Telegram Web Link
••
•| موسمية الولاء |•


من لم يتذكرك في زحمة انشغاله، فلن يُنجدك في ساعة فراغه، فليس الوفاء أن يُصافحك الناس في فسحة الوقت، ولكن أن يُقيموا معك في ضيق المسار؛ إذ الذي لا يستصحبك في لحظة الانشغال، ولا يحمل همّك وهو يترنّح تحت همومه، لا تُعوّل عليه إذا اتسعت موائد الفراغ وتزخرفت المجالس.

ومن لا تراه إلا في أزمنة السَّعة والفراغ، ثم يتلاشى في مواسم الجدّ، لا يُعوّل عليه في البناء ولا النهوض؛ لأن مواقفه – مهما ازدانت بالحديث – محكومةٌ بمزاجه لا بمبدئه.

وهذه القاعدة في الأفراد، تسري على مواقف الناس من أمتهم كذلك؛ فالعاقل لا يُخدع بمن يرفع شعار الأمة حين تعلو، ثم يغيب عنها حين تئنّ، ولا تلوح له قضيتها إلا إذا صارت موضةً ثقافية أو ورقةً رابحة، فالذي لا يبعثه ألم الأمة على شيء من التذكّر والدعاء، ولا يستنفره جرحها لبذل الفكرة أو صوغ مشروع، فليس جديرًا أن يُعوَّل عليه إذا تنفّست الأرض رخاءً، وتزيّنت الأحوال بالطمأنينة.

وهذا من دقائق السنن الربانية؛ فإن الله – جلّ في علاه – امتدح من استجابوا بعد الجراح، فقال: “الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح…”، لأنهم ثبتوا حين كانت دواعي القعود أقوى، وأسباب التخلف أكثر إغراءً، ونسب الفضل لمن أصرّ على الطريق في ظلّ التعب، وهذا هو الفيصل بين من امتلأت روحه بالهمّ الحق، وبين من كانت فكرته مشروطة بالتصفيق والظهور.

وحين تتأمل في سِيَر المصلحين، فإن أعظمهم لم يكونوا أبناء ظرف مريح، بل ثمرات لحظة صعبة فُتحت فيها نوافذ الوعي، لا لمن جلس يراقب، بل لمن نزل إلى الميدان وقدم الفعل على الكلام.

أولئك الذين تُعوّل عليهم الأمة حين تدور الدوائر، وليسوا أولئك الذين يخرجون إذا زال الغبار، ليسألوا: “أين وصلتم؟”
••
••
ليست كلّ مهارة تُدرَّس، ولا كلّ فضيلة تُصفَّق لها الجماهير، ثمّة أخلاق لا تصرخ في وجهك، بل تهمس في ضميرك؛ لا تُعلَّق على جدران الخطاب، بل تُمارَس في صمت النبلاء.

وفي هذا المناخ المزدحم بالتحليل والتدقيق في حياتنا اليومية، تفقد النفوس بوصلة البساطة، وتذبل روح الرحمة، وتتعثر العلاقات في أوحال الشكوك، وتشتد حدّة الملاحظة، وتكاثرت الأقلام الناقدة، حتى أضحى المرء يُحاسَب على الهمسة، ويُدان على الظنّة، ويُطالَب بالوضوح حتى في لحظات التردّد، ولقد غدت الدقّة فخًّا، والتتبّع مرضًا، والذكاء وقودًا للحرق لا للبناء.

غير أنّ في زوايا العقلاء مسلكًا مغمورًا، لا يلوح في شعارات المتفوقين، ولا يُدرَّس في مقرّرات الذكاء الاجتماعي؛ مسلكٌ لا يعلو صوته في ضجيج التدقيق، لكنه يترك في النفوس أثرًا لا تصنعه ألف محاضرة عن “العلاقات الإيجابية”، وهو مسلك التغافل؛ ذلك الفنّ الرفيع في أن ترى ولا تفضح، وتعلم ولا تُشهِّر، وتُدرك الزلّة ثم تمضي كأنك لم ترَ شيئًا.

هذا الخُلق النبيل لا يصدر إلا عن نفسٍ عظيمة، تعرف قدر نفسها، فلا تُسقطها في وحل الصغائر، ولا تُتعبها في تتبّع الهفوات، بل تترفّع، وتصفح، وتتجاوز.

وما أحكم قول الإمام جعفر الصادق حين قال: "عظّموا أقداركم بالتغافل” ولم يكن يعلّمنا التجاهل، بل كان يُدرّب أرواحنا على اللياقة القلبية، أن تمشي بين الناس بعينٍ تُبصر العثرة، وقلبٍ يُنكرها، ووجه يُمضي كأن شيئًا لم يكن.
••
••
العقل لا ينام حين تنام الأجساد، بل يبدأ رحلته في دهاليز السؤال، وتقاطعات الذاكرة، الليل عنده ليس سكونًا، بل استدعاءً مرهقًا لكل ما تهرّبت منه ضوضاء النهار، والليل يعرّي الأفكار من زينتها، ولهذا لم يكن المرقد إلا غرفة استجواب، والوسادة إلا منصّة محاكمة صامتة، من يقنع العقل أن يطفئ أنواره حين تنطفئ المصابيح؟

لكن من رحمة الله، أنه لم يترك العقل يتخبّط في فراغ الليل، بل شرع له أذكار النوم لا لتكون طقسًا روتينيًا، بل لإغلاق ملفات القلق، وتهدئة صخب الفكر، وإعادة ترتيب الداخل على نسق التوحيد. بحيث لا تُقلقه الظنون، ولا تُشوّشه التفاصيل.
••
••
https://www.tg-me.com/Deerayah

من القنوات التي تُنير مسالك الفكر، وتفتح نوافذ التأمل في شؤون الإنسان والمعنى؛ فهي جديرة بالمتابعة لمن يُعنون بالعلوم الإنسانية، لاسيما في حقول الاجتماع، والاقتصاد، والإعلام، والتاريخ.
••
••
•| بركة القرون المفضلة |•

ثمّة سِرٌّ عجيبٌ يسري في دروب الطلب، لا يكتشفه إلا من وطِئت قدماه شعابَ التخصص، واستوت له أدواتُ النظر، واشتدّت في يده عدّة التحرير والتحقيق، فكلما أوغل في تفاصيل الفنّ، وتعمّق في مسالكه، لاح له في الأفق مَعْلمٌ مهيب: الانجذاب الهادئ نحو منازع السلف، لا بدافع العاطفة، بل بقناعةٍ تتراكم مع كل مسألةٍ حرّرها، وكل خلافٍ تلمّسه.

في بدايات الطريق، يُفتَن الطالبُ برحابة الطرح الحداثي، ويُبهره بريق التحليل المنطقي، وتعدد الأقوال، وأناقة التعبير، حتى إذا طال به السبيل، وذاق مشقة التحرير، وباتت المدارسةُ شغله، وضبط الفهم همَّه، انجذب قلبه – بغير تكلّف – إلى هدوء القرون الأولى، وإلى عقلٍ نبت في ظلال النبوة، لا في ردهات الحداثة، وشبّ على نور الوحي، لا على أضواء الجدل.

يُبصر حينها أن تعظيم السلف ليس مجرد تدين تقليدي، بل ضرورةٌ منهجية، ومقياسٌ للسلامة العلمية، وأن ما يراه اليوم من نزاهة مقاصدهم، وعفّة منهجهم، وعمق إدراكهم، لا يُقارن بجهودٍ لاحقة تلوّنت بصراعات العصور وغبش المناهج.

كلما نضجت أدواته، ازداد خجله من تعليلات المتأخرين إذا خالفت ما استقر في عقول الأوائل، وكلما استبانت له طبقات الفهم، رَقّت في عينه المناهج الطارئة، وأدرك بفطرته قبل علمه أن السلف ما قالوا قولًا إلا وفيه من البرهان ما يُستمدّ من النور الأول.

فما من فقيهٍ نضجت ملكته، ولا مفسرٍ تضلع في دقائق التفسير، ولا محدّثٍ تشرّب علل الإسناد، إلا ووقف خاشعًا أمام عقولٍ كانت ترى بنور النبوة، وتتكلم على أثر الهداية.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: “من كان منكم مستنًّا، فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة”؛ فتأدُّبك في العلم يبدأ عند أبوابهم، لا عند حواشي المتأخرين، ومن أراد السلامة، فليعد إلى الأساس، فإن ما بُني على النور لا تهدمه الأيام.

والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
••
••
•| تضخم الأنا |•

كنتُ أتأمل في نَزعة “الاستحقاق” حين تتسلّل إلى النفس في ثوبٍ من الحقوق الظاهرة، وهي – في جوهرها – نداء خفيّ للأنانية، مغلفٌ بعبارات التقدير والاحترام والتوازن العاطفي، فالمُستغرق في استحقاقه لا يعيش مع الناس، بل يعيش فوقهم، لا يراهم شركاء في المعنى، بل أدوات في خدمة شعوره المرهف بذاته، يطالبهم دومًا بما لا يطالب به نفسه، ينتظر منهم أن يكونوا على درجةٍ من السموّ الخُلقي، بينما لا ينظر في مرآة ذاته إلا بعين الإعفاء والمغفرة.

هو دائم الترقّب، دائم العتب، كثير الانتظار، قليل البذل، فإن بادر غيره، رفع سقف استحقاقه أكثر، لا ليُقدّر، بل ليؤكّد لنفسه أنه “مركز العلاقات” لا طرفًا فيها، والإنسان الاستحقاقي لا يطلب كرامة النفس، بل يطلب تعظيم الأنا، ولا يبحث عن تزكية الداخل، بل عن توسيع الامتياز الخارجي؛ فهو مشغولٌ بتقويم العالم من حوله على مقياس شعوره هو، لا على معيار الحق والعدل.

وتجده يُطالب الناس بما لا يُطالب به نفسه، يمدح الكرم وهو شحيح، يلهج بالوفاء وهو متقلب، يرفع شعار المبادرة ولا يخطو خطوة، يطلب التقدير، ويستكثر حتى أقل التنازلات. فإذا أُعطي، استزاد، وإذا عومل بفضل، رفع سقف انتظاره، وما ذلك إلا لأنه في حالة سعي هشٍّ لتأكيد ذاته لا أمام الناس فحسب، بل أمام نفسه أولًا؛ فهو لا يهدأ إلا حين يشعر أنه “مركز الكون”، وأنّ كل من حوله في وظيفة واحدة: خدمته العاطفية، والعافية كل العافية في أن يتربى الإنسان على الخروج من ذاته لا الدوران حولها، وعلى أن ينال بالفضل لا بالضغط، وبالصدق لا بالتصدر، فالقلوب لا تُملك بالاستحقاق، وإنما تُكسب بالخلق، ولا تُستعبد بالمطالبة، وإنما تُفتح بالإحسان.

تصبح على خير أيها الإنسانُ الاستحقاقيُّ العظيم، الذي لا يشبهه أحدٌ في هذا العالم، ولا يطاوله بشرٌ في دقّة المطالب، خذ نَفَسًا ليس طويلًا كعُمق العلاقات التي تطلبها، بل قصيرًا كصبر الآخرين عليك.

واعلم أن العالم ليس جمعيةً خيرية لإرضاء شعورك، ولا الناس عبيدُ رغباتك، ارفق بنفسك، واخرج من سجن ذاتك الفخمة قليلًا، فلعلّك تكتشف أن أجمل العلاقات تبدأ حين تنسى نفسك، لا حين تُذكّر بها في كل دقيقة.

نم هانئاً، ولا تنسَ أن تُطالِب القمر بأن يضيء غرفتك أولًا، قبل أن تُدوِّن ملاحظة تقصيره في دفتر استحقاقاتك.
••
••
إذا أُعيتِ النفسُ عن مقاومةِ المعصية، لجأت إلى الفتوى الشاردة أو الرأي المخالف، لا تبتغي بهما بَراءة الذمة، بل تسعى إلى تسكين تأنيب الضمير، فتراه يتوشّح رداء “الخلاف”؛ وما هو – في حقيقته – إلا وجعُ المعصية وقد استعان بمنطق الشريعة ليُخدّر به صوت الحق في قلبه.
••
••
كثرة الخيارات | إرهاقٌ بلا صوت


لعلّك الآن تتردّد بين أن تمضي في قراءة هذه الحروف أو أن تطويها بحثًا عن نصٍ أقصر وأيسر، لكن تأملك هذا ـ وإن بدا بسيطًا ـ هو مرآة لحالة نفسية أعمق: عن عقلٍ أضناه تتابع الخيارات، ونفسٍ أرهقها زحام التوجّهات، حتى صار القرار البسيط حقلًا من الأسئلة المتداخلة، نحن في زمنٍ لا يُبتلى الناس فيه بالمنع، بل بالإغراق في التيسير، ولا يُفتنون بضيق المسارات، بل بفائضٍ منها يشتّت الإرادة ويبعثر الوجهة.

وفي مثل هذا المناخ، يغدو الاسترسال مع فكرة واحدة لونًا من ألوان المجاهدة، ومتابعة القراءة نفسها فعلًا مقاومًا للتيه.

كنتُ أتأمل كيف أصبح أحدنا يملك عشرات المسارات أمام كل قرار، من أبسط تفاصيله اليومية إلى قراراته المصيرية، ثم يتوه، لا لأنه لا يملك حرية، بل لأنه غارق في فائض منها، فوضى التطبيقات، تشعب مسارات التعليم، تباين الأنماط التربوية، تضارب الآراء، كثرة التوصيات، كل باب يُفتح على عشرة أبواب، وكل طريق يُفضي إلى عشرين منعطفًا.

النتيجة؟ تعبٌ لا صوت له، توتر داخلي، قلق دائم من فوات الأفضل، وحيرة مزمنة تُفرغ الاختيار من لذّته، وتحوّل القرار من لحظة إرادة إلى عبء ووجل، صرنا نخشى أن نبدأ خشية أن نخطئ، ونخشى أن نلتزم خشية أن نفوّت، ونخشى أن نمضي خشية أن يكون هناك خيار أجود لم نعرفه.

وهذا مظهر عميق من مظاهر التراكم الإدراكي الذي لم يصحبه نضج قلبي، فالحرية بلا وُجهة تتوه، والاختيارات بلا مبدأ تتكاثر حدّ الانفجار. والرغبة في “الأفضل دائمًا” قد تكون خُدعة عقلك حين يفقد اليقين أن البركة لا تأتي من الكثرة، بل من الثبات على ما اختاره الله لك.

ولذلك، فإن هذا العصر لا يحتاج إلى شخصٍ “مُطّلع على كل شيء”، بقدر ما يحتاج إلى من يعرف كيف يغلق الأبواب الزائدة، ويُحسن القناعة بما يكفيه، ويثق أن الوضوح لا يُولد من كثرة الاحتمالات، بل من هدوء البصيرة.

ومن التهذيب النفسي في هذا الزمن: أن تضبط بوصلتك على مبدأ، لا على مزاج اللحظة، أن تؤمن بأن ما لم تصل إليه، لم يُقدّر لك، لا لأنه ناقص، بل لأن الاكتفاء أكرم.
••
••
إذا ضاقَ بك الطريق، وأخذتكَ الظنون من كلّ صوب، فلا تفتّش عن يقينك في تكدّس الأسباب، ولا في تدابير الناس، بل ارجع إلى قلبك واسأله: ما الذي بقي من ثقتك بربك؟

فالقلوب التي تتهدّج من فرط القلق، لا تحتاج إلى خارطة جديدة، بل إلى سكينةٍ تُستمدّ من قوله: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، واليقين ليس أن ترى المخرج، بل أن تمشي إليه وأنت أعمى من كل جهة إلا جهة السماء، هو أن تثبت حين يتهاوى الجميع، لأنك لم تتعلّق بهم أصلًا، بل بمن إذا قال للشيء كن كان.

وما أشدّ غفلة من يتعلّق بأسباب الأرض، ويُراوغ في مواطن الدعاء، كأنه يستدرّ الرزق من غير بابه، ويستعجل النصر من غير ميقاته.
••
••
•| خذ ودَع |•

من سنن العقلاء أن لا يُؤخذ الإنسان جملة، ولا يُردّ جملة، فلا أحد بعد النبي ﷺ يُسلّم له القول كلّه، ومن لم يُربِّ نفسه على مهارة الفرز، ضلّ بين إفراط التقديس وتفريط الإسقاط، ومن تمام النضج أن تتعلم الانتفاع الجزئي، وأن تُحسن التفكيك لا في الأشخاص فقط، بل في العناصر الكامنة فيهم: أن تفرز الفكرة من صاحبها، خذ من أحدهم دقّة العبارة، ومن آخر حرارة الإيمان، ومن ثالث جمال العرض، لكن لا تسلّم لهم زمامك دفعة واحدة، فإن الحقّ لا يُحتكر، والكمال لا يُجمع في أحد.

وليس هناك كتلةُ خيرٍ خالصةً في بشر، ولا أحد محضُ ضلالةٍ صِرفة؛ بل كل إنسانٍ مركّب من صواب وخطأ، ونور وظلّ، وسبق وتعثر، والوعي لا يعني التبعية، ولا يعني الرفض المطلق، بل أن تمسك النافع من كل عقل، وتدع ما كدّر، وما أكثر من فُتن بصورة فكرية متماسكة، فلما انهار طرفها انهار معها، لأنه لم يفرّق بين “المعرفة” و”الانبهار”.

وهكذا، إذا ظننت أنك لا تنتفع إلا بمن تُجمع عليه القلوب، فلن تبصر إلا النماذج النادرة، وستفوتك الكنوز المتناثرة في مساحات النقص البشري، وإن طلبت الصفاء المطلق في كل من تسمع، فستجد نفسك في عزلةٍ معرفية تترك الذهب لأنه ممزوج بشيء من التراب، والعاقل هو من يقطف المعنى من بين الأشواك، لا من ينتظر ورودًا بلا عيب.
••
••
معلومة غير مهمة

شكر الله لكم حسن ظنّكم برسائلكم، لكن دعونا نضع النقاط على الحروف: لستُ معبّر رؤى، ولا تلميذ ابن سيرين، تعبير الرؤى شأنٌ جليل، يُسأل فيه أهل الاختصاص الصادقين، لا أصحاب الأقلام التي تتعثر أحيانًا في تفسير الواقع أصلًا.
••
••
تم حذف الرسالة.

في أدبيّات التواصل في هذا العصر الرقمي، يختبئ خلقٌ دقيق غاب عن وعي كثيرين: أدب التغافل عن الرسائل المحذوفة، فمن الناس من يكتب، ثم يستدرك، فيحذف؛ لا هروبًا ولا مواربة، بل لأن بصيرته نبّهته أن ما كُتب لا يليق أن يُرى، أو أن توقيته قد فات، أو أن العبارة خانت المعنى الذي أراد، وربما كان ذوقاً خفيّ، أو تردّد نبيل.

فلا يكن حرصك على ما حُذف أشد من حرص كاتبه على ألا يُرى، ولا تلبس نظارة المحقق وأنت تقف على أطلال رسالة لم يشأ الله أن تُقرأ، فلا نُفسد جمال الحذف بفضول السؤال.
••
••
وهل القلمُ – يا صاحبي – إلا لسان القلب، ورسولُ الضمير، وترجمانُ السرّ، وموثقُ اللحظة، وسادنُ الفكر، هو الشاهد إذا أنكر الناسُ ما في النفس، وهو الحافظ إذا خانت الذاكرة، وهو الطبيب إذا اعتلّ الوجدان، وهو العادلُ إذا طغت الخصومة واستطال النزاع.

يُمسك الوهمَ فيطوّقه، ويصطاد الفكرةَ من هُوَّتها فيصعّدها، ويغمس طرفه في مداد الحزن فيفيض بالحكمة، ثم ينقله إلى بهجة إن شاء بجميل قدر الله، هو الصمتُ الناطق، واللسانُ الحييّ، ألا تراهُ يَجمع شتات الهاجس، ويَرقَعُ ما تمزق من أحوال النفس، ويُطوّفُ بك في أرضٍ لا تَبلغها القدم، ولا تراها العين، فإذا هو يُسائل عنك مَن هجرك، ويُعاتب عنك من ظلمك، ويُبشّر من أحبك.

تراه يسير على بياض الورق كأنّه ساعي نور، يوقظ المعاني إذا نامت، ويستفزّ الأرواح إذا كَلَّت، فسلامٌ على القلم، ما دام فيه شيءٌ من فيض الروح، وصدق البوح.
••
كثيرةٌ هي الوسائل التي تُجمّل الخارج، ولكن القرآن وحده هو الذي يُجمّل الداخل.
••
•| الاغتراب عن القرآن |•

حين تتأمل السماء في هدأتها المهيبة، وتقرأ في سكونها تلك الوصية الكبرى: (كتابٌ أُنزِل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه)، تدرك أن أعظم هدية أُهديت إلى الأرض، لم تكن ثروة ولا حضارة، بل وحيٌ منزّل، ذاك النور العتيق الذي شقَّ من السماء طريقه، لا ليزيّن رفوف المكتبات، بل ليُقيم العدل في الأرض، ويُنعش الأرواح، ويجعل للإنسان سبيلاً حين تتكاثر عليه السُبُل.

و نحن في زمنٍ تضاءلت فيه المسافات وتكثفت فيه المشاريع، أصبحنا نعيش مفارقةً مذهلة: تعلو رايات البرامج القرآنية، وتغيب حرارة القرآن نفسه عن القلوب، لا تكاد تلتفت إلا وتجد مؤتمرًا عن “تمكين القيم”، أو مبادرةً تحمل اسم “القرآن”، أو برنامجًا للتربية على هدي الوحي، ومع ذلك، تسأل نفسك سرّ هذا الجفاف الباطني، وهذه القلوب التي تمضي في الإنجاز دون أن تُروى.

ولم يكن القرآن يومًا مشروعًا يُضمّ إلى غيره، ولا برنامجًا يُدمج ضمن غيره، بل كان هو المنبع والبوصلة والمصب، وكل مشروعٍ لا يجعل من القرآن مقصده، لا مجرد عنوانه، فإنه يُنذر بانفصالٍ خطير بين الشعار والجوهر، بين الهيكل والمضمون، بين ما يُقال وما يُعاش.

وإن من أخصّ ابتلاءات طلاب العلم وأهل التأثير اليوم: أن يغترب القرآن عن قلوبهم تحت لافتة الانشغال بخدمته، فيغيب صوت الآية التي كانت تهزّهم، وتتبدّد تلك اللحظة التي كانت السورة تقلبهم من حال إلى حال، ويستبدل كل ذلك بـ”عناوين عرض”، و”محتوى تقديمي”، و”شريحة افتتاحية جذابة، كيف تزرع فيهم عظمة الوحي، وأنت نفسك فقدت الدهشة الأولى؟

الاغتراب عن القرآن لا يبدأ بهجره، بل يبدأ حين يصبح وردًا بلا حضور، وتلاوة بلا خشية، وعلمًا بلا مهابة، وقد صار القرآن عن البعض “مرجعًا للاستشهاد” لا “نبضًا للتشكّل”، وصار الورِد القرآني يُقرأ وكأنه مهمة في دفتر الإنجاز، لا جلسة تزكية في معراج العارفين، والمعضلة حين يتحول إلى عادة ذهنية لا أثر لها في باطن النفس، أو إلى أداة خطابية تُستخدم في التأثير لا في التزكية، وهنا، تنشأ فجوة مرعبة بين “أهل القرآن”، و”أثر القرآن”.

الإشكال أن تنشغل بتمكين الدين في الأرض، وتنسى تمكين الإيمان في القلب، والحق أن هذا النمط من الاغتراب لا يُدركه الإنسان فجأة، بل يتسلل على هيئة انشغالات مبررة، وشعارات مقبولة، حتى إذا به يجد نفسه فاترًا أمام المصحف، جافًا في دعائه، غريبًا في صلاته، باردًا عند آيات الوعد، وساكنًا عند آيات الوعيد.

والقرآن – وهو دستور المشروع الإيماني الأول – لا يرضى أن يكون بندًا على هامش المهام، ولا مرجعًا مؤقتًا عند الحاجة، بل هو أصل كل تحول، ومنطلق كل بناء، فكيف يجوز لمؤمن أن يترقى في سلّم الدعوة، وهو يتراجع في تأمل القرآن؟ كيف يستقيم حال من يهندس برامجه على قاعدة التأثير، وقد هدم في داخله أركان التلقي والخشوع والأنس بكلام الله؟

والانشغال بالمشروعات الكبرى لا يعفي من التبعة، بل يثقل الكاهل أكثر، فمن ارتقى منصة التأثير، وجب أن يكون أقرب الناس إلى المصحف، لا في التلاوة الجهرية فقط، بل في المناجاة، في الحياء، في الرهبة، في التبتل، وهذا لا يتحقق إلا حين يتخفّف العبد من ضجيج الإنجاز، ويعود إلى لحظة السجود الأولى، حيث لم يكن له من الدنيا إلا مصحفه ودمعته، ولذلك كان السلف أشد الناس خلوةً بالقرآن كلما ازدادوا تأثيرًا في الناس؛ لأنهم يعلمون أن الصوت الذي لا يُروى من النبع سيفقد عذوبته ولو صدح في أكبر جمع.

ومن لم يجعل له وردًا ثابتًا يحفظه في زحمة مشاريعه، فسيجد أن نفسه قد ذبلت، ومشاريعه قد تكلست، وخطابه – وإن كان بليغًا – فقد روح النور، وفي هذا الزمن، يُختبر صدق القلوب لا بجزالة الأثر، بل بثباتها على باب الوحي، فمن حافظ على لحظته مع المصحف، وسط الندوات والتخطيط والتأثير، فقد ثبّت قدمه في الصراط، ومن انشغل بكل شيء إلا القرآن، خيف عليه أن يكون ممن: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ).
••
••

ما أكثر من بكى على غزة، ثم عاد إلى نومه عميقًا، وإلى ضحكته الصاخبة، وإلى يومه العادي كأن لم يسمع أنينًا، ولم يرَ دمًا، أي قلوبٍ هذه التي لا تلبث أن تذرف حتى تجفّ؟

من أعجب ما في هذا الزمن، أن صور القصف باتت تُستهلك كما تُستهلك الإعلانات، تُمرر بسرعة، ويُنسى وجعها بخفة، غزة تُضرب، البيوت تُسحق، الأشلاء تتناثر، لكنّ الشاشة تعود بعد دقائق لتعرض عروض السفر، وشهوة الحياة، لقد وقع انفصال رهيب بين حرارة الحدث وحرارة التفاعل معه، بين عمق الجراح، وسطحية المشاعر.

ولعل أخطر ما في هذا المشهد ليس عجز الجسد، بل تحلل القلب من فريضة النصرة، وتبخّر الشعور بالواجب الشرعي، حتى صار البعض يكتب تغريدة، أو يرفع دعاء مرتين، ثم يستقيل من القضية، كأن دوره قد انتهى هنا.

لكن القصف لا ينتظر مواسم وعيك، ولا يهدأ حين تنام، العدو لا يقرأ جدولك الأسبوعي، ولا يحترم فتورك العاطفي، هنا تتجلّى الفريضة المنسية: فريضة ثبات الشعور الإيماني تجاه قضايا الأمة، وعدم السماح للكسل النفسي والانشغال الحياتي أن يُطفئ حرارة النصرة فيك.

فالدعاء المستمر، والبذل، والتذكير، والجهر بالبشرى، والتصبير، ليست عواطف طارئة، بل عبادات ممتدة، تُبقي الوعي يقظًا، والإيمان مشتعلاً، وتدفع عن قلوب المؤمنين خواطر الوهن والخذلان.

واعلم أن من رحمة الله بالأمة، أن جعل للكلمة المخلصة وزنًا، وللدمعة الصادقة أثرًا، وللدعاء في جوف الليل سهمًا نافذًا، فلا تستخف بمقامك في النصرة.
••
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
••
العناية بالقرآن ليست مرحلةً في الطريق، بل هي الطريق ذاته؛ أن يكون مراد الله هو الغاية، ومحبوباته هي المعيار، وأوامره ونواهيه هي السياج الذي تُضبط به حركة النفس وتُهذَّب به شهواتها.

وكلما تعمّق العبد في حقائق القرآن، انتقل من حظّ اللفظ إلى مرتبة المقصود، ومن ظاهر التلاوة إلى وعي التلقي؛ فيرى أن علوّ كلمة الله لا يبدأ من منابر الخطابة، بل من انكسار داخلي يجعل الوحي سلطانًا على الهوى، وموجّهًا لمجاري الإرادة والاختيار.

وأعظم ما يبلّغك مقام “أن تكون كلمة الله هي العليا”، أن تتخلّى عن سيادة رأيك عند مراد الله، وأن تستبدل شهوة النفس بخشية الآخرة، ومن تأمل تاريخ التمكين، علم أن كل عزٍّ رُفع فيه لواء الإسلام، إنما ارتفع حين كانت كلمة الله هي العليا في القلب قبل أن تُرفع في الساحات، وفي السلوك قبل أن تُرفع في الخُطب، فالعناية بالقرآن هي الخطوة الأولى في مسار العلوّ، وهي الصيغة التي يصعد بها العبد من حدود العادة إلى آفاق الخلود.
••
••
عزيزي كونان، نصيحة لن تؤثّر في ذكائك.

تتبعك لصور العرض – البروفايل – لا تدلّ بدلالةٍ قاطعة على قدرتك التنبؤية في تحليل الشخصية، ومعرفة من تحادثه، صاحبنا المحقق يتأمل الصورة ثم يقول: احمرارُ الغروب يدلّ على حزن، والزهرُ على رقة، والهرّة على رحمة، والطيرُ على آمال منتظرة، والبيداء على وعورة، والبحارُ على عمقٍ وتعقّل، والسماءُ على نقاوة وغربة، وكل ما يعلو من جبلٍ أو منارة يدلّ على همّةٍ وأنفة.

يا صاحبي، لا يضرّك إن قلتُ لك إن التحليل – مهما بلغ ذكاؤك – ليس من الفراسة في شيء، بل هو أقرب إلى التكلّف النفسي منه إلى البصيرة، أعرف أحدهم يضع صورةً لشارع الشانزليزيه في باريس، وهو لم يغادر قريته منذ أن خُلق، وليس ببعيد عنّا من يضع مكتبة الكونغرس الأميركية، وآخر كتاب تصفحه: رياضيات المرحلة الثانوية.

وللفتيات: طرف أناملك الممسكة بالورد، وتناولك للكتاب، لا يُفهم منه جمالك الخفي بقدر ما يُظهر حرصًا على الظهور تحت عباءة الحشمة الافتراضية. فاتقين الله في صوركن.

لن أحجّر واسعًا، لكن الواسع يحتاج إلى تهذيب. لنا حرية الاختيار بما يتناسب مع الآداب العامة ولا يخالف رسوم الشريعة، ولا يخفى تباين الناس في اهتماماتهم ومذاقاتهم، فاختر ما تظنه يليق بك، والمباح هو بهو الشريعة الأرحب، ودع عنك فرط التحليل يا كونان.
••
2025/07/01 05:32:38
Back to Top
HTML Embed Code: