Telegram Web Link
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(7)
[تغلق فيه أبواب النيران]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لا يزال الحديث في تعداد فضائل هذا الشهر المبارك، رزقنا الله وإياكم حسن استثماره، والتعرّض لنفحات الله تعالى فيه، ومن هذه الفضائل:
الخصلة التاسعة: فيه تغلق أبواب النيران.
وذلك رحمة من الله تعالى بالعالمين، ولقلّة اقترافهم المعاصي في هذا الشهر الكريم، وانصراف الهمم من المعاصي إلى المسابقة في فعل الخيرات وترك المنكرات، والتنافس على الطاعات.
وتقدمت الإشارة إلى أدلة هذه الخاصية والفضيلة فيما تقدم، ومنها:
ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين).
وفي رواية: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفِّدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)).
والنار -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا منها- لها سبعة أبواب، قال تعالى:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ *لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:43-44].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الجنة لها ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب)).
تُفتح أمامهم حين يرد أهل النار النارَ، قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[الزمر:71]. أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعا لتعجل لهم العقوبة.
وقد حذّرنا الله تعالى في كتابه العزيز من النار، وأخبرنا عن عذابها وفصّل القرآن في أسمائها وعذابها وطعام أهلها وشرابهم ووصف حالهم، وذلك تحذيرا من سلوك المسالك المؤدية إليها، والعياذ بالله. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]. وقال تعالى:{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:19-22].
والآيات في وصف النار وعذاب أهلها كثيرة جدا تحذيرا للمؤمنين وإنذاراً للكافرين.
أما الأحاديث فكثيرة جدا كذلك، نشير إلى شيء منها، ونجتهد في هذا الشهر المبارك باتخاذ الوسائل المنجية منها، والبعد عن الأسباب المؤدّية إليها، فهي حق لا مرية فيه، -أعاذنا الله منها-.
ففي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا، من حر جهنم» قالوا: والله إن كانت لكافية، يا رسول الله قال: «فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلها مثل حرها)).
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)).
فهذا يعني أن أهل النار ينسون كل نعيم مرّ بهم في الدنيا، وأهل الجنة ينسون كل بؤس مر بهم في الدنيا.
وأما أهون أهل النار عذابا يوم القيامة فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل، توضع في أخمص قدميه جمرة، يغلي منها دماغه)).
فعلى العاقل الحريص على سلامته ومصلحته أن يتقي الله ربّه وأن يجتنب كل سبيل يؤدي إلى عذاب الله، وأن يجتهد في كل عمل يؤدي إلى النجاة من عذاب الله: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185].
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65].
اللهم أعذنا من النار وما قرّب إليها من قول وعمل، ونسألك اللهم الجنّة وما قرّب إليها من قول وعمل. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميّتين.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وسائر أعمالنا.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(8)
[فيه تسلسل الشياطين وتصفد]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لا يزال الحديث في تعداد فضائل هذا الشهر المبارك، رزقنا الله وإياكم حسن استثماره، والتعرّض لنفحات الله تعالى، ومن هذه الفضائل:
الخصلة العاشرة: أنه تسلسل فيه الشياطين وتصفَّد وتغلّ.
كما تقدم في الأحاديث المذكورة أعلاه، وهذا من فضل الله تعالى على عباده ومعونته لهم على الطاعات بأن حبس عنهم عدوّهم فلا يصلون إلى ما يريدون من الإضلال عن الحق والتثبيط عن الخير، ولذلك يظهر عند الصالحين في هذا الشهر الكريم من الرغبة في الخير والحرص عليه والعزوف عن الشر والبعد عنه أكثر من غيره.
فمن فضائل هذا الشهر المبارك أن الله تبارك وتعالى قد خصّه بأن تصفّد وتغلّ وتسلسل فيه الشياطين ومردة الجن الذين يعيقون المؤمنين عن القيام بما أوجبه الله تعالى عليهم في هذا الشهر الكريم وحتى لا يشغلوهم عن استثمار أوقات هذا الشهر المبارك في الطاعات والقربات.
ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إذا دخل رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين)). وعند مسلم: ((وصفدت الشياطين)).
وفي رواية: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفِّدت الشياطين ومردة الجن)). وعند النسائي: ((وتغلّ فيه مردة الشياطين)).
ومعنى (صفّدت) أي: شدّت بالأصفاد، وهي الأغلال كما في رواية: (غلّت)، وهو بمعنى سُلسلت الشياطين أي: شدّت بالسلاسل. والمرَدَة: هم المتجرّدون للشر-أعاذنا الله تعالى منهم-.
وقد اختلف العلماء في معنى تصفيد الشياطين في رمضان على أقوال:
- فقيل: إن المراد أن الشياطين لا يخلصون إلى افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لانشغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر..
- وقال القاضي عياض: يحتمل أنه على ظاهره، وحقيقته، وأن ذلك لمنع الشياطين من أذى المؤمنين. فالظاهر أن تصفيدهم عن إغواء الناس، بدليل كثرة الخير والإنابة إلى الله تعالى في هذا الشهر المبارك.
- وقيل: إن المقصود هو تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس؛ فإن وقوع ذلك فيه أقلّ من غيره، فهي تقلّ عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه.
وقيل غير ذلك.
قال الإمام ابن خزيمة في صحيحه: "باب ذكر البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: «وصفدت الشياطين» مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين". وهذا إنما يعني الشياطين المنفصلة، أما القرين الملازم فلا يصفّد بحال، أعاذنا الله منه.
وهذا الحديث وما فيه من الأمور الغيبية التي موقفنا منها التسليم والتصديق، وألّا نتكلّم إلّا بما دلّت عليه النصوص، فإن هذا أسلم لدين المرء وأحسن عاقبة، ولهذا لما قال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه: "إن الإنسان يصرع في رمضان؟ قال الإمام أحمد: هكذا الحديث ولا نتكلم في هذا".
ثم إن هناك دواعي كثيرة للشر غير الشياطين ومنها النفس الأمارة بالسوء.
أما شياطين الإنس فهؤلاء يكثر نشاطهم وإغواؤهم في هذا الشهر عن طريق وسائلهم التي لا حصر لها من مسلسلات وقنوات ومقاطع وأفلام وغير ذلك.
وأدنى درجات إغوائهم هو إشغال أوقات المسلمين بغير ما ينفع، وإلهاؤهم عن عبادة ربهم.
ومن المعلوم أن الشياطين مسلّطون على الإنس {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:112].
فالواجب على المسلم أن يتقي شرّهم بالاستعاذة منهم والحذر من طاعتهم، والجدّ في طاعة الله ورسوله، والبعد عما نهى الله عنه ورسوله، وليستثمر هذا الشهر الكريم الذي تكسر فيه شوكتهم للتحصّن بالطاعات والاجتهاد فيها، وإذا قوي الإيمان في القلب فإن {كيد الشيطان كان ضعيفاً} قال تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:99-100].
فاللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين، ونعوذ بك أن يحضرونا.
اللهم أعذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن شياطين الإنس والجن.
اللهم وفقنا لصيام هذا الشهر وقيامه إيمانا واحتسابا، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين الأحياء منهم والميتين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبدالله بن عمر الدميجي
الحلقة( 9)
[من فضائل الصيام وثمراته]
الحمد لله شرع لنا دينًا قويماً وهدانا صراطا مستقيما، أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل إليه أفضل كتبه، وشرع لنا أفضل شرائع دينه.
وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، وهذه الآية الكريمة قد أشارت إلى شيء من فضائل الصّيام وثمراته، كما دلّت عليها النصوص الأخرى، وفي ابتداء الآية بالنداء تنبيه للمخاطب لأمر ذي شأن.
ثم تعليق هذا النداء بوصف الإيمان يدل على ثلاث فوائد:
الأولى: الإغراء بالانتساب إلى هذا الشرف وهو الإيمان.
الثانية: أن هذا الصيام والقيام به من مقتضى الإيمان؛ فالصيام من الإيمان، لا يقوم به على وجهه الكامل إلا المؤمنون.
الثالثة: أن تركه نقص في الإيمان.
ولعلنا نشير إلى بعض هذه الفضائل والثمرات، سائلين المولى عز وجل أن يتقبل منا ومنكم وسائر المسلمين.
الفضيلة الأولى: التوفيق والهداية لأداء هذه الفريضة العظيمة.
في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..} وقوله تعالى بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185] دليل على فرض وجوب صيام هذا الشهر المبارك، الذي هو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) متفق عليه. ولمسلم: ((وصوم رمضان وحج البيت..)).
وإعانة الله تعالى عبده على أداء الفريضة التي أوجبها عليه من أكبر النعم وأجلّ الفضائل، حيث خصّه الله تعالى لأدائها بالهداية، وأعانه على ذلك ليثبّته عليها، بعد أن حرمها كثير من الناس، ولذا ختم الله تعالى آيات الصيام بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:185] وفي هذا إشارة إلى أن الهداية لهذه الفريضة، والإعانة على القيام بها وأدائها كما أمر الله تعالى من النّعم التي تستوجب الشكر.
والشكر إنما يكون بالقلب واللسان والجوارح، كما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13].
وشكر النعمة بالجوارح يكون بأداء ما شرع الله تعالى فيها على الوجه الأكمل.
أما الشكر العام فهو أن تقوم بطاعة المنعِم سبحانه وتعالى.
وأداء الفرائض والواجبات هو أحبّ ما تقرّب به العبد إلى ربّه تبارك وتعالى، كما في حديث الولي المشهور: ((وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه)).
فإذا وفّق الله تعالى عبده لأداء ما افترضه عليه، وأردف ذلك بالتقرّب إليه تعالى بالنوافل؛ أثمر ذلك من الفضائل والنعم:
1- محبة الله تعالى له، وهذه أسمى المطالب وأعلى المراتب، وأعظم المكاسب.
2- حفظ الله تعالى لعبده وتوفيقه بألّا يعمل بجوارحه إلا شيئاً يرضي الله تعالى، فلا يسمع ولا يرى ولا يبطش ولا يمشي إلّا في محاب الله تعالى ومرضاته.
فتكون حياته كلُّها لله، وبالله، وفي الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:162-163].
3- أن يكون من مجابي الدعوة، فلا يُرَد ّدعاؤه؛ لوعد الله تعالى الصادقين بذلك في قوله:(ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه).
وعليه؛ فإن من فضائل الصيام أن يوفّق العبد للقيام بأداء ما افترضه الله عليه من صيام هذا الشهر المبارك، وهذه نعمة وفضيلة تستوجب الشكر وحمدَ الله تعالى عليها.
الفضيلة الثانية: أن الله تعالى كتب الصيام على جميع الأمم، وفرضه عليكم كما دلت عليه الآية {كما كتب على الذين من قبلكم}.
وهذا يدل على أن الصيام عبادة عظيمة لا غنى للخلق عن التعبد بها لله تعالى، فهي من العبادات المشتركة بين الشرائع، وإن كانت قد تختلف في هيئاتها وأزمانها، فالتشبيه إنما هو في أصل الصيام لا في عينه وقدره وزمنه، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة:84].
وفي هذا تنشيط لهذه الأمّة بأنه ينبغي أن تنافِس غيرها من الأمم في تكميل الطاعات، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثّقيلة التي اختصّيتم بها دون سائر الأمم.
وفيه أيضا؛ أن الصيام من أعظم الفضائل وأسمى وأنفع العبادات في زيادة الإيمان وقوة القلب وتزكية النفس وتطهيرها وسلامة الجسد وصلاحه.
فالحمد لله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك مُثنين بها عليك، وأتمّها علينا وعلى المسلمين، اللهم وفقنا لصيام شهرنا وقيامه إيمانا واحتسابا، وأعنّا على ذلك، وبارك لنا فيه وتقبله منا إنك أنت السميع العليم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة( 10)
[الصوم من أكبر أسباب اكتساب التقوى]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلا يزال الحديث متصلا بذكر بعض فضائل وثمرات الصيام، سائلين المولى غز وجل أن يرزقنا الاستقامة على دينه، والثبات على أمره، وأداء ما أوجبه الله علينا على الوجه الذي يرضيه عنا، ومن هذه الفضائل:
الفضيلة الثالثة: أنه من أكبر أسباب اكتساب التقوى.
وهذه الفضيلة هي التي ختم الله تعالى بها آية فرض الصيام، فقال:{لعلكم تتقون}.
وفي ذلك إشارة إلى أن الهدف الأعظم والغاية القصوى من الصيام هو تحقيق التقوى.
والتقوى هي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء:131].
وقد أمر الله تعالى بها نبيّه المعصوم -بأبي هو وأمي ونفسي- صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}[الأحزاب:1]، وهو أفضل المتّقين الأخيار عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فمن حقّق التقوى فقد حقّق الفوز والنجاح والفلاح! لأنها تكون المحرك الداخلي الدافع للإنسان لفعل كل خير وطاعة، الرادعة عن كل شر ومعصية، ابتغاء مرضاة الله تعالى والدار الآخرة، الواقية من عذاب الله وأليم عقابه.
وقد جاءت التقوى هنا مطلقة (تتقون) لتشمل جميع أنواع التقوى، ويجمعها: تقوى الله سبحانه وتعالى{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}[البقرة:278].
وقد تأتي مقيّدةً بعذاب الله، وذلك على وجهين:
• اتقاء مكانه، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[البقرة:24].
• اتّقاء زمانه، قال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}[البقرة:281].
• ⁠وقد يجتمع الوجهان كما في قوله تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[يس:45] فجمع اتّقاء زمان ومكان عذاب الله تعالى . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه{ ما بين أيديكم } يعني الدنيا. { وما خلفكم ) يعني الآخرة.
كما أن" تقوى الله" تشمل هذا وغيره
ولذلك جاءت تفسيرات علماء السلف تشعّ نورا وإيمانا وتشمل جميع المعاني العظيمة في عبارات وجيزة، ولعلنا نستعرض شيئا من تفسيراتهم رحمهم الله تعالى:
-روي عن علي الخليفة الراشد رضي الله تعالى عنه أنه قال: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل".
-وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: "التقوى أن يطاع الله فلا يُعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر".
-وروي عن أُبي بن كعب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأله عن التّقوى فقال أبيّ: " يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً فيه شوك ؟ فقال نعم. قال فما فعلت ؟ قال عمر رضي الله عنه: أشمّر عن ساقي وأنظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدماً وأؤخّر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة. فقال كعب : تلك هي التقوى".
-وقال أبو الدرداء رضي الله عنه مبيِّنا حقيقة التقوى وثمراتها: "هي أن يتقي العبد ربه حتى يتقيه في مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، ليكون حجابا بينه وبين الحرام..".
-وقال التابعي الجليل طلق بن حبيب رحمه الله تعالى: "التقوى: أن تعمل الطاعة لله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور الله تخاف عقاب الله".
-أما عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقد نبه إلى حقيقة التقوى وخاصة في هذا الشهر المبارك فقال رحمه الله: "ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقول الله؛ ترك ما حرم الله، وأداء ما فرض الله فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير".
وعليه؛ فإن خلاصة ما تقدّم عن حقيقة التقوى أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وسخطه وقاية، وذلك بالعمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم خوفا من الله ورجاء للثواب، وتعظيما لحرماته عن محبة صادقة وإخلاص لله تعالى.
والتقوى ثلاث مراتب:
‏إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات.
‏الثانية: حميتها عن المكروهات.
‏الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
‏فالأولى تعطي القلب حياته.
‏والثانية تفيده صحته وقوته.
‏والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
ويكفي فوزا لمن حقق التقوى أن ينال محبة الله عز وجل، فقد ذكر جل وعلا في محكم تنزيله أنه {يحب المتقين} في آية من سورة آل عمران، وآيتين من سورة التوبة.
والآيات كلها متعلقة بالوفاء بالعهد وربط محبة الله تعالى بتقواه عز وجل، ورعاية العهود التي بين العبد وربه وبينه وبين الخلق، ولا شك أن الصيام عهد وميثاق بين العبد وربه.
كما نعلم أن الجنة إنما أعدت للمتقين قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133] وقد أكثر الله تعالى من ذكر صفات المتقين في كتابه العزيز، ليتصف بها المسلم، ويتحلى بها، ليقطف ثمارها ويفوز بجوائزها.
إن الصيام ميدان التسابق إلى مراتب التقوى {لعلكم تتقون} والمتّقون يغتنمون أيامه ولياليه للاستزادة منها إيمانا بالله واحتسابا في عبادته ومحاسبةً للنفس، وتحسبا في تورطها في مسببات العقاب والعذاب من آفات العجب والرياء التي تحبط أعمال عبد في رمضان، أو غيره وهو يشعر أو لا يشعر.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين ومن أوليائك المفلحين.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وسائر أعمالنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم، موافقة لسنّة نبيك الكريم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميّتين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(11)
[ من فضائل مضاعفة الحسنات بغير حدّ ولا عدّ]
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وأشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد:
فلا يزال الحديث موصولاً بذكر فضائل الصوم، ومن هذه الفضائل:
الفضيلة الرابعة:
مضاعفة الحسنات بغير حدّ ولا عدٍّ.
فمن الفضائل التي خص الله تعالى بها الصيام؛ ما ثبت في الحديث القدسي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجز به)).
وفي هذا الحديث من فضائل الصيام ما ليس في غيره، ومنها:
1- أن الله تعالى نسبه إلى نفسه (فإنه لي) فهذا الحديث يدلّ على أن الصيام من أجلّ العبادات، وأفضل القربات، وأحبّها إلى الله تعالى، ولذلك فإن أجره عظيم، وفضله كبير، وكرامة الله تعالى للصائمين لا تنقطع، فإنهم حرموا أنفسهم الطعامَ والشراب والشهوة، فكافأهم الله من واسع عطائه وفضّلهم على غيرهم بمزيد العطاء الذي تولّاه بنفسه، من غير تحديد لعدد ولا تعداد، واختصه دون سائر أعمال العباد، وهذا فضل زائد وشرف خاص لهذه العبادة مع أن أعمال البر كلّها لله تعالى، وهو الذي يجزي عليها فالتخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يُفهم منه إلا التعظيم والتشريف.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: "كفى بقوله (الصوم لي) فضلاً للصيام على سائر العبادات" ، يعني من أفضل العبادات وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فالصلاة أفضل من أكثر الوجوه، وقد يفضّل الصيام من بعض الوجوه، وروى النسائي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليك بالصوم فإنه لا مثل له)).
2- أنه تعالى نسب الجزاء عليه إلى نفسه العليّة (وأنا أجزي به) فهو يجزي عليه جزاءً خاصاً من عنده تعالى، والعطيّة -كما يقال- بقدر معطيها، والله تعالى هو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وهذا يدلّ على عظيم أجر الصيام، وإنما اختصّه به من بين سائر الأعمال لشرفه عنده، ومحبته له، والكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه، كما قال تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[الشورى:40].
3- أن هذا الاختصاص بالجزاء جاء مصرّحاً به في الحديث الآخر حتى جعل أجر صائمه متجاوزا العشرة أمثال والسبعمائة ضعف الموعود بها في سائر الأعمال الصالحة المقبولة.
أما أجر الصيام فإنه يزيد على ذلك بما لا يحد ولا يعدّ فقال صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن ربه تعالى: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
فكل الأعمال يمكن أن تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه عند حدّ، ولا يتوقف عند عدد.
4- ويؤكد ذلك أن في الصيام تتجلى فيه عبودية الصبر، بل أنواع الصبر الثلاثة فإنها تتجلى فيه؛ الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، ولهذا قال الله تعالى ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)).
والثالث الصبر على أقدار الله المؤلمة، أو ما يصيب الصائم من جهد وتعب وجوع وعطش، وقد وعد الله الصابرين أن يُوَفّوا أجورهم، ولذلك قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: "ليس يوزن لهم ويكال إنما يغرف لهم غرفاً".
ومن صور الصّبر في الصيام الأمر بضبط النفس عند الانفعال والغضب عند المخاصمة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)) يعني فالصوم يمنعني من الرد عليك ومجازاتك بما تستحق.
4- كما أن في الصيام تتجلى أعلى مراتب الدين وهي مرتبة الإحسان التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
ففي الصوم تظهر عبودية الإخلاص والمراقبة لله تعالى؛ لأن العبد يكون في المكان الخالي لا يطّلع عليه إلا الله ومع ذلك لا يقدم على شيء من المفطّرات ليقِينِه بمراقبة الله تعالى له، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يدع شهوته وطاعمه من أجلي).
5- ومما يدل على تعظيم شعيرة الصيام وتشريفه والإشعار بأهميته أنه جاء في حديث قدسي -فالنبي صلى الله عليه وسلم نسب هذا الفضل إلى أنه من قول الله تعالى؛ فقال:((قال الله: كل عمل ابن آدم..)).
6- كما أنه جاء بصيغة الإخبار لا الإنشاء، وكأنه يشير بذلك إلى أنه إذا كان الصوم لي فأحسنوا صومكم، لأنكم تقدموه لي لا لغيري، وهذا يستلزم الإخلاص فيه، فانظروا إلى شرف من تقدّمون له صومكم ومعرفة قدره وعلوّه تعالى.
7- وقد ذكر العلماء جملة من الأقوال في تلمّس سرّ إضافة الصيام إلى الله تعالى ومنها:
أ- أن الصيام لا يدخله الرياء غالبا، بخلاف بقيّة الأعمال فإنها لا تخلو غالباً من شائبة ملاحظة الخلق إلا من رحم الله، فإن الصوم سرّ بين العبد وربه، ولهذا كان ثوابه بغير تقدير، فالصيام من الأعمال الباطنة السريّة الخفية بين العبد وربه، لا يطلع عليه إلا مولاه تبارك وتعالى، بخلاف بقيّة الأعمال كالصلاة والصدقة والحج فهي ظاهرة مشاهدة، ولذلك ناسب أن يكون جزاؤه أيضاً بينه وبين ربه، لا يعلمه إلا الله فهو أعظم العبادات إخلاصاً، والله أعلم.
ب- وقيل لأنه العبادة التي لم يعرف أنها مما لم يتعبد بها لغير الله تعالى، ولذا فلا يذكر أن مشركاً صام لغير الله تعالى. وقيل غير ذلك.
8- وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن جميع العبادات تُوفّى منها مظالم العباد إلا الصيام فقد جعل الله تعالى الصيام له، وعمل ابن آدم الآخر غير الصوم لابن آدم، فإذا كان عليه مظالم للعباد فإنه يؤخذ للعباد من حسناته إلا الصيام فإنه لا يؤخذ منه شيء لأنه لله عز وجل وليس للإنسان، فيوفّر أجره لصاحبه، ولا يؤخذ منه لمظالم الخلق شيء، بل يوفّيهم الله تعالى حقوقهم من عنده من غير أجر الصائم {ولا يظلم ربك أحداً} ويشهد لذلك ما في الصحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم، قال: ((لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به)). قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "هذا من أجود الأحاديث وأحكمها، إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عز وجل عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم؛ فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة".
علماً بأنه قد ذكر الصوم في الأعمال التي يقتصّ منها كما في حديث أبي هريرة في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)).
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.
اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وسائر أعمالنا، واجعلنا ممن يؤتون أجورهم بغير حساب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(12)
[تكفير السيئات بالصوم]
الحمد لله {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلا يزال الكلام موصولاً بالحديث عن فضائل الصوم، نسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال، ومن هذه الفضائل:
الفضيلة الخامسة: تكفير السيئات ومغفرة الذنوب.
فمن فضائل الصيام أنه سبب لغفران الذنوب وتكفير السيئات.
وقد قيل إنما سُمّي شهر الصيام برمضان لأنه يرمض الذنوب؛ أي: يحرقها بالأعمال الصالحة، مشتقّ من الإرماض وهو الإحراق.. فهي تسمية مناسبة لهذا الشهر المبارك الذي يتجلى الله تعالى فيه على عباده بمغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم ورفع درجاتهم.
-وقيل: لأنه أول ما سميت الشهور بأسمائها صادف أنه في وقت الحر والرمضاء، فسمي شهر رمضان، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "وهذا أقرب؛ لأن الظاهر أن هذه التسمية كانت قبل الإسلام".
وقد جاءت النصوص المؤكدة على أن الصيام من أكبر أسباب تكفير الذنوب والسيئات، ومنها:
- قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب:35].
فجعل الصيام من جملة الأعمال الجليلة لمغفرة الذنوب، والأجر
العظيم للصائمين والصائمات.
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
ومعنى(إيماناً) أي إيماناً بالله تعالى وتصديقاً بوعده عزّ وجل.
ومعنى (احتساباً) أي للأجر والثواب عند الله تعالى، لا لغرض دنيوي.
- ومن حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه: ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة، والأمر والنهي)). والمراد أن الفتنة هي في كل من أشغلته المذكورات، أو ما شابهها عن ذكر الله، وعن القيام بحقّ الله أو قصّر في الحقوق الواجبة عليه فيهنّ، وفي غيرها من الحقوق.
والمراد بالسيئات هنا أي الصغائر، أما الكبائر فلا بدّ لها من توبة كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء:31]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر)).
ومعنى (مكفّرات لما بينهن) أي تمحو السيئات التي تكون من هذه الآفات.
والصغائر أمرها خطير، فقد يجتمعن على المسلم فيهلكنه، قال صلى الله عليه وسلم محذّرا من التهاون بها: ((إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
- وقال صلى الله عليه وسلم: (( يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله عز وجل طالبا)).
ثم إن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر.
وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة ما يلحقها بالكبائر.
وهذا أمر مرجعه إلى القلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره.
ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:( لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار ).
ويروى عن أحد السلف قال: (دخل رجل الجنة بمعصية، دخل رجل النار بحسنة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: عمل رجل معصية فما زال خائفاً من عقاب الله من تلك الخطيئة فلقي الله فغفر له من خوفه منه تعالى، وعمل رجل حسنة فما زال معجباً بها ولقي الله بها فأدخله النار.
والكبيرة هي: كل ذنب سمّاه الشارع كبيرة أو توعّد عليه بوعيد خاص في الآخرة (كالغضب واللعن والنار وتحريم الجنة، ونفي إيمان، وليس منا. ونحوه) أو شُرع فيه حدّ في الدنيا.
وهذه الأحاديث وما في معناها تحذير من التساهل في صغائر الذنوب، فإنها أسباب تؤدي إلى ارتكاب الكبائر، كما أن صغار الطاعات تجرّ إلى كبارها، فصغار المعاصي يجرّ بعضها بعضا إلى كبارها، فإذا اجتمعت الصغائر ولم تكفّر عنه أهلكت صاحبها.
أما حقوق البشر فلا يشملها التكفير، وإنما يجري فيها القصاص يوم القيامة؛ لأنها مبنية على المشاحة بخلاف حقوق الله تعالى فإنها مبنية على المسامحة ولله الحمد والمنّة.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
ولذا من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن جعل الصيام وغيره من الطاعات من الأسباب الماحية للصغائر من الذنوب.
فعلى المسلم الحريص على نجاته يوم القيامة أن يستكثر من الحسنات الماحية، ومن أهمّها الصوم فرضاً ونفلاً. وأن يمحوَ كبائر الذنوب بالتوبة النصوح المقتضية للإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ما وقع منه، والعزم على ألّا يعود إليه مرّة أخرى، وأن يتخلص من حقوق الخلق، وردّ المظالم إلى أهلها. وأن يكثر من الحسنات ف{إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} الآية.وقال صلى الله عليه وسلم: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)).
وعليه باللهج والاستكثار من الاستغفار.
ومن فضل الله تعالى علينا أن أسباب المغفرة للصائمين كثيرة، وخاصة في هذا الشهر المبارك، ومنها: أن لِله تعالى عتقاء من النار وذلك في كل ليلة كما تقدم بذلك الحديث.
ومنها: المكفّرات الثلاث في هذا الشهر الفضيل: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا) و(من قام رمضان إيما واحتسابا) و(من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا). فكل واحدة من هذه المكفّرات كافية في تكفير السيئات فإن أخطأت الأولى فلعلّ الثانية تكون هي المكفّرة، وإن أخطأت الثانية فيبقى الأمل في الثالثة. فإذا أخطأته هذه الفرص فهو المحروم، ولم يوفّق أن يكون من العتقاء من النار في كل ليلة، ولا في آخر ليلة من رمضان، لأن لله تعالى عتقاء في هذه الليالي..
ولذا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (( رغم أنفه، من أدرك رمضان ولم يغفر له)) وفي رواية: ((فأبعده الله)) نسأل الله العافية.
ومعلوم أن كل صائم لا يدرك حقيقة حاله من هذا الفضل العظيم هل ناله أم أنّ عنده من الموانع ما حرمه من ذلك.
وعليه فالواجب على الصائمين الاجتهاد فيما شرعه الله تبارك وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويتحرّوا أسباب مغفرة الذنوب ويتعرّضوا لنفحات الغفور الرحيم سبحانه وتعالى. وأن يكثروا من الاستغفار والتوبة.
كما أن عليهم أن يحسنوا الظن بالله تعالى، فإن الله لن يخيّبَهم، بل يجدونه سبحانه عند ظنّهم فإنه سبحانه عند ظن عبده به، إذا أخذ العبد بأسباب النجاة والمغفرة فإنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. فلنحسن العمل ونرجو من الله القبول.
اللهم اجعلنا ممن وفّقته وأعنته على صيام هذا الشهر وقيامه إيماناً واحتساباً فغفرت ذنوبه وسترت عيوبه وبلغته مأموله.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(13)
[الصيام جنّة]
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وأشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
ثم أما بعد:
فلا يزال الحديث عن نِعم الله تعالى علينا التي اختصّ بها هذا الشهر الكريم، ألا وهي أنّ الله تعالى جعل الصيام جنّةً ووقايةً وحماية وحصناً يتحصّن به المسلم من كل أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة.
فجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يسخب ، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم)).
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: ((والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)).
وهذا الحديث من أعظم الأحاديث الدالة على فضيلة الصيام، وينبّه على أحد مقصدي الصيام العظيمين، وهما:
1- التقوى واجتماع القلب والهمّ على الله تعالى، وتوفير قوى النفس على محابه وطاعته، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]. وتقدّم الكلام على التقوى وما يتعلق بها.
2- الجُنّة، والوقاية، وهي حميّة عظيمة للصائم من كل أسباب الهلاك وأدواء الروح والقلب والبدن.
والجُنّة بضم الجيم: الوقاية والستر. أصلها (ج. ن. ن) تدل على معنى الستر ومنه الجنين والجنّ. فالصوم جُنّة؛ يعني وقاية مثل الترس يقي صاحبه من ضرب النبال والسهام.
وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة المجادلة: 16]. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}أي: ترساً ووقايةً، يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين.
وهذا الحديث العظيم يبيّن فضيلة من أهمّ فضائل شعيرة الصيام وهي الوقاية. والوقاية هنا جاءت مطلقة(الصيام جنة) فتشمل الوقاية من جميع أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة.
ولعلنا نشير في هذه العجالة إلى أهمّ ما يمكن أن يكون الصيام وقاية للصائم من هذه المعاطب، ومن ذلك:
1- أعلاها وأجلّها: الوقاية من النار. وهذا ما ورد النصّ عليه في بعض روايات الحديث:
أ- في رواية أبي هريرة: ((الصوم جنة من النار)).
ب- وفي رواية عثمان بن أبي العاص: ((الصوم جنّة من النار كجنة أحدكم من القتال)).
وفي رواية لأبي هريرة: (( والصوم جنّة وحصن حصين من النار)).
فيتحصن المسلم بهذا الحصن الحصين والدرع الواقي من المعاصي والآثام في الدنيا، والتي هي سبب دخول النار، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله، بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)).
فدلّ هذا الحديث على أن الصيام من أعظم أسباب الوقاية من النار، وأنه سبب لإبعاده عنها، أعاذنا الله ووالدينا والمسلمين منها.
والوقاية من النار إنما تكون بسببين:
أ- بفعل الطاعة ومن أجلّها الصوم، فهو وقاية، والوقاية من النار هي ثمرة عمل الطاعات ومنها الصوم.
ب- بترك المعاصي. والصيام من أكبر أسباب ترك المعاصي، وسدّ الذرائع المؤدية إليها كما سيأتي في الفقرة التالية:
2- الوقاية من المعاصي، ومفسدات الصوم.
والصوم من أكبر أسباب الحماية من المعاصي والمخالفات ومنها مفسدات الصوم، وذلك من جهتين:
أ- كبح الشهوة. لأنه مع التوسّع في الأكل والشرب يكون النشاط فتزيد الشهوة، فقد يقع المحذور. ومعلوم أن النار محفوفة بالشهوات كما صحّ بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصيام خير علاج لكبحها وضبط مسارها، وهذا شامل لكل الشهوات، ومنها الشهوة الجنسية، ولذا كان التوجيه النبوي لعلاج هذه الشهوة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
ب- بقوة الإيمان والتقوى الرادعة للنفس عن شهواتها، ومواطن العطب. والصيام من أكبر أسباب زيادة الإيمان والمراقبة لله تعالى وتحقيق التقوى العاصمة من الذنوب والآثام فيعين الصيام الصائمَ على كل محذور سواء من مبطلات الصيام ومفسداته، أو كل ما نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3- الوقاية من الشيطان ووسوسته وتزيينه المنكرات وتوهينه من عمل الطاعات. وقد تقدم أن في شهر الصيام -شهر رمضان- (تصفد الشياطين وتسلسل وتغلّ بالقيود والأغلال). وهذا كله يقلّل من نشاط الشياطين وإغوائهم للصائمين وعموم المسلمين، فالصيام سلاح فعّال قوي، ودرع حصين يتحصّن به المسلم من عدوّه الشيطان الرجيم.
ومعلوم أن (الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) كما ثبت في الصحيحين من حديث صفية رضي الله تعالى عنها. وفي الصيام تضييق مجاري الدم بسبب الجوع والعطش فتضيق على الشيطان من البدن. كما يقول العلماء.
فنسأل الله العلي العظيم أن يعيذنا من الشيطان الرجيم، وأن يعيذنا من عذا بالجحيم.
4- الوقاية من الأمراض الجسدية وأدواء البدن.
ومن فوائد الصيام والحكم الربانية فيه ما يترتب على الصيام من مصالح صحّيّة تحصل بتقليل الطعام والشراب وإراحة جهاز الهضم لمدة معينة، وفيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم :(( اغزوا تغنموا وصوموا تصحوا ..)).
ويلخص لنا ذلك ابن القيم رحمه الله بقوله: "وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات".
والطبّ الحديث يفصّل ويفسّر ما أجمله ابن القيم رحمه الله تعالى بالبراهين العلمية والتجارب المخبرية، ومن غير المسلمين، وليس ببعيد عنا ما ينادي به الأطباء بما يسمى ب"الصيام المتقطع" للحِمية والوقاية أو العلاج من بعض الأمراض العضوية. وليس هذا مقام تفصيلها، فيتحدث عنها المختصون أصحاب الشأن.
ومن الحكم المجمع عليها عند الأطباء، ما قاله الحارث بن كلدة طبيب العرب: " المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء".
ونحن يكفينا قول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:184].
5- الوقاية من الفحش والأخلاق الرذيلة، والتربية على تزكية النفس وتطهيرها.
وهذا هو موضوع حديث الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، واكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمّن سواك.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين، واجعل اللهم ولايتنا فيمن يخافك ويتقيك ويتبع رضاك يا رب العالمين.
2024/06/13 20:04:04
Back to Top
HTML Embed Code: