بمناسبة احتفاء الكثيرين بالذكاء الاصطناعي وظهور أدوات جديدة كل يوم تقريبًا، أتذكر أنه في إحدى دورات الكتابة الصحافية طلبت من الحضور كتابة مقدمة لمقال صحفي، كان مستوى الحضور مبتدئًا وبالتالي كان مستوى المقدمات متواضعًا بطبيعة الحال، لكن الملفت أن شخصًا واحدًا كانت مقدمته شبه محترفة، ومنذ أول وهلة أدركت أنه يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي، فتركته ولم أعلّق عليه.

نبهت على الجميع ألا يستخدم أحد الذكاء الاصطناعي، لكني تركتهم وحريتهم .. وخلال المحاضرات والورش التدريبية، كنت ألاحظ اجتهاد الحضور في كتابة النصّ الصحافي بأيديهم وإتعابهم لأذهانهم واستغراقهم وقتًا كثيرًا في كتابة فقرة واحدة .. لكن صاحبنا هذا لم يزل يستخدم الذكاء الاصطناعي ولا يشغل عقله، فكان يفرح ويتباهى بالنتيجة السريعة لكتابته.

بحلول نهاية الدورة، تباين مستوى الحضور، فمنهم من تطور تطورًا ملحوظًا، ومنهم من أعد نفسه للكتابة في المواقع الصحافية، ومنهم من أدرك أن هذا الطريق ليس طريقه .. لكن صاحبنا هذا لم يتقدم خطوة واحدة للأمام، ولا حتى إلى الوراء، فهو لم يتعلم مهارة الكتابة، ولم يعرف هل تليق له أساسًا أم لا، ولن يستطيع الدخول في سوق العمل بهذا الاعتماد شبه الكلي على الذكاء الاصطناعي.

لماذا أقول هذه القصة؟

لأنني أشفق -حقيقة- على الباحثين الذين يبدأون طريق تعلمهم في البحث أو الكتابة أو نحو ذلك بالذكاء الاصطناعي .. فاعتقادي أن هؤلاء يضيعون بأيديهم فرصة تطوير مهاراتهم الكتابية أو البحثية، ربما للأبد.

والحقيقة أن الذكاء الاصطناعي ليس مثالًا متفردًا على ضرر التقنية على المهارات الذهنية، ففي 2009م نشر الصحافي الأمريكي Nichloas Carr مقالته الشهيرة "هل يجعلنا جوجل أغبياء؟ Is Google Making Us Stupid" التي جادل فيها بأن كل اعتماد على التقنية يبقينا أسرى لها، وكل تقدم لبحث جوجل يعني تأخير لعقولنا.

ومع تطور الخوارزميات والنماذج اللغوية وظهور أدوات AI جديدة كل يوم، يكسل الذهن عن التفكير والجهد والتعب بشكل أكثر وأخطر.

ما الحل إذن ؟

الحل ببساطة في رأيي هو ألا يعتمد الشخص المبتدئ في التعلم على الذكاء الاصطناعي بأي حال من الأحوال، فإن الاعتماد على التقنية في أول طريق التعلم يعني دفن موهبتك البحثية أو الكتابية إلى الأبد.

بل يتعب الشخص في التعلم حتى يطور ملكته ويتعب عقله ويبني ما نسميه شخصيته الصحافية أو البحثية المستقلة (وهو ما يستغرق سنة واحدة من التعلم والممارسة على الأقل برأيي)، ثم بعد ذلك فليفعل ما شاء.

لكن هل هذا "الرجوع إلى الوراء" حل نافع؟

أتذكر أنه في العام الفائت وأثناء دراستي للماجيستير، ومع أولى لحظات شعبية الذكاء الاصطناعي، فوجئت أن الأساتذة رجعوا إلى الامتحانات ذات الكتابة اليدوية والأوراق البيضاء الكثيرة. استهجن معظم الطلاب هذا "الرجوع إلى الوراء"، فمن هذا الذي لا يزال يكتب بالقلم اليدوي مع توفر اللابتوب والإنترنت؟

لكن المجتمع الأكاديمي أدرك أنه في مأزق: فالأوراق "العلمية" المكتوبة بالذكاء الاصطناعي وصلت إلى نسب مخيفة في وقت قياسي، وبالطبع لم تخلُ من أخطاء وأمور مكررة وإشكالات منهجية.

حينها، فهم الأساتذة أنه كلما زاد الذكاء الاصطناعي، زاد معه الغباء البشري .. وكان الحل هو إنقاذ المخ البشري من العطب وتحريره من الاعتماد على التقنية، والرجوع إلى ما كان يعتمد عليه أسلافنا الأوائل: القلم.

اللهُم صلِ على قرة أعيُننا محمد، واحشرنا في زمرتة، واجعلنا من أهل شفاعتة، وأحينا على سُنتة، وتوفّنا على ملتة، وأوردنا حوضه يا حي يا قيوم.

"جلس على ركبتيه يواسي طفلًا مات عصفوره" ﷺ

اللهُم صلِ على قرة أعيُننا محمد، واحشرنا في زمرتة، واجعلنا من أهل شفاعتة، وأحينا على سُنتة، وتوفّنا على ملتة، وأوردنا حوضه يا حي يا قيوم.

أرادوا تفرق دمه بين القبائل
فتفرق هديه بين العالمين.

ﷺ

‏يقول الأديب المنفلوطي في نظراته: إن حياة النبي ﷺ أعظم مثال يجب أن يحتذيه المسلمون للوصول إلى التخلق بأشرف الأخلاق، والتحلي بأكرم الخصال، وأحسن مدرسة يجب أن يتعلموا فيها كيف يكون الصدق في القول، والإخلاص في العمل، والثبات على الرأي وسيلة إلى النجاح.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هُدي لما اختلف فيه من الحق".

قال ابن عرفة: "السيرُ في الأرض حسيٌّ ومعنويٌّ، والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصلُ للناظرِ العِلمُ بأحوالِ الأممِ، وما يقربُ من العِلمِ، وقد يحصلُ بهِ من العلمِ ما لا يحصلُ بالسيرِ في الأرضِ لِعجزِ الإنسانِ وقُصُورهِ. وإنما أمر الله بالسير في الأرضِ دون مطالعةِ الكُتُبِ لأن في المُخاطبين من كانوا أُميين، ولأن المشاهِدة تُفيدُ من لم يقرأ عِلمًا وتقوى عِلم من قرأ التاريخ أو قص عليهِ".

من عجائب هذه الحرب أنه كلما اشتدت الظروف وضاق الحصار وتضاعف الخذلان، أتى الشباب المقاومون ببطولات فريدة واستبسال جديد يذهل العقول ويدلّ على أن الإيمان يتجدد في قلوب هؤلاء الفتية يقينًا راسخًا..!

أقول ذلك بأنه يستحيل بكل المقاييس المادية أن تأتي مثل هذه البطولات المبهر إلا بوجود عامل غيبي منزل من فوق سبع سماوات ينصر ويؤيد ويعين ويوفق ويسدد ويبارك هؤلاء الفتية ..

كيف لا وكل عتادهم في الدنيا: قلوب عامرة بالإيمان، وشبشب أبو زنوبة، ويد تحمل عبوة، ويد تحمل الموبايل ليصور، بس هيك ..

لكن ربك يمدّهم بالمدد الإلهي الذي تحار منه العقول..
آمنت بالله، والله حسبهم ونعم الوكيل.

اللهُم صلِ على قرة أعيُننا محمد، واحشرنا في زمرتة، واجعلنا من أهل شفاعتة، وأحينا على سُنتة، وتوفّنا على ملتة، وأوردنا حوضه يا حي يا قيوم.

‏يمضي على نهْجِ الحبيبِ أحِبّةٌ
‏ويفوزُ بالخُـلُقِ الكريمِ كـرامُ

‏يا ربّ صلِّ عليهِ ما شعَّ السّنا
‏وتتـابعتْ في سيرِها الأيـامُ