Telegram Web Link
يوم "عرفة" هو يومُ اليقين المعلوم.

في يوم الجمعةِ ساعةٌ تُجابُ فيها الدعوات، لكنك لا تعرفها على وجه اليقين، فتدعو على غلبة الظن.

وفي الليل ساعةٌ كذلك، لا تدري يقينًا أي ساعةٍ تكون!

حتى أعظم ليلةٍ: ليلة القدر، أنت من إدراكها في شكٍ، تدعو وتتعبد وأنت لا تدري جازمًا متيقنًا أأصبتَها في ليلتك تلك أم لا!

أما يوم عرفة، فتتساقط كلُّ الظنون، وتَنجابُ عن عينك كلُّ الغشاوات.. حسنًا، أنت الآن في مواجهةٍ مباشرةٍ مع نفسِك، فلتنظر ماذا تصنع!
يومٌ معلومُ الموعد، معلومُ الفضل، معلومُ الوظائف، محددٌ لك تمامًا، فما يمنعك الآن؟!

ليكن لك ثلاثةٌ لا تلتفت عنهم سائرَ يومِك، وما زاد فهو خيرٌ وأجر، لكنها أعمدةُ يومِك:

- صومٌ بحق، تنال به الأجرَ الموعود، فقد احتسبَ النبيُّ ﷺ على الله أن يُكَفِّرَ لك سيئاتِ سنتَين؛ إن صمتَ يومَ عرفة.

-الذِّكرُ -ومنه القرآن- فهو شعيرةُ هذه الأَيامِ العظمى، مهما تكن أشغالُك؛ لا حجةَ لك في ترك لسانك يابسًا لا ترطبُه بذكر الله.
وخير الذكر:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
ومِن أحب الذكر في هذه الأيام: تكبير اللهِ عزّ وجلّ بقلبك ولسانك، والتَّكبِيرُ يَملأُ ما بين السماءِ والأرضِ.

- الدعاء: وههنا الموعد المنتظر مع كَنزك المُدَخَّر، وذخيرتك المُعَدَّة، وطاقةُ قدرك وأمانيك..
كلُّ حاجاتك المؤجَّلة= يومُ عرفة يومُ إجابتها، فادعُ..
"أفضل الدعاء= يوم عرفة"
يوم عرفة، لدنياك وآخرتك، ومفتاحهما: الدعاء.
وإن الله سبحانه "لَيَدنُو" يومَ عرفة ويباهي الملائكةَ بعباده، بما يمنّ به عليهم ويوفقهم له، سبحانه له المِنَّةُ بدءًا وانتهاءً.
أين مطلوباتُ دنياك وآخرتك؟ أحصِها وأعدَّها وجهِّزْها وألحَّ على ربك بها، هذا يومٌ لا يخسر فيه إلا مغبون، وسوقٌ كلُّ تُجَّاره رابحون.

وكل ذلك بعد حُسنِ إقامةِ الفرائض، وترك المحرمات، فهما أعظمُ ما تقومُ به في حياتك مطلقًا، وفي يوم عرفة كذلك.

أما الفوزُ الكَبيرُ، فهو العتق من النار..
"أكثرُ يومٍ يعتق اللهُ فيه من النار= يوم عرفة".
وهذه نتيجةٌ تنالُها، وفضل يُسبغه الله عليك، وعفوٌ تَحوزُه فلا خوفَ عليك بعده أبدًا.
فتعرَّض لنفحات الله ولا تَعْدُ عيناك عما تفوز به برضوان الله.

يومُ عرفة= يوم الدعاء، يوم الصيام، يوم الذكر، يوم العتق، يوم المغفرة، يوم الحج الأكبر، يوم يباهي اللهُ ملائكتَه بعباده الواقفين بعرفة، ويوم يندحر الشيطانُ ويحثو الترابَ على رأس نفسِه، يومٌ لا يُحصَى خيرُه، ولا تُعَدُّ فضائله. فتزوَّدوا.

يوم عرفة= يوم جلالٍ وجمالٍ وعَظَمَةٍ وهَيْبَة.

يوم عرفة= مفخرةٌ لنا نحن المسلمين ورحمةٌ وبركةٌ وفضل!

مرة أخرى= يوم عرفة يوم الدعاء.
هذه وظيفةُ اليوم كله، والدعاء هو مُخُّ العبادة وحقيقتُها، بل هو هي.

أدام اللهُ نفحاتِه علينا أجمعين، وجعلَنا وإياكم ممن يتعرضُ لها فلا يشقى بعدها أبدًا، وفتحَ اللهُ على كلِّ امرئٍ بما يدعو ويرجو دِينًا ودنيا ومعاشًا ومعادًا.
وفرَّجَ اللهُ الكُربةَ عن أهلنا وإخواننا، وجعلَ العاقبةَ لهم على مَن بغى عليهم، وأبرمَ لهذه الأمة أمرَ رُشد.. آمين.
اللهم ربَّ الناس، كما مننتَ علينا وأعطيتنا، وجعلتَ فينا الأضاحي سنةً ساريةً من أولنا لآخرنا، فداءً من بلاءٍ مبين، اللهم فامنن على إخواننا بالفداء من البلاء الذي أحاط بهم، ونجهم من أرذل عبادك..

اللهم وأحيِ جُثَثنا الهامدة، وأيقظ ما تبلد من إحساسنا، وأصلح ما فسد من قلوبنا، وأعذنا من الجبن الذي استشرى فينا ونخر في عظامنا، ومن حب الدنيا الذي أوهننا وأقعدنا، ومن كراهية الموت التي أجبنتنا وخوفتنا..

اللهم رب الناس، أحيِ هذه الأمةَ المسكينة، تسترد ما سُلب من عزتها، وتثور لما دِيس من كرامتها، وتسترجع ما سُلب من مقدساتها، وتنتقم لما أزهق من عيون أبنائها، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتجاهد في سبيلك والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا.

اللهم غزةَ يا رب غزة..
غزةَ يا رب غزة..
غزة يا رب يا قادر.. يا كريم.
في الحديث: يقول اللهُ سبحانَهُ لأهل عرفات:
"أفيضُوا عِبادِي مغفورًا لكم ولِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ".

اللهم ألحقنا بالصالحين من عبادك، وشفِّعهم فينا، واقبلْ دعاءَهم في إخواننا المستضعفين.
مما يدل على عظيمِ قدرِ هذا اليوم وأنه لا تُفوّت أوقاتُه في غير ذكر ودعاء، ما جاءنا مِن حرص رسولنا ﷺ:

فعن أسامة بن زيد:
كنتُ رَديفَ رسولِ اللهِ ﷺ بعَرَفاتٍ، فرَفَعَ يدَيه يَدعو، فمالتْ به ناقتُه، فسَقَطَ خِطامُها. قال: فتَناوَلَ الخِطامَ بإحدى يدَيه وهو رافعٌ يدَه الأُخرى".

يا ربِّ صلِّ وسَلِّم وبارك على نبينا محمد وآله، وزدْنا له حبًّا وتعظيمًا وتوقيرًا.
اللهم تمم أعيادَنا بفرحة أهلنا في أرض الرباط..

أستبشر بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذينَ آمَنوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفورٍ * أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلونَ بِأَنَّهُم ظُلِموا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصرِهِم لَقَديرٌ﴾ وذِكرها في سورة "الحج" بعد آيات الحج وشعائره..
كل عام وأنتم وأحبابكم في خير وعافية ونعمة سابغة، في أحسن حال وأصلح بال.
ولطفَ اللهُ بإخواننا ودفعَ عنهم.
غروبُ يوم النحر، أعظمُ الأيام عندَ الله..
فيما يخص نكبتنا المستمرة في أرض الرباط:
بعضُ الناس انقلبوا شيئًا فشيئًا عن تأييد الحق إلى الميل لروايات الباطل، ليس إيمانًا جازمًا بخطأ أو باطل، وإنما دخلتْهم تلك الأباطيلُ من كُوَّةٍ صغيرةٍ في نفوسِهم: طول الأمد!

استمرار المعركة زمانًا طويلًا -كاد أن يقارب السنتين- يستلزم جهدًا كبيرًا في اختياراتك في الحياة، وصبرك على دعم الحق ودحض الباطل، وصبرك على الجمرة الموقدة في يدك، وصبرك على طول التمسك بحبل الحق ورعاية أهله وإن تآكلت يدُك وخارت قواك..

إن بعضَ الناس قد مالوا عن الحق التام إلى بعض الباطل أو إلى كله، هروبًا من تبعات الحق التي طالت، والتي لا يُطيقها إلا الرجال! والعقل يُزيّن لكَ ما شئتَ من الخيارات من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال!

لكنك في دخيلة نفسِك، تعرفُ أنك واقعٌ في الإثم إلى شعر رأسك، مهما زخرَفَ لك عقلُك وبهرَجَت لك نفسُك وزيَّنَ لك شيطانُك، لأن الإثمَ له شوكٌ ينغرسُ في الضمير الباطن!
"الإثم ما حاكَ في نفسِك وتردَّدَ في صدرك، وإن أفتاك الناس وأفتوك"!
قوم غافلون، يهللون لبعض القوانين نكايةً في الخصوم لا أكثر! عيونهم ضيقة، لا يرونَ أبعدَ من وجود خصومهم، ولو فقهوا لعلموا أنما هي قوانين لا لضبط الفتوى ثم نقطة!
كلا.. بل هي لضبط الفتوى على مقاس "الدولة"!
وجعل "معتمد الفقهاء" ما تختمه "الجهات العليا"!
أيها النبهاء الأذكياء الفطناء.. الغافلون.
وأنا خلفَ جنازة حارّة اليوم لشاب في ريعان الشباب مات في قريتنا في حادث أليم شديد! ظلَّ بعضُ الشباب يتضاحكون ويتمازحون حتى وصلنا المسجد! بلا أي شعور أو قطرة دم تجري في عروقهم!
والميت شاب مثلهم، والأمر كله لا يحتمل..

يحتاجون للتربية؟ صحيح..
يحتاجون للدين؟ بلا شك..
يحتاجون للتعلم؟ أكيد..
لكنهم يحتاجون أكثر ما يحتاجون: أن يحسوا!
الإحساس هو النعمة الكبرى الذي يُجدي معه كل شيء، فإذا فُقِدَ فلن يجدي -مع فقده- أي شيء!

ولهذا تجد الفطناء العارفين يتكلمون عن أهمية الأدب، كما يتكلمون عن أهمية الدين، بل أشد!
لأن الأدب يعلم الناس أن يحسوا، ثم تأتي المعارفُ بعدُ فتقع على إنسان حي يحس ويشعر ويتأثر..
أما هؤلاء الذين كانوا يضحكون ويتساخفون، فبالله قل لي: إذا عدموا الإحساس فأي كلامٍ يجديهم؟ وأي نصيحة سيفهمونها؟

و"الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا".
إلْفُ القيود، أقعدَ هِمَم الناس وسَفَّلَ أرواحَهم، فنجاةً من نشدانِ الحرية ودفعِ أثمانِها الباهظة؛ أخذوا يمدحون القيود!

في بِقاعٍ أخرى، يمدحون القيود لأنها مصنوعةٌ من الذهب والفضة والماس واللؤلؤ وكل ذي بريق وبهرج!

في بقعتنا المباركة، يمدحون قيودَهم برغم كل شيء، قيودٌ مِن حديدٍ صَدِئ، وعليها نزفُ دمائهم، لكنهم ما زالوا يتغزلون بها!

قديمًا كان الطغاةُ يحتالون على رُعاتهم بالبهارج والزينة، يخادعونهم عن أنفسهم، أما اليوم فلا يحتاجون، يكفيهم أن يُلقوا عَظْمةً وسيجري عليها ألفُ كلب، وربما قامَ كاتبُهم وشاعرُهم فاحتال على الناس وعلى اللغة فأنشأ من تلك "العَظْمةَ" ديوان "العَظَمة والعِظام"!
اجعل تفكيرَك في مصلحة أمتك، الأمة الواحدة، ولا تضيقها بانتمائك الضيق لبلدة أو فكرة!
انظر في الأفق الأعلى والأرحب والأوسع..
هذا أول مراقي النجاة لهذه الأمة المنقسمة على نفسها.
بعد إذن المحلل الاستراتيجي اللي جواك، ممكن تسكت شوية؟
يعني واضح ما شاء الله إن من وسط كل مليون فيه واحد مش فاهم، والباقي مش فاهمين حاجة خالص!
فممكن نهدا شوية؟
والله شكلكم وحش فعلا!
انتو حتى مش مستوعبين ألف باء سياسة ونظام عالمي حالي.
ممكن تتفضلوا على كراسي المتعلمين؟
كلها فاضية والله..
الناس كلها قاعدة على المنصة وماسكة المايكات، أمال مين اللي هيسمع؟!

وما أصدقَ الذي قال:
وتَشَعَّبوا شِعَبًا، فكلُّ جزيرةٍ
فيها أميرُ المؤمنينَ ومِنبَرُ!
اللهم زدهم نارًا ودمارًا ووبالًا وعذابًا..
اللهم واجعل ما يأتيهم بأيدينا..
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا.
اللهم وأنجِ المستضعفين من المؤمنين.
اللهم وانقلنا بقوتك من سُوحِ الفرجة إلى سوقِ العمل..
من المُحكَمات التي لا ينبغي أن تغيبَ عنك: أن هلاكَ هذه الدولة المؤقتة اللقيطة كلها عن بكرة أبيها، بأبشع الصور وأشنع الميتات= لن يشفي صدورَنا من قلامة ظفر طفلٍ من شهدائنا الأبرار!
إنما الدنيا شُجونٌ تلتقي
وحزينٌ يتأسَّى بحزين!

أكثرُ أحزانِ الناس -فيما يتراءى لي- أسبابُها أمورٌ هينةٌ لم تُواتِهم، ولم تُسعِفهم الأقدارُ بها..
وهؤلاء لهم حزنٌ يُبايِنُ الأحزان، حزنٌ هادئٌ صامتٌ وَقور، لن تسمعَ منهم ضجّةً ولا صخَبًا، وإنما يَسري حزنُهم فيهم في رقةٍ وسكون.. فيُضفي عليهم سَكينةً ورقةً ورهافةَ حِس.
أكثرُ ما تسمعُ من نَفَثاتهم حينَ يُعييهم الكتمان:
"كان يمكن للحياة أن تكون أفضل من هذا" دونَ عناءٍ كبير!
لم تكن حاجتي ومَبعثُ سعادتي إلا أمورًا هينةً لو كانت، فما هانت ولا كانت! والحمد لله على كل حال.
انكشاف الشدائد التي تغمر الناس بشدتها وتطبق على أنفاسِهم من كل جانب= هو أحسنُ الأشياء وألَذُّها وأمتعُها وأروحُها على النفوس..
يا رب فاكشف الغمة، عن هذه الأمة..
الدعاءُ يُبِينُ عن نفسية الداعي..
فدعاء المرء ينطقُ عن ضميره المكنون، وإن لم يشعر.
وهناك فرقان بين دعاء السادة الأحرار الأبرار وبين دعاء الذليل الخانع الضعيف.

فالرجل القوي، الخاشع لأحزان أمته، المحزون لعلوّ الفساد في الأرض، يُحب معاليَ الأخلاقِ وأشرافَها، ويكرهُ سَفسافَها..
فإذا دعا، أحبَّ معاليَ الدعاء، فلم يكتفِ أن يستنزلَ قدرَ اللهِ بالمعجزات -والتي قضت سُنةُ الله ألا تبقى في الناس بعد بعثةِ النبي ﷺ- بل يدعو وبين عينيه قولُ ربه "قاتلوهم يُعذِّبْهم اللهُ بأيديكم ويخزِهم وينصركم عليهم ويشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين" ويتمثل دعاءَ الوليّ المُلهَم السيّد:
"اللَّهُمَّ اكسِر بنَا شَوكتهُم، اللَّهُمَّ نَكِّس بنَا رَايتهُم، اللَّهُمَّ أذِلَّ بنَا قَادتَهُم، اللَّهُمَّ حَطِّم بنَا هَيبتَهُم، اللَّهُمَّ أزِلْ بنَا دَولتهُم، اللَّهُمَّ حَقِّقْ بنَا قَدرك فِيهم بِـالتَّدمِير وَ التَتبِّير".
فانظر إلى شَرَف الدعاء، وانظر إلى قوله "بنا" واستمطارِه قوةَ اللهِ وبأسَه ونَصْرَه بجعله سببًا "مُجَهَّزًا" في نزول أقدار الله بالغلَبةِ والتمكين وإزالة الفساد والمفسدين!

فإذا نظرتَ بعين النقص إلى استبطاء قدرَ اللهِ بالنصر وعقاب المجرمين، فلِمَ لَم تستبطئِ "جهوزيتك" و"تهيئةَ الأسباب"؟

ورسولنا ﷺ خيرُ مَن سَلَكَ السبيلَين، فيأخد بكل ما يمكنه من أسباب القوة، ويدعو ربَّه ويناشده بخير ما يكون من الدعاء..
وانظر لفعله ﷺ في غزوة بدر، فما دعا ربَّه بالنصر إلا وهو في ساحة النزال وسيفُه على عاتقه ﷺ، "فما زالَ يَهتِفُ بربِّهِ مادًّا يدَيهِ مُستقبِلَ القِبلةِ حتَّى سقطَ رداؤُهُ عن مَنكِبَيهِ، فأتاهُ أبو بكرٍ فأخذَ رداءَهُ فألقاهُ علَى مَنكبَيهِ ثمَّ التزمَهُ مِن ورائِهِ وقالَ: يا نبيَّ اللهِ كفاكَ مناشدتَكَ ربَّكَ فإنَّهُ سَينجِزُ لَكَ ما وعدَكَ".

فادعُ اللهَ أن يصلح الأحوال، وأن يصلحك، وأن يصلح بكَ الأحوال.
لماذا يتأثرُ الإنسانِ ببعض مصائبِ الناس دونَ بعض؟

تتعدد الأسباب وتتباين، لكني أريد الإشارةَ لسببٍ جليٍّ في النفوس دقيقٍ عن البيان: وهو أن الإنسان يزدادُ تعاطفًا وتأثرًا بكل مصيبة لها "سياق" و"قصة".
فإذا سمعتَ عن شخصٍ ما من الناس قد ماتَ، ربما لم تجد كبيرَ أثرٍ في نفسك، فإذا علمتَ أنه كانَ شابًا فتِيًّا، ازداد تأثرك، فإذا علمتَ أنه كانَ يجري على أبوين شيخين كبيرين، ازداد حزنُك، فإذا علمتَ أن له زوجًا محبةً وأولادًا صغارًا يسعون بين يديه، زاد حزنُك، فإذا علمتَ ألّا كافلَ لهم بعده إلا الله؟ فإذا علمتَ أنه كان رجلًا صالحًا ناجحًا؟ كانَ عائدًا من عمله بعد غيابِ عام؟ فَوَّتَ طائرتَه واستقل التي بعدَها فتأخرَ عن موعده فتهيأت أسبابُ وفاتِه؟
وهكذا في سلسلة تزيدُ السياقَ وضوحًا لك، وتنجلي القصةُ أمامَك، وتبرزُ مكامنُ المأساة في حكايته، فيتعاظمُ حزنُك عليه وشفقتُك.

ولهذا يتأثر الناسُ بالروايات، والمسلسلات، والأفلام، والحكايات، لأنها تضعك مع الناس في سياق حياتهم، فتعيشها معهم فتُحِسّ بمصابهم كأنك منهم أو كأنك هم! وبخاصةٍ إذا زادت المشتركاتُ بينك وبينهم، ثم إذا انضافت لمصيبة المَوت مآسي المعاناة والظلم والطغيان..

لو قيل لك: مات رجل في أرض العزة، لحزنتَ حزنًا مألوفًا وقلتَ ببرود: رحمه الله! لكنك كلما علمتَ عن باطنِ أخبارِه وسياقِ حياتِه، ازددتَ بموته تأثرًا وحزنًا..
(واذكر موتَ "العم أبو ضياء" كيف سَعَّرَ نيرانَ الحزن في أفئدة الناس أيامًا، و"يوسف سبع سنين شعره كيرلي" وغيرهما، رغم أنه قد مات سواهم آلاف وآلاف) لكن القصة والسياق جُذورٌ تستحكم في قلبك، فيكونون أبعاضًا من نفسك تتساقطُ منك، فتألم وتأسى وتحزن.

من سنوات، شاهدتُ فيلمًا أمريكيًّا "عاديًّا" يتكلم في قصة شاب عادي، يحكي عن قصته مع عائلته، مع فتاة يحبها، مع عمله، وهكذا..
تعيش معه تفاصيل حياته دقيقةً فدقيقة، تتعاطفُ معه، تحزن له، تحبه.. ترتبك لارتباك علاقته مع أبيه، تتمنى أن يتآلفا ويتسامحا. ثم كانَ ما أردتَ! فتصالحَا وتآلفا وتوادَّا يومًا!
ثم كانت نهاية الفيلم عجيبةً غريبةً! في اليوم التالي كانت "حادثة برج التجارة العالمي" وليس للفيلم أي علاقة بهذا الأمر حتى قبل النهاية ببضع دقائق، فيموت الشاب فيمن مات في تلك الحادثة هذا اليوم!

ماذا لو قال لك امرؤ: مات شاب في برج التجارة يوم 11 سبتمبر؟ ربما لم تهتز لك شعرة! ربما فرحتَ، ربما لم تُبالِ، ربما حزنتَ حزنًا "صوريًّا"!
لكن انظر إلى سحر "الدراما" كيف دخلَ إليك!
فجعل خبرًا عن رجل من مليارات البشر، ليس مجرد "رقم" بل هو "إنسان مثلك له قصة لم تكتمل" قطعتها مصيبةُ الموت!
بل انظر إلى مكر الحكاية! لو علمتَ أن مدارَ الفيلم على تلك الحادثة، ربما انصرفتَ عنه، فنحن جميعًا نعرف كذبَهم وتدليسَهم ومبالغاتِهم فيما يخصهم واحتقارهم لما يخصنا! هذه عادتهم وهذا ديدَنُهم.. ولا جديد! لكن المخرجَ الذكيَّ -أو الكاتب- جعلكَ تعيش قصةً عاديةً جدًّا، ثم أدهشَك بنهايةٍ مأساويةٍ صادمة.. فكأنما يستجلب تعاطفَك ويقول: "يرضيك شاب زي الورد كدا يموت كدا؟!"

وماذا لو قيل لك: ماتَ جندي من جنودنا المقاومين البواسل؟ ستحزن بلا شك، لكن ماذا لو كان الذي مات هو "أبو إبراهيم"؟ لتضاعفَ حزنُك أضعافًا مضاعفةً، لتضاعف السياق، وإن لأبي إبراهيم لَألفَ سياقٍ وحدَه!

وللحديث بقايا -عادةً- لا تكون..
الوعظ جميل ومطلوب ونافع، لكنه يسمُج في بعض المواضع، ويكون غيرَ نافعٍ ولا مستساغ، بل يكون الواعظُ حينها مستحقًّا هو للوعظ بل للزجر!

وانظر في القصة المشهورة التي تعرفونها جميعًا:
قال جابر رضي الله عنه: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ.
فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ".

فانظر لفعله ﷺ وقوله، ما قال لهم واعظًا في هذا الموطن: لمثل هذا اليوم فأعِدوا! بل زجرَهم ودعا عليهم ونسبَ قتلَ الرجلِ إليهم، لأنهم قد تسببوا في مقتله بإفتائه بغير علم!

وصلى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ على معلم الناسَ الخيرَ ﷺ.
2025/06/30 06:15:14
Back to Top
HTML Embed Code: