مهما بدا لك الأمر ممتلئ بالشجاعة وأنت تتحدث عنه، لا تجعل من أوجاع الآخرين مادة لك، لا تنكأ الجرح بنبرة الواعظ، لا تمزق أفئدتهم مرتين، لا تُطبق نظرياتك على آلامهم، لا تشير بيديك على أخطائهم، لا تتحدث بصوت العارف الذي لا يُخطئ، لا تفع ل ذلك كله، و تعلّم لباقة الصمت وغض الطرف عما يؤلم الآخرين .
أحسست بعينيه تنظران إلي، شعرت كأني أعرفه منذُ الأزل، ولم أفهم كيف أن ارتباطاً وثيقاً حساساً كهذا جمعنا بمثل هذهِ السرعة، في الحياة لحظات نادرة ينفتح خلالها باب لتحصل على لقاء لم تعد تنتظره، لقاء مع الشخص الذي يُكمّلك، ويتقبّلك كما أنت، في شموليتك، ويحس بتقلباتك، ومخاوفك، وغيظك، وغضبك، وشلال الوحل الكالح الذي يسقط فوق رأسك، ويتقبل كل ذلك، و يُهدّئك ويمد إليك بمرآة لا تخشى أن تنظر إلى وجهك فيها، تكفي لحظة واحدة، نظرة واحدة.،لقاء واحد، كي تتغير حياتك، يكفي الشخص المُناسب في اللحظة المُناسبة، يكفي أن تتواطأ النزوة مع الصدفة .
تنهار عليك جدران البيت، ومع ذلك، لو لم يبقى في البيت شيء واقف سوى الباب وحده، فإنّ كل ما عليك فعله هو أن تعبر من خلاله، وها أنت في الداخل مجدّداً .
كل ما أعلمه هو: انه من وقت لآخر تنهض في روحي، بدون أي سبب ظاهر، الموجة المعتمة، ويمتد ظل قاتم على العالم، كظل السحابة، فتغدو المتعة مُزيفة، والموسيقى مُبتذلة، وتشمل الكآبه الأشياء كلها، الموت آنئذ خير من الحياة، وكالنوبة تداهمني هذه السوداوية حيناً بعد حين، دون موعد محدد، وتأخذ شيئاً فشيئاً تحجب سمائي بالغيوم، يبدأ الأمر بإضطراب في القلب، مصحوب بهاجس قلق، وربما ك بأحلام مُزعجة أثناء الليل، الناس، المنازل، الألوان، الأصوات، تلك التي من شأنها بعث المسرة في نفسي تغدو مريبة وتظهر لي زائفة، الموسيقى تسبب لي الصداع، وجبات الطعام تبدو محشوة بسهام خفية، في أوقاتٍ كهذه فإن مُجرد الحديث مع الناس هو نوع من أنواع التعذيب، سرعان ما يؤدي إلى ثورة غضب، بسبب أوقاتٍ كهذه لا يحوز المرء سلاحاً، وللسبب ذاته يفتقد المرء السلاح، ينصبّ الغضب والألم والتذمر على كل شيء .
لا يزال يجد بعض الأمور مُدهشة حتى وإن أصبحت عادةً تتكرّر كل يوم: شعوره بأقدامه على الأرض، شعوره برئتيه تتسعان وتبلعان الهواء الذي يتنفسه، معرفته أنه إذا استمرّ في وضع كلّ قدم أمام الأخرى فسيصل إلى حيث يريد الذهاب، لا يزال يجد الأمر مُدهشًا بعد استيقاظه بقليل في بعض الصباحات، وعندما ينحني لربط خيط حذائه، يشعر بسعادة كثيفة تغمره، سعادة طبيعية جدًا، يحسّ بأنه في وئام مع العالم، بأنه حيّ في الحاضر، الحاضر الذي يُطوّقه ويخترقه بخبرٍ مُبهج، إنهُ حي، و يكتشف في داخله سعادة لا حدّ لها، لا يهم ما إذا كانت سعادة كبيرة حقاً أم لا، فهو يجدها استثنائيّة، وهذا وحده كفيل بأن يُبهجه .
لا أستطيع أن أتعاطى مع الحياة بشُحّ، الحياة المحدودة الباهتة الساكنة لا تناسبني، أجدني حتى في الأيام التي أهبها للراحة التامة، أبحث عن تجربةٍ حسيّةٍ استغرق بها، أفتح كتاب، أخلق نكهة، أشاهد فيلم، أو أُقلّب في الذاكرة، الحياة تعني لي الحب، التجدد، الإمتلاء والإستغراق التام بالمسرّة .
ولكن هيهات، ثمّة أشياء لا يُمكن إخفاؤها، ثمّة دموع واضحة يراها حتى الأعمى وإن لم تنهمر من العيون، ثمّة غصّة في القلب لا بُد أن تظهر مهما حاولنا وأدَها، ثمّة ندوب في الروح لا يُمكن التحايل لإخفائها، ندوب الروح كشمس الظهيرةِ مهما حاولت الغيوم حجبها إلا أن شيئاً منها يتسلل ويُضيء ويقول لك : أنا هنا .
إن الأشياءَ، دوماً مُهدَّدة بالغياب،
وإنني ذاتَ يوم، كنتُ هُنا، في هذا المكان ..
حيثُ لن أكونَ أبداً، مرّةً أُخرى .
وإنني ذاتَ يوم، كنتُ هُنا، في هذا المكان ..
حيثُ لن أكونَ أبداً، مرّةً أُخرى .
عندما توشك السفينة على الغرق، يُفكر المسافر على متنها في قدره الشخصي مُباشرة، ويهمل أمر الآخرين، يُريد أن ينجو بحياته قبل كل شيء، فيقفز إلى قارب النجاة في أول فرصة، وبعد أن يصل إلى الشاطئ، يبدأ بالبحث عن ناس يعيش معهم بقية حياته، لكنهُ للأسف سيفشل لأنه سيبقى مشدوداً بقوة الذاكرة إلى غيرهم، إلى أولئك الذين تطور بينهم تاريخه الروحي، لذلك سيبقى غريبًا إلى الأبد، هل تعرفون جيدًا معنى أن يكون الإنسان غريبًا إلى الأبد؟ أن يتنازل عن اللهجة التي تأسس في داخلها تاريخه الروحي؟ هو أن يمضي بقيّة حياته ضد قوانين هذهِ الروح، لذلك كانت الغربة وفي كل الأزمان هي غربة الروح، نزاع أبدي بين الجسد والروح يُمزق وجوده ويرميه في العاصفة .
مُبعثرين نحنُ، كُل ما فينا مُبعثر، ذواتُنا، عُقولنا، وحتى مشاعِرُنا التي ندّعي بأنها تخصنا وبأننا نستطيع التحكم فيها مُبعثره، نحنُ البحر الذي لا يهدأ ويضرب بكُل حَرقةٍ الساحل الحزين، حتى الساحل لا أمرَ لهُ بما يفعل البحر، نحنُ الشمسُ التي تشتعل بكل ما فيها وبالنهاية لا أحد يحُبها كما القمر، نحن الذين نشتعل حُبًا، خوفًا، غضبًا، شوقًا، رهبةٍ من كُل الأمور، نحنُ الذين يسكُننا القهر، والأسى، والحُزن ولا أحد يُعيرُنا إنتباهه، نحنُ الذين توسدت البعثره حياتهم ويخرجون للناس بكل ترتيب .
أعلم أن الإنسان أحياناً يصل لمرحلة لا يقوى فيها على الحديث، يمنعه تعب، يمنعه بقايا عتب وأحياناً يمنعه لا شيء.. ذاك اللاشيء في حد ذاته تراكمات لأشياء عديدة يكاد ينفجر من فرط كتمانها إلى أن تتحول للاشيء كبيرة، ذاك اللاشيء هو حب انتهى دون حديث، عتاب بقي داخلنا دون حديث، دموع حصرت في أجوافنا دون حديث، واشتياق عصر أحشاءنا دون حديث، تبدأ حياتنا محاولين فهم كل شيء، والحديث في كل شيء، ثم ينتهي بنا المطاف محاولين النجاة من فهمنا، وتحويل الحديث المُعلق في حناجرنا لصمتٍ طويل، لصمتٍ رهيب، صمت إذا ما سُئلنا عن سببه أجبنا : "لا شيء".
لا ترمِ ذاكرتَك في البحر، سيعيدُها الموج، لا تلقها فتاتاً للطيور، ستقتلك غناءً، لا تفكر في محوها أبداً، ستصادفك في كل فراغ، حافظ عليها، على أحزانك، الذين ينسون أحزانهم، يبكون لأشياء لا يعرفونها .
أشعر هذهِ الأيام وكأنني شخت فجأة، وكأنني نمت ليلة البارحة وأنا في منتصف العشرينيات لأستيقظ اليوم في منتصف الثلاثينيات، أشعر وكأنني كبرت عقداً كاملاً في غضون ليلة واحدة .