيل القلب بعد اضطراب الأسبوع، ويستنهض في النفس معاني العبودية التي أوهنتها الغفلة.
قراءة الكهف، الصلاة على النبي -ﷺ-، انتظار ساعة الإجابة، ليست أعمالًا متناثرة، بل خيوطٌ ينسج بها العبد سترًا من السكينة حول قلبه، ومن لم يُربِّ قلبه على بركات الجمعة، فأنّى لقلبٍ أعزلٍ أن يصمد في وجه أشواك الأيام؟
••
الجمعةُ نداء ترميم سماوي، يُعيد تشكيل القلب بعد اضطراب الأسبوع، ويستنهض في النفس معاني العبودية التي أوهنتها الغفلة.
قراءة الكهف، الصلاة على النبي -ﷺ-، انتظار ساعة الإجابة، ليست أعمالًا متناثرة، بل خيوطٌ ينسج بها العبد سترًا من السكينة حول قلبه، ومن لم يُربِّ قلبه على بركات الجمعة، فأنّى لقلبٍ أعزلٍ أن يصمد في وجه أشواك الأيام؟
••
••
ما من قلبٍ تأخّر عن السير في ركاب الهدى، إلا وسُحب إلى غيره؛ فليس الإنسان مخلوقًا ليبقى على هامش التأثّر، بل هو في جوهره كائنٌ مولَع بالاقتداء، إمّا أن يقوده نور، أو يتخطفه بريق زائف.
والفتنة لا تبدأ من عقلٍ معترض، بل من قلبٍ فارغ، تأخّر عن الامتلاء بالنور، فامتلأ بالسراب، فإن تأخر المرء عن إدراك ركب الاقتداء، فليعلم أن ذلك ليس حيادًا كما يُخيَّل له، بل هو انكشافٌ أمام موجات الفتن التي لا تنتظر إذنًا لتغزو، ولا تعترف بمنطق التردّد، وكلّ تأخّرٍ في الاقتداء، يفتح الباب واسعًا للافتتان؛ لأن القلب لا يبقى فراغًا، بل تملؤه صورةٌ ما، فكرةٌ ما، قدوةٌ ما، وربما كانت على النقيض تمامًا من النور الأول.
وحين يتأخّر العبد عن النور، لا يأتيه الظلام دفعة واحدة، بل يتسلّل إليه على هيئة إعجاب، وانبهار، وتأثّر، حتى يجد نفسه وقد انصرف عن المعصوم -الوحي- إلى المبهور به، والقلوب لا تقف في منتصف الطريق؛ إمّا أن تُزفّ إلى الأثر، أو تُسحب إلى الافتتان، فليس في شأن الهداية مناطق رماديّة، فيا من تُبطئ عن الأثر، انتبه؛ فإن البطء عن الطريق لا يعني أنك ثابت، بل قد يعني أن الطريق بُدل من تحت قدميك دون أن تشعر.
فلا تؤخّر قلبك عن مواضع النور، فكلّ تأخرٍ في الاقتداء، هو تأشيرة عبور للفتنة، ولكن دون أن تشعر.
••
ما من قلبٍ تأخّر عن السير في ركاب الهدى، إلا وسُحب إلى غيره؛ فليس الإنسان مخلوقًا ليبقى على هامش التأثّر، بل هو في جوهره كائنٌ مولَع بالاقتداء، إمّا أن يقوده نور، أو يتخطفه بريق زائف.
والفتنة لا تبدأ من عقلٍ معترض، بل من قلبٍ فارغ، تأخّر عن الامتلاء بالنور، فامتلأ بالسراب، فإن تأخر المرء عن إدراك ركب الاقتداء، فليعلم أن ذلك ليس حيادًا كما يُخيَّل له، بل هو انكشافٌ أمام موجات الفتن التي لا تنتظر إذنًا لتغزو، ولا تعترف بمنطق التردّد، وكلّ تأخّرٍ في الاقتداء، يفتح الباب واسعًا للافتتان؛ لأن القلب لا يبقى فراغًا، بل تملؤه صورةٌ ما، فكرةٌ ما، قدوةٌ ما، وربما كانت على النقيض تمامًا من النور الأول.
وحين يتأخّر العبد عن النور، لا يأتيه الظلام دفعة واحدة، بل يتسلّل إليه على هيئة إعجاب، وانبهار، وتأثّر، حتى يجد نفسه وقد انصرف عن المعصوم -الوحي- إلى المبهور به، والقلوب لا تقف في منتصف الطريق؛ إمّا أن تُزفّ إلى الأثر، أو تُسحب إلى الافتتان، فليس في شأن الهداية مناطق رماديّة، فيا من تُبطئ عن الأثر، انتبه؛ فإن البطء عن الطريق لا يعني أنك ثابت، بل قد يعني أن الطريق بُدل من تحت قدميك دون أن تشعر.
فلا تؤخّر قلبك عن مواضع النور، فكلّ تأخرٍ في الاقتداء، هو تأشيرة عبور للفتنة، ولكن دون أن تشعر.
••
••
ثمّة لحظاتٍ في حياة بعض النفوس، لا يكون فيها الوجع خارجيًّا ظاهرًا، بل يكون في الداخل المخفي، حيث القلب مقيد، والروح مثقلة، والعزيمة مشلولة، وهي لا تعاني من ضيق الرزق وحده، بل من ضيق النفس ذاتها، تجده يلازم غرفته في ضوءٍ خافت، ينكمش على أريكته، يستوحش الخروج، ويؤثر العزلة، لا لأنه يستلذّها، بل لأنه يشعر – دون أن يدري – أن ثمّة سلاسل خفيّة تشدّه إلى ذلك الركن، وتغلق عليه منافذ الحياة.
يتنقّل بين شبكات التواصل بلا غاية، يُطفئ بها لحظاته كما يُطفئ الملهوف جمرةً بيد مرتجفة، وكلّما أراد أن ينهض، أعادته يدٌ لا يراها، وأوهنته غمامة لا يعرف مصدرها، وهذه الحالة – وإن كانت تتوشّح بمسوح الكسل أو الانطواء – إلا أنها في حقيقتها عطشٌ روحيّ، لا يُرويه إلا الانكباب على باب الله، ودوام الالتجاء إليه، وتلاوةٌ مطوّلةٌ للقرآن تعيد للنفس توازنها بعد اضطراب، مع أهمية البدء في مسار الرقية الشرعية، لا كعادة متقطعة بل بملازمة جادّة للدعاء والقرآن، وسرعان ما تنفكّ هذه القيود النفسية، لا بضربة ظاهرية، بل بذبول الغشاوة شيئًا فشيئًا، حتى يستعيد القلب رشده بعد طول غربة.
••
ثمّة لحظاتٍ في حياة بعض النفوس، لا يكون فيها الوجع خارجيًّا ظاهرًا، بل يكون في الداخل المخفي، حيث القلب مقيد، والروح مثقلة، والعزيمة مشلولة، وهي لا تعاني من ضيق الرزق وحده، بل من ضيق النفس ذاتها، تجده يلازم غرفته في ضوءٍ خافت، ينكمش على أريكته، يستوحش الخروج، ويؤثر العزلة، لا لأنه يستلذّها، بل لأنه يشعر – دون أن يدري – أن ثمّة سلاسل خفيّة تشدّه إلى ذلك الركن، وتغلق عليه منافذ الحياة.
يتنقّل بين شبكات التواصل بلا غاية، يُطفئ بها لحظاته كما يُطفئ الملهوف جمرةً بيد مرتجفة، وكلّما أراد أن ينهض، أعادته يدٌ لا يراها، وأوهنته غمامة لا يعرف مصدرها، وهذه الحالة – وإن كانت تتوشّح بمسوح الكسل أو الانطواء – إلا أنها في حقيقتها عطشٌ روحيّ، لا يُرويه إلا الانكباب على باب الله، ودوام الالتجاء إليه، وتلاوةٌ مطوّلةٌ للقرآن تعيد للنفس توازنها بعد اضطراب، مع أهمية البدء في مسار الرقية الشرعية، لا كعادة متقطعة بل بملازمة جادّة للدعاء والقرآن، وسرعان ما تنفكّ هذه القيود النفسية، لا بضربة ظاهرية، بل بذبول الغشاوة شيئًا فشيئًا، حتى يستعيد القلب رشده بعد طول غربة.
••
••
في زمنٍ تغشاه لوثة العجلة، ويتخطفه إيقاع اللهاث، باتت الأرواح تتوهم أن الطريق إلى الهداية اختزال، وأن المعارف تُختصر كما تختصر العبارات في هوامش التطبيقات، غلب على الناس ظنٌ مخذول أن العلم ثمرة عجلى، وأن الفهم يُنال بانطواء الأيام، لا بمكابدة الليالي.
لكن الطريق الذي رسمه الله، طريق الوحي والهداية، جاء ليبطل هذه الأوهام ويصفعها بوقائع القدر المنثور في تاريخ التنزيل؛ فما كان القرآن ليهطل جملةً واحدةً على قلب النبي ﷺ مع أن الأمر يسيرٌ على إرادة القادر المقتدر، بل فرّقه الله تفريقًا، ومدّه في الزمان مدًا، ثلاثًا وعشرين عاماً، ليبني أمةً لا تغترّ بالسرعة، بل تنمو كما تنمو الجبال الراسيات: ببطءٍ صامت، ولكنه رسوخٌ أبدي. قال تعالى: ﴿وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾.
والعلم الذي يبني القلب، والفقه الذي يقيم الموقف، لا يختصران في دورات مستعجلة، ولا يغترفهما العبد في أيام الحماس العابر، بل يتسللان إلى القلب مع سنن الزمن: سؤالًا فبحثًا فمكثًا فتدبرًا، حتى تتخلق الطبائع، وتترسخ المعاني رسوخًا لا تزعزعه الفتن، ولا تمحوه رياح الانحراف.
ولذلك، كان التدرج ركنًا من أركان البناء الإيماني؛ لأن النفس لا تصطبغ بصبغة الوحي دفعةً واحدة، بل تحتاج إلى رياضات طويلة من الصبر، وإلى مقاماتٍ من الإخبات والتزكية، حتى تنحلّ عنها شهوات الغفلة، وتتهيأ لحمل مشاعل النور، وما سقط كثيرٌ من طلاب الطريق في فتن الشبهات والشهوات إلا لأنهم أرادوا العلم قفزًا، والفهم خطفًا، فاستعجلوا الثمر قبل اكتمال الغرس، فكانت خطواتهم إلى التيه أسرع من خطوهم إلى الهداية.
واعلم ياصاحبي أن العلم النافع لا يسكن قلبًا عجولًا، ولا تثمر الحكمة في روحٍ تضيق عن طول المكث، واصبر كما صبر الأنبياء، وتعلّم كما تعلّم الصحابة، وانظر إلى مشاهد الوحي كيف نسجها الله على مهل، وكيف انبثقت أنوارها حين استكمل الزمان دورته، ولم يعجل الله للأمة الثمرة قبل نضوج الغرس.
والله، لو علمت أن كل مسألة تغرسها في قلبك بصدقٍ وصبر، هي غرسٌ لنورٍ يُنبت يوم اللقاء، لما استعجلت الطريق، ولما خفقت جوارحك مع كل طارئٍ جديد، فالسر ليس في الكثرة، ولا في العجلة، بل في مكث القلب عند معاني الوحي، حتى تتجذر جذور الهداية، وتنبت شجرة الإيمان في تربةٍ صبرت على تقلبات المواسم، وثبتت على وعورة الطريق.
﴿فاصبر إن وعد الله حق﴾.
••
في زمنٍ تغشاه لوثة العجلة، ويتخطفه إيقاع اللهاث، باتت الأرواح تتوهم أن الطريق إلى الهداية اختزال، وأن المعارف تُختصر كما تختصر العبارات في هوامش التطبيقات، غلب على الناس ظنٌ مخذول أن العلم ثمرة عجلى، وأن الفهم يُنال بانطواء الأيام، لا بمكابدة الليالي.
لكن الطريق الذي رسمه الله، طريق الوحي والهداية، جاء ليبطل هذه الأوهام ويصفعها بوقائع القدر المنثور في تاريخ التنزيل؛ فما كان القرآن ليهطل جملةً واحدةً على قلب النبي ﷺ مع أن الأمر يسيرٌ على إرادة القادر المقتدر، بل فرّقه الله تفريقًا، ومدّه في الزمان مدًا، ثلاثًا وعشرين عاماً، ليبني أمةً لا تغترّ بالسرعة، بل تنمو كما تنمو الجبال الراسيات: ببطءٍ صامت، ولكنه رسوخٌ أبدي. قال تعالى: ﴿وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾.
والعلم الذي يبني القلب، والفقه الذي يقيم الموقف، لا يختصران في دورات مستعجلة، ولا يغترفهما العبد في أيام الحماس العابر، بل يتسللان إلى القلب مع سنن الزمن: سؤالًا فبحثًا فمكثًا فتدبرًا، حتى تتخلق الطبائع، وتترسخ المعاني رسوخًا لا تزعزعه الفتن، ولا تمحوه رياح الانحراف.
ولذلك، كان التدرج ركنًا من أركان البناء الإيماني؛ لأن النفس لا تصطبغ بصبغة الوحي دفعةً واحدة، بل تحتاج إلى رياضات طويلة من الصبر، وإلى مقاماتٍ من الإخبات والتزكية، حتى تنحلّ عنها شهوات الغفلة، وتتهيأ لحمل مشاعل النور، وما سقط كثيرٌ من طلاب الطريق في فتن الشبهات والشهوات إلا لأنهم أرادوا العلم قفزًا، والفهم خطفًا، فاستعجلوا الثمر قبل اكتمال الغرس، فكانت خطواتهم إلى التيه أسرع من خطوهم إلى الهداية.
واعلم ياصاحبي أن العلم النافع لا يسكن قلبًا عجولًا، ولا تثمر الحكمة في روحٍ تضيق عن طول المكث، واصبر كما صبر الأنبياء، وتعلّم كما تعلّم الصحابة، وانظر إلى مشاهد الوحي كيف نسجها الله على مهل، وكيف انبثقت أنوارها حين استكمل الزمان دورته، ولم يعجل الله للأمة الثمرة قبل نضوج الغرس.
والله، لو علمت أن كل مسألة تغرسها في قلبك بصدقٍ وصبر، هي غرسٌ لنورٍ يُنبت يوم اللقاء، لما استعجلت الطريق، ولما خفقت جوارحك مع كل طارئٍ جديد، فالسر ليس في الكثرة، ولا في العجلة، بل في مكث القلب عند معاني الوحي، حتى تتجذر جذور الهداية، وتنبت شجرة الإيمان في تربةٍ صبرت على تقلبات المواسم، وثبتت على وعورة الطريق.
﴿فاصبر إن وعد الله حق﴾.
••
••
اللهم ارزقنا إخلاص القصد فيما نكتب، وصفاء الطوية فيما نقول، وبارك لنا فيما نبثّ من معانٍ، واجعل كتاباتنا قربةً إليك، لا رياءً بين الخلق، واجعل لنا في كل حرفٍ نورًا، وفي كل فكرةٍ بركةً، وفي كل قولٍ أثرًا، يا أكرم من سُئل، وأعظم من أُمل.
••
اللهم ارزقنا إخلاص القصد فيما نكتب، وصفاء الطوية فيما نقول، وبارك لنا فيما نبثّ من معانٍ، واجعل كتاباتنا قربةً إليك، لا رياءً بين الخلق، واجعل لنا في كل حرفٍ نورًا، وفي كل فكرةٍ بركةً، وفي كل قولٍ أثرًا، يا أكرم من سُئل، وأعظم من أُمل.
••