إنّما نحنُ، يا صديقي، في عشيّ التكلّف والتّحايل والملاقة والتّلاعب والتّزركش وإضمار السّوءات ومواراتها لا بتقويمها بل بكتمها بمآثر مفتَئتة أو جعلها تحت الرّدم.
إنّها مآثر ومحامد عجولة التّلاشي وسرعان ما تُفتضح.
إنّك ستُلاقي في منازلنا (الحمّامات) في الرّاجح أجمل الغرف نفحةً وأريجًا، ولربّما أشدّها نصاعةً وتعقيمًا، والنّاس اليوم على مثل ذلك.

قال: إنّني كلّما قرأت تفسير القرآن شكرتُ للّه على عطيّة اللّسان العربيّ.
قلت: وستُلاقي ما لاقيته نفسه ها هنا حينما تصير حاذقًا بالتّفسير، ثمّ تُطالع ما يُرقّشه من يحسبون أنّهم يعقِلون العربيّة اليوم بلسانهم الحديث، بل وزيادة !!!

تجد كثيرًا من أتباع الفرقة السّلفيّة المعاصرة يُمجّدون ابن شمس الدّين أو يرونه صاحب خير، لكنّك تجدهم في الوقت عينه يتهجّمون علي حينما أرفض تسمية السّلفيّة، فقول ابن شمس قول عاديّ، في حين أنّ قولي قولٌ أستحق عليه أن أنبذ في مكانٍ سحيق، ولا حول لا قوّة إلّا باللّه.

تجد أتباع الفرقة السّلفيّة المعاصرة يغلّظون على الاحتفال بالمولد النّبويّ مشدّدين أنه بدعة، ناظرين إليه نظرة دنيّة، ويكتسحون من يفعله كأنّما ينافحون عن لبّ العقيدة، في حين أنّ شيخهم ابن حجر الّذي يذودون عنه قال إنّه ليس محرّمًا وليس بدعة، فلماذا يُجرّمون من يلتحق بركب العلّامة ابن حجر ؟
والسّيوطيّ مثله.
إنّهم، يا صديقي، مسخرة، مسخرة كبيرة.
****
ملحوظة: ابن حجر عالم قدير ولا أبخّس منه، بل أستشهد به ردًّا على أنصار الفرقة السّلفيّة المعاصرة الّتي تبدّع من يحتفل بالمولد النّبوي كأنّما تدافع عن أساسٍ عقدي لا خلاف فيه وهو واحد من شيوخهم.

لكنّني أسألك بسَحنات الجِدّية كلّها: أراك امتطيت خيل النّقد وآدابه، لكن هل أنت فارس ؟
- تعلّم قانون النّقد وأخلاقه، وأدرك دهاليزه وثلماته.
- هل نحن في عَوَزٍ إلى البرهنة على اضطهاد فرقة أهل الحقّ على فرقة الاضطهاد نفسها ؟
- إنّ عدم صحّة مشاققك لا يعني لزامًا سدادة نقدك، ولا يُسوّغ الجور عليه.
- حذارِ أن تظنّ أنّ وقوفك على خطأٍ أو ميراجٍ يكفي في تسويغ نقدك.
- لا تبتهج بما اكترص عندك من أخطائه، فقد تنضب في معادلات أخطائك.
- لا يكون نقدك خجلًا أو كدرًا أو برمًا عليك وعلى رفاقك.
- لا تختال بامتداح المزهوّين بك، والملاحين لخصمك، فما أشدّ ندرة الإنصاف.
- ما أكثر الرّدودات على المعارضين في النّتيجة، وما أشدّ قلّتها على المخالفين في الأداة من الأصدقاء والمعاونين.
- ضع نقدك في مكيال النّقد عينه، فلربّما يكون هو أجدر بالنّقد.
- كن على دراية بين أن يكون نقدك موضوعًا على قضيّة وبين أن يكون على بوّابة وبين أن يكون منزّلًا على نهج، وارتدي لكلّ وضعٍ لبوسه.
- ربّما يكون نقدك في مَربَعه، لكن شططك وغلوّك خوّره وأعطبه، وإنّك من حيث لا تعرف قد زركشت قول مخالفك وبهرجته.

انتضِ خيل النّقد، ولكن كن رائضًا، وإنّك إذا كنتَ رائضًا، فتأكّد أنّك على خيل.

- عمت مساءً والسّلام عليكم.
- وعليكم السّلام ورحمة اللّه. أهلًا بك.
- أفي قدوتك أن تعلّمني كيف أصلّح المركبات حالما تُعطب ؟
- على الرّأس والمقلة. إنّ علم الميكانيك يستهلّ بـِ…
- تيْدَك من فضلك.
- قل.
- لا أبتغي منك أن تدرّسني الهندسة الميكانيكيّة وأن تقول لي ماهيّتها، بل أبتغي أن أتدرّب كيف أقوّم الضّرر في المركبات.
***
للّه من بعد المشتكى.

كبراؤنا للّه دَرُّهم عرّوا زبد الأيديولوجيّة الرّهج والحزبيّة المنحسرة فكان جهادهم جهاد أمّة لا جماعة، ولم يعتزوا إلى غير اسم الإسلام المؤلِّف، فاكترصت عليهم القلوب.

مالنا نرى أنّه يُسارع الواحد إلينا يبتغي أن نستفتيه كأنّما يجود علينا ويرفعنا وينكفنا، يقصد السّبيل إلينا كأنّما يطرفنا ويتحفنا، ولا يعرف أنّه يورّطنا ويوقفنا على كفاف السّعير، وإنّنا إذا لم نتعجّل إليه بالفتوى لم يستقلّ ذلك إلّا على أنّنا نستحقره فلا نعطيه من الزِّنة ما هو له كفو في نظره، أو أنّنا لسنا جديرين بحسن الظّنّ الّذي أبرمه علينا، وإنّنا نأخذ الاحتمال الآخر.

حبيبي، اللّه يرضى عنّك، إنّ معلّقة التّغيير الشّديد أو الخضوع المكَتنِز للسّلاطين ترياقها من الجانب الفقهيّ دراية الآتي:
لا يستوجب من عدم رخصة الخروج لزوم الطّاعة، وأنّ لزوم الطّاعة إنّما هو وجوب مقترنٌ بالمَكِنة والمعروف لمخصوصين بالطّاعة للمطاع المطلق.

إنّ تعويق العقل لأواء مشاعة وكلّيّة غير مقترنةٍ بأحد، بيدَ أنّ بعض المُؤتلفات أكثر نازلة وقابليّة من غيرها.

هذه هي القضيّة.

هاكم ثلاث ملحوظاتٍ قبل البدء:
ملحوظة لمن لا يعرف في القضيّة: إنّ البدعة في اللّغة هي الاستحداث، فإنّ الهاتف في ميزان اللّغة بدعة، لكنّ البدعة في ميزان الشّرع هي الضلالة، فلا وجود لبدعةٍ حسنة، فإذا كانت حسنة أو غير محرّمة فهي ليست بدعة في مكيال الشّرع.
ملحوظة للكيّس الأريب: أعرف أنّني مارقٌ وزنديقٌ وضالٌّ مضل، فلستَ بعَوَزٍ يا صاحبي أن تذكّرني بذلك.
الملحوظة الثّالثة للأشدّ كياسةً وحجا: (ثمّ صبّوا فوق رأسه من عذاب الحميم* ذق إنّك أنت العزيز الكريم)
****
- إنّ الاحتفال بالمولد النّبوي بدعة.
- لمَ بدعة ؟
- لأنّ الصّحابة ما فعلوه، ولا التّابعين، وهم كلّهم أشدّ حبًّا للنّبي منّا.
- نعم، ولا يتشاقق في ذلك اثنان عاقلان متبهرجان بالنّهى، ولكن هل هذا دليلٌ دامغٌ أنّه بدعة لا تصح للتعامل معها هذه المعاملة ؟
- نعم.
- هل هذه زيادةٌ في العبادة ؟ فهل جعله عيدًا ثالثًا من أعياد المسلمين يأخذ أجرًا من يحتفل به ؟
- لا، هو احتفالٌ فحسب يبتهج فيه المسلمون ويصلّون على العاقب كثيرًا، وبعضهم يحسبونه من المأجورات، ولا يصح الاحتفال به مطلقًا مهما كانت الذّريعة.
- ما علّة الاحتفال به دون عدّه عبادة حتّى لو لم يحتفل الصّحابة ؟
- هو يدعة، بدعة فحسب ألا تفهم ؟
- إنّك إذا رأيت هذا دليلًا قاطعًا لا يمكن الأخذ والرّد فيه تزجر وتنهى من أجله وتتعصّب كأنّما هو من المسلمات في الدّين فإنّما هذه فالعة، أمّا إذا ما انفكتت على ذلك من بعد هذا فإنّها طامّة مغلّظة !!!!
لا أحد يمنعك أن تأخد ذلك القول وتؤمن به، لكن لا تفرض شيوخك على النّاس، فليس كلّ الشيوخ شيوخهم، والعبرة بمدى العلم والرّسوخ فيه والورع والحجّة والقرينة، أمّا إذا ظننت أنّ شيوخك (لأنّهم يوافقون عقلك المتعطّر بالعلم) لا أحد يسبقهم في العلم، فهذا شيءٌ آخر ينبغي أن يعامل معاملةً أخرى، ولو أنّك أتعبت نفسك وبحثت في الكتب بضع سويعات لفقهت ما أحاول أن أقوله لك.
وإنّ قولك إنّك لو كنت تحبّ النّبي لعملت بسنّته إنّما هي حجّة متهافة، فالتّقصير بالسّنة مع تقديرها شيء وعدم الاكتراث لها ولا تقديرها ولا الظّن بخيرها شيءٌ آخر، ومن لا يفعل السّنن تقصيرًا لا ينبغي أن يطعن بحبّه للنّبي صلوات ربّي عليه، لكنّ كمال الحبّ العمل بسنّته.
****
هذا نتاج السّير مع القافلة دون تفكير، فهم يريدون منك أن تسلّم لكلّ أمرٍ فيه تقعيداتٌ أخرُ من أناسٍ مشهودٍ لهم بالورع دون أن تعمل عقلك، فإنّهم جعلوه قولًا مستتبًّا في آيةٍ قرآنيّة أو حديثٍ ثابتٍ صحيح، ولذلك يغلّظون عليك ولا يتهاونون في النّيل من اجتراحك.
فما أصعب التّحلّة الحاذقة وإعمال العقل مع أناسٍ يطيشونَ على شبرِ تهتار، واللّه المعين.

الأخ الفاضل نور الدين

يا أللّه.

من أجل ألا تحرجونني…

يسألني: ليش ربنا عاقب الكافر بعقاب أبديّ مع إنّه حياته قصيرة ؟

لقد ربحَ وكان من النّحاريرِ المتبهرجينَ بالكِياسة والحِجا من وصل إلى أن يعلمَ أنّ الخليل نادرٌ وربّما لا يكون في العمر كلّه إلّا مرّة.
وربحت ووعيت وكانت متعطّرة بالنّهى من وصلت أنّ تعلم أنّ الخلّة بين النّساء ربّما لا تكون في الأرومة، وأنّها إذا وُجدت حقًّا فلا تجدها بالحقّ كلّ امرأة.
ورحمَ اللّه من لم يغرّه عقله وعيّ تجرِبته وخمولها فتعجّل إلى الاحتجاج، فعسى أنّه يأتي إلى زمنٍ فيجرّب النّاس فلا يكون بعَوَزٍ إلى التّحسر ولا الاعتذار عن تهتارٍ عتيق.

أيْ أُخيّ، هلّا أنصَح لك نصحًا من طيب خاطر ؟
لا تُقرِّع من نسيَ فضلك عليه ومنَّتك، ولا تذكّره بهما ألبتّة واستنكف غير مُثرِّب؛ فإنّه لا يسلو عن الفضل والحبو إلّا جاحد أو مهمل، ولا جرم أنّ أهل الورع الحقّ والمروءة لا ينسونه، وإنّك إذا أخطأت وفعلت ذلك من بعد تبخيسٍ منه أو جحدٍ ثمّ رأيته يمتعض ممّا ذكّرته به ويتبرّم ويلصق فيك سمة المنّ فاعلم أنّ هذه إشارة أخرى من الرّب على ما قلته لك ابتداءً تقيم بها الحجّة عليه في قلبك، فهو لا يعرف المنّ الحقّ وقد تشابه عليه ولا عجب، أمّا اجتراحك فإنّ بينه وبين المنّ الدّميم كيلومتراتٍ وارعِواء.
أيْ أخي، اعمل للّه ولا يضرّك جاحدٌ لفضلك أو مطفّف له أو مزدرٍ.
أيْ أُخي، لا يضرّك إذا ما رأيتني يومًا أخالف ما نصحتُ لك به، لكنّه الهُدى الّذي لن أتلطّط به يومًا ولن أشاقق فيه، وللّه من بعد المشتكى.
ربِّ يسّر وأعن.

لستَ في عَوَزٍ إلى الانغماس في الغلط إلى رقبتك حتّى تدرك الحقّ، بل اعلم الحقّ وحده تعرف كلّ باطل وغيّ وجنوح وتجديف، في حين أنّ معرفتك لمئة باطلٍ أو ألفٍ أو زيادة لا يُبرّئك من مواجهة باطلٍ آخر غير الّذي تعرف.