Telegram Web Link
والنفوسُ مُولَعةٌ بقضاء حوائجها، وإزالة ضروراتها، وتسمع بأن قبر فلان تِريْاق مُجرّب، والشيطان له تلطُّفٌ في الدعوة، فيدعوهم أولًا إلى الدعاء عنده، فيدعو العبدُ عنده بحُرْقَةٍ وانكسار وذِلّة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر، فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرًا في إجابة تلك الدعوة، والله سبحانه يجيب دعوة المضطرِّ ولو كان كافرًا.

ابن القيم | إغاثة اللهفان
وأمَّا التفضيل بينه وبين ‌الاعتمار ‌في ‌رمضان ‌فموضع ‌نظرٍ.
فقد صحَّ عنه أنَّه أمر أمَّ مَعْقِلٍ لمَّا فاتها الحجُّ معه أن تعتمر في رمضان، وأخبرها أنَّ عمرةً في رمضان تعدل حجَّةً، وأيضًا فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضلُ الزَّمان وأفضلُ البقاع.

ولكن لم يكن الله ليختار لنبيِّه في عُمَره إلا أولى الأوقات وأحقَّها بها، فكانت العمرة في أشهر الحجِّ نظيرَ وقوع الحجِّ في أشهره، وهذه الأشهر قد خصَّها الله بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها، والعمرة حجٌّ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحجِّ، وذو القعدة أوسطها.

وهذا ممَّا يُستخار الله فيه، فمن كان عنده فضلُ علمٍ فليرشد إليه.

وقد يقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهمُّ من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمعُ بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخَّر العمرة إلى أشهر الحجِّ، ووفَّر نفسَه على تلك العبادات في رمضان، مع ما في ترك ذلك من الرَّحمة بأمَّته والرَّأفة بهم، فإنَّه لو اعتمر في رمضان لبادرت الأمَّة إلى ذلك، وكان يشقُّ عليها الجمع بين العمرة والصَّوم، وربَّما لا تسمح أكثر النُّفوس بالفطر في هذه العبادة حرصًا على تحصيل العمرة وصوم رمضان، فتحصل المشقَّة، فأخَّرها إلى أشهر الحجِّ.
وقد كان يترك كثيرًا من العمل وهو يحبُّ أن يعمله خشيةَ المشقَّة عليهم. ولمَّا دخل البيت خرج منه حزينًا، فقالت له عائشة في ذلك، فقال: «أخاف أن أكون قد شَقَقْتُ على أمَّتي». وهَمَّ أن ينزِل يستقي مع سُقاة زمزم للحاجِّ، فخاف أن يُغلَب أهلُها على سِقايتهم بعده. والله أعلم.

ابن القيم | زاد المعاد
الخاشعُ لله عبدٌ قد خمدَتْ نيرانُ شهوته، وسكَنَ دخانُها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نورُ العظمة. فماتتْ شهواتُ النفس، للخوف والوقار الذي حُشي به، وخمدت الجوارحُ، وتوقَّر القلب، واطمأنَّ إلى الله وذكره، بالسكينة التي تنزَّلتْ عليه من ربِّه، فصار مخبتًا له.

ابن القيم | كتاب الروح
معرفة الله سبحانه نوعان:
الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر، والمطيع والعاصي.
والثاني: معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة.

ابن القيم | الفوائد
فاتحة الكتاب...الشفاء التام والدواء النافع...ومفتاح الغنى والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرَف مقدارها وأعطاها حقَّها، وأحسن تنزيلها على دائه، وعرَف وجه الاستشفاء والتداوي بها، والسر الذي لأجله كانت كذلك.

ابن القيم | زاد المعاد
حقيق بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ويخلص به من الخسران المبين، وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهُّمه وتدبُّره، واستخراج كنوزه، وإثارة دفائنه، وصرف العناية إليه، والعكوف بالهمة عليه، فإنه الكفيل بمصالح العباد في العباد والمعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد.

ابن القيم | مدارج السالكين
العبدُ من حين استقرَّت قدمُه في هذه الدار فهو مسافرٌ إلى ربِّه، ومدَّة سفره هي عُمره الذي كُتب له.
فالعمر هو مدَّة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربِّه تعالى، ثُمَّ قد جُعلت الأيام والليالي مراحلَ لسفره، فكلُّ يوم وليلة مرحلةٌ من المراحل، فلا يزالُ يطويها مرحلةً بعد مرحلةٍ حتَّى ينتهي السفر.
فالكيّس الفطِن هو الذي يجعل كل مرحلة نُصب عينيه، فيهتم بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطعها جعل الأخرى نُصب عينيه. ولا يطول عليه الأمد، فيقسو قلبه، ويمتد أمله، ويحضره التسويفُ والوعد والتأخير والمَطل؛ بل يعدُّ عمرَه تلك المرحلة الواحدة، فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته.
فإنَّه إذا تيقَّن قِصَرَها وسرعةَ انقضائها هان عليه العمل، وطوَّعت له نفسُه الانقياد إلى التزود؛ فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك.
فلا يزالُ هذا دأبه حتَّى يطوي مراحل عمره كلَّها، فيحمد سعيَه، ويبتهج بما أعدَّه ليوم فاقته وحاجته. فإذا طلع صبح الآخرة، وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذٍ يحمد سُراه، وينجلي عنه كَراه. فما أحسنَ ما يستقبل يومَه، وقد لاحَ صباحُه، واستبانَ فلاحُه!

ثمّ النَّاس في قطع هذه المراحل قسمان:

- فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاءِ، فكلَّما قطعوا مرحلةً منها قرُبوا من تلك الدَّار، وبعُدوا عن ربِّهم وعن دار كرامته.
فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداته، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه، والسعي في إطفاء نوره، وإبطال دعوته - دعوةِ الحق - وإقامة دعوة غيرها.
فهؤلاءِ جُعلت أيَّامهم مراحلَ يسافرون فيها إلى الدار التي خُلقوا لها، واستُعملوا بعملها، فهم مصحوبون فيها بالشياطين المُوكلة بهم حتى يسوقونهم إلى منازلهم سَوقًا، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم/ ٨٣]؛ أي: تزعجهم إلى المعاصي والكفرِ إزعاجًا، وتسوقهم سَوقًا.

- القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى اللَّه وإلى دار السلام.
 وهم ثلاثة أقسام: ظالمٌ لنفسه، ومقتصِد، وسابقٌ بالخيرات بإذن اللَّه.
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرُّجعى إلى اللَّه، ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفسِ السَّير وسرعته وبُطئه.

فالظالم لنفسه مقصِّر في الزاد، غير آخذٍ منه ما يبلّغه المنزل، لا في قَدرِه ولا في صفته؛ بل مفرِّط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوَّده. ومع ذلك فهو متزوِّد ما يتأذَّى به في طريقه، ويجد غِبَّ أذاه إذا وصلَ المنزل بحسَب ما تزود من ذلك المؤذي الضارّ.

والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلِّغه، ولم يشدَّ مع ذلك أحمالَ التجارة الرَّابحة، ولم يتزود ما يضرُّه. فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرَّابحة، وأنواعُ المكاسب الفاخرة.

والسابق بالخيرات همُّه في تحصيل الأرباح، وشدِّ أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل. فيرى خسرانًا أن يدَّخر شيئًا ممَّا بيده، ولا يتجر فيه، فيجدُ ربحَه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم. فهو كرجل قد علم أنَّ أمامه بلدةً يكسب الدرهم فيها عشرةً إلى سبعمئه وأكثر، وعنده حاصل، وله خبرة بطريق ذلك البلد، وخبرة بالتجارة، فهو لو أمكنه بيعُ ثيابه وكلّ ما يملك حتَّى يهيئ به تجارةً إلى ذلك البلد لفعل.
فهكذا حال السابق بالخيرات بإذن ربِّه؛ يرى خسرانًا بيَّنًا أن يمرَّ عليه وقتٌ في غير متجر.

ابن القيم | طريق الهجرتين
تأمَّلْ خطابَ القرآن، تجدْ ملكًا له الملك كلُّه وله الحمدُ كلُّه، أزِمَّةُ الأمور كلِّها بيدَيْه ومصدَرُها منه ومردُّها إليه، مستويًا على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافيةٌ في أقطار مملكتِهِ، عالِمًا بما في نفوس عبيدِهِ، مُطَّلِعًا على إسرارِهِم وعلانِيَتِهِم، منفردًا بتدبير المملكة، يَسمعُ ويَرى، ويُعطِي ويَمنعُ، ويُثيبُ ويعاقِبُ، ويُكْرِمُ ويُهِيْن، ويخلُق ويرزُقُ، ويُميتُ ويُحْيي، ويُقدِّرُ ويَقضي ويُدبِّر، الأمورُ نازلةٌ من عنده دقيقُها وجليلُها وصاعدةٌ إليه، لا تتحرَّكُ ذرَّةٌ إلا بإذِنِه، ولا تسقطُ ورقةٌ إلا بعلمِهِ.

فتأمَّلْ كيف تجِدُهُ يُثْني على نفسِهِ، ويُمجِّد نفسه، ويحمدُ نفسه، وينصِح عباده، ويدُلُّهم على ما فيه سعادتُهم وفلاحُهم، ويُرغِّبُهم فيه، ويُحذِّرُهم مما فيه هلاكُهم، ويتعرَّفُ إليهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ، ويَتحبَّبُ إليهم بنعمِهِ وآلائِهِ؛ فيُذكِّرهم بنعَمِه عليهم ويَأمرهم بما يستوجبون به تمامَها، ويُحذِّرهم من نِقَمِه ويُذكِّرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعدَّ لهم من العقوبة إن عصوهُ، ويُخبِرُهم بصنعِهِ في أوليائِهِ وأعدائِهِ، وكيف كانت عاقبةُ هؤلاءِ وهؤلاءِ.

ويُثني على أوليائِهِ بصالح أعمالِهِم وأحسن أوصافهم، ويذمُّ أعداءه بسيِّئِ أعمالِهِم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، ويُنوِّعُ الأدلة والبراهين، ويُجيب عن شُبه أعدائِهِ أحسنَ الأجوبة، ويُصدِّقُ الصادق، ويكذِّبُ الكاذب، ويقولُ الحقَّ، ويهدي السبيل.

ويدعو إلى دار السلام ويَذكُرُ أوصافها وحُسنها ونعيمها، ويُحذِّرُ من دار البوار ويَذكُرُ عذابها وقبحها وآلامها، ويُذكِّرُ عباده فقرهم إليه وشدَّة حاجتهم إليه من كلِّ وجهٍ، وأنَّهم لا غِنًى لهم عنه طرفةَ عينٍ، ويذكُرُ غِناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغنيُّ بنفسه عن كلِّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه بنفسه، وأنه لا ينالُ أحدٌ ذرَّةً من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرَّة من الشر فما فوقها إلا بعدلِهِ وحكمتِهِ.

ويشهدُ من خطابه عتابَهُ لأحبابهِ ألطفَ عتابٍ، وأنه مع ذلك مُقِيلٌ عثراتهم، وغافرٌ زلَّاتِهم، ومُقيمٌ أعذارهم، ومُصلحٌ فسادهم، والدافع عنهم، والمُحامي عنهُم، والناصرُ لهم، والكفيلُ بمصالحهم، والمُنجي لهم من كلِّ كربٍ، والمُوفِي لهم بوعده، وأنَّه وليُّهم الذي لا وليَّ لَهم سواهُ؛ فهو مولاهم الحقُ، ونَصيرُهم على عدوِّهم؛ فنعم المولى ونعم النصيرُ.

فإذا شَهدتِ القلوبُ من القرآن ملكًا عظيمًا رحيمًا جوادًا جميلًا هذا شأنُهُ، فكيف لا تُحِبُّه، وتُنافِسُ في القُرْب منه، وتُنْفِقُ أنفاسها فيِ التودُّد إليه، ويكون أحبَّ إليها من كل ما سواه، ورضاهُ آثر عندها من رِضى كلِّ ما سواه؟! وكيف لا تلهَجُ بذكْرِهِ، ويصير حبُّه والشوقُ إليه والأُنسُ به هو غذاءها وقُوتَها ودواءَها؛ بحيثُ إن فقدتْ ذلك، فسدتْ وهلكتْ ولم تَنتفعْ بحياتِها؟!

ابن القيم | الفوائد
فالمحروم كلّ المحروم  من عرف طريقًا إليه، ثمَّ أعرضَ عنها؛ أو وجد بارقةً من حبه ثمَّ سُلِبَها، لم ينفذ إلى ربِّه منها، خصوصًا إذا مالَ بتلك الإرادة إلى شيءٍ من اللذات، أو انصرفَ بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى.

ابن القيم | طريق الهجرتين
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
فصل في أحب الكلام إلى الله عز وجل بعد القرآن
ثبت في "صحيح مسلم" عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع، لا يَضُرُّكَ بأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" .
وفي أثرٍ آخر: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وَهُنَّ من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" .
وفي أثر آخر: "أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده" .
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، و سبحان الله العظيم" .
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأَنْ أقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أَحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس" .

ابن القيم | الوابل الصيب
المسكنة التي يحبها اللَّه من عبده ليست مسكنة فقر المال، بل مسكنة القلب وهي انكساره وذله وخشوعه وتواضعه للَّه، وهذه المسكنة لا تُنافي الغِنى ولا يُشترط لها الفقر، فإن انكسار القلب للَّه ومسكنته لعظمته وجلاله وكبريائه وأسمائه وصفاته أفضل وأعلى من مسكنة عدم المال، كما أن صبر القادر الواجد عن معاصي اللَّه طوعًا واختيارًا وخشية من اللَّه ومحبة له أعلى من صبر الفقير العاجز.
وقد آتى اللَّه سبحانه جماعة من أنبيائه ورسله الغنى والملك، ولم يخرجهم ذلك عن المسكنة للَّه.

ابن القيم | عدة الصابرين
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
مَن أُلهِمَ الدعاءَ فقد أريد به الإجابة، فإنّ الله سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}


ابن القيم | الداء والدواء
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
.
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَرَكَهُ مَرَّةً، فَقَضَاهُ فِي شَوَّالٍ.
وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، فَدَاوَمَ عَلَى اعْتِكَافِهِ حَتَّى لَحِقَ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَهُ، فَأَمَرَ بِهِ مَرَّةً، فَضُرِبَ فَأَمَرَ أَزْوَاجُهُ بِأَخْبِيَتِهِنَّ، فَضُرِبَتْ، فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ نَظَرَ فَرَأَى تِلْكَ الْأَخْبِيَةَ، فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ.

وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ سَنَةٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ
عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ.
وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبَّتَهُ وَحْدَهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَهُ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى بَيْتِ عائشة، فَتُرَجِّلُهُ، وَتَغْسِلُهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ، وَكَانَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ. فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، وَلَمْ يُبَاشِرِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ، وَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ مَرَّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَا يَعْرُجْ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ. وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، وَجَعَلَ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرًا، كُلُّ هَذَا تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِاعْتِكَافِ وَرُوحِهِ، عَكْسُ مَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمُعْتَكَفِ مَوْضِعَ عِشْرَةٍ وَمَجْلَبَةٍ لِلزَّائِرِينَ، وَأَخْذِهِمْ بِأَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَهُمْ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَالِاعْتِكَافُ النَّبَوِيُّ لَوْنٌ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.


ابن القيم | زاد المعاد
.
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
فصل في هديه ﷺ في الاعتكاف.pdf
557.8 KB
"المقصود من الاعتكاف: عكوف القلب على الله تعالى، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، ويصير الهم كله به".

ابن القيم | زاد المعاد
قاعدة قد أشرنا إليها مرارًا، وهي: أن مِن دعاءِ الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله متوسل إليه به، فإذا قال: "ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ إِنك أنت التواب الغفور"، فقد سأله أمرين، وتوسَّل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه، وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة -رضي الله عنها- وقد سألته ما تدعو به إن وأفقت ليلة القدر؛ "قولي: اللهم إنَّك عَفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عني" ، وكذلك قوله للصديق -رضي الله عنه- وقد سأله أن يعلِّمه دعاءً يدعو به: "اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا وإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ فاغفرْ لى مغفرةً من عندكَ وارحمني إنَّك أنتَ الغفورُ الرَّحيم" ..

ابن القيم | بدائع الفوائد
قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥]، ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٥٩]
فاسْتَوى عَلى عَرشِهِ بِاسمِ الرَّحمَنِ، لِأنَّ العَرشَ مُحِيطٌ بِالمَخلُوقاتِ قَد وسِعَها،
والرَّحمَةُ مُحِيطَةٌ بِالخَلقِ واسِعَةٌ لَهُم،
كَما قالَ تَعالى ﴿وَرَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦]
فاستَوى عَلى أوسَعِ المَخلُوقاتِ بِأوْسَعِ الصِّفاتِ، فلذلك وسِعَتْ رَحمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ..

ابن القيم
2024/05/29 12:44:03
Back to Top
HTML Embed Code: