Telegram Web Link
أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ ، ﴿وَيَوْمَ ‌نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ .
وَيُحْشَرُ أَهْلُ الْكُفْرِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى الشَّرِّ، كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ وَلِيِّهِ؛ ﴿وَيَوْمَ ‌يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ .
وَالْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرَانِ؛ حَشْرٌ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْحِسَابِ، وَحَشْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ؛ ﴿يَوْمَ ‌نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ .
وَأَهْلُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ تَمُرُّ بِهِمْ أَحْوَالٌ فِي الْحَشْرِ تسوؤهم؛ فَفِي حَالٍ يُحْشَرُونَ بَعْدَ أَخْذِ حَوَاسِّهِمْ أَوْ بَعْضِهَا؛ فَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَنْطِقُونَ، وَمَا أَشَدَّ فَقْدَ الْحَوَاسِّ فِي مَوَاضِعِ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا ‌وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ ، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‌أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ ، فَمَنْ عَمِيَ عَنْ هُدَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جُوزِيَ بِالْحَشْرِ أَعْمَى؛ ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ ‌أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ ‌أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ، يُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَمَا أَشَدَّهُ مِنْ عَذَابٍ! ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى ‌وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ، وَقَالَ رَجُلٌ: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: « أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ ‌يُمْشِيَهُ ‌عَلَى ‌وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى ‌وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ ‌تُحْشَرُونَ﴾.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُؤَكِّدُ عَلَى حَشْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِئَلَّا يَغْفُلَ الْمُؤْمِنُ عَنْ تَذَكُّرِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرٌ كَثِيرٌ بِهِ، مَعَ قَرْنِ هَذَا التَّذْكِيرِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى؛ لِأَنَّ التَّقْوَى سَبِيلُ النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ؛ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ ‌تُحْشَرُونَ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ ‌تُحْشَرُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ:96]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ
‌يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ ‌تُحْشَرُونَ﴾ .
وَمِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ: الِاجْتِهَادُ فِي الطَّاعَاتِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْحَذَرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَفِرَّ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَلْجَأْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَنْ يَرْجُوَ نَجَاةً إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ؛ وَذَلِكَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «حُجُّوا حَجَّةً لِعِظَامِ الْأُمُورِ، صُومُوا يَوْمًا ‌شَدِيدًا ‌حَرُّهُ لِطُولِ النُّشُورِ، صَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ لِوَحْشَةِ الْقُبُورِ، كَلِمَةُ خَيْرٍ تَقُولُهَا، أَوْ كَلِمَةُ سُوءٍ تَسْكُتُ عَنْهَا لِوُقُوفِ يَوْمٍ عَظِيمٍ».
وَمِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْحَشْرِ: التَّخَلُّصُ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَإِيفَاءُ الْحُقُوقِ لِلنَّاسِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الظُّلْمِ كُلِّهِ؛ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُقُّ وَالِدَيْهِ وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْطَعُ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سَيِّءَ الْعِشْرَةِ لِزَوْجِهِ وَوَلَدِهِ وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَظْلِمُ النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ أَوْ يَغْتَابُهُمْ أَوْ يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَضِيعُ؛ فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ وَرَاءَهُ حَشْرًا وَحِسَابًا، وَأُنَاسًا يُرِيدُونَ حُقُوقَهُمْ؛ أَدَّاهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ حَسَنَاتِهِ يَوْمَ حَشْرِهِ؛ ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ‌أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ .
أيها المسلمون : صّلُوا وسَلِّمُوا -رعاكم اللهُ- على محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ رسولِ اللهِ ، أحسنِ الناسِ خُلُقَاً ، وأعظمِهم أدباً ، كما أمَرَكم اللهُ بذلك في كتابِه فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ ، وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «مَنْ صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا» ، اللهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ ، كما صَلَّيْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ ، وباركْ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ كما باركْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ ، وارضَ اللهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدين الأئِمَّةِ المهديينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وارضَ اللهُمَّ عن الصحابةِ أجمعين وعن التابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعَنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وإحسانِك يا أكرمَ الأكرمينَ . اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركينَ ، ودمِّر أعداءَ الدينِ ، واحمِ حوزةَ الدينِ يا ربَّ العالمينَ ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلحْ أَئِمَّتَنَا وولاةَ أمورِنا ، واجعلْ وُلَايَتَنا فيمنْ خافَك واتَّقاك واتَّبعَ رضاك يا ربَّ العالمينَ ، اللهُمَّ وَفِّقْ وليَّ أمرِنا لهداكَ ، واجعلْ عَمَلَه في رضاكَ ، وارزقْه البطانَةَ الناصحَةَ الصالحةَ ، ووفِّقْ جميعَ ولاةِ المسلمين لما تحبُّ وترضى .
اللهُمَّ آتِ نفوسَنا تقواها ، وزَكِّها أنت خيرُ مَنْ زكَّاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهُمَّ أصلحْ ذات بينِنِا ، وألِّفْ بين قلوبِنا ، واهدِنا سُبُلَ السلامِ ، وأخرجْنا من الظلماتِ إلى النورِ ، وباركْ لنا في أسماعِنا وأبصارِنا وأزواجِنا وذرِّيّاتِنا ، واجعلْنا مبارَكين أينما كُنَّا ، اللهُمَّ أصلحْ لنا شأنَنَا كلَّه يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللهُمَّ اغفرْ لنا ذنبَنَا كلَّه دِقَّه وجِلَّه أوَّله وآخرَه ، سِرَّه وعَلَنَه ، اللهُمَّ اغفرْ لنا ولوالدِينا وللمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنَةً وفي الآخِرَةِ حسَنَةً وقِنا عذابَ النارِ . وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على عبدِ اللهِ ورسولِه نبيَّنا محمَّدٍ وآلِه وصحبِه أجمعين .
الإسرافُ والتَّبْذير
الخطبة الأولى
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعدُ: عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ تعالى، ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أنَّ تقوى اللهِ تعالى لا تَتِمُّ للعبدِ إلا بالأخذِ بمكارِمِ هذه الشَّريعةِ وفضائلِها علمًا، وامتثالِها في الحياةِ واقعاً وعَمَلاً.
أيها المؤمنون : إنَّ من فضلِ اللهِ تعالى علينا أن شرَعَ لنا ديناً قيماً، وجعلنا بينَ الأُممِ أمَّةً وَسَطاً، وَسَطاً في الأحكامِ والشرائعِ، ووَسَطاً في الآدابِ والفضائلِ، فالحمدُ للهِ على ذلك كثيراً كثيراً، وشكرا ًله بكرةً وأصيلاً.
أيها المؤمنون : إنَّ من معالمِ تلك الوسطيةِ المباركةِ ما ذَكَره اللهُ تعالى في كتابِه عند ذكرِ صفاتِ أحبابِه، والخُلَّصِ من عبادِه، قال تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ ؛ أي: كانُوا في نفقاتِهم الواجبةِ والمستحبةِ على العدلِ والوسَطِ، لا وكْسَ ولا شطَطَ . فعِبادُ الرحمنِ هُمُ الحكماءُ العدولُ في نفقاتِهم، لا يتجاوزون ما حدَّه اللهُ وشرعَه، ولا يُقَصِّرون عما أمَرَ به وفرضَه.
أيها المؤمنونَ : إنَّ الناظِرَ في أحوالِ كثيرٍ من الناسِ اليومَ يرى ويشهدُ غيابَ هذه الخَصْلةِ عن جوانبَ عديدةٍ من حياةِ الناسِ، فكمْ همُ الذين تورَّطوا في الإسرافِ والتبذيرِ في جميعِ الشؤونِ والأمورِ، إسرافٌ في المآكلِ والمشاربِ، إسرافٌ في الملابسِ والمراكبِ، إسرافٌ في الشهواتِ والملذَّاتِ.
أيها المؤمنونَ : إنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- قدْ نَهى عن الإسرافِ والتبذيرِ في آياتٍ كثيرةٍ، فقالَ تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، وقالَ جلَّ ذكرُه: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}، وقال سبحانه: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.
وقد نهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الإسرافِ في الأمرِ كُلِّه، فنهى عن الإسرافِ في المآكلِ والمشاربِ والألبسةِ، بل ونهى عن الإسرافِ في الصَّدَقاتِ، فقال صلَّى الله عليه وسلم في حديثِ عمروِ بنِ شُعيبٍ عن أبيه عن جَدِّه: «كُلوا واشربُوا وتَصدَّقوا والبسُوا منْ غيرِ سَرَفٍ ولا مَخِيلةٍ»، وقد نهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الإسرافِ في الوضوءِ، ففي النسائيِّ وابنِ ماجَه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توضَّأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: «هكذا الوضوءُ، فمن زادَ عن هذا فَقَدْ أساءَ وتعدَّى وظَلَمَ»، قالَ الإمامُ البخاريُّ رحمَه اللهُ: ((كَرِه أهلُ العلمِ الإسرافَ –فيه- ؛أي: في الوضوءِ–وأنْ يجاوِزُوا فعلَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)) .
عبادَ اللهِ؛ إنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- أنعمَ عليكم نِعَماً عظيمةً كثيرةً، فكانَ من ذلك أنْ أغناكم بعدَ فَقْرٍ، وأطْعَمَكم بعد جُوعٍ، وهداكُم بعد ضلالةٍ، وفتحَ لكم من أبوابِ الخيرِ، وسُبُلِ الرِّزقِ، مالم يكن لكم على بالٍ، فاشكُروا اللهَ تعالى على ذلك حقَّ شُكْرِه، واعلَموا أنَّ ذلك كلَّه لا يُغنِيكم عن فضلِه ومَنِّه.
أيُها المؤمنون : إنَّ ما تُصَابُ به النفوسُ عند الغِنى وكَثْرةِ العَرَضِ ووفرةِ المالِ ؛ التجاوزُ والطغيانُ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾، وصدَقَ اللهُ العظيمُ، فإنَّه لما فُتِح علينا من الدُّنيا ما فُتِحَ، وتوالَى على كثيرٍ مِنَّا النِّعَمُ ؛ اغترَّ فِئامٌ من الناسِ فطغَوْا وتجاوزُوا حدودَ اللهِ تعالى، فأسرفوا وبذَّروا وتخوَّضوا في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ، فظهرَ في حياةِ الناسِ مظاهرُ الإسرافِ والتبذيرِ.
فمن هذه المظاهرِ ومن تلك المعالمِ التي تورَّط فيها كثيرٌ من الناسِ اليومَ الإسرافُ في المآكلِ والمشاربِ، فترَى من الناسِ من يجتمعُ على مائدتِه من ألوانِ الطعامِ وصُنوفِ الشرابِ ما يكفي الجماعةَ من النَّاسِ، ومع ذلك لا يأكلُ إلا القليلَ من هذا وذاك، ثم يلقي باقِيَه في الفضلاتِ والنفاياتِ. فليتَ شعري!! ، أنَسِيَ هؤلاءِ الـمُسْرِفون أم تناسَوْا أنَّ من الناسِ أُمَماً يموتون جوعاً، لا يجدون ما يسدُّون به حرارةَ جوعِهم، ولظى عَطَشِهم؟! ، أم نسِيَ هؤلاء قولَ اللهِ تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} .
قالَ ابنُ القيِّمِ رَحمه اللهُ: ((والنعيمُ المسؤولُ عنه نوعان: نوعٌ أُخِذ من حِلِّه وصُرِفَ في حَقِّه، فيُسْألُ عن شكرِه، ونوعٌ أُخِذَ بغير حِلِّه، وصُرِفَ في غيرِ حقِّه فيُسألُ عن مُسْتخْرَجِه ومَصْرَفِه)) .
أيها المؤمنون : إنَّ من معالمِ التبذيرِ في حياةِ الناسِ اليومَ الإسرافَ في المراكبِ والملابسِ والمساكنِ، فتجِدُ أقواماً تحمَّلوا الديونَ العظيمةَ، وأَرْهَقُوا ذِممَهم وشَغَلوها؛ ليحصلَ أحدُهُم على السيارةِ الفلانيَّةِ، أو الثوبَ الفلانيِّ، أو المسكنِ الفاخرِ ، تكاثُرٌ وتفاخُرٌ، سَفَهٌ في العقلِ، وضلالٌ في الدِّينِ، فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون.
أيها المؤمنون ، إنَّ من الإسرافِ المذمومِ ما يفعله كثيرٌ من حُدَثاءِ الأسنانِ، أو سُفَهاءِ الأحلامِ، من إضاعةِ الأوقاتِ وتبديدِها في الملاهي والملذَّاتِ والشهواتِ، فتجدُ الواحدَ من هؤلاءِ يصرفُ عُمُرَه، وخاصة نشاطَه وفكرَه ووقتَه في لهوٍ ولَعِبٍ وسهَرٍ وتسليةٍ، لا في عملِ دنيا يَنتفعُ به، ولا عملِ آخرةٍ ينجو به.
عبادَ الله؛ إنَّ من الإسرافِ والتبذيرِ الإسرافَ في استخدامِ المرافقِ الحيويةِ التي تقومُ عليها حياةُ الناسِ اليومَ، من ماءٍ وكهرباءٍ ونحوِ ذلك؛ فالماءُ الذي هو أرخصُ موجودٍ وأعزُّ مفقودٍ يُهدَرُ بالكمياتِ الكبيرةِ الهائلةِ، بلا عتابٍ ولا حسابٍ، وكأَنَّنا نعيشُ على ضفافِ أنهارٍ، لا تتوقفُ، وآبارٍ لا تنضُبُ! .
ولا شكَّ أن الواقعَ المريرَ الذي نعيشُه يخالفُ ما جاءت به شريعةُ أحكمِ الحاكمين، فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نهى عن الإسرافِ في الماءِ، ولو كان استعمالُه في عبادةٍ فضلاً عن غيرِها، فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وتعاونوا جميعاً على ترشيدِ هذا الأمرِ، فإنَّ قِلَّةَ المياه وشُحَّها أحدُ التَّحَدِّياتِ الكبرى لكثيرٍ من دولِ العالمِ اليومَ، فإنْ لم نكنْ على وعيٍ بهذا الأمرِ يوشِكُ أنْ نقعَ فيما لا تُحمدُ عقباه.
أيها الإخوة الكرامُ ، أمَّا الإسرافُ في الكهرباءِ فذاك أمرٌ قلَّ من ينجو منه، فكمْ هُمُ الذين يضعون في بيوتِهم أو متاجِرِهم أو مجالسِهم من الإضاءةِ أو التكييفِ ما يزيدُ على حاجةِ المكانِ . وكم هُمُ الذين لا يُطفَأُ لهم نورٌ في ليلٍ أو نهارٍ، فاتَّقوا اللهَ أيها المؤمنون، فإنَّ اللهَ ورسولَه ينهيانِكُم عن ذلك.
عبادَ اللهِ، إنَّ من أعظمِ التبذيرِ أنْ تستعملَ المالَ الذي تفضَّلَ اللهُ به عليك في معصيةِ اللهِ تعالى، فاللهُ جلَّ وعلا يُنعِمُ عليك ويتفضَّلُ، وأنت تخالفُه وتحادٌّه!! ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}، قال قتادةُ رحمَه اللهُ: ((التبذيرُ هو النفقةُ في معصيةِ اللهِ، وفي غيرِ الحقِّ، وفي الفسادِ)).
أقولُ ما تسمعون ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستــغفروه إنـــه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً ، أَمّا بَعدُ :
فإنَّ الإسرافَ والتبذيرَ داءٌ فتَّاكٌ، يهدِّدُ الأمَمَ والمجتمعاتِ، ويبدِّدُ الأموالَ والثرواتِ، وهو سببٌ للعقوباتِ والبلِيَّاتِ، العاجلةِ والآجلةِ.
فمن ذلك يا عبادَ اللهِ أن الإسرافَ سببٌ للتَّرَفِ، الذي ذمَّه اللهُ تعالى وعابَه، وتوعَّد أهلَه في كتابِه، إذْ قالَ تعالَى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} ، قال ابنُ كثيرٍ رحمه اللهُ: ((كانوا في الدارِ الدنيا منعَّمِين مُقْبلين على لذَّاتِ أنفسِهم)) ، فإيَّاكم يا عبادَ الله أن تكونوا من الـمُـتْرَفِين.
أيها المؤمنون : التبذيرُ والإسرافُ سببٌ يؤدِّي بصاحبِه إلى الكِبْرِ وطَلَبِ العُلُوِّ في الأرضِ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : «كُلُوا واشرَبوا وتصدَّقوا من غيرِ سَرَفٍ ولا مَخِيْلةٍ» رواه البخاري ، فالحديثُ يدلُّ على أنَّ الإسرافَ قد يستلزمُ المخِيْلةَ، وهي الكِبْرُ .
عبادَ اللهِ، إنَّ الإسرافَ والتبذيرَ يؤدِّي إلى إضاعةِ المالِ، وتبديدِ الثَّروةِ، فكَمْ من ثروةٍ عظيمةٍ وأموالٍ طائلةٍ، بدَّدَها التبذيرُ، وأهلكها الإسرافُ، وأفناها سوءُ التدبيرِ.
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فإنَّ اللهَ نهاكُم عن إضاعةِ المالِ، ففي حديثِ المغيرةِ رضيَ اللهُ عنه قالَ: سمعنا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ :«إنَّ اللهَ كَرِه لكم ثلاثاً: قِيلَ وقَالَ، وإضاعةَ المالِ، وكثْرةَ السؤالِ» رواه البخاري ومسلم .
والإسرافُ إضاعةٌ للمالِ، وتخوُّضٌ فيه بغيرِ حقٍّ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : «إنَّ رجالاً يتخوَّضُون في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ، فلهُمُ النَّارُ يومَ القيامةِ» رواه البخاري ، وهذا كما قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
عبادَ اللهِ، إنَّ الإسرافَ سببٌ من أسبابِ الضَّلالِ في الدِّينِ والدنيا، وعَدَمِ الهِدايةِ لمصالحِ الـمَعاشِ والمعادِ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ ، وقال سبحانه: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
أيها المؤمنون ، إنَّ من عقوبةِ اللهِ تعالى للمسرفين أنْ جَعَلَهم إخواناً للشياطينِ، فقال سبحانه: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وذروا ظاهرَ الإثمِ وباطنَه، واعلَموا أنَّ الإسرافَ يشمَلُ جميعَ التَّعَدِّيَّاتِ التي يتجاوزُ بها العبدُ أمرَ اللهِ وشرعَه، سواءٌ كان ذلك في الإنفاقِ أو في غيرِه، فتوبُوا عبادَ اللهِ من الإسرافِ كلِّه، فإنَّ اللهَ دعاكم إلى ذلك، فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾.
فاتَّقِ اللهَ يا عبدَ اللهِ، وتُبْ إلى اللهِ من التَّفريطِ والتَّقصيرِ، وأَعِدَّ للسُّؤالِ جواباً، فإنَّ اللهَ سائِلُك عن هذا المالِ: من أينَ اكتسبتَه؟ ، وفيمَ أنفقتَه؟ .
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمّدٍ، وعلى آلهِ الطاهرينَ وصحابتِه الميامينَ وأزواجِهِ أمّهاتِ المؤمنينَ ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلّمْ تسليمًا كثيرًا.
اللهمّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشّركَ والمشركينَ، ودمرْ أعداءَ الدينِ، واجعلْ هذا البلدَ آمناً مطمئناً وسائرَ بلادِ المسلمينَ. اللهمَّ آمنَّا في أوطانِنَا، وأصلحْ أئمتَنَا وولاةَ أمورِنَا، اللهمَّ وفقْ وليَ أمرِنَا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ لما تحبُّ وترضَى، وخذْ بناصيتِه للبرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ووليَّ العهد لما فيه صلاح البلاد والعباد.
اللهمَّ مَنْ أرادَنَا وأرادَ بلادَنَا بسوءٍ فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعلْ تدبيرَهُ دمارًا عليه، اللهم
اللهُمَّ احفظْ جميعَ إخوَانِنَا المُسلِمينَ ، اللهُمَّ فرِّجْ همَّهُم، واكْشِفْ كَرْبَهُم، وأصْلِحْ أحوَالَ عِبَادِكَ المؤمنينَ في كُلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمين. اللهم إنا نعوذُ بك من الغلاءِ والوباءِ والربا والزنا والزلازلِ والمحنِ وسوءِ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ ، اللهُمَّ إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك، وفجاءةِ نقمتِك، وجميعِ سخطِك، اللهُمَّ يا حَيُّ يا قَيُّوم؛ اجْعَلْنَا في ضَمَانِكَ وأمَانِكَ وإحْسَانِكَ يا أرحمَ الراحمين. ربَّنَا آتِنَا في الدنْيَا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النَّارِ ، سبحانَ ربِّك ربِّ العزة عمّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
لُزُوْمُ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ والتذكيرُ بنعمةِ الأمنِ والاجتماعِ
الخُطبةُ الأولى
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا ، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً .
أمَّا بَعْدُ : أيها الناس ، اتقُوا اللهَ تعالى فإن تقوى الله فوزٌ وفلاحٌ ، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ .
عبادَ الله : مِنْ أعظمِ مقاصدِ الشريعة ومحاسِنِها البديعةِ الدعوةُ إلى الاجتماعِ والوِفاق ، والتحذيرُ من الاختلاف الذي يوجِبُ الشِّقَاقَ ويُسَبِّبُ الافتراقَ .
وأساسُ الاجتماعِ هو الاعتصامُ بكتابِ الله وسنة رسوله ﷺ ؛ قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ .
والمرادُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَة لُزُومُ الْحق واتِّبَاعُه ، وإنْ كَانَ المتمسِّكُ بالحقِّ قليلاً والمخالفُ كثيراً ؛ لأنَّ الحقَّ هو ما كانت عليه الجماعةُ الأولى مِنَ النَّبيِّ ﷺ وأصحابِه ، ولا يُنْظَرُ إلى كثرةِ أهل الباطل بعدَهم .
ومِنْ أَمثلةِ لزومِ الجماعةِ التي دَعَتْ إليها الشريعة الاجتماعُ على إمامِ المسلمين وأهلِ العلم الراسخين ؛ وعدمُ الخروجِ عن أمرِهم ورأيِهم ، سِيِّما ما يتعلَّقُ بسياسةِ الناس العامّة وأَمْنِهم وخوفِهم ؛ قال تعالى : ﴿ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولى الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم﴾ .
ومِنْ بَرَكَةِ لزوم الجماعة نُزولُ الرحمات ، والتنافسُ في الخيرات ؛ والنجاةُ مِنَ الفِتَنِ المُدْلَهِمَّات ، قال ﷺ : «الجمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» رواه الإمامُ أحمدُ بسندٍ صحيحٍ ، وسُئِلَ النبيُّ ﷺ عن المَخْرَجِ مِنَ الفتن ؛ فقال : «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» رواه البخاري ومسلم .
وتوحيدُ الكلمةِ ؛ لا يكونُ إلا على كلمةِ التوحيدِ ، قال تعالى : ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ يعني: فَوَحِّدُوني .
وإذا لم تجتمع الأمةُ على الكتابِ والسُنّةِ فمآلُها إلى الزوالِ والفُرقةِ ، قال ﷺ : «سَتَفْتَرِقُ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فِرْقَة ، كُلّها في النارِ إلا واحدةٌ» ، قالوا : (مَنْ هِيَ يا رسولَ الله؟) ، قال: «هي الجماعةُ» ، وفي رواية : «هيَ ما أَنا عليه وأصحابي» رواه أهلُ السنن وهو حديثٌ صحيحٌ .
وأهلُ الجماعة ؛ هم أهلُ الحوض المورود ؛ وَمَنْ سِوَاهُم عنه مَطْرُود ، قال ﷺ : «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ ، حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي-أَي اجتُذِبُوا واقتُطِعُوا- ، فَأَقُولُ : أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي ، يَقُولُ : لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» رواه البخاريُّ ومسلمٌ ، قال القرطبيُّ : (فَكُلُّ مَنِ ارتدَّ عَنْ دِينِ اللهِ ، أو أحدثَ فيه ما لا يرضاه الله ؛ فهو من المطرودين عن الحوض ، وكذلك جماعةُ أهلُ الزيغِ والأهواءِ والبِدَع) .
عباد الله ، مِنْ بركةِ تحقيقِ التوحيدِ ونبذِ الشركِ وتركِ الابتداعِ ؛ الائتلافُ والاجتماعُ والأمنُ ، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ .
فحافِظُوا على نعمةِ الأمنِ والأُلفةِ ، والمحبةِ والمودّةِ ؛ بالاجتماعِ على الكتابِ والسُنَّةِ ، واحذروا الشركَ والمعصيةَ والبِدعةَ ، والشذوذَ والاختلافَ والفُرْقةَ ؛ والانتماءَ للجماعاتِ البِدْعِيّةِ ، واحذروا أيضا التعصُّبَ للحِزْبيةِ التي توغرُ الصدورَ ، أو تُؤَلِّبُ على ولاةِ الأمور ، فــــ (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ ؛ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) .
أقولُ ما تسمعون ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستــغفروه إنـــه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً ، أَمّا بَعدُ :
أيها المسلمون ، إنَّ اللهَ تعالى أمرَ بالاجتماعِ على الحقِّ ونهى عن التفرُّقِ والاختلافِ ، قال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ، وأمرَ العبادَ باتباعِ الصراطِ المستقيمِ ، ونهاهم عن
السُّبُلِ التي تصرفُ عن الحقِّ ، فقال سبحانه : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ، وإنما يكونُ اتباعُ صراطِ اللهِ المستقيمِ بالاعتصامِ بكتابِ اللهِ عز وجل وسنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم .
والاعتصامُ بكتابِ اللهِ عز وجل وسنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم هو سبيلُ إرضاءِ اللهِ وأساسُ اجتماعِ الكلمةِ ، ووحدةِ الصفِّ ، والوقايةِ من الشرورِ والفتنِ ، قال تعالى : ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ .
فعُلِمَ من هذا : أنَّ كلَّ ما يُؤَثِّرُ على وحدةِ الصفِّ حولَ ولاةِ أمورِ المسلمين من بَثِّ شُبَهٍ وأفكارٍ ، أو تأسيسِ جماعاتٍ ذاتَ بيعةٍ وتنظيمٍ ، أو غير ذلك ، فهو محرَّمٌ بدلالةِ الكتابِ والسنةِ
أيها المسلمون ، ونحنُ في هذه البلادِ نحمدُ اللهَ على ما أنعمَ اللهُ به علينا من نعمةِ الأمنِ والاجتماعِ ، نسألُ اللهَ أنْ يباركَ في هذا البلادِ وأن يحفظَ وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهدِه ، وأنْ يزيدَنا من الخيرِ ولا ينْقصَنا .
أيها المسلمون ، صلُّوا وسلِّموا على رسولِ اللهِ ، فإنَّ اللهَ أمركم بذلك ، كما قال سبحانه : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، وقال  : «مَنْ صَلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشْرا» .
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على نبيِّك محمَّدٍ ، وارضَ اللهم عن زوجاتِه أمهاتِ المؤمنين ، وعن صحابتِه أجمعين ، اللهم عليك بمن انتقصَ أو سبَّ أو استهزأَ برسولِك  ، اللهم ارزقنا اتباعَ سنَّةِ نبيِّك محمدٍ  ، وشفاعتَه ، والورودَ على حوضِه ، اللهم احشرنا في زمرتِه وزمرةِ أصحابه  ، اللهم ارزقنا محبَّتَه وطاعتَه  .
اللهم إنا نعوذُ بك من فتنةِ النارِ وعذابِ النارِ ، وفتنةِ القبرِ ، وعذابِ القبرِ ، وشرِّ فتنةِ الغِنى ، وشرِّ فتنةِ الفقرِ ، اللهم إنا نعوذُ بك من شرِّ فتنةِ المسيحِ الدجالِ ، اللهم اغسل قلوبَنا بماءِ الثلجِ والبردِ ، ونقِّ قلوبَنا من الخطايا كما نقيتَ الثوبَ الأبيضَ من الدنسِ ، وباعدْ بيننا وبين خطايانا كما باعدت بين المشرقِ والمغربِ ، اللهم إنا نعوذُ بك من الكسلِ والمأثمِ والمغرمِ .
اللهم إنا نعوذُ بك من العَجْزِ والكسلِ ، والجبنِ والهرمِ والبخلِ ، ونعوذ بك من عذابِ القبرِ ، ومن فتنة المحيا والمماتِ .
اللهم إنا نعوذُ بك من جهدِ البلاءِ ، ودَرَكِ الشقاءِ ، وسوءِ القضاءِ ، وشماتةِ الأعداءِ ، اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفافَ ، والغنى .
اللهم أصلحْ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا ، وأصلحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا ، وأصلح لنا آخرتنَا التي فيها معادُنا ، واجعلْ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ ، واجعلْ الموتَ راحةً لنا من كلِّ شَرٍّ .
اللهم أصلحْ ولاةَ أمرِنا ، اللهم أعزَّ بالإسلامِ خادمَ الحرمين ووليَّ عهدِه ، وأعزَّ الاسلامَ بهم ، اللهم وفقهم لكلِّ ما فيه خيرُ البلادِ والعبادِ .
اللهم احفظْ بلادَنا وبلادَ المسلمين ، اللهم أدمْ علينا نعمةَ الأمنِ ، اللهم افتحْ لنا في أرزاقِنا وأقواتِنا ، اللهم احفظْنا بحفظِك ، اللهم ردَّ كيدَ أعدائِنا .
اللهم من أرادنا بسوءٍ فاجعلْ كيدَه في نحرِه .
سبحان ربِّك ربِّ العزَّةِ عما يصفون ، وسلامٌ على المرسلين ، والحمدُ لله رب العالمين .
الخطبة الأولى: العنوان: (اَلْوُقُوْفُ مَعْ إِخْوَانِنَا فِيْ غَزَّةَ) 
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ..  أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا دِينَهُ وَالْزَمُوهُ، وَاتْلُوا كِتَابَهُ وَتَدَبَّرُوهُ؛ فَإِنَّ الْفَوْزَ الْأَكْبَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ، وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّ الْخُسْـرَانَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ دِينِهِ؛ ﴿قُلْ إِنَّ ‌الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.
أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ مِنْ الأُصُوْلِ العَظِيْمَةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الإِسْلَامُ، وأَكْدَ عَلَيْهَا رَبُّنَا فِي القُرْآنِ، وحَثَّ عَلَيْهَا سَيِّدُ الأَنَامِ: الأُخُوَّةُ الإِسْلَامِيَّةُ، فَهِيَ رَابِطةٌ مَتِينةٌ، وحِصْنٌ حَصِينٌ، بِها يَتَعَارفُ المسْلِمونَ ويَتناصَرُونَ، ويَتَراحمونَ ويتَعَاونونَ، أَمَرَ اللهُ بِها بَعدَ أَمْرِه بِتَقْوَاه، فَقَالَ سُبْحَانَه: ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾، وقَالَ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، فَهَذِهِ اَلْأُخُوَّةُ فَرَضَهَا اللهُ، ولَم يَفْرِضْها نَسَبٌ أو تَقْليدٌ، وَليْسَتْ تَكَتُّلاً مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ أَوْ ظَرْفٍ طَارِئٍ، بَلْ هِيَ أمر رباني لَازِمٌ، وَرِبَاطٌ بَيْنَ أَهْلِ اَلتَّوْحِيدِ دَائِمٌ، غَايَتُهمْ واحِدةٌ، وهُموُمهمْ مُشْتَركٌة، وآمَالُهم وَاحِدَةٌ؛ يَجمُعهمْ عِبَادةُ ربٍّ وَاحِدٍ بِالاسْتِسلامِ لَه، والإِخْلاصِ في عِبَادتِه، واتِّبَاعِ شَرْعِه، والاقْتِدَاءِ بِرَسُوْلِه ﷺ، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾.
عِبَادَ اللهِ: إنَّ الْأُخُوَّةَ فِي اَلدِّينِ مِنَّةٌ يُنْعِمُ بِهَا اَللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ اَلصَّالِحِينَ ؛ فَتَتَآلَفُ قُلُوبُهُمْ ، وَتَتَوَثَّقُ رَوَابِطُهُمْ ، كَحَالِ اَلْجِيل اَلْأَوَّلِ مِنْ اَلصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ- مِنَ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَار، الَّذِيْنَ سَطَّرُوا أَعْظَمَ مَعَانِي الأُخُوَّةَ فِيْ اللهِ، قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ  إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ . وَقَدْ شَبَّهَ اَلرَّسُولُ ﷺ الْأُخُوَّةَ اَلْإِيمَانِيَّةَ بِالْجَسَدِ اَلْوَاحِدِ فَقَالَ:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِﷺ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ).
عِبَادَ اللهِ: إِنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي الأُمَّةِ مَعْنَى الجَسَدِ الوَاحِدِ وهِيَ لا تَشْعُرُ بِأَلَمِ بَعْضِهَا، ولَا تَعْرِفُ المُوَاسَاةَ بَيْنَهَا، كمَا أَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَبْلُغَ دَرَجَةَ الرِّفْعَةِ والتَّمْكِيْنِ إِذَا كَانَتْ تَشْبَعُ وجَارُهَا جَائِعْ، وتَرْوَي وقَرِيْبُها ظَمْآن، وتَلْبَسُ وشَرِيْكُهَا فِيْ الدِّيْنِ عَارٍ. إِنَّ هَذِهِ الرَّابِطَةَ الإِسْلامِيَّةَ، لَيسَت مَقَالاتٍ تُرَدَّدُ، أَو شِعَارَاتٍ تُرفَعُ، دُونَ أَن يَكُونَ لَهَا حَظٌّ مِنَ الوَاقِعِ العَمَلِيِّ، فَاتَّقَوْا اَللَّهَ - عِبَادَ اَللَّهِ - وَحَقِّقُوا هَذِهِ اَلْعِبَادَةَ اَلْعَظِيمَةَ، وَهَذِهِ اَلْقِيمَةَ اَلنَّبِيلَةَ، فَإِنَّهَا وَاجِبةٌ شَرْعًا، وَهِيَ خَيْرُ مُعِينٍ عَلَى نَوَائِبَ الدَّهْرِ وتَقَلُّبَاتِهِ، ومَصَائِبَ الزَّمَانِ وفَوَاجِعَهْ، ومَصَارِعَ السُّوءِ ونِهَايَتِهْ، كَمَا أَنَّها طَرِيقٌ لِمَحَبَّةِ اَللَّهِ تَعَالَى ورِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ؛ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَالَّذِي نَفْـسِـي بِيَدِهِ، لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا). 
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا تَحْقِيْقَ هَذِهِ الأُخُوُّةِ الإِيْمَانِيَّةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يُوَالُوْنَ إِخْوَانِهِمْ فِي الدِّينِ، ويَنْصُـرُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِيْ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنْ اَلْآَيَاتِ وَاَلْذِّكْرِ اَلْحَكِيْمِ، أَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اَلْلهَ اَلْعَظِيْمَ لِيْ وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُوْرُ اَلْرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَأْنِهِ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وسَلّم تَسْلِيمًا كثيرًا. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ حُقُوقِ الأُخُوَّةِ فِي الدِّيْنِ وَلَوَازِمِهَا: أَنْ يَتَرَاحَمَ المسْلِمُوْنَ فِيْمَا بَيْنَهُمْ، وأَنْ يَنْصُـرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وأَنْ يُحِبَّ بَعضُهُم بَعضًا، فيَفرَحَ كُلٌّ مِنهُم لِفَرَحِ إِخوَانِهِ، وَيَحزَنَ لِحُزْنِهِم، ويَتَأَلَّمُ لِمُصَابِهِمْ، وَيَسُوؤُهُ مَا يَسُوؤُهُم؛ تَحْقِيقًا لِأَمْرِ رَسُولُنَا ﷺ فِيْ قَوْلِهِ:(الـمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بيْنَ أَصَابِعِهِ )، وقَوْلِهِ: (الْـمُسْلِمُ أَخُو الـمُسْلِمِ، لا يَظلِمُه، ولا يُسْلِمُهُ، ومَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، ومَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسلمٍ كُرْبةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بها كُرْبةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ الْقِيامَةِ).
وَمِنْ هَذَا الشُّعُوْرِ الإِيْمَانِيِّ العَظِيْمِ اِنْطَلَقَتْ الحَمْلَةُ الشَعْبِيَّةُ المُبَارَكَةٌ لِلْوُقُوفِ مَعَ الشَّعْبِ الفِلسْطِيْنِيِّ الشَّقِيْقِ فِيْ قِطَاعِ غَزَّةَ، وَذَلِكَ عَبْرَ مِنَصَّةِ "سَاهِمَ"، وإنَّ مِنْ حَقِّ إِخْوَانِنَا فِيْ العَقِيْدِةِ والدِّيْنِ أَنْ نَشْعُرَ بِمُصَابِهِمْ، وأَنْ نَقِفَ مَعَهُمْ فِي كُرْبَتِهِمِ، وأَنْ نَدْعُوَ لَهُمْ فِي الخَلَوَاتِ والجَلَوَاتِ، وأَنْ نُقَدِّمَ لَهُمْ مَا يِمْكِنُ مِنْ اَلْمُسَاعَدَاتِ اَلطِّبِّيَّةِ وَالْإِغَاثِيَّةِ، والوُقُوْفِ مَعَ الشَّعْبِ الفلَسْطِيْنِيْ الشَّقِيْقِ، وَالسَّعْيِ فِيْ رَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ، وَتقْدِيْمِ المُسَاعَدَاتِ الكَثِيْرِةِ لَهُمْ، فَاحْتَسِبُوا اَلْأَجْرَ فِي إِغَاثَةِ إِخْوَانِكُمْ؛ ف ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾، و (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ)، و(مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، (واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ)، (ومَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُـرُ مُسْلِماً في مَوْضعِ يُنْتَقَصُ فِيْه مِن عِرْضِهِ، ويُنْتَهَكُ فيهِ مِن حُرْمَتِه إلَّا نَصَـرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيْه نُصْرَتَه). 
هَذَا وصَلُّوُا وسَلِّمُوُا عَلَى المبْعُوْثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ، كَمَا قَالَ رَبُّكُمْ فِيْ كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ...﴾.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسُوْلِكَ مُحمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، وارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وصَحَابَتِهِ والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. 
اللَّهُمْ أعِزَّ الإسْلَامَ والمُسْلِمِيْنَ، وأَذِلَّ الشِّـرْكَ والمُشْـرِكِيْنَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّيْنِ، واجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا رَخَاءً وسَائِرَ بِلَادِ المسْلِمِيْنَ.. اللَّهُمْ مَنْ أَرَادَ بِالإِسْلِامِ والمُسْلِمِيْنَ سُوْءٍ فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ، وَرُدَّ كَيْدَهُ فِيْ نَحْرِهِ، واجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَيْهِ يَا رَبَّ العَالمِيْنَ.
اللَّهُمْ احْفَظْ إِخْوَانَنَا المُسْتَضْعَفِيْنَ فِي فَلَسْطِيْنَ وفِيْ كُلِّ مَكَانْ، اللَّهُمَّ كُنْ لَهُمْ مُعِينًا وَنَصِيرًا، وَمُؤَيٍّدًا وَظَهِيرًا، اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَائَهُمْ، واجْبُرْ كَـسْرَهُمْ، وَارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَانْصُـرْهُمْ عَلى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمْ انْصُرْهُمْ ولَا تَنْصُرْ عَليْهِمْ، وأَعِنْهُمْ ولَا تُعِنْ عَلَيْهِمْ، واهْدِهِمْ ويَسِّرِ الهُدَى لَهُمْ.
اللَّهُمْ انْـصُـرْ المُرَابِطِيْنَ منهم، اللَّهُمْ ثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ، وارْبِطْ عَلى قُلُوبِهْمْ، وسَدِّدْ رَمْيَهُمْ، وانْصُرْهُمْ عَلَى القَوْمِ الظَّالِمينَ.

 رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِيْ الآَخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّنا رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
أسبابُ رفعِ البلاءِ
الخطبة الأولى
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعين . أما بعدُ: عبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ تعالى، ولا تَمُوتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أنَّ تقوى اللهِ تعالى لا تَتِمُّ للعبدِ إلا بالأخذِ بمكارِمِ هذه الشَّريعةِ وفضائلِها علمًا، وامتثالِها في الحياةِ واقعاً وعَمَلاً. أيُّها المسلمون ؛ إنَّ اللهَ تعالى جعلَ هذه الدنيا دارَ ابتلاءٍ واختبارٍ، وإنَّ ما فيها من خيرٍ وشرٍّ، ويسرٍ وعسرٍ، وفَرَحٍ وحُزْنٍ، ورخاءٍ وشِدَّةٍ؛ إنما هو محضُ تمحيصٍ واختبارٍ من اللهِ تعالى لعبادِه؛ كما قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة 155 ، ومِن فضلِ اللهِ تعالى ورحمتِه بعبادِه أنْ يُيَسِّر لهم عباداتٍ وأسبابًا ترفَعُ ذلك البلاءَ قبل وقوعِه وبعد وقوعِه.
إنَّ أعظمَ أسبابِ رفعِ البلاءِ هو الدعاءُ والتضرُّعُ إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّ الابتلاءاتِ إذا نَزَلَتْ فلا يرفَعُها إلا الذي أَنْزَلَها؛ قالَ اللهُ تعالىَ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ البقرة 186، وقالَ اللهُ تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام: 43، وقالَ تعالَى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الأنعام: 17، وقال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف: 55، 56، وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وإنَّ البلاءَ لَيَنْزِلُ فيتلقَّاه الدعاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إلى يومِ القيامةِ»؛ رواه الحاكمُ وهو حديثٌ حَسَنٌ .
ومنه الدُّعَاءُ في أوقاتِ الرَّخَاءِ، فعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»؛ رواه الترمذي والحاكم وهو حديثٌ حَسَنٌ .
ومن أعظمِ أدعيةِ الكَرْبِ دَعْوَةُ ذي النُّونِ يونُسَ عليه السلامُ وهو في بطنِ الحُوْتِ، فعَنْ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا بها وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ»؛ رواه أحمدُ والترمذيُّ وهو حديثٌ صحيحٌ . وهذا الدُّعاءُ وَرَدَ في قولِ اللهِ تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنبياء 87 .
‏ومن الأدعيةِ النبويَّةِ أيضًا ما وردَ في الصحيحين عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما أَنَّ النبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».
وعن أَبِي بَكْرَةَ رضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»؛ رواه أحمدُ وأبو داودَ وهو حديثٌ حسنٌ .
‏ومن الأدعيةِ النَّبَوِيَّةِ المهمَّةِ دعاءٌ عظيمٌ وَرَدَتْ به السُّنَّةُ ، فإذا تراكَمَتْ عليك الهمومُ والأحزانُ؛ فعليكَ برفعِ يديكَ إلى السماءِ، واطْلُبْ من ربِّك، وأَلِحَّ عليه بالدعاءِ، وتوسَّلْ إليه بأسمائه الحسنى؛ فعَنْ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ،
وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: «بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا»؛ رواه أحمدُ وهو حديثٌ صحيحٌ .
‏ومن الأدعيةِ النَّبَويَّةِ ؛ دعاءُ مَنْ تَرَاكَمَتْ عليه الديونُ؛ فقد روى الترمذيُّ في سُنَنِه عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» رواه الترمذيُّ وهو حديثٌ حسنٌ .
‏فعلينا يا عبادَ اللهِ بالدعاءِ؛ فإنَّه بابٌ عظيمٌ من أبوابِ تفريجِ الكُرباتِ وقضاءِ الحاجاتِ؛ فَكَمْ من مريضٍ شُفِيَ بالدعاءِ، وكَمْ من مكروبٍ ومهمومٍ زالَ همُّه بالدعاءِ، وكَمْ من فقيرٍ أغناه اللهُ تعالى عندما دَعَاه، وكم من غائبٍ رجعَ إلى أهلِه بالدعاءِ، وكم من مُذْنِبٍ وعاصٍ غُفَرَ له بالدعاءِ، وكَمْ من ضَالٍّ مُنْحَرفٍ رَجَعَ إلى طريقِ الهدايةِ بالدعاءِ، وَكَمْ من مَيِّتٍ فى قبرِه يحتاجُ إلى الدعاءِ، أو رُفِعَتْ درجتُه بالدعاءِ.
ومن أسبابِ رفعِ البلاءِ قراءةُ القرآنِ الكريمِ؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الإسراء 82، وقالَ تعالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ فصلت 44، فكتابُ اللهِ شفاءٌ لجميعِ الأدواءِ والأمراضِ؛ فقد قرأَ الصحابيُّ فاتحةَ الكتابِ على مَنْ لُدِغَ بعقربٍ؛ فشَفَاه اللهُ تعالى من السُّمِّ الناقِعِ، فعجبًا من مريضٍ لم يتركْ طبيبًا إلا وذهبَ إليه، ثم غَفَلَ عن أعظمِ دواءٍ ، وهو التداوي بالقرآنِ الكريمِ.
ومن التحصينات العظيمةِ قراءةُ سورةِ الإخلاصِ والمعوِّذَتَين ثلاثَ مرَّاتٍ في الصباحِ والمساءِ؛ فعن عَبْدِاللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ، وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، نَطْلُبُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتُمْ؟»، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» ، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»؛ رواه أبو داودَ والترمذيُّ وهو حديثٌ حسنٌ .
‏ومنها قراءةُ الآيتين من أواخرِ سورةِ البقرةِ في كلِّ ليلةٍ؛ فقد روى البخاريُّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»، قال النوويُّ رحمه اللهُ: قِيلَ: مَعْنَاهُ: كَفَتَاهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ، وَيَحْتَمِلُ مِنَ الجَمِيعِ.
‏ومن التحصيناتِ القرآنيَّةِ الوقائيَّةِ قراءةُ آيةِ الكرسيِّ عند النومِ؛ كما في قصةِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه مع الشيطانِ لما وَكَلَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بحفظ ِزكاةِ رمضانَ كما في صحيحِ البخاريِّ: «فإنه لَنْ يَزَالَ معك مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولَا يَقْرَبكَ شيطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ».
ومن أسباب ِرفعِ البلاءِ المحافظَةُ على الصلاةِ؛ فعن أبي الدرداءِ وأبي ذرٍّ رضيَ الله عنهما عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عن اللهِ عزَّ وجلَّ أنه قال: «ابنَ آدمَ، اركعْ لي أربعَ ركَعاتٍ من أولِ النهارِ أكْفِكَ آخِرَه» رواه أبو داودَ وهو حديثٌ صحيحٌ .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبَهُ أمرٌ قال: «أرِحْنا بالصلاةِ يا بلالُ» رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيحٌ ؛ فكانتْ قُرَّةَ عينِهِ وسعادتَهُ وبهجتَهُ. وقال حذيفةُ رضيَ اللهُ عنه: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى؛ رواه أبو داودَ وهو حديثٌ صحيحٌ . لأنَّ في الصَّلاة راحةً، وقُرَّةَ عينٍ له، وهذا مِصداقُ قولِ الله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ البقرة 45.
وفي صحيحِ مسلمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ، فصلَّى بالناس، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَخْسفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَافْزَعُوا لِلصَّلاةِ»، وَفي رواية: «فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَنْكُمْ».
ومن الأسبابِ أيضًا لرفعِ البلاءِ قيامُ الليلِ؛ فعن بِلالٍ رضيَ اللهُ عنه، أَنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قال: «عليكُمْ بِقيامِ اللَّيْلِ؛ فإِنَّـهُ دَأبُ الصَّالِحينَ قَبلكُم، وإِنَّ قِيامَ اللَّيلِ قُربَةٌ إلى اللهِ، ومَنْهاةٌ عنِ الإِثْمِ، وتكفِيرٌ للسَّيِّئاتِ، ومَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عنِ الجَسَدِ»؛ رواه الترمذيُّ وهو حديثٌ حسنٌ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه . أَمَّا بَعْدُ:
أيها المسلمون : ومن الأسبابِ والأعمالِ اليسيرةِ لرفعِ البلاءِ التوبةُ إلى اللهِ تعالى، وكثْرةُ الاستغفارِ؛ كما قال اللهُ تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ نوح 10- 12، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ الأنفال 33.
وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي اللهُ عنه قال: أمانانِ كانا على عهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلم رُفع أحدهما، وبقي الآخر: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾؛ رواه أحمدُ وهو أثرٌ صحيحٌ .
ومنها أيضًا كثرةُ الصَّلاةِ والسَّلَامِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ فعن أُبَيِّ بن كعبٍ رضيَ اللهُ عنه قال: قُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ، إنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي؟ فَقَالَ: «مَا شِئْتَ»، قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: فَالنِّصْفَ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: فالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: أجعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: «إذًا تُكْفى هَمَّكَ، وَيُغْفَر لَكَ ذَنْبُكَ»؛ رواه الترمذيُّ وهو حديثٌ حسنٌ .
ومن الأعمالِ التي ترفعُ البلاءَ عن الأموالِ والأبدانِ؛ صنائعُ المعروفِ؛ فعَنْ أَنسٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «صنائعُ المعرُوفِ تقي مَصارِعَ السُّوءِ، والآفاتِ، والهَلَكَاتِ، وأَهْلُ المعرُوفِ في الدُّنيا هُمْ أَهلُ المعرُوفِ في الآخِرَةِ» رواه الحاكمُ وهو حديث صحيحٌ .
وصنائعُ المعروفِ هي الإحسانُ إلى عبادِ اللهِ بعملِ المعروفِ، ولها صُوَرٌ كثيرةٌ منها: القَرْضُ الحَسَنُ أو البِرُّ أو الهديةُ أو الصَدَقَةُ أو إعانةٌ على قضاءِ حاجَةٍ أو غيرُ ذلك من وجوهِ الإحسانِ المتنوِّعَةِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ الرحمن 60، وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف 56.
ومن الأعمالِ التي ترفعُ البلاءَ الصَّدَقَةُ ؛ فإنها تُطفئُ غَضَبَ الرَّبِ، ففي سنن الترمذيِّ من حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصدقةُ تُطفِئ الخطيئة كما يُطفِئ الماءُ النارَ» حديث صحيح .
قال ابن القيِّمِ رحمه اللهُ : للصدقةِ تأثيرٌ عجيبٌ في دفعِ أنواعِ البلاءِ، ولو كانتْ من فاجِرٍ أو ظالمٍ؛ بل مِن كافرٍ، فإنَّ اللهَ تعالى يدفَعُ بها عنه أنواعًا من البلاءِ، وهذا أمرٌ معلومٌ عندَ الناسِ خاصَّتِهم وعامَّتِهم، وأهلُ الأرضِ كلُّهم مُقِرُّون به؛ لأنهم قد جرَّبوه . انتهى كلامُه .
عبادَ اللهِ : صلُّوا وسلِّموا على خيرِ خلقِ اللهِ؛ محمَّدٍ بنِ عبدِالله، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمَّدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعةِ أبي بكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعن آلِه الطيبين الطاهرين، وعن سائرِ صحابةِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، اللهُمَّ انصُرْ دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهُمَّ احفظْ فلسطينَ وأهلَها من كلِّ سوءٍ ، اللهُمَّ نَجِّ المستضعفين من المؤمنين ، اللهُمَّ عليك باليهودِ فإنهم لا يعجِزونك ، اللهُمَّ عليك بهم ، اللهُمَّ عليك بهم .
اللهُمَّ آمنَّا في أوطانِنا وأصلحْ أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهُمَّ إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك وتحوُّلِ عافيتِك وفُجاءةِ نقمتِك وجَميعِ سَخطِك، اللهُمَّ اغفِرْ ذنوبَنا واستُر عيوبَنا ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا . سبحانَ ربِّك ربِّ العزَّةِ عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ .
الصبرُ
الخطبةُ الأولى
الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدُّنيَا دَارَ ابتِلَاءٍ وَامتِحَانٍ، وَأَعَدَّ لِلصَّابِرِينَ فِيهَا أَعَالِيَ الجِنَانِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى إِمَامِ الصَّابِرِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ، أَمّا بَعدُ: فَاتّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ حَقَّ التَّقوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنّجْوَى، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُسلِمُونَ} . أَيُّهَا المُسلِمُونَ : خَلَقَ اللهُ هذِهِ الدُّنيا لِلابتِلاءِ، وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الـمَصَاعِبِ والشَّدائِدِ مَا يُـحقّقُ هذه الحِكمَة، فَخَلَقَ الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، وَأَخبَرَنَا أَنَّهُ سَيَبْتَلِينَا بِالمَصَائِبِ وَالأَحزَانِ، لِيَختَبِرَ إِيمَانَنَا وَيَبلُوَ صَبرَنَا، قَالَ تَعَالَى: {‌وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتَّى نَعلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُم وَالصَّابِرِينَ وَنَبلُوَ أَخبَارَكُم}. وهذَا الأَمرُ عامٌّ للبَشَر، لَم يُسْتثنَ مِنهُ أحدٌ حتى الأَنبِيَاءُ عَلَيهِمُ السَّلَامُ، بل كانَ بَلاؤُهُم على قَدرِ إِيمانِهِم، فأحسَنُوا في صَبرِهِم ورِضاهُم عن رَبِّهم، قَالَ تَعَالَى: {وَإِسمَاعِيلَ وَإِدرِيسَ وَذَا الكِفلِ كُلٌّ ‌مِنَ ‌الصَّابِرِينَ}، وَقَالَ إِسمَاعِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ: {يَاأَبَتِ افْعَلْ ‌مَا ‌تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وَقَالَ يَعقُوبُ عَلَيهِ السَّلَامُ: {‌فَصَبرٌ جَمِيلٌ}، وقَالَ سُبحانَه عن أيُّوبَ عَلَيهِ السَّلَامُ: {إِنَّا ‌وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
فحقٌّ عَلى الـمُؤمِنِ الاقتِداءُ بِالأَنبِيَاءِ عَلَيهِم السَّلَامُ، فمتَى نَزَلَت بِهِ مُصِيبَةٌ صَبرَ ورضيَ بتقديرِ الله، واحتَسَب الأجرَ عِندَهُ سُبحانَه.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: ((الصَّبرُ وَاجِبٌ بِإِجمَاعِ الأُمَّةِ، وَهُوَ نِصفُ الإِيمَانِ، فَإِنَّ الإِيمَانَ نِصفَانِ: نِصفٌ صَبرٌ وَنِصفٌ شُكرٌ. وَالصَّبرُ مِن الإِيمَانِ بِمَنزِلَةِ الرَّأسِ مِن الجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَن لَا صَبرَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا جَسَدَ لِمَن لَا رَأسَ لَهُ)).
أَخِي الـمُسلِم: اعلَم أَنَّ الصَّبرَ فِي حَقِيقَتِهِ حُسنُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ جَلّ جَلَالُهُ، فَهُوَ سُبحَانَهُ الحَكِيمُ فِي قَضَائِهِ، العَلِيمُ بِعِبَادِهِ، العَزِيزُ فِي مُلكِهِ، الرَّحِيمُ بِخَلقِهِ.
وليَكُنِ البَاعِثُ لَكَ عَلَى الصَّبرِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَإِرَادَةَ وَجهِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيهِ، لَا إِظهَارَ قُوَّةِ النَّفسِ، وَطَلَبَ مَدحِ الخَلقِ وَثَنَائِهِم.
وَلْيَكُن صَبرُكَ جَمِيلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ ‌صَبرًا ‌جَمِيلًا}، وَالصَّبرُ الجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا جَزعَ فِيهِ وَلَا شَكوَى لِغَيرِ اللَّهِ، فَالشَّكوَى لِغَيرِ اللَّهِ ضَعفٌ فِي العَقلِ وَذُلٌّ فِي الطَّبعِ، رَأَى بَعضُهُم رَجُلًا يَشكُو إِلَى آخَرَ فَاقَةً وَضَرُورَةً، فَقَالَ: يَا هَذَا، تَشكُو مَن يَرحَمُكَ إِلَى مَن لَا يَرحَمُكَ؟ ثُمَّ أَنشَدَهُ:
وَإِذَا عَرَتكَ بَلِيَّةٌ فَاصبِر لَهَا
صَبرَ الكَرِيمِ فَإِنَّهُ بِكَ أَعلَمُ
وَإِذَا شَكَوتَ إِلَى ابنِ آدَمَ إِنَّمَا
تَشكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرحَمُ
عِبَادَ اللَّهِ : ثَمّةَ أُمُورٌ تُعِينُ عَلَى الصَّبرِ عَلَى أَقدَارِ اللَّهِ المُؤلِمَةِ، فَمِنهَا :
أَوَّلًا: دُعَاءُ اللَّهِ وَالِاستِعَانَةُ بِهِ، فَلَا قُدرَةَ لَكَ عَلَى الصَّبرِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاصبِر ‌وَمَا ‌صَبرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}، فَاسْأَلِ اللَّهَ أَن يُعِينَكَ عَلَى الصَّبرِ، وَاعلَمْ أَنَّ أَعظَمَ مَا يُقَالُ فِي هَذَا المَوطِنِ : «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخلِف لِي خَيرًا مِنهَا»، قَالَ تَعَالَى: ‌{وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ}. وَاستَمِعْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا وَهِيَ تَحكِي قِصّتَهَا مَعَ هَذَا الدُّعَاءِ، قَالَت: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِن عَبدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ . اللَّهُمَّ أْجُرنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخلِف لِي خَيرًا مِنهَا إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخلَفَ لَهُ خَيرًا مِنهَا». قَالَت: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَخلَفَ اللَّهُ لِي خَيرًا مِنهُ، رَسُولَ اللَّهِ ﷺ .
أَخرَجَهُ مُسلِمٌ.
ثَانِيًا : مما يُعِينُكَ عَلَى الصَّبرِ أَن تَتَذَكّرَ ثَوَابَ اللَّهِ الَّذِي أَعَدّهُ لِلصَّابِرِينَ، فَأَنتَ بِصَبرِكَ تَنَالُ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى : {وَاللَّهُ ‌يُحِبُّ ‌الصَّابِرِينَ}، وَتَفُوزُ بِمَعِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَ بِنَصرِهِ وَتَأيِيدِهِ : {إِنَّ اللَّهَ ‌مَعَ ‌الصَّابِرِينَ}، وَتُوَفَّى أَجرَكَ بِغَيرِ حِسَابٍ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم ‌بِغَيرِ ‌حِسَابٍ}، وَتَكُونُ مِن المُحسِنِينَ: {وَاصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ ‌أَجرَ ‌المُحسِنِينَ}، وَتُكَفَّرُ عَنكَ خَطَايَاكَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا يُصِيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى ‌الشَّوكَةَ ‌يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِن خَطَايَاهُ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ. وَفِي التِّرمِذِيِّ أنّه ﷺ قَال: «مَا يَزَالُ البَلَاءُ بِالمُؤمِنِ وَالمُؤمِنَةِ فِي نَفسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ».
ثَالِثًا : مما يعينُك عَلَى الصَّبرِ أَنْ تَتَذَكَّرَ ذُنُوبَكَ وَمَعَاصِيَكَ وَتَقصِيرَكَ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَتَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ ذُنُوبِكَ، فَإِنَّهُ مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنبٍ وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوبَةٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم ‌وَيَعفُو ‌عَن كَثِيرٍ}، وَتَعلَمَ أَنَّ ذُنُوبَكَ أَكثَرُ بِكَثِيرٍ مِن هَذَا الـمُصَابِ الَّذِي نَزَلَ بِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَو يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ‌ظَهرِهَا مِن دَابَّةٍ}. فَاجعَلِ البَلَاءَ سَبَبًا لِرُجُوعِكَ إِلَى اللَّهِ، وَالْتِجَائِكَ إِلَيهِ وَانطرَاحِكَ بِبَابِهِ، وَتَوبَتِكَ مِن ذُنُوبِك، وَإِعَادَةِ الحُقُوقِ إِلَى أَصحَابِهَا .
رَابِعًا : مما يُعِينُكَ عَلَى الصَّبرِ أَن تَتَذَكّرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيكَ المَاضِيَةَ وَالحَاضِرَةَ، فَتُدرِكَ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ لَا تُحصَى، وَأَنَّ البَلَاءَ الَّذِي نَزَلَ بِكَ مَهْمَا كَانَ عَظِيمًا فَإِنَّهُ لَا يُقَارِبُ النِّعَمَ الَّتِي تَغَمُرُكَ مِنَ الرَّحِيمِ اللَّطِيفِ سُبحَانَهُ: {وَإِن تَعُدُّوا نِعمَةَ اللَّهِ ‌لَا ‌تُحصُوهَا}.
خَامِسًا : مما يُعِينُكَ عَلَى الصَّبرِ أَن تَعلَمَ أَنَّهُ لَا يَنجُو مِن مَصَائِبِ الدُّنيَا أَحَدٌ أَبَدًا، وَلَو نَجَا مِنهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنهَا أَنبِيَاءُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ، وَيَكفِيكَ فِي تَصَوّرِ ذَلِكَ قِرَاءَةُ سِيرَةِ أَكرَمِ الخَلقِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَد كَانَت حَيَاتُهُ مَلِيئَةً بِالهُمُومِ وَالمَصَائِبِ وَالأَحزَانِ فِي سَبِيلِ إِيصَالِ الدَّعوَةِ إِلَى النَّاسِ.
سَادِسًا : مما يُعِينُكَ عَلَى الصَّبرِ أَن تَعلَمَ أَنَّ أَشَدّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، كَمَا أَخبَرَ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبدِهِ الخَيرَ عَجّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنيَا . كَمَا صَحّ عَن النَّبِيِّ ﷺ فِي سُنَنِ التِّرمِذِيِّ.
سَابِعًا : ما يُعِينُكَ عَلَى الصَّبرِ أَن تَعلَمَ أَنَّ الصَّبرَ مِفتَاحُ الفَرَجِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا ‌وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُم نَصرُنَا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسنَى عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ ‌بِمَا ‌صَبَرُوا}، وقال النبي ﷺ: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ».
ثَامِنًا : مما يُعِينُكَ عَلَى الصَّبرِ أَن تَعلَمَ أَنّ جَزَعَكَ وَتَسخُّطَكَ لَا يُعِيدُ مَفقُودًا، وَلَا يُزِيلُ كَربًا، وَلَا يَرفَعُ هَمًّا، وَلَا يَدفَعُ قَدَرًا، بَل يَزِيدُكَ أَلَمًا وَذَنبًا، فَمِن تَمَامِ العَقلِ أَن تَصبِرَ لِتَنقَلِبَ المُصِيبَةُ فِي حَقِّكَ نِعمَةً وَخَيرًا وَثَوَابًا.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَولِي هَذَا، وَأَستَغفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائِرِ المُسلِمِينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ فَاستَغفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَن وَالَاهُ، أَمَّا بَعدُ : عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِمَّا يُنَافِي الصَّبرَ التَّسَخُّطَ عَلَى أَقدَارِ اللَّهِ، وَالتَّضَجُّرَ مِن البَلَاءِ، وَلَطمَ الخُدُودِ، وَشَقَّ الجُيُوبِ، وَالنِّيَاحَةَ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَفعَالٌ كَانَ يَفعَلُهَا أَهلُ الجَاهِلِيَّةِ عِندَ المَصَائِبِ، فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنهَا.
وَإِنَّ مِن أَكبَرِ الخَسَارَةِ وَأَعظَمِ الغَبنِ أَن يَكُونَ البَلَاءُ سَبَبًا لِانتِكَاسَةِ الإِنسَانِ عَن إِيمَانِهِ، وَسُوءِ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ، فَيَخسَرَ دِينَهُ كَمَا خَسِرَ دُنيَاهُ، وَالمُسلِمُ العَاقِلُ يَستَثمِرُ المُصِيبَةَ بِالصَّبرِ، فَيَنتَفِعُ بِهَا فِي تَكفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، وَرِفعَةِ دَرَجَاتِهِ. يَقُولُ ربُّنا سُبحَانَه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا ‌وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ}.
عبادَ اللهِ : صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعَالَمِين، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. اللَّهُمَّ ارزُقنَا الشُّكرَ عِندَ النِّعمَةِ، وَالصَّبرَ عِندَ المُصِيبَةِ، وَزِدنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَرِضًا وَتَسلِيمًا . اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ مِنَ الخَيرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِن الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنهُ وَمَا لَمْ نَعلَمْ، وَنَسأَلُكَ الجَنَّةَ وَمَا يُقَرّبُنَا إِلَيهَا مِن قَولٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِن النَّارِ وَمَا يُقرّبُنَا إِلَيهَا مِن قَولٍ وَعَمَلٍ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلبِرِّ وَالتَّقوَى. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهُمَّ نَجِّ المستضعفين من المؤمنين ، اللهُمَّ احفظْ إخوتَنا في فلسطينَ وفي السودانَ وفي ليبيا ، اللهم اجبُرْ مُصَابَهم ، واشف مرضاهم ، واحفظهم بحفظِك يا عزيزُ يا رحيمُ يا حفيظُ .
اللهم عليك باليهودِ فإنهم لا يُعْجِزونك ، اللهم عليك باليهودِ فإنهم لا يُعْجِزُونك .
عِبَادَ اللَّهِ: اذكُرُوا اللَّهَ العَظِيمَ يَذكُرْكُم، وَاشكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكبَرُ، وَاَللَّهُ يَعلَمُ مَا تَصنَعُونَ.
2025/06/28 12:38:52
Back to Top
HTML Embed Code: