كل ما أعلمه هو: انه من وقت لآخر تنهض في روحي، بدون أي سبب ظاهر، الموجة المعتمة، ويمتد ظل قاتم على العالم، كظل السحابة، فتغدو المتعة مُزيفة، والموسيقى مُبتذلة، وتشمل الكآبه الأشياء كلها، الموت آنئذ خير من الحياة، وكالنوبة تداهمني هذه السوداوية حيناً بعد حين، دون موعد محدد، وتأخذ شيئاً فشيئاً تحجب سمائي بالغيوم، يبدأ الأمر بإضطراب في القلب، مصحوب بهاجس قلق، وربما ك بأحلام مُزعجة أثناء الليل، الناس، المنازل، الألوان، الأصوات، تلك التي من شأنها بعث المسرة في نفسي تغدو مريبة وتظهر لي زائفة، الموسيقى تسبب لي الصداع، وجبات الطعام تبدو محشوة بسهام خفية، في أوقاتٍ كهذه فإن مُجرد الحديث مع الناس هو نوع من أنواع التعذيب، سرعان ما يؤدي إلى ثورة غضب، بسبب أوقاتٍ كهذه لا يحوز المرء سلاحاً، وللسبب ذاته يفتقد المرء السلاح، ينصبّ الغضب والألم والتذمر على كل شيء .
لا يزال يجد بعض الأمور مُدهشة حتى وإن أصبحت عادةً تتكرّر كل يوم: شعوره بأقدامه على الأرض، شعوره برئتيه تتسعان وتبلعان الهواء الذي يتنفسه، معرفته أنه إذا استمرّ في وضع كلّ قدم أمام الأخرى فسيصل إلى حيث يريد الذهاب، لا يزال يجد الأمر مُدهشًا بعد استيقاظه بقليل في بعض الصباحات، وعندما ينحني لربط خيط حذائه، يشعر بسعادة كثيفة تغمره، سعادة طبيعية جدًا، يحسّ بأنه في وئام مع العالم، بأنه حيّ في الحاضر، الحاضر الذي يُطوّقه ويخترقه بخبرٍ مُبهج، إنهُ حي، و يكتشف في داخله سعادة لا حدّ لها، لا يهم ما إذا كانت سعادة كبيرة حقاً أم لا، فهو يجدها استثنائيّة، وهذا وحده كفيل بأن يُبهجه .
لا أستطيع أن أتعاطى مع الحياة بشُحّ، الحياة المحدودة الباهتة الساكنة لا تناسبني، أجدني حتى في الأيام التي أهبها للراحة التامة، أبحث عن تجربةٍ حسيّةٍ استغرق بها، أفتح كتاب، أخلق نكهة، أشاهد فيلم، أو أُقلّب في الذاكرة، الحياة تعني لي الحب، التجدد، الإمتلاء والإستغراق التام بالمسرّة .
ولكن هيهات، ثمّة أشياء لا يُمكن إخفاؤها، ثمّة دموع واضحة يراها حتى الأعمى وإن لم تنهمر من العيون، ثمّة غصّة في القلب لا بُد أن تظهر مهما حاولنا وأدَها، ثمّة ندوب في الروح لا يُمكن التحايل لإخفائها، ندوب الروح كشمس الظهيرةِ مهما حاولت الغيوم حجبها إلا أن شيئاً منها يتسلل ويُضيء ويقول لك : أنا هنا .
إن الأشياءَ، دوماً مُهدَّدة بالغياب،
وإنني ذاتَ يوم، كنتُ هُنا، في هذا المكان ..
حيثُ لن أكونَ أبداً، مرّةً أُخرى .
وإنني ذاتَ يوم، كنتُ هُنا، في هذا المكان ..
حيثُ لن أكونَ أبداً، مرّةً أُخرى .
عندما توشك السفينة على الغرق، يُفكر المسافر على متنها في قدره الشخصي مُباشرة، ويهمل أمر الآخرين، يُريد أن ينجو بحياته قبل كل شيء، فيقفز إلى قارب النجاة في أول فرصة، وبعد أن يصل إلى الشاطئ، يبدأ بالبحث عن ناس يعيش معهم بقية حياته، لكنهُ للأسف سيفشل لأنه سيبقى مشدوداً بقوة الذاكرة إلى غيرهم، إلى أولئك الذين تطور بينهم تاريخه الروحي، لذلك سيبقى غريبًا إلى الأبد، هل تعرفون جيدًا معنى أن يكون الإنسان غريبًا إلى الأبد؟ أن يتنازل عن اللهجة التي تأسس في داخلها تاريخه الروحي؟ هو أن يمضي بقيّة حياته ضد قوانين هذهِ الروح، لذلك كانت الغربة وفي كل الأزمان هي غربة الروح، نزاع أبدي بين الجسد والروح يُمزق وجوده ويرميه في العاصفة .
مُبعثرين نحنُ، كُل ما فينا مُبعثر، ذواتُنا، عُقولنا، وحتى مشاعِرُنا التي ندّعي بأنها تخصنا وبأننا نستطيع التحكم فيها مُبعثره، نحنُ البحر الذي لا يهدأ ويضرب بكُل حَرقةٍ الساحل الحزين، حتى الساحل لا أمرَ لهُ بما يفعل البحر، نحنُ الشمسُ التي تشتعل بكل ما فيها وبالنهاية لا أحد يحُبها كما القمر، نحن الذين نشتعل حُبًا، خوفًا، غضبًا، شوقًا، رهبةٍ من كُل الأمور، نحنُ الذين يسكُننا القهر، والأسى، والحُزن ولا أحد يُعيرُنا إنتباهه، نحنُ الذين توسدت البعثره حياتهم ويخرجون للناس بكل ترتيب .
أعلم أن الإنسان أحياناً يصل لمرحلة لا يقوى فيها على الحديث، يمنعه تعب، يمنعه بقايا عتب وأحياناً يمنعه لا شيء.. ذاك اللاشيء في حد ذاته تراكمات لأشياء عديدة يكاد ينفجر من فرط كتمانها إلى أن تتحول للاشيء كبيرة، ذاك اللاشيء هو حب انتهى دون حديث، عتاب بقي داخلنا دون حديث، دموع حصرت في أجوافنا دون حديث، واشتياق عصر أحشاءنا دون حديث، تبدأ حياتنا محاولين فهم كل شيء، والحديث في كل شيء، ثم ينتهي بنا المطاف محاولين النجاة من فهمنا، وتحويل الحديث المُعلق في حناجرنا لصمتٍ طويل، لصمتٍ رهيب، صمت إذا ما سُئلنا عن سببه أجبنا : "لا شيء".
لا ترمِ ذاكرتَك في البحر، سيعيدُها الموج، لا تلقها فتاتاً للطيور، ستقتلك غناءً، لا تفكر في محوها أبداً، ستصادفك في كل فراغ، حافظ عليها، على أحزانك، الذين ينسون أحزانهم، يبكون لأشياء لا يعرفونها .
أشعر هذهِ الأيام وكأنني شخت فجأة، وكأنني نمت ليلة البارحة وأنا في منتصف العشرينيات لأستيقظ اليوم في منتصف الثلاثينيات، أشعر وكأنني كبرت عقداً كاملاً في غضون ليلة واحدة .
"كل ساقطٍ له لاقط "
مثل يحمل في طياته من الحكمة ما يكشف عن طبائع البشر وحقيقة ما يجري في الحياة، ف في الحياة، تجد لكل شيء، مهما بدا في أعين البعض بأنه بلا قيمة، تجد من يرغب فيه ويطلبه، كأن النفوس تسير وفق ما يوافقها من العقول والطبائع، فتنجذب كل ذات إلى شبيهها، ويقع كل ناقص في يد من يُجاريه في النقص، أو يُكمل عجزه بما يشبهه، فالناس في معادنهم كالذهب والحصى، ولكل معدن طالبه، فلا عجب أن ترى من يُعجب بالبالي ويزهد في النفيس، إذ لكل عقلٍ منطقه، ولكل خُلقِ شبيهه، فلا شيء مهجورٌ في هذه الدنيا إلا وكان له من يراه كنزًا، ولا ساقطَ إلا وجد من يلتقطه، لا عن جهلٍ أحيانًا، بل لأن النفوس تتآلف على أشكالها، إنما الحكمة هُنا أن نُدرك أن القيمة ليست بما ترغبه الأنفس فحسب، بل بما يزنه العقل وينقّيه من هوى النفس، فليس كل مطلوبٍ مُستحقًا، ولا كل مهجورٍ منكورًا، فاحرص على أن تكون ممّن يلتقط القيم والمبادئ، لا ممّن ينحني لالتقاط ما أسقطته النفوس التافهة .
مثل يحمل في طياته من الحكمة ما يكشف عن طبائع البشر وحقيقة ما يجري في الحياة، ف في الحياة، تجد لكل شيء، مهما بدا في أعين البعض بأنه بلا قيمة، تجد من يرغب فيه ويطلبه، كأن النفوس تسير وفق ما يوافقها من العقول والطبائع، فتنجذب كل ذات إلى شبيهها، ويقع كل ناقص في يد من يُجاريه في النقص، أو يُكمل عجزه بما يشبهه، فالناس في معادنهم كالذهب والحصى، ولكل معدن طالبه، فلا عجب أن ترى من يُعجب بالبالي ويزهد في النفيس، إذ لكل عقلٍ منطقه، ولكل خُلقِ شبيهه، فلا شيء مهجورٌ في هذه الدنيا إلا وكان له من يراه كنزًا، ولا ساقطَ إلا وجد من يلتقطه، لا عن جهلٍ أحيانًا، بل لأن النفوس تتآلف على أشكالها، إنما الحكمة هُنا أن نُدرك أن القيمة ليست بما ترغبه الأنفس فحسب، بل بما يزنه العقل وينقّيه من هوى النفس، فليس كل مطلوبٍ مُستحقًا، ولا كل مهجورٍ منكورًا، فاحرص على أن تكون ممّن يلتقط القيم والمبادئ، لا ممّن ينحني لالتقاط ما أسقطته النفوس التافهة .
ما يُؤلمني أنني كلما كبرت ضاقت الهدايا، كلما كبرت اتسع القلق وانكمشت الأحلام، الكبر يعني أن أقول ما يجب أن يُقال وليس ما أرغب قوله، أن أفعل ما يجب أن يُفعل وليس ما أرغب أن أفعله، كلما كبرت يعني أن يدخل الآخرون حياتي شيئاً فشيئاً، ويقضمون فردانيتها شيئاً فشيئاً .
على أُرجُوحَة الأرض المنفيّة، يتمايل الإنسان الوحيد بِخوفٍ، للحُصول على واقعٍ حَقيقي فَلا يُمسِك غير العَدم .
وقد يغفر المرء، لا عن محبّة ورضا، بل عن زهد العارف بما سينتهي إليه كل هذا .
تَكح بداخلي هِمّة قديمة، تُصدر صخبًا يائس، وتدغدغ بوحشية . . الخيبة في صدري .