••
إيّاك أن تُقايض قدرك في موائد الأهواء، فإن من باع سموّه في سوق الخنوع، لن يشتريه الناس بعين التبجيل، بل يرمونه في مهاوي النسيان، فليست الرحمة أن تتضاءل لتبدو لطيفًا، ولا التواضع أن تتقزّم حتى لا تُرى؛ فالنفس التي لا تحمي مكانها، يُعاد تشكيلها حسب مقاسات الآخرين، وتُزاح كما تُزاح المقاعد المهملة في آخر القاعة.
وقد صدق المازني إذ قال: “واعلم أنك إذا أنزلت نفسك دون المنزلة التي تستحقها، لم يرفعك الناس إليها، بل أغلب الظن أنهم يدفعونك عمّا هو دونها أيضًا، ويزحزحونك إلى ما هو وراءها.”
فلا تهبط بجناحك إلا على بساط التوحيد، فإن في السجود لربك عزًّا لا تبلغه التيجان، وفي الخضوع لغيره مَذلّة لا تسترها الألقاب، ومن عرف قدر الله، لم يتكفّف الناس كي يُقيموه، ومن ذاق طعم العزّة بالله، استغنى عن مواسم التصفيق وزيف القبول.
••
إيّاك أن تُقايض قدرك في موائد الأهواء، فإن من باع سموّه في سوق الخنوع، لن يشتريه الناس بعين التبجيل، بل يرمونه في مهاوي النسيان، فليست الرحمة أن تتضاءل لتبدو لطيفًا، ولا التواضع أن تتقزّم حتى لا تُرى؛ فالنفس التي لا تحمي مكانها، يُعاد تشكيلها حسب مقاسات الآخرين، وتُزاح كما تُزاح المقاعد المهملة في آخر القاعة.
وقد صدق المازني إذ قال: “واعلم أنك إذا أنزلت نفسك دون المنزلة التي تستحقها، لم يرفعك الناس إليها، بل أغلب الظن أنهم يدفعونك عمّا هو دونها أيضًا، ويزحزحونك إلى ما هو وراءها.”
فلا تهبط بجناحك إلا على بساط التوحيد، فإن في السجود لربك عزًّا لا تبلغه التيجان، وفي الخضوع لغيره مَذلّة لا تسترها الألقاب، ومن عرف قدر الله، لم يتكفّف الناس كي يُقيموه، ومن ذاق طعم العزّة بالله، استغنى عن مواسم التصفيق وزيف القبول.
••
••
•| الطوفان الرقمي |•
هل تستطيع أن تسبح في بحر يُضاف إليه ٥٠٠ موجة في الدقيقة؟
هل يمكنك أن تسير في مدينة تتّسع كل دقيقة لألف طريق جديد، فتفتح في اليوم الواحد ٧٢٠٠٠٠ درب لم تُكتب لها خرائط، ولم تُرسم لها نهايات، ثم يُطلب منك ألا تتيه؟
لقد تغيّرت طبيعة البلاء: ما عادت المشكلة في الجهل، بل في ازدحام المعرفة حتى حجبت البصيرة، منصة واحدة، كيوتيوب، يُضاف إليها أكثر من ٥٠٠ ساعة من الفيديو في الدقيقة الواحدة، أي ما يتجاوز ٧٢٠٠٠٠ ساعة في اليوم، في مشهد رقميّ يُشبه الطوفان؛ لا يستطيع عقل أن يُدركه، ولا وقت أن يُلاحقه.
كل لحظة تُمنح لك هي رأس مال أخرويّ، وأنت في كل "مشاهدة" تختار: إما أن تكون سلعةً تستهلك، أو عبدًا ينتقي، فقه الاستهلاك اليوم أصبح فقهًا تعبّديًا، والانتقاء من بين آلاف الأصوات بات سلوكًا إيمانيًا ناضجًا، والوحي علّمنا أن نزن الأمور بميزان الهداية لا الإثارة، وأن نقيس الأمور بنتائجها على قلوبنا، لا بانفعالات لحظية، فالزمن لا يعرف التكرار،والمنصات لا تعرف التوقّف.
وفي هذا الطوفان الرقمي، لا يُنجي العبد أن يُبحر دون وعي، ولا أن يُسلم نفسه لموج الخوارزميات، بل أن يعود إلى فقه الانتخاب الذي ربّى عليه الوحي: {فبشّر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، والواجب اليوم أعظم من مجرّد الإعراض عن الحرام، بل صار لزامًا حُسن الانتخاب حتى في المباحات، وتوجيه الساعات نحو ما يزكّي النفس، ويحيي القلب، ويورث العلم النافع، ويقوّي الهمة.
••
•| الطوفان الرقمي |•
هل تستطيع أن تسبح في بحر يُضاف إليه ٥٠٠ موجة في الدقيقة؟
هل يمكنك أن تسير في مدينة تتّسع كل دقيقة لألف طريق جديد، فتفتح في اليوم الواحد ٧٢٠٠٠٠ درب لم تُكتب لها خرائط، ولم تُرسم لها نهايات، ثم يُطلب منك ألا تتيه؟
لقد تغيّرت طبيعة البلاء: ما عادت المشكلة في الجهل، بل في ازدحام المعرفة حتى حجبت البصيرة، منصة واحدة، كيوتيوب، يُضاف إليها أكثر من ٥٠٠ ساعة من الفيديو في الدقيقة الواحدة، أي ما يتجاوز ٧٢٠٠٠٠ ساعة في اليوم، في مشهد رقميّ يُشبه الطوفان؛ لا يستطيع عقل أن يُدركه، ولا وقت أن يُلاحقه.
كل لحظة تُمنح لك هي رأس مال أخرويّ، وأنت في كل "مشاهدة" تختار: إما أن تكون سلعةً تستهلك، أو عبدًا ينتقي، فقه الاستهلاك اليوم أصبح فقهًا تعبّديًا، والانتقاء من بين آلاف الأصوات بات سلوكًا إيمانيًا ناضجًا، والوحي علّمنا أن نزن الأمور بميزان الهداية لا الإثارة، وأن نقيس الأمور بنتائجها على قلوبنا، لا بانفعالات لحظية، فالزمن لا يعرف التكرار،والمنصات لا تعرف التوقّف.
وفي هذا الطوفان الرقمي، لا يُنجي العبد أن يُبحر دون وعي، ولا أن يُسلم نفسه لموج الخوارزميات، بل أن يعود إلى فقه الانتخاب الذي ربّى عليه الوحي: {فبشّر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، والواجب اليوم أعظم من مجرّد الإعراض عن الحرام، بل صار لزامًا حُسن الانتخاب حتى في المباحات، وتوجيه الساعات نحو ما يزكّي النفس، ويحيي القلب، ويورث العلم النافع، ويقوّي الهمة.
••
••
الهداية لا تأتي على هيئة انقلاب، بل تبدأ حين تُراجع نيتك، أو تُجاهد نفسك في صلاة، أو تغلق باب معصية دون أن يراك أحد، هي خطوات صغيرة في ظاهرها، لكنها متى صادفت إخلاصًا صادقًا، تولّى الله تزكيتها، وربّاها بنوره، حتى تتنامى في وعي العبد وتتحوّل إلى طريق مستقيم يُبصر فيه الحق، ويستقيم فيه القلب، وتنتظم فيه الحياة على جادة الآخرة، ومن علامات الهداية أن تصبح الحساسية تجاه المعصية أرقّ، والحرص على الوقت أشد، والحنين إلى القرآن أكثر وضوحًا.
••
الهداية لا تأتي على هيئة انقلاب، بل تبدأ حين تُراجع نيتك، أو تُجاهد نفسك في صلاة، أو تغلق باب معصية دون أن يراك أحد، هي خطوات صغيرة في ظاهرها، لكنها متى صادفت إخلاصًا صادقًا، تولّى الله تزكيتها، وربّاها بنوره، حتى تتنامى في وعي العبد وتتحوّل إلى طريق مستقيم يُبصر فيه الحق، ويستقيم فيه القلب، وتنتظم فيه الحياة على جادة الآخرة، ومن علامات الهداية أن تصبح الحساسية تجاه المعصية أرقّ، والحرص على الوقت أشد، والحنين إلى القرآن أكثر وضوحًا.
••
Forwarded from عبدالله الغامدي | (قناة)
أقسام الناس في حسن التعبير والبيان، وفائدة معرفة هذه القسمة 👆🏻.
••
أُقسمُ باللهِ الذي يُبدّلُ القلوب ويُقيلُ العثرات، ما استقامت نفسٌ بعد اعوجاج، ولا طابت روحٌ بعد وهن، إلا حين آنست بالقرآن أنسَ من وجد فيه ملاذه الأخير.
وإذا طال المكوث في حمى القرآن، نشأت في النفس مهابةٌ لا تُفسَّر، كأنها تخجل أن تُقابل ربّها بذنبٍ وهي تحفظ كلامه، ينزع الشهوة من موضعها دون صدام، ويُطفئ جذوة الذنب دون ضجيج، حتى تكتشف أنك تغيّرت دون أن تخوض حربًا.
وإن أثقلتك المعصية، فلا تُجاهدها وحدك؛ بل انزل ضيفًا على كلام الله، وستُؤخذ بلطف إلى حيث كنت تظن أنك لا تصل، القرآن ياصاحبي وحده يُعلّمك أن تحبّ الطهارة، حتى من أضعف الذنوب.
••
أُقسمُ باللهِ الذي يُبدّلُ القلوب ويُقيلُ العثرات، ما استقامت نفسٌ بعد اعوجاج، ولا طابت روحٌ بعد وهن، إلا حين آنست بالقرآن أنسَ من وجد فيه ملاذه الأخير.
وإذا طال المكوث في حمى القرآن، نشأت في النفس مهابةٌ لا تُفسَّر، كأنها تخجل أن تُقابل ربّها بذنبٍ وهي تحفظ كلامه، ينزع الشهوة من موضعها دون صدام، ويُطفئ جذوة الذنب دون ضجيج، حتى تكتشف أنك تغيّرت دون أن تخوض حربًا.
وإن أثقلتك المعصية، فلا تُجاهدها وحدك؛ بل انزل ضيفًا على كلام الله، وستُؤخذ بلطف إلى حيث كنت تظن أنك لا تصل، القرآن ياصاحبي وحده يُعلّمك أن تحبّ الطهارة، حتى من أضعف الذنوب.
••
••
#كتاب_الأسبوع
🖊️ مصطفى حجازي
📄 ٢٥٧ صفحة
هذا الكتاب ليس بحثًا في التخلف بصفته الاجتماعية، بل رحلة في تشكّل الإنسان حين يُربّى في بيئة مشروخة، وتُعاد صياغة روحه على مقاسات العجز والتردد، وبين صفحاته، لا تطاردك الشعارات ولا تُحاصرك الأحداث، بل تُفتح أمامك طبقات النفس حين تفقد صلتها بذاتها، وتتعوّد الانكماش على إمكانياتها، حتى يغدو الانطفاء سلوكًا داخليًا أكثر منه ظرفًا خارجيًا.
ينقّب مصطفى حجازي في زوايا خفيّة من كيان الفرد، حيث تتراكم المشاعر المكبوتة وتتشكّل صورة الذات على نحوٍ مأزوم، يخلط بين الضعف والتواضع، وبين التسليم والرضا، وبين الاتكال واليقين. هذا الكتابٌ يعرّي البنية النفسية للعجز، لا ليُدينها، بل ليفهم كيف تنشأ، وكيف تُمسي جزءًا من نظام الحياة اليومي، تُبرّر وتُعاد وتُورّث دون وعي.
الصفحات لا ترفع أصبع الاتهام، بل تُشير إلى مواضع الطفولة المؤجلة، والجُرح الذي لم يُسمّ باسمه، كل فكرة فيه تفتح نافذة على المألوف، لتبيّن أنه ليس بريئًا كما يبدو.
••
#كتاب_الأسبوع
🖊️ مصطفى حجازي
📄 ٢٥٧ صفحة
هذا الكتاب ليس بحثًا في التخلف بصفته الاجتماعية، بل رحلة في تشكّل الإنسان حين يُربّى في بيئة مشروخة، وتُعاد صياغة روحه على مقاسات العجز والتردد، وبين صفحاته، لا تطاردك الشعارات ولا تُحاصرك الأحداث، بل تُفتح أمامك طبقات النفس حين تفقد صلتها بذاتها، وتتعوّد الانكماش على إمكانياتها، حتى يغدو الانطفاء سلوكًا داخليًا أكثر منه ظرفًا خارجيًا.
ينقّب مصطفى حجازي في زوايا خفيّة من كيان الفرد، حيث تتراكم المشاعر المكبوتة وتتشكّل صورة الذات على نحوٍ مأزوم، يخلط بين الضعف والتواضع، وبين التسليم والرضا، وبين الاتكال واليقين. هذا الكتابٌ يعرّي البنية النفسية للعجز، لا ليُدينها، بل ليفهم كيف تنشأ، وكيف تُمسي جزءًا من نظام الحياة اليومي، تُبرّر وتُعاد وتُورّث دون وعي.
الصفحات لا ترفع أصبع الاتهام، بل تُشير إلى مواضع الطفولة المؤجلة، والجُرح الذي لم يُسمّ باسمه، كل فكرة فيه تفتح نافذة على المألوف، لتبيّن أنه ليس بريئًا كما يبدو.
••
Forwarded from عبدالله الوهيبي
«حَرِيٌّ بك أن تستكثر من مفردات اللغة وألفاظها، فإن من الأفكار ما لا يدركه العقل إلا بوجود اللفظ الدالّ عليه. وقد قيل: «ما يكون للإنسان من فكرة إلا على قدر ما استقر في ذهنه من ألفاظ!»؛ فكلما ازدادت حصيلتك اللغوية؛ قوي عقلك على نحت الأفكار وصوغها».
في مثل هذه الليلة، يتقدّم الجمعة بخطاه الهادئة، كموعدٍ للروح مع الرحمة.
ولمن أراد أن يأنس بجمال المعنى في صحبة الحرف، فليجعل بين يديه كتاب كثبان المسك، للشيخ فايز الزهراني، ففيه من رائحة الجمعة ما يُبهج القلب ويسكن الخاطر.
ولمن أراد أن يأنس بجمال المعنى في صحبة الحرف، فليجعل بين يديه كتاب كثبان المسك، للشيخ فايز الزهراني، ففيه من رائحة الجمعة ما يُبهج القلب ويسكن الخاطر.
Forwarded from قناة فايز الزهراني
كثبان المسك_فايز الزهراني.pdf
1.6 MB
الحمد لله، صدر كتابي:
« كثبان المسك »
فضل يوم الجمعة وبرنامج المسلم فيه
وقد أتحته للنشر الإلكتروني PDF ، راجياً المولى الكريم أن ينفع به الكاتب والقارئ.
وبإذن الله سيكون قريباً في المكتبات والمعارض.
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
••
|• معاقل الوحي |•
كنتُ أقلب نظري في مشهد هذا الزمن المتسارع، وأتأمل ذاتي في خلوة السكون، فجرى على خاطري سؤالٌ قديمٌ جديد: كيف تُبنى الأمم؟ سؤالٌ ما أزال أعود إليه كلما اختلطت عليّ الأصوات، واضطربت المعايير.
فوجدتني أُحدث نفسي: إنّ كل أمة لا تُبنى على مشاريعها الظاهرة ولا على موازناتها الصاخبة، بل على ما تُغرس في وجدان ناشئتها من المعاني الأولى، والمفاهيم المؤسسة، والموازين الفطرية.
فإن غُرست فيهم لغة السوق، تشكّلت نفوسهم على مقادير الأرباح والخسائر، وإن سُقوا الترفيه، ترسّخت فيهم هشاشةُ اللهو، وإن نُفث في أرواحهم من الوحي، استقامت الوجهة، وتعلّقت القلوب بالسماء، وصار للقرآن في حياتهم مقام المرجع والبوصلة.
ثم نظرتُ إلى طوفان المشاريع الإعلامية، وحراك المبادرات الجماهيرية، فإذا هي تُدهش العين في لحظتها، ثم لا تلبث بعضها أن تخفت وتغيب، أما الذي يمكث، فهو ذاك العمل البعيد عن الأضواء، البعيد عن لافتات التسويق، القريب من أصل الإنسان.
هو ذاك المجلس القرآني الصغير في مسجدٍ هادئ، حيث يُتلى القرآن لا لأجل المسابقة، بل لتتشرّب به النفس وتستقيم به الحياة، هو عملٌ لا تفتنه الشهرة، ولا يُغريه التصفيق، لأنه ببساطة: لا ينتمي لهذه الأرض، بل يتصل بالسماء.
حلقات القرآن في القرى والمدن ليست مشروعات تعليمية فحسب، بل هي مواطن إحياء، تُعيد للناس صلتهم بخالقهم، وتُعيد تشكيل الوعي على معيار الوحي، لا على موجات الرأي العام، من هذه الحلقات تخرج الفطرةُ من ركامها، وتُسقى الأرواح التي أرهقها الضجيج، وتُبنى الهوية من جذورها، لا من قشور الانفعال.
حين تنعقد حلقة في مسجد صغير بأطراف قرية، أو في زاوية مدرسة، قد لا يُحدث ذلك ضجيجًا في الواقع الظاهر، لكنك إن تأملتَ آثارها بعد سنوات، رأيتَ رجولةً تُبنى، وبصائر تُشحذ، وقلوبًا تتشكل على موازين الوحي، لا على هوى الواقع.
تأمل هذا الأثر البعيد في ضوء كلمةٍ جامعة قالها الإمام مالك:“فُتحت المدينة بالقرآن، يعني: أنَّ أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن.” [تفسير ابن رجب الحنبلي: ١ / ٩٠]
ليس الحديث هنا عن مدينةٍ جغرافية فحسب، بل عن مدينة القلب، قلب الطفل الذي يبدأ الانتماء فيه من أول “ألف لام ميم”، قلب الشاب الذي لم تحصّنه أطروحات الحداثة، فحصّنه القرآن، قلب الفتاة التي لم تُقنعها الشعارات النسوية، لكن أبكتها آية.
المعلم في حلقة القرآن لا يُدرّس فقط، بل يُعيد تشكيل الإدراك، ويغرس مفاهيم الولاء، ويُعيد تعريف النصر، ويزرع في النفوس أن العاقبة للمتقين، معلّمو القرآن ومعلماته لا يعملون على نص جامد، بل يحيون النفوس بما أحيا الله به القلوب، هم يبنون الجدار الأعمق في معركة الهوية، يصنعون الوعي الذي لا يُغيّره الرأي العام، ويُقيمون سوق الآخرة في زمنٍ طغى فيه سوق الشهرة والهوى.
أما أولئك الذين ظنوا أن الحلقات تكرارٌ لما حُفِظ، أو تقليدٌ لما سبق، فقد غفلوا عن أن هذه الحلقات هي من أعظم مشروع لبناء الأمة، منها يخرج جيل يعرف من أين يبدأ، وإلى أين يتجه، وبماذا يرتبط.
فيا من رزقك الله مكانًا في تعليم كتابه، لا تظن أن دورك صغير، كل آية تُرسخ في قلب صغير، هي لبنة في بناء أمة، وكل حرفٍ يتعلمه تلميذك، قد يكون فارقًا يوم تُرفع الموازين، ويا من مررت على مسجد فيه حلقة قرآن، فلا تنظر إليه كأنه هامش في مشهد المدينة، ولربما كانت الهوامش في أعيينا هي مراكز التغيير الحقيقة.
وفي زمان الفوضى، كل بيتٍ يُخرّج حافظًا، وكل مسجد يُقيم حلقة، هو جدار صدّ في معركة الهوية الكبرى.
اللهم يا مؤنسَ أهل القرآن، ومُوقِدَ أنوار القلوب بكلامك، اجعل لمعلّمي كتابك نصيبًا من جلالك، وذخرًا من كرمك، وأثرًا لا يندثر في صدور العباد، وارفعهم مقاماتٍ لا تبلغها الألسن، بما علّموا من حروفك، وبما غرسوا من هُداك، فإنهم عمّار مساجدك، وسُقاة رياضك، وأمناءُ نورك في الأرض.
••
|• معاقل الوحي |•
كنتُ أقلب نظري في مشهد هذا الزمن المتسارع، وأتأمل ذاتي في خلوة السكون، فجرى على خاطري سؤالٌ قديمٌ جديد: كيف تُبنى الأمم؟ سؤالٌ ما أزال أعود إليه كلما اختلطت عليّ الأصوات، واضطربت المعايير.
فوجدتني أُحدث نفسي: إنّ كل أمة لا تُبنى على مشاريعها الظاهرة ولا على موازناتها الصاخبة، بل على ما تُغرس في وجدان ناشئتها من المعاني الأولى، والمفاهيم المؤسسة، والموازين الفطرية.
فإن غُرست فيهم لغة السوق، تشكّلت نفوسهم على مقادير الأرباح والخسائر، وإن سُقوا الترفيه، ترسّخت فيهم هشاشةُ اللهو، وإن نُفث في أرواحهم من الوحي، استقامت الوجهة، وتعلّقت القلوب بالسماء، وصار للقرآن في حياتهم مقام المرجع والبوصلة.
ثم نظرتُ إلى طوفان المشاريع الإعلامية، وحراك المبادرات الجماهيرية، فإذا هي تُدهش العين في لحظتها، ثم لا تلبث بعضها أن تخفت وتغيب، أما الذي يمكث، فهو ذاك العمل البعيد عن الأضواء، البعيد عن لافتات التسويق، القريب من أصل الإنسان.
هو ذاك المجلس القرآني الصغير في مسجدٍ هادئ، حيث يُتلى القرآن لا لأجل المسابقة، بل لتتشرّب به النفس وتستقيم به الحياة، هو عملٌ لا تفتنه الشهرة، ولا يُغريه التصفيق، لأنه ببساطة: لا ينتمي لهذه الأرض، بل يتصل بالسماء.
حلقات القرآن في القرى والمدن ليست مشروعات تعليمية فحسب، بل هي مواطن إحياء، تُعيد للناس صلتهم بخالقهم، وتُعيد تشكيل الوعي على معيار الوحي، لا على موجات الرأي العام، من هذه الحلقات تخرج الفطرةُ من ركامها، وتُسقى الأرواح التي أرهقها الضجيج، وتُبنى الهوية من جذورها، لا من قشور الانفعال.
حين تنعقد حلقة في مسجد صغير بأطراف قرية، أو في زاوية مدرسة، قد لا يُحدث ذلك ضجيجًا في الواقع الظاهر، لكنك إن تأملتَ آثارها بعد سنوات، رأيتَ رجولةً تُبنى، وبصائر تُشحذ، وقلوبًا تتشكل على موازين الوحي، لا على هوى الواقع.
تأمل هذا الأثر البعيد في ضوء كلمةٍ جامعة قالها الإمام مالك:“فُتحت المدينة بالقرآن، يعني: أنَّ أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن.” [تفسير ابن رجب الحنبلي: ١ / ٩٠]
ليس الحديث هنا عن مدينةٍ جغرافية فحسب، بل عن مدينة القلب، قلب الطفل الذي يبدأ الانتماء فيه من أول “ألف لام ميم”، قلب الشاب الذي لم تحصّنه أطروحات الحداثة، فحصّنه القرآن، قلب الفتاة التي لم تُقنعها الشعارات النسوية، لكن أبكتها آية.
المعلم في حلقة القرآن لا يُدرّس فقط، بل يُعيد تشكيل الإدراك، ويغرس مفاهيم الولاء، ويُعيد تعريف النصر، ويزرع في النفوس أن العاقبة للمتقين، معلّمو القرآن ومعلماته لا يعملون على نص جامد، بل يحيون النفوس بما أحيا الله به القلوب، هم يبنون الجدار الأعمق في معركة الهوية، يصنعون الوعي الذي لا يُغيّره الرأي العام، ويُقيمون سوق الآخرة في زمنٍ طغى فيه سوق الشهرة والهوى.
أما أولئك الذين ظنوا أن الحلقات تكرارٌ لما حُفِظ، أو تقليدٌ لما سبق، فقد غفلوا عن أن هذه الحلقات هي من أعظم مشروع لبناء الأمة، منها يخرج جيل يعرف من أين يبدأ، وإلى أين يتجه، وبماذا يرتبط.
فيا من رزقك الله مكانًا في تعليم كتابه، لا تظن أن دورك صغير، كل آية تُرسخ في قلب صغير، هي لبنة في بناء أمة، وكل حرفٍ يتعلمه تلميذك، قد يكون فارقًا يوم تُرفع الموازين، ويا من مررت على مسجد فيه حلقة قرآن، فلا تنظر إليه كأنه هامش في مشهد المدينة، ولربما كانت الهوامش في أعيينا هي مراكز التغيير الحقيقة.
وفي زمان الفوضى، كل بيتٍ يُخرّج حافظًا، وكل مسجد يُقيم حلقة، هو جدار صدّ في معركة الهوية الكبرى.
اللهم يا مؤنسَ أهل القرآن، ومُوقِدَ أنوار القلوب بكلامك، اجعل لمعلّمي كتابك نصيبًا من جلالك، وذخرًا من كرمك، وأثرًا لا يندثر في صدور العباد، وارفعهم مقاماتٍ لا تبلغها الألسن، بما علّموا من حروفك، وبما غرسوا من هُداك، فإنهم عمّار مساجدك، وسُقاة رياضك، وأمناءُ نورك في الأرض.
••
••
من السهل أن ترى المرء منهمكًا في حركة لا تهدأ، يدرس ويعمل، ينتج ويشارك، ولكنه بين كل تلك الحركة لا يذوق طمأنينة واحدة، لأن الحركة التي لا تتصل بالله، لا تهدئ القلب، وإن أثارت الإعجاب.
••
من السهل أن ترى المرء منهمكًا في حركة لا تهدأ، يدرس ويعمل، ينتج ويشارك، ولكنه بين كل تلك الحركة لا يذوق طمأنينة واحدة، لأن الحركة التي لا تتصل بالله، لا تهدئ القلب، وإن أثارت الإعجاب.
••
••
النفس حين لا تجد تعريفها من داخلها، تبدأ في استيراد المعنى من الخارج، وكلما بَعُد التعريف عن خالق النفس، ازداد التيه، واشتدّ الظمأ.
••
النفس حين لا تجد تعريفها من داخلها، تبدأ في استيراد المعنى من الخارج، وكلما بَعُد التعريف عن خالق النفس، ازداد التيه، واشتدّ الظمأ.
••
••
التوكل | مدرسة النجاة
في هذا المساء الذي ينام على أطراف عاشوراء، لا يعود الزمان إلى الوراء ليسرد الحكاية، بل يتقدّم بنا إلى الأمام ليعيد ترتيب الإدراك، هذه ليست مجرد ذكرى نصر، بل لحظة وعي تربوي يُبنى بها الإيمان من داخله، لا من أطرافه، ويُصاغ فيها معنى التوكّل لا كفكرة وعظية، بل كقوة داخلية تقلب معادلات الحياة، ففي الطريق إلى البحر، لم يكن موسى عليه السلام مسلّحًا بالحسابات، بل بيقين يفتح البحر، ويوقف الماء، موسى عليه السلام لم ينتظر تغيّر الواقع، بل تقدّم بثقةٍ أعمق من الظرف، وأصفى من التفسير، فقال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فكان البحر في خدمة التوجّه، لا في طاعة العُرف.
ولم يكن البحر هو المعجزة، بل اليقين الذي تقدّم نحو الموج دون خارطةٍ ولا جسر، في منطق الوحي، البحر ليس عائقًا، بل اختبار توكّل، والتقدّم ليس مخاطرة، بل طاعة تُفتح بها المغاليق، موسى عليه السلام لم يكن يُدير أزمة، بل يُقدّم عبوديةً خالصة أمام الله، فجعل الله له من بين يديه ممرًا، ومن خلفه غرقًا للطغيان.
الله لا يصنع النجاة عبر الطرق الآمنة، بل يخلقها من قلب الخوف، ومن فم البحر، ومن بين جدران المستحيل، فكل عاشوراء تمرّ، تُعيد للمؤمن السؤال: ما الذي يفتح البحر في حياتك؟ وأين موقع الطاعة في جغرافيا انتظارك؟
••
التوكل | مدرسة النجاة
في هذا المساء الذي ينام على أطراف عاشوراء، لا يعود الزمان إلى الوراء ليسرد الحكاية، بل يتقدّم بنا إلى الأمام ليعيد ترتيب الإدراك، هذه ليست مجرد ذكرى نصر، بل لحظة وعي تربوي يُبنى بها الإيمان من داخله، لا من أطرافه، ويُصاغ فيها معنى التوكّل لا كفكرة وعظية، بل كقوة داخلية تقلب معادلات الحياة، ففي الطريق إلى البحر، لم يكن موسى عليه السلام مسلّحًا بالحسابات، بل بيقين يفتح البحر، ويوقف الماء، موسى عليه السلام لم ينتظر تغيّر الواقع، بل تقدّم بثقةٍ أعمق من الظرف، وأصفى من التفسير، فقال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فكان البحر في خدمة التوجّه، لا في طاعة العُرف.
ولم يكن البحر هو المعجزة، بل اليقين الذي تقدّم نحو الموج دون خارطةٍ ولا جسر، في منطق الوحي، البحر ليس عائقًا، بل اختبار توكّل، والتقدّم ليس مخاطرة، بل طاعة تُفتح بها المغاليق، موسى عليه السلام لم يكن يُدير أزمة، بل يُقدّم عبوديةً خالصة أمام الله، فجعل الله له من بين يديه ممرًا، ومن خلفه غرقًا للطغيان.
الله لا يصنع النجاة عبر الطرق الآمنة، بل يخلقها من قلب الخوف، ومن فم البحر، ومن بين جدران المستحيل، فكل عاشوراء تمرّ، تُعيد للمؤمن السؤال: ما الذي يفتح البحر في حياتك؟ وأين موقع الطاعة في جغرافيا انتظارك؟
••
••
•| قبل أن تقول |•
حين يتربى القلب على مهابة الوحي، لا يُسرع إلى القول في دين الله، ولا يتسابق إلى منصة الفتيا، بل يتلبّس صاحبه بشعورٍ داخلي عميق: أن الكلمة في الدين ليست حروفًا تُنسج، بل شهادة تُكتب، وأن النطق في مسائل الشرع مقامٌ يتقدّمه طهور الباطن، ويصحبه صدق الوجهة، ويتبعه ميزان التقوى.
فالعقلاء لا يتقدّمون إلى مواطن الفتيا بمحض الفصاحة أو اتساع المدارك، بل يبحثون عن السكينة التي تُرافق أهل الصلاح، وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله– حين سُئل عمّن يُسأل بعده، قال: “سل عبدالوهاب بن عبد الحكم”، فقيل له: إنه ليس واسع العلم، فقال: “إنه رجل صالح، مثله يُوفّق لإصابة الحق”. فإصابة الصواب ليست بنت القراءة وحدها، بل ثمرة استقامةٍ تُستنزل بها التوفيقات.
والرؤية القرآنية في هذا المقام أن صلاح الباطن وتقوى السرائر هي التي تُورِث التوفيق في النطق بالحق، لا مجرد غزارة العلم أو براعة الجواب، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]. فالفقه – في حقيقته – ثمرة للورع، والتعليم من الله جزاء للتقوى، لا ذكاء يُدرك بالاجتهاد وحده.
والعبد أعرف الناس بنفسه، فإن علم منها خيانة خفية، أو ضعف يقين، أو انصراف قلب عن الله، فليُدرك أنه ليس في موضع يؤهّله لقولٍ يُبنى عليه دين، أو لرأيٍ تُستفتح به القلوب، فليعظّم مقام الكلام في الشرع، وليستكثر من الدعاء والخوف والسكوت، فإن سكوت المتردّد عبادة، وصمت الخائف من زلل نفسه فقه.
••
•| قبل أن تقول |•
حين يتربى القلب على مهابة الوحي، لا يُسرع إلى القول في دين الله، ولا يتسابق إلى منصة الفتيا، بل يتلبّس صاحبه بشعورٍ داخلي عميق: أن الكلمة في الدين ليست حروفًا تُنسج، بل شهادة تُكتب، وأن النطق في مسائل الشرع مقامٌ يتقدّمه طهور الباطن، ويصحبه صدق الوجهة، ويتبعه ميزان التقوى.
فالعقلاء لا يتقدّمون إلى مواطن الفتيا بمحض الفصاحة أو اتساع المدارك، بل يبحثون عن السكينة التي تُرافق أهل الصلاح، وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله– حين سُئل عمّن يُسأل بعده، قال: “سل عبدالوهاب بن عبد الحكم”، فقيل له: إنه ليس واسع العلم، فقال: “إنه رجل صالح، مثله يُوفّق لإصابة الحق”. فإصابة الصواب ليست بنت القراءة وحدها، بل ثمرة استقامةٍ تُستنزل بها التوفيقات.
والرؤية القرآنية في هذا المقام أن صلاح الباطن وتقوى السرائر هي التي تُورِث التوفيق في النطق بالحق، لا مجرد غزارة العلم أو براعة الجواب، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]. فالفقه – في حقيقته – ثمرة للورع، والتعليم من الله جزاء للتقوى، لا ذكاء يُدرك بالاجتهاد وحده.
والعبد أعرف الناس بنفسه، فإن علم منها خيانة خفية، أو ضعف يقين، أو انصراف قلب عن الله، فليُدرك أنه ليس في موضع يؤهّله لقولٍ يُبنى عليه دين، أو لرأيٍ تُستفتح به القلوب، فليعظّم مقام الكلام في الشرع، وليستكثر من الدعاء والخوف والسكوت، فإن سكوت المتردّد عبادة، وصمت الخائف من زلل نفسه فقه.
••