Telegram Web Link
الدعاءُ هو إفصاحٌ بهموم المرءِ، وإعلانٌ لما يَملِكُ عليه نفسَه..
قل لي بمَ تدعو؛ أقلْ لك مَن أنت!
مِن بركاتِ صوتِك الحسَن، أن تجعل هِبةَ اللهِ لك "صوتَك" سُلَّمًا تخدمُ به القرآنَ، وتُحَبِّرُ به كلامَ ربِّك، وأن تُزَيِّنَ القرآنَ بصوتِكَ، فيكون صوتُك خادمًا للقرآن لا أن يكونَ القرآنُ خادمًا لصوتك -جلَّ كلامُ ربي- "وأن تنزلَ بنفسِك على هوى القرآن، لا أن تنزلَ بالقرآنِ على هوَى نفسِك".
قيل لابنة الخس: ما ألذُّ شيء؟
قالت: أمانيُّ تقطعُ بها أيامَك.

وقيل لعبد الله بن أبي بَكرة: أيُّ شيءٍ أمتع؟
قال: مُمازحةُ مُحبٍّ، ومُحادثةُ صديق، وأمانيُّ تقطعُ بها أيامَك.

وقال أفلاطون: الأماني حلمُ المستيقظِ وسَلوةُ المحزون.

وقال غيرُه: الأماني رفيقٌ مؤنسٌ إن لم ينفعْك فقد ألهاك.

وقال الشاعرُ القديم:
‏إذا ازدَحَمَتْ همومي في فؤادي
طلبْتُ لها المَخارجَ بالتمنِّي
[صلَّى اللهُ على نبينا كُلَّمَا ذكرَه الذَّاكِرُون، وغَفَل عن ذِكْره الغافلون. وصَلَّى عليه في الأوَّلين والآخِرين، أَفْضَلَ وأكْثَرَ وأَزْكَى ما صَلَّى عَلَى أَحدٍ مِنْ خَلْقه.

وزكَّانَا وَإيَّاكم بالصلاة عليه، أفضلَ ما زَكَّى أَحدًا من أمَّتِه بصلاته عليه. والسلامُ عليه ورحمةُ الله وبركاتُه.

وجَزَاهُ الله عَنَّا أفضلَ ما جَزَى مُرْسَلًا عن من أُرْسِلَ إليه؛ فإِنه أَنْقَذَنَا به مِنَ الهَلَكَةِ، وَجَعَلَنَا في خَيْر أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس، دائنينَ بدينه الذي ارْتَضَى، واصطفَى به ملائكتَه ومَنْ أَنْعَمَ عليه من خَلْقِه.

فلم تُمْسِ بِنَا نعمةٌ ظَهَرَتْ ولا بَطَنَتْ، نِلْنَا بها حَظًّا في دينٍ ودنيا، أو دُفِعَ بها عَنَّا مكْرُوهٌ فيهما، وفي واحدٍ منهما: إلَّا ومحمد صلى الله عليه سَبَبُهَا، القائِدُ إلى خيرها، والهادي إلى رُشدها، الذَّائِدُ عن الهَلَكَةِ وموارِدِ السَّوْءِ في خلاف الرُّشْدِ، المُنَبّهُ للأَسْباب التي تُورِدُ الْهَلَكَةَ، القائمُ بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها.

فصلَّى اللهُ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّى على إبراهيم وآل إبراهيم، إنه حميد مجيد].

____
الإمام الشافعي رحمه الله.
يا أيها الناس اتقوا ربكم..
يظلنا شهرٌ فضيل، وأنتم تتهارشون كالدِّيَكة، ويلوكُ بعضُكم أعراضَ بعض! دعوها فإنها منتنة، دعوها حسبةً لله وحده..
اتركوا المراء -ولو كنتَ على حق- تعظيمًا للشهر الكريم، وابتغاء وجه ربك.
ليقول الناس عنك "مغلوب"، لا يضرك وأنت عند الله فائز.

يقول نبيك صلى الله عليه وسلم:
"أنا زعيمُ ببيتٍ في ربضِ الجنَّةِ لمَن تركَ المراءَ وإن كانَ مُحِقًّا".

اتركوا هذا التشاحنَ والتلاسن، عملًا بهدي حبيبك، وانزلوا بأهوائكم على هوى الشرع، إن كنتم تعقلون..

"يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
في الحديث:
‏"ألا لا يَمنعنَّ رجلًا هيبةُ الناسِ أن يقولَ بحقٍّ إذا عَلَمَه".

وفيه:
أن للناس سطوةً وتأثيرًا على الرأي والقول.
وأن يقَولَ الحقَّ فلا تخوّفُه هيبةُ الناس.
وأن يقول "الحق".
وأن يقول الحق "بحق".
وأن قولَ الحقِّ فِعلُ الرجالِ الشجعان.
وألا يقولَ إلا إذا عَلِمَه، فلا يقولُ الجاهلُ.

__
ورحم اللهُ محمود شاكر، فقد تعلمنا منه هذا الحديث، وجذبنا جذبًا في افتتاحية كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" وكان الرجل تمثُّلًا حيًّا لهذا الحديث وفقَ ما يعتقدُه.
من الأوصاف المدهشة للقرآن والتي جاءت في بعض الآثار: أنه لا يَبْلَى -أو لا يَخْلَقُ- على كثرة الردّ.
وهذا واللهِ عجبٌ!

هل رأيتَ كتابًا تتفجرُ لك يَنابيعُه ثَرَّةً فَيَّاضةً كلما رجعتَ فيه النظرَ، كهذا الكتاب العظيم؟
لا يَمَسُّكَ مَلَلٌ أو تَشبُّعٌ أو امتلاءٌ، بل ما تزالُ تائقًا إليه، ظامئًا إلى عَذبِ عُيُونِه وريّ مَعينِه.

هل سمعتَ كلامًا لا تَسَعُهُ أنغامُ القراءِ -ويَسَعُها- على تنوع أصواتهم، وتباين لُحونِهم، ورهافةِ إحساسِهم، ودقةِ صُنعهم، كهذا الكتاب الكريم؟
حتى إن الأنغامَ لَتفنى، ولا يَفنى ما فيه من نعيم لكل مغتذٍ منه وشارب، ولا تَنفدُ ألوانُ إلهامه لكل صوتٍ قاصدٍ إياه وطالب.

فاقرأ ما شئتَ من ألوان التفسير والتأويل لأنوارِ هداياتِه، واسمع ما شئتَ من ضروبِ التنغيم والتلحين لأصوات آياتِه، ثم اقصِدْه طالبًا مَزيدًا، يُعطيك مَزيدًا جديدًا، كأن لَّم تَمْسَسْه قبلُ محابرُ العلماء، ولا حناجرُ القُرّاء.

إنك لَتقرأُ في التفسير ما شئتَ لا تملُّ جديدَ أسرارِه، وفريدَ أنوارِه، وتسمعُ القُرّاءَ العظماءَ النوابغَ يترنّمون بِسِحرِ نغماتِه وبديعِ بيانِه على آذانِك، فتودّ لو أن كلَّ أعضائِكَ آذانُ تسمعُ وتَتَنعَّمُ وتَطرَبُ.. لا تملُّ.

كيف تقرأُ الآيةَ منه وتسمعُها ألفَ مرةٍ وألفًا وألفًا ولا تملُّ؟!

كل ذلك وهو جديدٌ، لا يَبْلَى على كثرةِ الرد.

﴿وَلَو أَنَّما فِي الأَرضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلامٌ وَالبَحرُ يَمُدُّهُ مِن بَعدِهِ سَبعَةُ أَبحُرٍ ما نَفِدَت كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾

﴿قُل لَو كانَ البَحرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَو جِئنا بِمِثلِهِ مَدَدًا﴾
إنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيرًا منها.
مُصابنا في الشيخ الحويني جَلَل عظيم!
أنا وأبناء جيلي يتامَى هذا الشيخ الوقور.
رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه.
رحم الله الشيخ الحويني؛ فقد كان أول من أخذ بيدي إلى طريق الله، وأول من علمني تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم سنته، وأول من استدر الدمع من عيني عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وأول من فتق لي طريق البيان والعربية.

فهذه صنائع تجعل منته في عنقي لا تبرحني أبد الدهر، مهما تقلبت بي السبل والمسالك والمذاهب والأودية في العلم والطريق.

وافق رحيلُه ذكرى بدرٍ والأصحاب الذين قضَوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَن عاش عمره يُنافح عنهم. فلعل هذا من يُمن القدوم على ربه الذي ظل يردد الدعاء به في إثر كل مجلس.

فاللهم رحمتك ورضوانك ومغفرتك وعفوك لهذا العبد الصالح الذي قدِم إليك في خير أيام وخير ليال، ارفع مقامه وأعل درجته واكتبه عندك في المقبولين العتقاء، واجعله في جوار نبيك صلى الله عليه وسلم.
كانت المرة الأولى التي أعرف فيها الشيخ الحويني رحمه الله في الصف الأول الثانوي، منذ ما يزيد قليلا على خمسة وعشرين عاما
كنت أزور صديقا ماهرا في الكمبيوتر الذي دخل حياتنا جديدا حينها لآخذ منه بعض البرامج على سي دي، ووجدت عنده صدفة سي دي مكتوب عليه: (محاضرات الشيخ الحويني)
قلت له مستغربا: ما هذا؟ الجويني عالم قديم مات منذ مئات السنين!
فقال لي: لا أعرف الجويني، لكن هذا هو الشيخ أبو إسحاق الحويني من علماء الحديث، خذ اسمع محاضراته.
وفي الواقع كنت حينها لا أعرف من العلماء والدعاة المعاصرين إلا نزرا يسيرا، ولا أعرف إلا العلماء الذين اقتنيت لهم كتبا أو وجدتهم في الكتب القليلة التي بدأت أقرأها.
أخذت السي دي ونسيت أمره، وعندما ذكرني بإرجاعه عزمت أن أرى ما فيه من باب الاطلاع قبل أن أرجعه، وأذكر أنني سهرت ليلتي أسمع المحاضرة تلي المحاضرة لأكثر من سبع ساعات، مرت كالدقائق، حتى أدركني الفجر بشعور غريب.
رأيت رجلا سقط من طبقة محدثي القرون الأولى، وكان الشيخ حينها فتيًّا طويل الشعر مدَّهِنا، لمنطقه حلاوة، ولكلامه صولة، وفي عبارته صدق وحياة، فقد كان يحيى ما يقول فيخرج كلامه حيا ناطقًا، كما كانت عيناه ناطقتين ككلامه.
كان الحويني أجلّ رجل في هذه الطبقة يتكلم عن سياسة العلم وحب العلم وحرمة العلم والعلماء، ويوثق هذا كله برباط تعظيم السنة والاتِّباع، وهذا من أعظم ما يكون تأثيرا في طلبة العلم والعوام جميعا.
مات الشيخ الحويني الليلة، وبموته يموت جزءٌ كامل من وجداننا، بل من ذواتنا نفسها.
إن أمثال الشيخ الحويني ليسوا مجرد علماء أو وعاظ أو مؤثرين، إنهم مراحل كاملة من العمر وتكوين الشخصية.
كان الشيخ رحمه الله من أصدق الناس، ومن أنبل الناس، وكان محدثا ناقدا بصيرا، عالما بالنفوس، نقي السيرة والسريرة، من وجهاء المسلمين، ومن أعيان أهل السنة وجَمالهم، علَمًا على الاتباع، قدوة كاملا، بقية السلف.
رحمه الله رحمة واسعة وغفر له، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
من التلاوات المُحَبَّرة الجميلة، قرأها الشيخ هشام عبد الباري راجح، بين يدي الشيخ الحويني رحمه الله!
رحيل الكبار سراجٌ للسالكين والأبرار

رحل إلى الله تعالى قبل قليلٍ الشيخ أبو إسحاق الحويني عليه رحمة الله، وقد رأيت أقلام الثناء عليه والدعاء له تملأ الفضاء الإلكتروني بعد هذه الحياة الممتدة في العلم والدعوة ونشر الخير وبذل المعروف والنصيحة للأمة.

وقد قفز إلى ذهني أمرٌ ما من حياة الشيخ رحمه الله ما عاد يُذكَرُ في السنوات الأخيرة إلا على قلة، وقد رأيت أن أُبرِزَه وأن أضم في تقرير المعنى تناول شخصيةٍ أخرى من الكبار الذين رحلوا إلى الله تعالى مؤخرًا كان يحضرني نفس الأمر فيها أيضًا، وأوسِّط الحديث عنهما بشخصيةٍ ثالثة تقرر المقصود العام من موعظة المقال.

وأختار جانبًا واحدًا من حياة كل شخصية إيجازًا.

أما أبو إسحاق الحويني فإنه رجلُ علمٍ ودعوة، وفضله مستفيضٌ ممتد، إلا أنه من الشخصيات التي حصل الجدل حولها في بعض المساحات، واختلف الناس فيها بين مادحٍ وقادح، وذلك من نحو عقدٍ أو عقدين من الزمان، وبعض ما قيل بحقه كان حقًّا وبعضه لم يكن حقًّا.

إلا أنَّ الرجل لما بقي حريصًا على اتباع السنة متحريًا للأدب مع الموافق والمخالف، وكثرت شواهد خشية الله في كلامه، وصارت عنايته تزداد توفرًا على قضايا الأمة وهمومها مع زيادة ظاهرةٍ متصاعدةٍ في اللطف والأدب والأهلية والشعور بالمسؤولية.. فقد احتمل الناس ما وجدوه عليه، واجتمعت القلوب على حبه، حتى لا يكاد أحدٌ يذكر ما كان من الأخذ والرد، لينتهي المشهد بهذه الخاتمة الفاخرة في جوف شهر رمضان وألسنة المسلمين على تباعدهم شرقًا وغربًا تلهج بالثناء عليه والدعاء له!

إنَّ الصدق والإخلاص والشعور بالمسؤولية جسورٌ كريمةٌ إلى المقامات الفاضلة والخواتيم الفاخرة.

أما الشخصية الثانية فهي محمد الضيف أبو خالد.

هذا الرجل كان يسكن أحد أحياء المنطقة التي أسكنها (السطر الغربي)، وكنت أعرف بيته، وقد مررت من أمامه ما لا أحصي من المرات، ولا أدري شيئًا عن البيوت والأماكن الأخرى التي كان يتردد فيها.

وحين أُعلِنَ عن استشهاده وجاءت الأخبار بالكشف عن صورته كنت حريصًا على رؤية الصورة لأرى هل التقيت به من قبل أو لا؟، فلما رأيت الصورة هالني أني لم أره قط مع أن بيتي لا يبتعد عن بيته إلا بضع دقائق وقد كنت أُقدِّر أني ربما رأيته ولا أعرف شخصه.

إنَّ أمر اختفائه الطويل هزني، وكثيرًا ما حدثت نفسي أن أبا خالد استطاع أن يُنتِج لنفسه حياة خاصةً على مدار بضعٍ وعشرين سنة من المطاردة والاختفاء، ويتعايش معها على أتم ما يكون التعايش.

وحين بلغني خبر استشهاده شهر 7/2024 قلت لمن أخبرني: ليس العجب من تمكن العدو من الوصول إليه؛ ولكن العجب من بقائه طيلة عصر الانتفاضة حتى بلغ بالمقاومة هذا المستوى العظيم مع شدة الملاحقة وكثرة التتبع وتعدد محاولات الاغتيال!

إن أبا خالد لم يكن يكثر الكلام، ولكنه إذا تكلم خرجت كلماته هادئةً في مبناها عظيمةً في معناها، تشق طريقها إلى الواقع لتتحول إلى أخبار عاجلةً تصبح ملء السمع والبصر.

وإذا كان أعظم ما يُنبِي بفضلِ الرجل أفعاله الكبيرة تلك التي ملأت العالم والتي كَسَت هذا البلد برداءٍ من الهيبة والعظمة فإنَّ أحلى وأبهج موازين الفضل عندي هي تلك الحناجر المقدسية التي كانت تصدح باسمه شخصيًّا في ساحات المسجد الأقصى المبارك تنادي عليه وتلهج بفضله!
كنت إذا سمعتها لا أكاد أتمالك نفسي، وأقول: أي صدقٍ بلغه هذا الرجل ليصبح حديث المرابطين في أقدس بقعةِ رباطٍ على وجه الأرض!
وكانت نفسي كثيرًا ما تسبح بنفس الاتجاه وأقول: حين يسمع الحناجرَ المقدسيَّةَ المرابطة هناك تنادي عليه شخصيًّا فما مشاعره وهو يرى فضل الله عليه!

إن أنموذج محمد الضيف يعد كالقنبلة في زمن الانكشاف الذي يبوح الناس فيه بكل شيء، بحيث لا يكاد يرتاح للواحد بال من كثيرٍ من أبناء هذا الزمن إلا إذا تحدث عن أخص أموره وذَكَرَ أخصَّ أفعاله على وسائل التواصل، إلى الحد الذي يُستحيى منه والله.

إن أبا خالد أراد لنفسه أن يكون مغمورًا لكن الله جعله مشهورًا تصدح باسمه الحناجر على المنابر والمنائر في مختلف الأقطار والأمصار.

بعد معركة العصف المأكول سنة 2014 زرت أحد الإخوة بمدينة غزة، فقال لي أحد الحاضرين: إن محمد الضيف كان مستأجرًا لشقةٍ في هذا البيت، فنظرت إلى الأخ وإذ به يقول -وهو من المجاهدين-: لم أكن أعلم أن المرأة المستأجِرة للبيت هي زوجة أبي خالد، ولم أره يومًا دخل البيت، لقد كان أبي هو الوحيد الذي يمتلك هذا السر.

وعقب هذه الموعظة التي لا تكاد بلاغتها تقف عند حد أيعجز أصحاب الطموح أن ينتجوا لأنفسهم نظامًا ينصرون فيه الله ورسوله يُحصِّلون فيه ما يُبلِّغهم الغاية من العلوم والمعارف والأخلاق والمهارات أم أن مجرد ترك الهاتف والنت يعد عزيمةً لا يطيقها أكثر الرجال، والتي باتت مقتلةَ كثيرٍ من أصحاب الطموح!

يتبع
وأما الشخصية الثالثة فهي شخصية يحيى السنوار أبي إبراهيم عليه رحمة الله.

وأبو إبراهيم رغم أنه يسكن أحد أحياء المنطقة التي أسكن أيضًا، ورغم أني مررت من أمام بيته عشرات أو مئات المرات إلا أني لم أكن أراه إلا في القليل النادر، ولم أجالسه إلا مرة واحدة، ولهذه الجلسة قصةٌ لطيفةٌ يمكن أن أُعرِّج عليها بعد قليلٍ إن شاء الله، والمرات القليلة التي رأيته كان بعضها في خطب الجمعة حين يُقدِّر الله له الصلاة في المسجد الذي أخطب فيه.

والمعنى الذي أود الإشارة إليه والذي طرقته عند الكلام عن الشيخ أبي إسحاق الحويني هو أن أبا إبراهيم كانت له حسناتٌ كثيرة وكانت عليه مؤاخذات، بل لا يبعد أن يُقال: إنه كان شخصيةً مختلفًا عليها إلى حدٍّ ما، إلا أنه حين اندلعت معركة طوفان الأقصى والتي ارتبطت باسمه وكان هو صاحب القرار فيها ثم جاءت الأخبار باستشهاده ورأيتُ مشهد الخاتمة الأسطوري الذي أكرمه الله به علمت حينها بمركزية الصدق والإخلاص في أهلية الفوز بالمكارم الإلهية العظيمة.

لقد قلت حينها: لقد صدق الله فصدقه الله، وكانت هذه الكلمة تمتد في أعماق نفسي بما لا أحسن التعبير عنه الآن، وكأني لأول مرة أنطق بها وأقصد كلَّ حرفٍ فيها.
إن خاتمة الرجل تشي بصدقه العجيب المهيب.
لقد كان لي عناية بتتبع الخواتيم الصالحة حين كتبت كتابي (من عاش على شيءٍ مات عليه) وكان ثاني الكتب التي يسَّر الله لي كتابتها، وكانت أشد الخواتيم تأثيرًا فيَّ خاتمة الشيخ عبد الله عزام رحمه الله؛ إذ إنه قضى نحبه في يومٍ جمعة قد قام ليلتها وأصلح بين طائفتين من المسلمين فيها، ثم أصبح بعد أن أخذ بحظِّه من التهجد يتلو سورة الكهف مع بعض أهله ويشرح لهم ما تيسر من المعاني، ثم انطلق إلى خطبة الجمعة ليتم اغتياله في الطريق بتفجير سيارته ليرتفع عدة أمتار وينزل ساجدًا حتى إن بعض الناس ممن شاهدوا الحدث ظنوه يسجد شكرًا لله على السلامة والنجاة!

لقد عاش عالمًا داعيًا عابدًا مصلحًا مجاهدًا فجمع الله كل متعلقات هذه المسارات في مشهد الخاتمة الذي صار عليه.

إلا أن خاتمةَ أبي إبراهيم التي انتشرت على يد جنود العدو الصهيوني موثقةً بكاميراتهم ما أحسب أن أحدًا يراها إلا ويرى أنها درة الخواتيم الفاخرة، ثم بدأت الأخبار تأتي بما يزيد مشهد الخاتمة جمالًا؛ كاشتباكه مع العدو وإصراره على البقاء في منطقة القتال وعدم تلقيه الطعام من ثلاثة أيام، مع الصور التي تُبرز أوراق الأدعية والأذكار التي كانت معه، وما ورد من أخبار تعبده وتهجده مما يضيق المقام عن بيانه.

إن هذه الترجمة تشي بأنَّ الصدق والبعد عن الأضواء يأخذان بالعبد إلى المقامات الفاضلة والخواتيم الفاخرة.

وأما قصة الجلسة الوحيدة فقد ذكرته بنقدٍ منهجي في حضرة بعض القيادات المجاهدة في مجلسٍ عابر، ولم يخطر ببالي أنهم ينقلون إليه بعض كلامي، فقال لهم: يمكن أن أستمع إليه مباشرة وأُنصِتُ للنصيحة.

وبالفعل تم ترتيب لقاء لهذا الغرض وزرته وقلت له: سأحدثك بما يدور على الألسنة من دون أي زخرفةٍ في اللفظ تجاوزًا للبطانة التي يمكن أن تحجب عنك أشياء فتكون حاضرًا غائبًا، وقد تكلمت وأطلت الكلام وقد كنت في غاية الوضوح والصراحة والجرأة وكان ينصت أحسن إنصات، ثم جعل لي مِفتاحًا للوصول إليه في كل وقت، إلا أني لم أستخدم المفتاح إلا لإتمام مادة النصح، وما هي إلا مدة حتى اندلعت المعركة.


وعقب هذه الأخبار الثلاثة فإن كلمة السر هي ذلك الصدق العامر في القلوب، والذي يُغطِّي العيب ويردم كثيرًا من الخلل، وليس هذا بإغلاقٍ لباب النقد المنهجي سواء في حق العلماء كأبي إسحاق أو المجاهدين كأبي إبراهيم؛ فهذا بابٌ لا يُغلق مع الاحتفاظ بمقادير الرجال، وصدق الشيخ سليمان بن ناصر العبودي إذ قال: لا يجوز أن تضيع الحقائق العلمية باسم الحفاظ على مكانة الرجال؛ فالأمانة التي ترثها الأجيال القادمة منا هي الحقائق العلمية وليست جثامين حملتها، إلا أن الصدق يفعل فعله ويعمل عمله.

أسأل الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص وحسن النية وجمال السيرة ونقاء السريرة.
والحمد لله رب العالمين.

وكتبه
محمد بن محمد الأسطل
ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان 1446 هـ الموافق السابع عشر من مارس 2025م.
هجمات عنيفة على أهلنا في قطاع غزة، اللهم أنت القوي المتين، اللهم ادفع عنهم وانتقم من اليهود الملاعين ومَن شايَعَهم.
عمرو عبد العظيم الحويني:

جاءت اللحظة التي كنتُ أخشاها وأهابُها،
خروج الطبيب من غُرفة الشيخ وقوله لي: (عظَّم الله أجرَك)
كان -آنَسَهُ الله- قد أفاق قليلًا قُبَيل فجر الاثنين وتكلم بكلام قليلٍ ومما قاله لحاتم: شغل لي تلاوة الشيخ المنشاوي سورة غافر، فلما شغّل حاتم إحدى تلاوات الشيخ المنشاوي لسورة غافر، قال له - آنَسَهُ ربي-: ليست هذه التلاوة، وإنما التلاوة الكاملة ، وبدأ المنشاوي في التلاوة بقوله: (ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار) كرّرها المنشاوي خمس مرات.

وقُبيل عشاء أمس صعد حاتم لغرفة والده، وإذا به يحتَضِر، وبعد أقل من ساعة خرج الطبيب ليقول لي: (عظَّم الله أجرَك)
تلك الكلمة التي كنتُ أخشى سماعَها، مع إيمانِنا بقضاء الله وقدره، لكن الله سمَّى الموتَ مُصيبة!
وأيُّ مُصيبةٍ أعظم من مُصيبة فقدِنا لشيخِنا ووالِدنا ومُربِّينا ومُعلِّمنا
إن العين لتدمَع وإن القلب ليَحزن وإنا لفراقك يا حبيبنا لمحزونون، ولا نقول ما يُغضِب ربّنا، إنا لله وإنا إليه راجعون!
2025/06/30 15:08:44
Back to Top
HTML Embed Code: