Telegram Web Link
حرب غزة يوميات ومشاهدات [٥٩]
(واجعلوا بيوتكم قبلة)
كنا نتمنى أن تدخل علينا العشر ونحن في حال أحسن من هذه الحال، ولا يقدِّر الله لعباده إلا الخير.
من مشاهد التوحيد والإيمان في هذه الحرب مشهد القدرة وتقليب الأحوال: يسرا وعسرا، ونعيما وبؤسا، وحربا وسلما... إلخ.
الإخوة من أول أيام رمضان يسألون عن الاعتكاف ويخططون له ويرتبون، وما كان أحد يظن أن الحرب تعود من جديد، وتعود المساجد إلى سابق عهدها أسيفة على خلوها من الراكعين الساجدين العاكفين.
والموفَّق الحازم لا يَعوقه عن طاعة ربه شيء، ولا يتقيد برسم دون رسم، ويستعين اللهَ في أحواله كلها.
وأجل موارد الاستعانة: أن يستعين العبد بربه على طاعته وعبادته، ففي فاتحة الكتاب: (إياك نعبد وإياك نستعين) فجعل العبادة قرينةَ الاستعانة، وفي التنزيل: (فاعبده وتوكل عليه)، (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا).
فيا أهلنا في غزة، إنْ حيل بينكم وبين المساجد فاجعلوا بيكم قبلة، وجِدوا واجتهدوا في طاعة ربكم، واعلموا أن العبادة والضراعة والإنابة مع الأخذ بالأسباب من أعظم أسباب تفريج الكروب.
وأنصح أهل كل بيت أن يجتمعوا على من يؤمهم في القيام إن استطاعوا، فإن القيام مع الجماعة يُعان فيه المرء، ومَن قَوي على القيام وحده فهذا صنيع جماعة من السلف كانوا يعتزلون الناس ويصلون في بيوتهم، جاء ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر والقاسم وسالم وعروة وربيعة ومالك في ٱخرين.
وأنصح بختمة في قيام العشر، فإنه أعون على الجد، وأعظم في الأجر.
ولا تشقُّوا على النساء والصغار والكبار بطول القراءة والقيام، واسلكوا سبيل من سلف بالزيادة في الركعات وتقليل المقروء ليعان الضَّعَفة على العبادة، وقد أجمع أهل العلم على أن صلاة الليل ليس لها حد ولا عدد معين، فصلوا ما شئتم، وأقبلوا بقلوبكم على ربكم، وجاهدوا أنفسكم في الخشوع والضراعة فإن ذلك مقصود العبادة.
وهذه فرصة عظيمة للعبادة مع الأهل، ومتابعتهم وترغيبهم وتشجيعهم، فإن كثيرا منا مقصرون في ذلك.
إخواني الأحبة، أرُوا الله في هذه الليالي من أنفسكم خيرا، وتعرضوا فيها لنفحاته ورحماته، فإنها أفضل ليالي السنة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم، ولا يحرم خيرَها إلا محروم.
وأمِّلوا وأبشروا، فوالله لتُخْلَفُن بالسلامة والعافية، وليجزينكم الله أعظم الجزاء إن صبرتم واتقيتم، ولتصيرَن أيامكم هذه من أحاديث المجالس والذكريات.
اللهم فرجا قريبا عاجلا يا أرحم الراحمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أبرم لنا إبراما رشيدا يعَز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، ويحكم فيه بشرعك.
بسام بن خليل الصفدي
الخميس ٢٠ رمضان ١٤٤٦
https://www.tg-me.com/DBasam
بما أن الاعتكاف في مساجد قطاعنا الحبيب أصبح متعذرًا (لا يمكن الإتيان به أصلًا) أو متعسرًا (يمكن الإتيان به بمشقة شديدة)، فكيف يمكن أن نحيي هذه السُّنة في ظل هذه الظروف؟

يبين ابن القيم في كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" مقصود الاعتكاف الأعظم، فيقول: "وشرع لهم الاعتكاف، الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الانشغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره، وحبه، والإقبال عليه من هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، فيصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكير في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله، بدلاً من أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه".

وحينئذ، إذا تعذرت أو تعسرت الوسيلة الأصلية لتحقيق هذا المقصد، فالسبيل يكمن في الانتقال إلى وسائل بديلة تعمل على تحقيقه. وهذه الوسائل البديلة تقوم على فكرة القيام بأعمال الاعتكاف خارج المسجد، تحقيقًا لمقاصد الاعتكاف ما أمكن.

وتتمثل أعمال الاعتكاف في التفرغ لطاعة الله، والاشتغال بذكره ودعائه، والانقطاع عن الناس إن لم يحتاجوك لأمر ضروري –خاصة في مثل هذه الظروف– وتلاوة القرآن، والإكثار من النوافل، وتجنب ما لا يعنيك من أحاديث الدنيا قدر المستطاع، ولا بأس بقليل من الحديث المباح مع الأهل وغيرهم لمصلحة، ومعاشرة جلسائك بالمعروف، كما لو كانوا رفقاءك في المعتكَف؛ فإن ما لا يُدرك كله، لا يُترك جُلّه، والميسور لا يسقط بالمعسور.

وإني لأدرك –وأنا شاهد على معاناة الحياة الرهيبة– أن تحقيق هذا القدر ليس سهلًا، خاصة مع الضرورة الملحة للسعي في قضاء حوائج الناس، وهي من أعظم الواجبات في هذا الوقت، والانشغال بتفاصيل الحياة اليومية: من تعبئة المياه، وتوفير الطعام الذي يوشك على النفاد من الأسواق، وشحن البطاريات لإضاءة اللِّدَّات (LEDs = Light Emitting Diodes)، وجمع الخشب والكراتين لطهي الطعام، وغيرها من وجوه المعاناة التي لا تنتهي.

وفوق هذا كله، يُعدّ المرء محظوظًا إن لم يُجبَر على النزوح من مكان إقامته، أو لم تهدده أوامر العدو بالإخلاء. ثم تأتي قسوة الظروف داخل الخيام، حيث تتكدس العائلة كلها في خيمة واحدة، ويشتد الشحّ في المصاحف، حتى إن عدة خيام لا تكاد تجد مصحفًا، ومن لم يكن حافظًا وأراد ختم القرآن في العشر الأواخر، سيُعْيِيه حتى توفير إضاءة بسيطة أو شحن هاتفه.

فَأْوُوا إِلَى طاعة ربكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا. والمأمول من الرب الكريم أن يكتب لنا أجر الاعتكاف وأن يرزقنا بركاته وآثاره التربوية.
هذه موعظة قديمة في إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، وقد جاءت عابرة ثم استفدت من فكرتها في أحد مواضع كتاب (فقه الاستدراك).
نحن في زمن جلد الكافر والفاجر وعجز الثقة، زمن تقلُّبِ الذين كفروا في البلاد، وأمام غلبة الباطل وبطشه وخضوع الأمة لعدوها في احتلالٍ غير مباشر فلا عمل لنا إلا الثبات والجَلَد والصبر، {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا}، {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.
بانتظارنا أيام ثقال في معركة تطول، لكن البشر مهما اشتد بطشهم فليسوا سوى أدوات في تنفيذ القدر، وعسى الله أن يجعل غزة اليد التي تتغير بها المعادلات في المنطقة فتذل أنظمةٌ بعد علو، وتنفتح للأمة آفاق بعد انغلاق، وليس البكاء -والله- على من قضى نَحبَه وهو في طريقه إلى الله يعمل لم يبدل ولم يغير؛ وإنما على من تهاون وخذل وقصَّر.

فوطِّنوا أنفسكم على الثبات والصبر والجَلَد، واستعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
أيام العشر الأواخر أيام مغفرةٍ ورحمةٍ وعفوٍ وبركةٍ وفضل، وأنى كان حالك فالله يقبلك ويوفقك ويفتح لك الأبواب، فاترك صخب الدنيا وما يشتتك وأجِّلْ كلَّ أو جُلَّ ما يشغلك، واجمع شتات قلبك وارصد أهم حوائجك وطموحاتك واطرق باب ربك في قيام كل ليلة؛ فإنَّ الربَّ كريم وفضله لا ينقطع.
إذا ضاقت نفسك وشعرت أن الله لن يقبلك فتذكر أنه أنزل في حق من أذنب بكبيرةٍ قوله سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وأنه خاطب مُسرِفِي هذه الأمة بقوله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وهذا خطابه للمسرف فكيف بمن دونه!
جاء العيد وغزة بخير، فلا زالت القطعة من الأُمَّةِ بخيرٍ ما دامت تحمل سلاحها وتقاتل عدوها وإن كان ميزان القوة لصالح العدو، وإن تكاليف المدافعة والإباء أيسر من تكاليف الاستسلام والانحناء فضلًا عن التدجين والاحتواء.

تقبل الله مني ومنكم، وكل عام وأنتم بخير.
بدخول العيد ينفتح باب الذكريات مع الشهداء، وبهذا تنفجر جروحٌ كانت نائمة، وتخرج زفراتٌ كانت كامنة.

ومع اشتداد ألم الفراق لا سيما لكثرة الأحبة الذين رحلوا إلى الله فإنَّ مما يواسي الإنسان ذلك المعنى الذي وجدت القرآن يُثبِّت به القلوب ويسكب به على النفوس برد السكينة والطمأنينة، وهو وإن كان معروفًا ولم يكن محصورًا بالشهداء إلا أن إبرازه في آيات الجهاد والاستشهاد أو في سياق الحديث عن المعارك يعطيه تأثيرًا زائدًا في وقت الحروب يُقيت الإنسان وقت الحاجة لشدة ما يعرض على القلب من ألم الفراق.

هذا المعنى هو أن الله يخبرنا في جملةٍ من المواضع أن الشهيد وكذا غيره لم يترك أهله لمكانٍ مجهول ومصيرٍ مجهول؛ بل إنه انتقل من المقام عند أهله إلى المقام عند ربه على ما هو عليه من السَّعد والأنس والرزق الحسن، فهو الآن عند الله، فليس الذي صار إليه هو المآل المخيف الذي تذهب عليه النفس حسرات؛ بل إنه عند الله الولي الحميد الرحمن الرحيم الرؤوف الودود الكريم.

اقرأ هذا المعنى في هذه الآيات:
{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]
{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158]
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55].

وقد أبرز النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى يوم مؤتة حين أخبر الصحابة باستشهاد القادة الثلاثة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وقال وعيناه تذرفان: "ما يسرهم أنهم عندنا".

فلو لم يقضوا نَحبَهم في المعركة لبقوا في الحياة عند نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا ألذ في الدنيا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم الآن عند ربهم!

بل تجاوزت آية آل عمران ذلك حين ذكرت أن الشهداء مُعتنون بأخبار من خلفهم ممن لم يلحق بهم كما قال سبحانه: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170]، فهم يُسرَّون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، فهم الآن عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله.

فيما من فقدت أحدًا ترجو أن يبقى عندك اعقل هذه البشرى من ربك.
"من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر" أي السنة كما عند مسلم، وذلك أن صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام الستة من شوال بشهرين.

ويذكر الشافعية أنَّ المراد كصيامها فرضًا فيأخذ الصائم لها أجر الصيام الواجب، وإلا فلا خصوصية لكون الصوم في شوال لأنَّ الحسنة بعشر أمثالها في شوال وغيره.

وأخذ بعض الفقهاء من قوله: "أتبعه" أن الأفضل صيامها متتابعةً متصلةً بيوم العيد، وإن كان يَصدُقُ على من صامها جوف الشهر أو فرَّقها في جميعه أنه أتبع رمضان بصيام ستة من شوال.
رسالةٌ إلى أخي النازح:
 
يا أخي:
إني لأعلم أن خبر النزوح يُمكن أن يُمثِّل صدمةً مُروِّعة؛ فأي بيتٍ هذا الذي سيُنقل في عربةٍ صغيرة خاصة مع احتمال هدم البيت وهلاك ما يبقى فيه!
 
وكيف يمكن للإنسان في ظل انعدام المواد أو شُحِّها الشديد أو غلائها المرعب أن يُرتِّب لنفسه مكانًا يتدبر فيه أساسيات العيش من مثل الخيمة والمطبخ والفراش والملابس وبرميل الماء وبيت الخلاء وغير ذلك من المطالب الضرورية؟!
 
إنه ليقع لي أنَّ وَقْعَ خبر النزوح على الشخص يمكن أن يكون أشدَّ من وقع خبر هدم البيت نفسه، بل يمكن أن يكون أشد من وقع خبر استشهاد إنسان قريب، وإذا كان الأمر كذلك أو قريبًا منه أدركت سِرَّ قَرْنِ القرآن الكريم للإخراج من الديار بجريمة سفك الدم في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
 
إنَّ النزوح لونٌ من ألوان الإخراج من الدِّيار، وقد استحق أن يُذكَر مُستقلًّا في الصفقة المعقودة بين العبد وربه الواردة في خواتيم سورة آل عمران وذلك في قوله سبحانه: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
 
ثم إنَّ الشِّدَّةَ واللأواء لا تقف عند ذات الإخراج من الدِّيار؛ بل تبدأ سيول الأزمات من الساعة الأولى لقرار الانتقال المفاجئ؛ إذ لا وقود ولا مواصلات متاحة في البلد، وما يتيسر من العربات هو بأثمانٍ باهظةٍ في ظلِّ انعدام الأساسيات، حتى إنَّ تكلفة المواصلة الواحدة في المسافة المحدودة لتدنو أو تزيد عن راتب شهرين أو يزيد!
 
وهذا بافتراض أنَّ النازح موظفٌ في الأصل ويتقاضى راتبًا أو بعض راتب، فكيف لو كان لا يجد ذلك! ثم إنَّه لو كان يتقاضى راتبًا فإنَّ ما يستلمه من أوراقٍ ماليةٍ لا تُقبل في السوق في الغالب لغلبة الرداءة على الورق الموجود خاصة مع سحب العدو لكثيرٍ كثيرٍ من الورق الجيد من السوق عبر طرائق شتى.
 
ثم هذا كله بافتراض معلومية الجهة التي يريد الذهاب إليها، والواقع أنَّ معظم الناس لا يمتلكون أراضي في مناطق النزوح، ومن له صديق يمتلك قطعة أرض فهناك أمم من الناس تأوي إليه، وقد لا يتيسر ذلك إلا بالأجرة بأثمان مرتفعة، ولهذا ربما خرج الشخص هائمًا على وجهه يفترش الطرقات يومين أو ثلاثة حتى يتدبر أمره.
 
وهذا كله في الشخص العادي، ولك أن تتخيل الحال في المجاهد أو من كان في مظنة الاستهداف والناس يتهيبون من استقباله لشدة بطش العدو بالتوسع والإفراط في القصف، وإذا كان المجاهد مرابطًا بإحدى العُقَدِ القتالية فلك أن تتخيل مقدار اشتغاله بتدبر أمر أهله إذا كان هو ولي أمرهم ولم يترك سوى أمه وزوجته وأطفاله الصغار مثلًا.
 
هنا تتصاغر الدنيا أمام الإنسان.
 
وإنه بعد أن يصل النازح إلى مكانه فأمامه قائمة ابتلاءات جديدة من مثل طريقة تدبر الماء والوقوف على الطوابير ومعاناة الحر في الصيف والبرد في الشتاء والأتربة التي تملأ الخيام والفئران التي تفسد الأمتعة وغير ذلك.
 
وأمام هذه السيول الكثيفة من الأزمات والابتلاءات فإنَّ من أعظم ما يُخَفِّفُها عن الإنسان ويُهَوِّنُها لديه أن يحتسبها في سبيل الله عزَّ وجل، وأن يستحضر أنها تجري على يد ألد أعداء الله الذين عادوا الله ورسله وقتلوا كثيرًا من الأنبياء في خضم المدافعة القائمة بيننا وبينهم، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن كثيرٍ من الأنبياء والصالحين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، فلسنا اليوم بِدعًا من الأمم.
 
وإنَّ مما يُواسِي الإنسان ما حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّ الرجل الصالح الذي تُسَدُّ به الثغور ويتقى به المكاره يمكن أن تشتد حالته حتى إنه ليَقضي نَحْبَه وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: هل تَدْرُون أَوَّلَ من يَدخُلُ الجَنَّةَ من خلق الله؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: أَوَّلُ من يَدْخُلُ الجنة من خَلقِ الله الفقراءُ والمهاجرون الذين تُسَدُّ بهم الثغور ويُتَّقَى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم.
فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنُسَلِّمَ عليهم؟!
قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدوني لا يشركون بي شيئًا وتُسَدُّ بهم الثغور ويُتَّقَى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً.
قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب: سلامٌ عليكم بما صبرتم فنِعْمَ عُقبَى الدار" صححه الألباني وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده جيد.

فإن قلت: إنَّ ما يقدره الله من الابتلاء في النفس والمال والبدن أمره هين، أما ما يجده الإنسان من الناس من ظلمٍ واستغلال قبيح فيشتد على النفس كل شدة فأقول: هذا صحيح، ومع ذلك فإنَّ هذا داخلٌ فيما يقدره الله على العباد من الابتلاء كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].

فيا أيها النازح: اصبر وصابر واصطبر فإنك يا أخي على الحق، وإنك تعامل ربًّا كريمًا لا يضيع عنده مثقال ذرة، وإنَّ الله عظيم يستحق أن تصبر في سبيله، وإن الله جاعلٌ لك بعد ذلك فرجًا ومخرجًا بإذنه تعالى وفضله، فيذهب التعب ويبقى الأجر، وبهذا تُصنَع في الميدان، والله ولي المتقين.

اللهم فرجًا قريبًا.
اللهم ائذن للحرب أن تضع أوزارها.
اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
يتقدم العدو ناحية أحياء مدينة غزة بقصف بركاني مجنون يريد محو معالم غزة إلى الأبد وتهجير سكانها وإعادة احتلالها، والذي أقوله حسن ظن بالله:
 
لقد فات القطار على إسرائيل، وإنه وإن نجح في أكثر ما يريد جزئيًّا إلا أن الاستئصال الكلي للبلد أمرٌ قد ولَّى وانتهى، والذي ثبَّتنا في كل مرة سيثبتنا هذه المرة، والذي فتح على مجاهدينا في كل جولة سيفتح عليهم في هذه الجولة.
 
فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
ما زال العدو يبحث عن النصر المُطلق ويتوهم كلمة السر في شيءٍ ما ويخيب ظنه في كلِّ مرة:

- فضخَّم أولًا من شأن دخول رفح وأنه هو الذي يحسم القطاع ويأتي بالنصر المطلق.
- ثم توهَّمه في اغتيال بعض كبار القادة.
- ثم توهمه في اغتيال كبار القيادات الحكومية وما وازاها من القيادات الحركية الدعوية.
- ثم توهمه في تشكيل أجسام وكيلة عنه من داخل البلد.
- والآن يتوهمه في محو مدينة غزة وسحق ما فيها وإخراج من فيها.

عقليةٌ جامدةٌ قاصرة ذات موازين مادية لا تُحسن النظر والتقدير فتتجه للسَّحق والتدمير، وفات العدو أن قوتنا ليست منحصرة في البيوت والعمران والقادة؛ بل إن مركز الثقل فيها مرده صلابة العقيدة وحسن الظن بالله والتوكل عليه والثقة به والنَّفسية المطمئنة التي تواجه تكاليف المدافعة بسَكِينةٍ وهدوءٍ وعِنادٍ وجَلَد، وهذه المراكز من القوة لا تصل إليها الصواريخ ولا تضبطها المجسَّات ولا يتسلط عليها الحصار والجوع، والله ذو الفضل العظيم.
غزة اليوم حُجَّةٌ من حُجَج الله تعالى في أرضه التي تقرر مركزية مدافعة الأعداء وفضلها وتشهد بأنَّ مقاومة النظام العالمي رغم غطرسته وبطشه الذي لا يقف عند حدٍّ أمرٌ ممكن، وأنَّ العدو لا يُجدِي معه أي لغة من سِلميَّةٍ أو دبلوماسيةٍ أو قوانين دولية وما إلى ذلك، إنما هو السَّيفُ فقط.

وإنه لولا ما يسَّره الله تعالى لأهل البلد من حمل السيف والثبات في الميدان في جَلَد أسطوري عظيم لكُنَّا من شهورٍ عديدةٍ مديدةٍ على مصيرٍ لا يختلف كثيرًا عن مصير السكان الأصليين للقارة الأمريكية المدموغين زورًا وبُهتانًا بخاتم (الهنود الحُمُر) والذين يزيدون عن أربع مائة أمةٍ وشعب.
ما نراه اليوم من سلوك العدو في غزة وما رأيناه خلال الحرب على امتداد سنتين طويلتين صورةٌ دقيقةٌ للعلو الكبير لبني إسرائيل الذي أخبرنا الله في صدر سورة الإسراء عن وقوعه، ولك أن تتخيل أن ربنا الكبير المتعال هو الذي وصف العلو بأنه كبير.
 
ولو أن مُفسِّرًا جاء يُفسِّر الآيات اليوم لجعل من وجوه هذا العلو ذلك المستوى العملاق في التقدم التقني والترصد والتتبع عبر البصمة الصوتية والمجَسَّات وتفعيل مايكرفون الهاتف ليُسمع من في المحيط مع فلترة الأصوات التي تُميِّز الشخص المستهدف وغير ذلك كثير خاصة على صعيد الطيران وأنواعه وفي المقدمة طائرة الكواد كابتر التي تتجول في الأجواء وتدخل البيوت وتقف على النوافذ وتطلق النار وتكلم من في المكان عبر سماعةٍ خاصة وغير ذلك مما يطول وصفه وتتبعه.
 
ومع ذلك فالقرآن الذي يخبرنا بالعلو الكبير لبني إسرائيل يخبرنا في نفس المقطع بقانون المدافعة، والعجيب الملفت أن فارق القوة وإن كان لصالح العدو إلا أنَّ الآيات نفسها تخبرنا عن نهاية بني إسرائيل وهزيمتهم بعد العلو الكبير الذي يصلون إليه مرتين وأغلب الظن أن العلو القائم هو العلو الثاني.
 
ولهذا فما نراه اليوم من العلو الذي لا يكاد يُتَصَوَّرُ عُلُوٌّ فوقه للكيان الصهيوني من تحكمهم بكثيرٍ من مفاصل النظام الدولي وتحصلهم على الدعم الذي لا يكاد يقف عند حد وما نراه كذلك من الثبات الأسطوري لأهل البلد وفي طليعتهم السادة المجاهدون هو مما تخبر الآيات بحصوله، وقد منَّ الله علينا أن كنا شهودًا عليه، ولسوف يأتي وعد الله بعز عزيزٍ أو بذل ذليل.
فطوبى لأهل غزة ما منَّ الله بهم عليه وهداهم إليه.
 
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
حين بدأ العدو هجومه الكاسح في الشهر الثالث من المعركة ونزل بكثافة نارية مجنونة لا تكاد قوة تقف أمامها بدأت حالة تسري بين كثيرٍ من أنصار المقاومة تتلخص في التوجس من قدرة المقاومة على المواصلة في ظل الزلزلة الهائلة القائمة، واليوم بعد سنتين بات الناس لا يسألون عن هذا قط لما رأوا من آيات الله وفضله في تثبيت عباده، وبما أظهره المجاهدون من قوة بأس وحسن إعداد وصلابة مقاومة، والله هو الولي الحميد.
لم تستطع شعوب الأمة على مدار سنتين طويلتين أن تكسر القيد عن أهل بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى، وقد بات متضحًا لكلِّ ذي عينين أن الأمة محتلة، وأن الأنظمة الحاكمة وكيلة عن العدو وهو ما يُوجب إعادة رسم ملامح (فقه المدافعة) لتدخل الأمة المعركة من غير تلكؤ، وقد بنى كثيرٌ من المسلمين أحكامهم وتصوراتهم بناءً على أنَّ قادة الأمة ولاة أمر شرعيون ولكن المعركة كشفت أن أكثرهم خلفاء عن الاستعمار لا خلفاء عن النبي عليه الصلاة والسلام.
إن عقلية العدو الصهيوني تجعل خيارات المواجهة محصورةً في أمرين لا وسط بينهما: إما الثبات التام وإما الاستسلام التام، بخلاف عقلية الولايات المتحدة وبريطانيا مثلًا التي تقبل مرحليًّا بأنصاف الحلول، وقد بتنا في جوف المعركة وليس إلا الثبات والعزيمة وإلا فهو عار الاستسلام والهزيمة.
 
فاستمسكوا بالحق واثبتوا عليه وأحسنوا الظن بربكم، وحذار من السخط والشكوى فإنَّ المشاعر من رضا وسخط لا تُغيِّر من الأقدار شيئًا.
2025/10/21 20:30:11
Back to Top
HTML Embed Code: