Telegram Web Link
معضلة التعالم أنه سلوك توسّعي، لا يكفي أن تسكت عنه لتسلم، ولا وجود لحال تعادل معه؛ إما أن تبين حاله مهاجمًا أو سيأتي يوم ليرميك ببلائه فتكون مدافعًا، لا تعجب حينها إن عيّرك بما تفخر به.
وصلنا إلى مرحلةٍ غاية السمو الأخلاقي فيها ألا تكون سافلًا، ألا تقف مع ظالم لأنه أقوى، ولا تصفّق لفكرة ضالة لأنها أغلب؛ اللهم أرنا الحقّ حقًا وارزقنا اتباعه ونصرته والثبات عليه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه ودفعه والبراءة منه.
أورد الميداني في مجمع الأمثال (١/ ٢٠١) قصة مثل (الحصن أدنى لو تأييته) وفيه:

كانت لامرأة ابنة فرأتها تَحْثو التراب على راكب، فقالت لها: ما تصنعين؟ قالت: أريه أني حَصَان أتعفف.
وهذا الشاهد الذي أريده؛ أحيانًا يكون رفع الصوت مظهر قوة وهمي ليخفي ضعفًا داخليًا مستحكمًا، وكذا يكون الحلف الكثير أمارة اعتياد الكذب، كما أن نصرة الأمة وقضاياها بصدق لا تحتاج إلى جعجعة فارغة وحثو تراب لتري الناس أنك مهموم وصاحب وعي أممي.
#أنظار_في_علم_الإيمان ٣

اعلم -رحمك الله وسددك- أن الله حين أنزل آيات رد المكاره للنفس أراد بنا خيرًا؛ فقد قال تعالى: "قل هو من عند أنفسكم"، و"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، و نظائرها في القرآن معلومة.

وردّ السوء إلى النفس فيه فوائد:

١- الأدب مع الله، بإسناد الخير والنعمة إليه، ونسبة الشر إلى النفس، قال تعالى: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن"
٢- أن الاعتراف بعد الاقتراف حلة الأشراف؛ فمن أذنب وقصر وغفل وتمادى ثم نسب ما به إلى الله أو إلى الناس فقد عظّم نفسه فوق الحق، وجعلها أعز من قول: أستغفر الله بالحال والمقال.
٣- أن في رد السوء إلى النفس حثًا لها لدرك الفضائل وتهذيب الرذائل.
٤- أن الإنسان الذي يعيش مظلومية دائمة دون أن يعود باللائمة على نفسه حاكم عليها بتكرار الذنب، واعتياد الغفلة.
٥- أن في رد المصيبة إلى كسب النفس أمارة صدق، وفي المعاندة والتأبي رائحة المخادعة وعدم الاعتبار بما جرى.

ولله الحكمة البالغة، وهو المتفضل بالخلق والإيجاد والهداية والقدر حلوه ومرّه، لا إله إلا هو.
لا يصلح العاطفيون للصفّ الأول وامتلاك قرار الإقدام والإحجام، مكانهم التنفيذ والتسويق للأفكار وإيقاد الحماسة لها كلما خبت.
والذي رأيته وشهدته بعيني مرارًا أنهم أكثر الناس مزايدة على الآخرين وتعاليًا بقناعاتهم الهشة، وما استطال أحد على الآخرين وتبجح إلا عُجّل امتحان صدقه علنًا فيما زايد فيه ليظهر تناقضه أو اطّراده.
مما يلحظه المرء في موسم معارض الكتب تزايد الترجمات المتعلقة بمعنى الحياة، وهي على أنواع:
نوعٌ متعلقٌ بمشكلات مشتركة بين البشرية كلها؛ كنقد نمط الحياة الرأسمالية وتاريخها وإفرازاتها.
ونوع متعلق بخواطر شخصية عن الحياة ويغلب عليها التأمل الذاتي وحكاية التجارب والسيرة الذاتية والغيرية؛ فهذا من الحكمة العامة التي تقبل أصلًا ويُكره الإكثار منها كراهة تنزه وتربية وحفاظ على الهوية وما دار في فلكها.
ونوعٌ أخير متعلق بفلسفة الحياة؛ فهذه يغلب عليها حكم الذم، لما فيها من منطلقات مخالفة، واستجلاب لمشكلة ليس عندنا معاشر الموحدين، ومعالجات بعيدة لمبحث الموت والحياة الذي به عمق عقدي ظاهر، فالمسلم له منهجه في فهم الحياة والسعادة واللذة والنفع والحق وغيرها من المفاهيم.

ولا أحبّ للمسلم أن يؤزّم ما ليس أزمة، ولا أن يستورد مشكلات تحت اسم استيراد الحلول، ولا أن يضخموا فيه حاجةً لمعضلة لا يعاني منها؛ فيكون كمن يشتري داوء صلع وشعره يضرب منكبيه، فإذا أنكرت عليه قال أنت تحرّم التداوي.
يعينك منهج أهل السنة في المعتقد على الاتزان في الحكم على الأشخاص والأشياء والأفكار؛ ومن ذلك التفريق بين التخطئة والتأثيم.
فقد يقول أحدهم: أخطأ فلان.
فيرد الآخر: لكنه متأول أو مكره.
فنقول: التأويل والإكراه يمنعان التأثيم، ولا يردّان وصف الفعل بالغلط.
من بديع التناسب في قوله تعالى: "آلر كتاب أُحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير"
قال قتادة: [أحكمها الله من الباطل، ثم فَصَّلها، بيَّنها]
هذا الإحكام والتبيان التفصيلي الواضح أعقبه بقوله سبحانه:
"ألا تعبدوا إلا الله": وهذه قضية التوحيد.

والموفّق يحرص على البيان في موضعين:
الموضع الأول: في القضايا الكبرى؛ كما في الآية، لذا ينفر العقلاء من اللغة الخطابية في مواطن القضايا المصيرية، ويحبون تبيان الصواب والخطأ والحق والباطل بعبارات مبينة؛ فلا تصلح لغة الأدب هنا.

الموضع الثاني: المسائل الدقيقة؛ لذا كلما ازداد الفن دقّة قلّت فيه المنظومات، لِما للشعر من روح تباين مقصد التدقيق والتحليل، وهذا يسري حتى في المنظومات العلمية، كما أن النظم يقيّد اللفظ، فيتأثر المعنى.

وقضايانا التي تجمع بين الأهمية الكبرى ودقّة مآخذها تحتاج بيانًا واضحًا لا لبس فيه، دون تغليب للمخدّرات العاطفية المؤقتة!
للإنسان عينان، وحين يطلب العلم فإنه يضع عينًا على كتابه لرفع الجهل، وعينًا على قلبه لدفع الغفلة، فإن رأيته ينظر إلى الناس فقد رفع عينه عن أحدهما.
من المعلومات الغريبة أن الدكتور أيمن المصري-شيخ الدامادية وشارح كتب الشيخ الرئيس- هو ابن الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة صاحب الكتاب الذائع "دراسات لأسلوب القرآن الكريم".
حماك الله أبا مريم الحبيب البطل، اللهم فرج عنه وآنس وحشته وأعد لنا سالمًا غانمًا.
أهل غزّة أحق الناس بوصف ياقوت الحموي لأهل خراسان زمن غزو التتار:

"أطفالهم رجال، وشبانهم أبطال، وشيوخهم أبدال…فجاس خلال الديار أهلُ الكفر والإلحاد، وتحكم في تلك الأبشار أولو الزيغ والعناد، فأصبحت تلك القصور، كالممحو من السطور، وأصبحت تلك الأوطان، مأوى للأصداء والغربان، يستوحش فيها الأنيس، ويرثي لمُصابها إبليس، فإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ من حادثة تقصم الظهر، وتهدم العمر، وتوهي الجلد، وتضاعف الكمد"

الحمد لله على سلامة أهلنا، اللهم تمّم لهم الخير والمعافاة والأمن والأجر والعوض الجميل في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة.
هذي من مخطوط المجموع المغيث لأبي موسى المديني، وفيها درس من دروس الأمانة العلمية؛ يقول:

"وقعت على كراسة غير كبيرة، جمعها بعض علماء خراسان بعد الخمسين والأربعمائة، لم يسم فيها مصنفها، قد شحنها بما شذ عن كتاب أبي عبيد، مما أورده العزيزي في كتاب "غريب القرآن"وأضاف إليه معانى أسماء الله سبحانه وتعالى، وذكر في أثنائه كلمات غير كثيرة من غرائب الألفاظ، فأضفت تلك الألفاظ إلى كتابي، وربما أشير إلى قوله في أثناء ما يمر بي من ذلك، لأنني لم أستجز تضييع حقه وإخمال ذكره وسعيه وجمعه"
يحزنُ بعضنا لإغلاق بعض الوسائل العلمية والدعوية والتربوية لسبب أو لآخر.
والحقُّ أن غالبها لا يغلق إلا وهي في حالة احتضار أصلًا، وتكون قد أدت رسالتها، واستنفدت صلاحيتها، والتمسّك بها جمود وتعلّق عاطفي بالذكريات لا أكثر، فأراد الله أن نبحث عن بديل أنفع، وهذا باب فأل كبير لمن تأمل، والصّادق لا يبحث عن معاذير، ولا تعجزه الحيل.
من رحمة الله بنا أن جعل اللؤم في الناس منتشرًا، والجحود فيهم مستشريًا، حتى لا تسكن النفس لسوى ربها، ولا تأنس بغير خالقها، ولا زال العبدُ في نقصٍ من معرفة ربه ما دام يعتمد في سدّ جوعة قلبه على المخلوقين.
ينتشر هوس "استشراف المستقبل" بيننا، ويصاحبها هالة من العِرافة المشرعنة، والتوقعات التي تصاغ بعبارات مطاطية يسهل توظيفها في كل حال؛ نحو: القادم أسوأ، هناك موجة قادمة للحرب على الإسلام، وكأن الأعداء قد توقفوا يومًا عن مثل هذا!
والمؤمن الواعي حقًا يعلم أن استكشاف الواقع أهم من استشراف المستقبل، لنعرف واجب الوقت، ونفتش عن الفرص المتاحة التي تصنع المستقبل صدقًا.
ثم إن هذا الاستشراف قد يكون حيلة للفرار من الواجب الحالي، وهو في كل الأحوال مظنون، والواقع يقيني مشاهد؛ واليقيني أولى بالاهتمام من الظني.
لا أحارب أصل الاستشراف؛ بل أحارب الانغماس فيه على حساب الحاضر.
ولا أمنع التخطيط النافع للخطوات العريضة؛ بل أدفع الوهم الذي يظن البشر قادرين على توقّع التفاصيل، الأمر أعقد من أن يكون للدنيا كتالوج استعمال.
وأقول إن المسلم بالكاد يفهم حاضره ويؤدي واجبه فيه، وإن الوعي الحقيقي يكون بالعمل لا الأماني.
ولو فحصنا الاستشرافات السابقة لعلمنا أنها رغبويات أو رجم غيبي لا تعتمد على معايير علمية حقيقية حاكمة؛ ولأن الناس تنسى فما لا يتحقق منها يصبح مسكوتًا عنه.
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
من يقرأ القرآن والسنّة بصدق ودون تعصّب لمألوف بيئته العلمية سيجد أن صيانة التوحيد عند الأنبياء كانت تمنع ماهو دون هذه التصرفات الشركية بكثير، وأن من فضيلة معتقد أهل السنة إمساكه بالمُحكم المطّرد الذي يفهمه الجميع بفطرته.
متفائل بأنّ هذا الجيل قد عرف عمليًا ما قرأناه نظريًا، وأن الشدائد لن تؤتي ثمارها حتى تعاش مهما أحسن المرء فهمها.
ما كنتُ أعلم أن سلامة الصدر علمٌ يُطلب حتى جالست شيخًا أحسبه من الصالحين، ما عُرض عليه موقف لمسلمٍ إلا حمله على محمل جميل وفيه منطق، واليوم قال له أحد زملائي: اغتبناك شيخنا، وأراد أن يكمل مزحته.
فردّ الشيخ مبادرًا بابتسامة: يجوز يجوز، وبدأ يفصّل في أحوال يُعذر فيها المغتاب وقد يُثاب؛ حتى لوهلة ظننا الغيبة فضيلة.

اللهم حسّن أخلاقنا واسلل سخيمة قلوبنا وارزقنا سلامة الصدر.
2025/10/21 20:13:29
Back to Top
HTML Embed Code: