Telegram Web Link
سرعان ما حل أرسطو محل البابا ونال استحقاقَا وقداسة وأصبحت فلسفته عقيدة مقدسة على يد السكولاستيكا، أي المدرسة اليونانية، لدرجة أنه صار محاطا بهالة لا يجوز لأحد أن ينتقده أو ينال من آرائه، بل كل من يجرؤ على مخالفة آرائه أو الانتقاص من مكانته معرض للعقاب الأعظم وهو قطع الرأس!

يخبرنا الباحث كيف أن الآراء البشرية تخضع وفقا لظروف عصرها وطبيعته، فبعد سيطرة البابوات والكهنة صار الفلاسفة في عصور التنوير هم المتحكمون بعقول الناس وفرضوا بدورهم تعاليمهم عليهم، لكن العقول التي وجدت ثقبا نحو التنوير هي نفسها ثارت على كل الفلسفات التي من شأنها تقييد فكرهم وتؤخرهم عن مواكبة ركب الحضارة، وصار من الصعب كبت ثورتهم؛ ليكون الطريق ممهدًا نحو آفاق الحرية الفكرية ونهاية لعصور الظلام في منتصف القرن الثاني عشر، حيث خطت أوروبا أولى خطواتها نحو التنوير الفكري والفلسفي، ففي هذا القرن تحديدًا حدثت نهضتان، كانت الأولى على الصعيد المحلي، والثانية خارجية عن طريق العرب.

بينما الإنجازات الفكرية والفلسفية للعرب في تلك الحقبة لم تمر مرور الكرام في صلب المجتمع الأوروبي الذي كان ينفتح رويدا رويدا وبفضول مشوب بحذر؛ فالسلطات اللاهوتية المسيحية لم تقف صامتة بل لجأت إلى تدابير عديدة لوقف هذا الغزو الفكري المنطلق بشدة من العرب، ففي فرنسا صدر قرار لاهوتي بمنع قراءة كتب أرسطو وكتب شراحه سواء في حلقات عامة أو خاصة، هذا القرار كما يرى الباحث كان ذا فاعلية إلى حد ما في ذلك الوقت، لكن التعطش الأوروبي للعلم والفلسفة كان كبيرا بحيث خلع اللامبالاة لقرارات الكنيسة بالمنع ليدخل هذا الجمهور المتعطش في مناخ العصور الحديثة، في هذا التوقيت نفسه كانت الحضارة العربية التي ظلت شامخة في القرون السالفة تتداعى في نهاية القرن الثاني عشر لتدخل بدورها عصور الظلام والانحطاط الفكري والفلسفي، كأن أوروبا نفضت آخر ما تبقى من تخلفها في جهة الشرق، لتغرق بدورها في دوامة من التأخر العلمي والفكري في القرون القادمة، ليكون التاريخ العربي مجرد إرث منسي بعد حقب من الازدهار، كما يذهب المؤلف بقوله:" اختفت الفلسفة من أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد موت "ابن رشد بالذات" ويمكن القول إن نهاية العصور الوسطى المسيحية قد تزامنت مع بداية العصور الوسطى الإسلامية أو عصور الانحطاط".

ولابن رشد تحديدًا دور عظيم في رفد أوروبا بالتنوير إلى جانب أرسطو بنفس القدر من التأثير، على الرغم من التشويه الذي تعرض له لاحقا على يد الأوروبيين، الذين كانوا يرونه ملحدًا في وقت كان فيه رجل مسلم يؤدي فرائضه الخمس في أحد مساجد قرطبة. المسجد نفسه الذي طرد منه على يد المسلمين في أواخر حياته!

لقد ظل الفيلسوف ابن رشد بجلال قدره لغزًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي والأوروبي، مطاردًا بسوء الظن والتشويه، فالأوروبيون أخذوا من كتبه المترجمة ما تبرزه بصورة غير التي كانت على حقيقتها، بينما لم يعِ معظم المسلمين حقيقة فلسفته.

عُرف ابن رشد بآرائه الفلسفية المتباينة، فقد كان يرى من الحماقة أن يجرف أولئك الفلاسفة عامة الناس في حلقاتهم الخاصة وجعلها منابر عامة. فابن رشد وفق الباحث قسم الناس لثلاث مراتب إزاء الشرع أو الشريعة الإلهية، فهناك أولا طبقة غير قادرة على أي تأويل للنص المقدس وهم أصحاب الأقاويل الخطابية الذين يفهمون لا المواعظ والخطب الشعبية، هذه الطبقة تمثل الجمهور الأعظم من المسلمين، أما الطبقة الثانية فهي على نقيض الطبقة الأولى؛ فهي تصدق بالأقاويل الجدلية وهي من جماعة التأويل، أما الطبقة الثالثة فهي الأرفع شأنا لأنها طبقة التأويل اليقيني، رغم هذه التقسيمات كان يود ابن رشد لو أن هناك طبقتين فحسب، طبقة العامة من الناس والفلاسفة. مبررًا وجهة نظره بقوله:" لأننا إذا ما عرضنا التأويلات على من هم ليسوا بقادرين على فهمها، فإننا ندمر المعنى الظاهري في نفوسهم في حين أنهم غير قادرين على فهم أي شيء آخر غيره، وهكذا بحجة تعليمهم نؤدي بهم إلى الكفر".

وبموت ابن رشد ماتت الفلسفة في الديار العربية الإسلامية كما حدد الباحث؛ والذي جاء جنبا إلى جنب مع سقوط غرناطة عام 1492م والتي كانت علامة بارزة على القطيعة بين أوروبا والعالم الإسلامي، هذه القطيعة التي شكلت صدمة للعرب، فقد حملت في طيّاتها قطيعة مع ماضيهم الكلاسيكي المبدع من ناحية، وقطيعة مع الحداثة الأوروبية التي تفوقت على الحضارة الإسلامية وحققت نجاحات ساحقة في كافة مجالات العلوم والمعارف والفلسفة.

يفسر الباحث هذا الانحطاط العربي مقابل التنوير الأوروبي بقوله:" لقد خرج العرب من التاريخ عندما كفوا عن التثاقف مع الآخرين عندما كفوا عن الترجمة. إن سر النهضة الأوروبية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر هو نفسه سر نهضة القرن الثاني عشر، أي سر جميع النهضات: إنه الترجمة والانفتاح على الآخرين".
بعد أن نفضت أوروبا عنها مخلفات العصور الوسطى واشتد عودها صارت تنظر للتاريخ العربي الإسلامي على أنه تاريخ متخلف، متناسية تماما دورها في رفد حضارتهم وانتشالهم من عصور الانحطاط، فبعد أن كان ذكر مناقب العرب من قبلهم يعد مفخرة صار بعد بلوغهم مراتب عالية من العلم والثقافة نقيصة وعارًا؛ فهؤلاء العرب يذكرونهم بتاريخ سعوا إلى طمسه من مخطوطاتهم!

مرحلة اندفع الأوروبيون بشدّة لمحوها من هامش تاريخهم السالف، بعد أن سبقوهم بمراحل ضوئية شاسعة من الصعب ردمها أو حتى محاولة مواكبتها بسهولة.
" عندما تتغيّر القراءة، تتغيّر الكتابة لا محالة".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
《‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا》
‏" كل نوع أدبي يفتح " أفق انتظار" خاصا به. كيف يتكون أفق الانتظار؟ عندما يطّلع القارئ على مجموعة من المآسي، فإنه ينتبه إلى العناصر التي تجمع بينها. وعندما يطلع على مأساة جديدة فإنه ينتظر أن يجد فيها العناصر نفسها التي سبق له أن فرزها عادة بصفة ضمنية".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
تسألون لماذا شِعره
‏لا يتحدّث عن الأحلام
‏عن أوراق الأشجار
‏عن البراكين العظيمة في وطنهِ الأم
‏تعالوا وانظروا الدّم في الشوارع!

‏-بابلوا نيرودا
"يثورون في الميدان الكبير كلما غضبوا
وعندما يرون صورهم في الشاشات
يكتشفون أنهم لم يغادروا البيت".

طارق إمام

Tareq Imam
" رأى القدماء: إذا تعرّى السرد من الحكمة ومن العبرة ومن البديع، فإنه يُرفضُ باحتقار. لهذا السبب أهملت حكايات ألف ليلة وليلة في الثقافة الكلاسيكية. أي فائدة تُجنَى من حكاية تقول إن فتى دخل بستانا ورأى فتاة جميلة وجرى له معها ما جرى؟".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
‏"تجعلنا القراءة مهاجرين، تأخذنا بعيدًا عن المنزل، ولكنها تمنحنا منازل في كل مكان، وهذا أهم ما في الأمر".

آنا كويندلين
نسكن في اليد الملوّحة للبعيد، في الشَعر المتطاير، في العين اللانهائية الامتداد.‏
حينذاك نكون في القلب. القلب الأبيض، النسيميّ، السابح في الهواء.‏
في نقاء الفراغ.‏

• وديع سعادة | غُبار
العيش مع الكتب
عندما تنقذنا القراءة دائما من اليأس

علي حسين

عندما يسألني احد الشباب وانا اتجول في شارع المتنبي عن افضل الكتب التي عليه أن يقرأها . وهل هناك طريقة مفضلة للقراءة ؟ ، اردد العبارة التي قراأتها في كتاب دانيال بناك "متعة القراءة " والتي يمنح فيها القارئ حقوقا غير قابلة للمساومة أبرزها :" الحق في قراءة أي شيء .الحق في القراءة في أي مكان . الحق في القراءة بصوت مرتفع . الحق في اعادة القراءة . الحق في عدم انتهاء الكتاب . كان بورخس يردد : " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، اما اأنا فأفخر بتلك التي قرأت " . لكن هل القراءة الزامية؟ . اعتقد ان مثل هذه العبارة ستكون قاتلة لمتعة القراءة ، فالقراءة لا يمكن أن تكون الزامية .. فهل نتكلم عن السعادة الإلزامية . فالقراءة يجب ان تكون شكل من اشكال السعادة الشخصية ..إنها الطريقة الوحيدة للقراءة .
اختارت وهي في العشرين من عمرها طريقا اتضح لها باطراد أنه سيجلب لها الوحدة .. تعرف أنها أتت من عالم كانت النساء فيه مقيدة . كان الرجال والنساء يقطنون عالمين منفصلين بحدة . تصورت نفسها ذات يوم مثل بطلة فلوبير " مدام بوفاري " التي اصرت أن تتمتع بكل ذرة من حياتها .عندما بلغت العشرين من عمرها ، قررت أن تستقل بحياتها . استاجرت غرفة من جدتها التي عاملتها مثل المستاجرين الآخرين . اشترت سيمون دي بوفوار بعض الاثاث الرخيص . طاولة وكرسيين ورفوف للكتب . ساعدتها اختها في ترتيب المكان ، وضعت على الطاولة بعض الكتب وقلم حبر ، فيما امتلأت الرفوف بالكتب التي كانت قد خزنتها في صناديق . نظرت بنشوة إلى المكان تفحصت الكتب جيدا ثم قالت لشقيقتها :" اخيراً بدأت حياتي الجديدة " .
في بداية رواية دون كيشوت يصف سيرفانتس بطله بأنه شخص يقرأ حتى الاوراق الممزقة المرمية في الشارع ، هكذا فعلت سيمون دي بوفوار مع الكتب ، انها تقرأ كل شيء . في مذكراتها " وانتهى كل شيء " – ترجمة محمد فطومي – تقول ان القراءة لم تكن بالنسبة لها ترويحا عن النفس بل " النافذة التي كنت من خلالها أرى العالم " . قالت لسارتر ذات يوم أن الكتب تضيء لها مستقبلها . في مراهقتها كانت تتعرف على نفسها من خلال الروايات . في مذكراتها تنبهنا الى الكيفية التي تستطيع بها الكتب ان تنمي ارادتنا الواضحة والصريحة ، فهذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة " تُوضح لقراء سيرتها كيف اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل االكتب .كانت دائما على وعي بقدرتها على تأكيد ذاتها . الفتاة التي تنتمي الى البرجوازية الصغيرة ظلت تسعى الى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية ، كانت تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان " .. وقد ساعدها هذا الموقف ان تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت : " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " .. لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين ، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم " ، حيت تعترف :" كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا ، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر - . وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها ان تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني ، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها ، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها المهم " الجنس الآخر" والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة " .، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف، ووضع الفاتيكان الكتاب ضمن قائمة الكتب المحرمة، وكتب ألبير كامو مقالاً اعتبر فيه الكتاب رسالة سخرية صوّرت الرجل الفرنسي بشكل سيئ، وقال الكاتب الشهير فرانسوا مورياك :"لقد وصلنا فعلاً الى حدود الوضاعة"، كما هاجمه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اعتبره"إهانة للمرأة العاملة"،وكانت الاتهامات تلاحقها وستتنافس الصحف المحافظة على تحقيرها حيث وصفوها بانها " فتاة مسكينة ، عصابية ، مكبوتة ، مسترجلة ، محشوة بعقد ازاء الرجال والنساء ، وكتب احد النقاد :" لقد اذلها ان تكون امرأة " وقد صرح البعض بانه لم يكن يحفق لها الحديث عن النساء لانها ليست امرأة . في حين وصفت فرانسو ساغان الكتاب الذي قرأته عندما كان عمرها 15 عاماً، بأنه واحداً من الكتب العظيمة القليلة في زمننا،، وفي عرضها للكتاب ذكرت المجلة الشهيرة اتلانتيك، إن الكتاب يتلاءم جداً مع الوجودية المثيرة للاشمئزاز، إلا أن الكتاب حقق نجاحاً هائلاً في الأسبوع الأول لصدوره حيث نفذت جميع النسخ المطبوعة والتي تجاوزت الثلاثين ألف نسخة، وعندما صدرت ترجمته الانكليزية بيعت منها مليونا نسخة، كما تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في اليابان لمدة سنة كاملة، وأصبح الكتاب المرجع الأساسي لرائدات تحرير المرأة في أوروبا
وأميركا .
تعترف بأن القراءة منحت معنى لعملها ككاتبة ، فرغم الشهرة التي حصدتها والمكانة التي وجدت نفسها فيها كواحدة من ابرز فلاسفةة الوجودية إلا انها لم تتخل عن عاداتها اليومية في القراءة :" استمر في القراءة كثيراً ، في الصباح ، في الظهيرة ، قبل الشروع في العمل أو عندما اكون مرهقة من الكتابة . اقرأ ساعات باكملها . ما من انشغال يبدو لي طبيعيا اكثر " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي - .
في حوارها مع فرانسيس جانسون وهو يسألها عن الكتب المتناثرة في كل مكان وهل استطاعت أن تغير مصيرها ؟ قالت :" دائما ما اسأل نفسي :لماذا التعلق باقراءة ؟ .. متعة القراءة لم تُمحَ ، مازلت اندهش لتحول الرموز السوداء الى كلمة تقذف بي في قلب العالم " .
كانت كتابات سيمون دي بوفوار تثير السخط ختى بين اصدقائها ، قال انها تعلمت من المركيز دي ساد كيف تجعل الآخرين يرمون بكتابها الى الجهة الاخرى " ليس امام القارئ التقليدي سوى النفور من كتبي " قالت لجان جينيه يوما أنها تمنت لو كانت قد كتبت كتابا مثل كتابه " يوميات لص " اخبرت سارتر ان كتاب جينيه " واحد من اجمل الكتب " .
ولدت سيمون دي بوفوار في التاسع من كانون الثاني عام 1908، :" كان ابي في الثلاثين من عمره ، وامي في الحادية والعشرين " ، كانت إبنة لعائلة ميسورة الحال، والدها حسب تعبيرها في وضع وسط بين الارستقراطية والبرجوازية، اما والدتها فامرأة كاثوليكية متدينة، أعطت لابنتها تربية جادة وصارمة وثقافة دينية وشعوراً حاداً بالواجب، لا يعرف المماطلات والتنازلات، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها : " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل "، بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركجارد :" علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة او مفرحة، لانها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت ان تعيش حياتها، لانها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا ان تصنع حياتها بنفسها، " ان تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير ".
دارت اعمال سيمون دي بوفوار حول مغضلة العثور على اخلاقية وجودية ايجابية " بعيدا عن الزيف والاستسلام " . وفي القراءة حاولت أن تطبق هذا المنهج :" :" انا لا اقرأ أي كتاب ، إلا إذا كان لا بد من دراسة نص اجتماعي " . في حوارها مع سارتر قالت انها كانت تقرأ منذ أن كانت في التاسعة من عمرها ، قصص مغامرات وكانت تسأل نفسها احيانا هل هذه القصص متخيلة ام حقيقية :" لم تكن لدي بعد فكرة الخيال المحض التي امتلكتها لا حقا بشكل سريع " .
حينما كانت سيمون دي بوفوار فتاة صغيرة لم تشرك المعرفة بالدراسة او التربية العائلية ، بل قارنتها بالتهام الطعام . بالتهامها الكتب فانها تستحوذ على العالم وتجعله عالمها الخاص . في الوجود والعدم يكتب جان بول سارتر ان :" المعرفة يعني أن تأكل بعينيك " . في فترة المراهقة ، اصبحت العلاقة بين سيمون ووالديها اكثر حدة ، فقد شعرت وهي تنتهي من قراءة مؤلفات نيتشه بانها فتاة منفية في عالم من القيم المزيفة التي سعت للهروب منها قالت :" كانوا يحبسونني في هذا العالم الذي كلفني الهروب منه سنوات من عمري ، عالم لكل شيء فيه اسمه ، ومكانه ، ووظيفته ، عالم كل شيء فيه مصنف ، ومحكوم عليه قطعيا " – مذكرات فتاة رصينة –
ظلت المقاهي بؤرة الحياة والقراءة بالنسبة لسيمون دي بوفوار .كانت افضل الاماكن بالنسبة اليها ولسارتر فيها تشعر بلذة الدفء ، وبلذة القراءة او الكتابة ، وغدت المقاهي ايضا اماكن للحديث والجدال الفلسفي " ولابقاء الذهن حيا منتعشا " على حد تعبير بوفوار في كتابها " المثقفون " . هكذا بدأعالم الوجودية المفعم بالاعاجيب والتجريب واعلاء سلطة حرية الفرد .تكتب بوفوار في أول مقال لها نشر في مجلة الازمنة الحديثة عام 1945 :" أن البشر احرار ، وأنا ملقى بي في هذا العالم بين هذه الحريات . أنني بحاجة اليها " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي - . كانت الوجودية بالنسبة لسيمون دي بوفار طريقة لتصور العالم ، وجدت ان افكار سارتر تتفق مع رغبتها في التخلص من عالم عائلتها الخانق ، واخيرا وجدت فلسفة تشجعها على المضي قدما في مشروعها الثقافي – قراءة وكتابة – اصبح سارتر مصدر الهام اساسي في حياتها ، وهو تأكيد سيتكرر في الكتب التي كتبتها عن سيرتها الذاتية :" لقد تبنيت صداقة سارتر ودخلت في عالمه ، ليس لأنني كما يزعم البعض امراة ، بل لأنه العالم الذي تطلعت اليه منذ رمن بعيد " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي –
كان والدها جورج دي بوفوار يكره اختيار ابنته مهنة التعليم ، وذلك لأن من شأن هذه المهنة ادخالها في فئة اجتماعية يحتقر قيمها " كان ينظر إلى الاساتذة بوصفهم متحذلقين ، انهم ينتمون الى تلك الطائفة الخطيرة ، المثقفين " . لم يطل العمر باأب ليرى اول رواية تنشرها ابنته ، كان قد فقد أي أمل برؤيتها " متزنة " .
في تلك الفترة كانت عائلتها واصدقاؤها يعتبرونها عقيمه ، دمرت الكتب حياتها على حد تعبير والدتها . وكان والدها ينزعج من انكبابها على هذه الصفحات اللعينة كما كان يسمي الكتب . توفي جورج دي بوفوار في الثامن من تموز عام 1941 ، وعند نهاية شهر أب من نفس العام كانت ابنته سيمون قد انجزت اولى رواياتها " المدعوة " التي صدرت عام 1943 .
ظلت القراءة ترافق سيمون دي بوفوار حتى اللحظات الاخيرة من حياتها ، في كتابها " ذكريات باريسية " تصف الكاتبة الامريكية ديردر بير شقة سيمون دي بوفوار التي دخلتها عام 1981 حيث اثار انتبهها اريكة وضعتها الفيلسوفة الفرنسية في زاوية من الصالة ، عندما لاحظت ان ديردر بير تطيل النظر الى الاريكة ن قالت لها انها اريكة القراءة . أنه المكان الذي تقضي فيه معظم وقتها . تصف لحظة القراءة على الاريكة بأنها لحظة ساحرة :" اسحب ستائر غرفتي ، اتمدد على الاريكة ، يُمحى الديكور ، اتجاهل حتى نفسي ، وحدها في الوجود الصفحة البيضاء المكتوبة بالاسود التي تجوس فوقها عيناي " – وانتهى كل شيء – ، قالت لكاتبة سيرتها ديردر بير ان القراءة وحدها تخلق علاقة جيدة ودائمة بين الاشياء وبينها . فالكتاب جعلها تختار حياتها الحقيقية ، عندما قررت ان لا تسمع سوى نفسها ، واشتدت رغبتها بالمعرفة . اقنعت والدها الذي كان يتمنى لها حياة اخرى . ان مصيرها مرتبط بالفلسفة والكتاب ، فما ما من تجربة تضاهي تجربة القراءة والعيش مع الكتب . تقرأ في المفهى او البيت واحيانا في السيارة " تاخذني الكتب بعيدا جدا . في حالات اقرأ للذة القراءة لا لأكون قد قرأت . انا نهمة فيما يتعلق بالقراءة " قالت لفرانسيس جانسون :" اقرا كثيرا لأعلم . كانت دائما لدي رغبة في المعرفة وفضولي لا حدود له . اردت أن اظل على درية بكل ما يثير اهتمام ابناء زمني " سيمون دي بوفوار مشروع حياة ترجمة ادوار الخراط –
عام 1929 حصلت سيمون دي بوفوار على المرتبة الثانية في امتحان الاستاذية ، أي بعد سارتر مباشرة الذي حصل على المرتبة الاولى ، ارتبطت بعلاقة مع الطالب المجتهد . كان قد اخبرها منذ البداية انه لا ينوي الزواج منها ، لكنه لا يمانع ان تستمر علاقتهما مدى الحياة . قال لها ان الحب الذي يجمع بينهما جوهري واساسي وانهما متماثلات في الشخصية . ان اساس الفلسفة الوجودية التي اعتنقتها سيمون دي بوفوار ، كانت ايضا الاساس الفلسفي لعلاقتها مع سارتر . عندما كانا يلتقيات في مقهى " الفلور " كان سارتر يقول لها " لقد توصلت الى نظرية جديدة " . وكانت بوفوار تنصت باهتمام ، ثم تشير الى موضوعات اخرى ، كان يقول " اعتدت ان تكوني مليئة بالافكار " ، هذه الافكار التي كانت تراودها وهي تتمدد على الاريكة وبيدها كتاب يأخذها الى عالم مختلف ، هكذا شعرت المرة الاولى عندما قرات مذكرات سارتر " الكلمات " ، بهرتها كتب فرويد :" اعلق اهتماما كبيرا على الاعمال التي تظهر لي الانسانية تحت ضوء نهار جديد " .
ما هي الطريقة التي توصينا بها سيمون دي بوفوار ونحن نقرأ لكاتب معين حتى وان كنا نختلف مع افكاره :" القراءة لكاتب نختلف معه ، امر عويص حقا ، كي يتمتع نص ما بمعنى يجب ان نمنحه الحرية . ان نحسن الصمت في اعماقنا ، وان نسمح لصوت الكاتب الغريب عنا بأن يصدح " .
تعترف ان القراءة بالنسبة لها ليست نشاطا لتجميع اللحظات الرائعة في كتاب ، لكن في اقامة علاقة بين مختلف الكتب ، علاقة تواصل وتكامل ، ترى ان الكتب احيانا اكثر توهجا من الحقيقة :" إيما بوفاري حاضرة في حياتي اكثر من اشخاص عرفتهم حقيقة " . تصر على ان الكتاب الذي يجذبها هو الكتاب الذي يجيب على اسئلة طرحتها على نفسها .

* فصل من كتاب جديد بعنوان " العيش مع الكنب "
كانت الشروخ تظهر في بيتنا القديم وتختفي. تلتمع على الجدار أحياناً مثل بروق سوداء فلا تدوم أكثر من غمضة عين، وتبقى أحياناً بضعة أسابيع حتى تلتئم ويتعافى الجدار. لقد عرف الطفل الذي كنته أنها علامات خصام، والأطفال يعرفون أكثر مما يظن آباؤهم. حالما يشرع أحدنا في حمل رسالة من الأب إلى الأم التي لا تبعد أكثر من غرفتين. "قل لأمك سيأتيني ضيف على العشاء". "قل لأبيك ليس في البيت ما يكفي من الفواكه والخضروات". يتردد المراسل الحربي الصغير جيئة وذهابا بينهما.

لطالما أخافتني تلك الشروخ، ولا يخيف الطفل في الواقع أكثر من أبوين متخاصمين. عندما يتخاصم أبواي تظهر تلك الشروخ ولا تختفي حتى يتصالحا. فإن لم يعتذر أحدهما أو يتنازل، تزايدت تلك الشروخ حتى هددت الجدار بالسقوط. وهكذا رحت أتخيل جدران البيت وهي تتهاوى الواحد تلو الآخر، حتى تخرّ الغرفة، فالغرفة المجاورة، فالتي تليها إلى أن ينهار البيت كله ويعلونا الركام. ظللت أرقب الجدران في تلك الأيام لأتكهن باللحظة التي يتعين علينا إخلاء البيت قبل أن يتحول إلى أنقاض.

كانت الشروخ العمودية في الغالب تخص أبي، أما الشروخ الأفقية فلأمي. ما إن يغضب أبي، وقد كان سريع الرضا والغضب، حتى يظهر ذلك الشرخ الدقيق أعلى الجدار، ولو تركته أمي قليلاً لربما رضي أبي من تلقاء نفسه. أما أمي فلم تكن تغضب إلا نادرا، وإن غضبت فمن نفسها. ما كان أبي ليصالحها مهما فعل إذ ما كانت أمي ممن ينتصر لنفسه باعتذار أو وعد أو قلادة ذهبية. لا بد أن تتصالح مع نفسها أولا. نصحو في الصباح لننظر كم تقلص ذلك الشرخ الأفقي. على أن البيت لن يهوي أبدا حتى عندما يظهر ذلك الشرخ الكبير؛ صورة أبي ميتا. لكننا سنسمع بعدها كلما عانقنا أمي ما يشبه التشققات.

عبدالله ناصر
‏*المنزل ذو العلّية - تشيخوف
تتوفر نسخ من روايتي" دفاتر فارهو" ومجموعتي القصصية " فهرس الملوك " في موقع مكتبة صوفيا ‎@sophia_kwt
2024/05/13 22:09:40
Back to Top
HTML Embed Code: