Telegram Web Link
هل يصنع القرآن العنف والتطرف؟!

-1-

في العالم اليوم نحو ألفَي مليون مسلم، ولا ريب أن نصفهم على الأقل يقرؤون القرآن بانتظام، وكثير منهم يسمعون خطب الجمعة على المنابر ويقرؤون المقالات الدينية في الدوريات ويتابعون المواعظ والأحاديث في الفضائيات، فهم يشتركون في الفهم العام الشائع للقرآن والإسلام. فإذا كان الإسلامُ دينَ العدوان والإرهاب وإذا كان القرآنُ كتابَ العنف والقتل والإجرام فينبغي أن يكون مئات الملايين من المسلمين قَتَلة متجولين، وعندئذ لن يمر يوم إلا وتنقل لنا الأخبار عشرات الحوادث، بل المئات، بل الآلاف من حوادث القتل العشوائي والاعتداء الظالم والعنف والإرهاب.

إلا أننا، ويا للغرابة، تمرّ بنا الأيام والأسابيع والشهور المتتالية حتى نسمع بحادثة واحدة من تلك الحوادث الشاذة التي تقشعر منها أبداننا -نحن المسلمين- قبل أن يستنكرها ويستقبحها الآخرون! فهل قرأ عامة المسلمين القرآنَ فلم يفهموا منه توجيهاً إلى القتل والإرهاب، أم فهموه ثم تقاعسوا عن الاستجابة والتنفيذ؟

وإذا كان التفسير المقبول لجنون بعض المجانين من المسلمين هو تأثرهم بالقرآن فبأيّ شيء نعلل جنون المجانين من غير المسلمين: الذي اقتحم مدرسة للأطفال فقتل التلاميذ بلا تمييز، والذي فتح النار من بندقيته الرشاشة في مطعم متواضع فقتل الآكلين الآمنين، والذي هاجم كنيسة للسود فقتل فيها عشرات المصلين، والذي فجّر مركزاً لإيواء المهاجرين، والذي قضى بالسم الزعاف على نحو ألف من أتباعه المهووسين؟

إننا نجد الجنون موزعاً بالتساوي بين الأمم والثقافات المختلفة، فلماذا لم نفسر إجرام غيرنا بالتربية الإنجيلية والتوراتية وفسرنا بالقرآن إجرامَ مجانين المسلمين؟

-2-

ما سبق نقض علمي إحصائي لهذه التهمة الباطلة وهذا الادعاء الغريب، ولكنه ليس النقدَ الوحيد الذي يُرَدّ به على الدعاوى المتهافتة التي توظف آيات القرآن، فتنتزعها من سياقها وتعزلها عن سباقها ولحاقها وتجمعها في صعيد واحد لتصوّر القرآنَ كتابَ عنف وقتل وإرهاب.

إن القرآن كتاب عقيدة وتشريع، وكتاب هَدْي ورحمة، وكتاب سلم وحرب، وكتاب نور وحكمة، وكتاب أمثلة وعِبَر، وهو المرجع الأساسي للمسلم في معاشه ومعاده، فهل يمكن أن يخلو من توجيهات تحدد للجماعة المسلمة علاقتها بأعدائها في حالات السلم والحرب والموادعة والقتال؟ فلو أننا أخذنا آيات السلم وعزلناها عن سياقها وجمعناها في صعيد واحد لقال القائلون: إن هذا دينٌ مهادن مسالم لا يعرف الحرب أبداً، فكيف كان الجهادُ ذروةَ سنام الإسلام؟ ولو أخذنا آيات الجهاد وعزلناها عن سياقها وجمعناها في صعيد واحد لقال القائلون: إن هذا دين حرب وقتال لا يعرف السلام أبداً، فكيف كان الإسلامُ دينَ العدل وكانت تحية أهله بإفشاء السلام؟

-3-

الذين يتهمون الإسلام بترويج العنف والإرهاب يعتمدون على آيات القتال في القرآن، وإني أسألهم راجياً منهم الجواب المنصف: ماذا يكون شعور الواحد منهم لو فتح كتاباً من المراجع الأساسية التي تدرّسها أكاديمية "ساندهيرْست" العسكرية البريطانية العريقة فوجد فيه هذه التعليمات:

"إذا هدّد العدو بلادكم فلا تستعدوا للحرب، وتجنّبوا مظاهر القوة التي تُدخل الرهبة على قلوب الأعداء"، "إذا لقيتم أعداءكم في ساحات الحرب فتجنبوا إطلاق النار على الرؤوس واستهدفوا الأقدام"، "لا تقتلوا أعداءكم حيث وجدتموهم ولا تحاصروهم ولا تضايقوهم، بل اتركوهم ليذهبوا حيث يشاؤون"، "أيها القادة: لا تشجّعوا جنودكم على الالتحام والقتال"، "قاتلوا الذين يقاتلونكم من الأعداء، ولكن احرصوا على أن تُظهروا لهم اللطف واللين وإياكم وإظهار القسوة والغلظة"، "إذا اجتمع الأعداء لقتالكم في جيش واحد فقاتلوهم وأنتم متفرقون، لا تقاتلوهم كافة مجتمعين كما يقاتلونكم كافة مجتمعين".

بالله عليكم: ماذا تقولون لو وجدتم هذه التعليمات في كتاب أكاديمي عسكري يَدْرسه الضباط والمحاربون في كليات أنشِئت لتعليم فنون الحرب والقتال؟ ألن تجدوه هراء سخيفاً مضحكاً وتحكموا على أمةٍ هذا مبلغُ ثقافتها العسكرية بأنها أمة ضائعة حتماً، لا بقاءَ لها ولا نَجاءَ في عالم يسوده المعتدون والأقوياء؟

-4-

ثم لو أن أحداً قال لكم: صحِّحوا هذا الخطأ المُعيب. فماذا ستصنعون؟ ستعيدون صياغة تلك التعليمات المضحكة لتصبح -في نظركم الصائب- صالحة لتربية عسكرية قويمة؛ ستصبح النصوص السابقة على الصورة الآتية:
"إذا هدّد العدو بلادكم فلا تستعدوا للحرب وتجنّبوا مظاهر القوة التي تدخل الرهبة على قلوب الأعداء" = "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". "إذا لقيتم أعداءكم في ساحات الحرب فتجنبوا إطلاق النار على الرؤوس واستهدفوا الأقدام" = "إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب". "لا تقتلوا أعداءكم حيث وجدتموهم ولا تحاصروهم ولا تضايقوهم، بل اتركوهم ليذهبوا حيث يشاؤون" = "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد"."أيها القادة: لا تشجّعوا جنودكم على الالتحام والقتال" = "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال". "قاتلوا الذين يقاتلونكم من الأعداء، ولكن احرصوا على أن تظهروا لهم اللطف واللين وإياكم وإظهار القسوة والغلظة" = "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة". "إذا اجتمع الأعداء لقتالكم في جيش واحد فقاتلوهم وأنتم متفرقون، لا تقاتلوهم كافة مجتمعين كما يقاتلونكم كافة مجتمعين" = "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة".

نعم، لو طُلب من أي مستشار عسكري أن يكتب نصاً عسكرياً تدريبياً يصلح لإنشاء جيش قادر على الدفاع عن "وطننا العربي والإسلامي" وحمايته من الأعداء فلن يصنع شيئاً سوى إعادة نسخ آيات القتال في القرآن.

بقيت نقطة ينبغي توضيحها منعاً لالتباس متوقَّع: إن كلمات المشركين والكافرين في الآيات السابقة كلها ليست لوصف حالة دينية اعتقادية، وإنما هي وصف عسكري في سياق حربي، فالمقصود الذي يوضحه السياق هو "الأعداء المحاربون" وليس "المخالفين في الدين والاعتقاد"، وهذا -مرة أخرى- استنتاجٌ حتمي يفرضه السياق، فقد وردت الأوصاف الثلاثة في مقام المترادفات: الأعداء والمشركون والكافرون = قريشاً وحلفاءها من الأعراب، الذين كان المسلمون معهم في حالة حرب وجودية صِفريّة، فإمّا انتصار وبقاء أو انكسار وفناء.

-5-

في الختام سوف أسوق مقابل آيات القتال التي يؤدي انتزاعُها من سياقها وجمعُها في صعيد واحد إلى تصوير القرآن كتابَ عدوان وإرهاب، سأسوق مقابلَها آيات العدل والسلام التي تثبت أن القرآن خاطب الجماعة المسلمة بحسب الحال، بخطاب الحرب يوم الحرب وبخطاب السلام في وقت السلام:

{أُذِنَ للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا، وإنّ الله على نصرهم لَقَدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}، {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين}، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، {وإن جَنَحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله}، {فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقَوا إليكم السَّلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً}، {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أنْ تَبَرّوهم وتُقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أنْ تَوَلَّوهم، ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون}، {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم يَنقُصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مُدَّتهم}، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قَوّامين لله شهداءَ بالقسط، ولا يجرمَنَّكم شَنَآنُ قوم على ألاّ تعدلوا، اعدِلوا هو أقرب للتقوى}. {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأَجِرْه حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه}، {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}.

بل إن العلاقة الأصلية بين المسلمين وعامة الناس هي حالة السلام كما يقول الشيخ محمود شلتوت، وهو يرى -مُحِقّاً- أن علاقتنا بالآخرين هي بالأساس علاقة تعارف ودعوة انطلاقاً من قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتَعَارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.

ثم يقرر بعض قواعد الحرب في الإسلام: (1) الأصل في العلاقة الإنسانية هو السلم والتعاون. (2) إن الحرب إذا وقعت كان لها حكم الضروريات، تقدَّر بقدرها دون بغي أو عدوان. (3) إن غير المحاربين لا يُنالون فيها بسوء. (4) الإسلام يسارع لوقف الحرب تلبيةً لرعبة السلم متى جنح إليها الطرف الآخر. ثم يقول: "إن السلم هو العلاقة الأصلية بين الناس في الإسلام، وإذا احتفظ غيرُ المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية يتعاونون على خيرها العام، ولكلٍّ دينُه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة" (لتفصيل أكثر يراجَع كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة"، ص453-458).

* * *

نعم، هذا هو ديننا وهذا قرآننا الذي لا نخجل منه ولا ننكر حرفاً فيه، ولكنّا نأبى أن تحوَّر معانيه بإخراج آياته من سياقها الذي وردت فيه لخدمة مقاصد محددة، وأحسب أن المسلمين لو فهموا هذه المعاني بلا زيادة ولا نقصان لما اعتدوا على أحد أبداً، ولعاشوا أعزّة كراماً بعيداً عن الهوان الذي انتهوا إليه في هذا الزمان الكئيب.
في أخبار اليوم أن تنظيمَي "حراس الدين" و"أنصار التوحيد" اتحدا في كيان جديد اسمه "حلف نصرة الإسلام".

قاعدة عامة: كلما سمعتَ باسم رنّان طنان -كهذه الأسماء- فضع يدك على قلبك واستعذ بالله من شَرّ قد اقترب!

أسأل الله أن يجيرنا من القادم، فإن نسخاً جديدة من داعش تولد تحت أعيننا والقاعدة ترفع راياتها في سوريا من جديد. كلما استدبَرْنا دلفاً استقبلَنا مزراب!
جبهة النصرة واستغباء المُريدين

ما هو رقم التهجير الجديد؟ ليس مخيّمُ اليرموك أولَ المناطق استسلاماً وخروجاً في تاريخ الثورة، فقد سبقته مناطق كثيرة، حمص القديمة والزبداني والمعضمية وداريا وحلب ووادي بردى والوعر والتل وخان الشيح والقدم والغوطة الشرقية والقلمون... في هذه المناطق وفي غيرها من المدن التي هُجِّر سكانها كانت الصفقة مختصرة واضحة: الخروج مع ما يمكن حمله من متاع شخصي وسلاح فردي بلا أي مقابل، المقابل الوحيد هو إخلاء المنطقة وتسليمها للنظام.

كيف صار مخيم اليرموك استثناء من تلك القاعدة حتى تضطر جبهة النصرة لتقديم ذلك الثمن الباهظ مقابل الخروج؟ لماذا تَسْتغبون الناس يا قادة النصرة؟ فكوا الحصار عن الضَّيعتين إن شئتم أن تفكوا الحصار وأطلقوا سراح الرهائن المحاصَرين إن شئتم أن تطلقوا سراح الرهائن المحاصرين، اصنعوا ذلك كله بصمت، ولكن لا تحاولوا استغباءنا فتزعموا أن ذلك جزء من صفقةٍ اضطُررتم إليها ولم يكن لكم فيها خيار!

على أننا نعلم أن النصرة لم تحاول استغباءنا، فهي تدرك أننا لن نبلع لقمة كبيرة بهذا الحجم، فلماذا أعلنت أن إطلاق رافضة الفوعة وكفريا كان ضرورياً لإتمام الصفقة؟ لقد كان الإعلان من أجل عناصر النصرة ومريديها الذين يحتاجون إلى "جرعة تخدير" تساعدهم على امتصاص الصدمة! ومرة أخرى يصفق البلهاء والأغبياء هاتفين: لجبهتنا العبقرية كل الشكر لأنها نجحت في إنقاذ مقاتلينا المحتجَزين في مخيم اليرموك!

بل أكثر من ذلك: إنه نصر عظيم من حيث لا تعلمون! إنْ لم تصدقوا فهاكم "تخريجة" أحد مرقعة وكهنة الجولاني، أبي شعيب المصري: إن تحرير كفريا والفوعة من سلطان الكافرين فتحٌ من الله ونصر للمؤمنين. "ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين"، فالحمد لله حمداً كثيراً.

الله أكبر، شكراً يا مرقِّع! بفضلك سينام "المريدون" هذه الليلة مطمئنين فرحين بالنصر العظيم... وفي هذه الأثناء يستمرّ مسلسل العَمالة والتسليم، ولا عزاء للمغفلين!
بين منهج القاعدة السقيم
والمنهج النبوي القويم

الفروق بين "منهج القاعدة" و"منهج النبوّة" كثيرة، كثيرة جداً، غير أن أهمها على الإطلاق هو أن القاعدة تقلب "هرم الدعوة النبوية" رأساً على عقب، فتبدأ من حيث انتهى النبي عليه الصلاة والسلام ثم تمشي بعكس الطريق لتنتهي (لو انتهت، ولم تفعل قط) إلى حيث بدأ.

كيف نشر النبي دعوته وكيف أسّس دولة الإسلام؟ هذه سيرتُه بين أيدينا، اقرؤوها تجدوا فيها دعوةً متّصلةً صبرَ عليها صاحبُها السنينَ الطوال حتى أثمرت جماعةً مؤمنة، ثم اتسعت الجماعة (بالدعوة والدعوة وحدَها) حتى نشأ منها مجتمع مؤمن أسَّسَ حياتَه على الإسلام باختياره ورضاه، لم يجبره على اعتناقه أحد قط ولم يحاربه للالتزام بأحكامه أحدٌ أبداً.

لقد بنى النبي الحكيم الإنسانَ المسلم وصنع الجماعةَ المؤمنة فصنعت هي دولة الإسلام؛ أقنع الناس بالإسلام، فلما اقتنعوا به تحاكموا إليه -راضين- في حياتهم ومعاشهم وعبادتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وسياستهم وحربهم وسلمهم، وخضعوا له في كل أمر وفي كل حال.

هذا هو المنهج النبوي القويم: بدأ بالدعوة وانتهى بالدولة، وبدأ بالجوهر فتبعه المظهر والمخبر، وأصلح نفوس الناس فاستقامت أعمال الناس. أما "القاعدة" فإن لها منهجاً مقلوباً منكوساً، فإنها تبدأ بالسيطرة على الأرض بقوة السلاح ثم تفرض الدين على الناس بالإكراه، ولأنها أبعد الناس قاطبة عن فهم "فقه الدعوة النبوية" فإنها تهمل الجوهر وتنشغل بتغيير ظواهر الأعمال والأشكال!

وأهم من ذلك كله: إن المنهج النبوي يحفظ للأمة حريتها ولا يسلّط عليها أفراداً مستبدّين يتحكمون في حياتها وثروتها وإرادتها، أما القاعدة فإنها تسلب الأمة حريتها وتتسلط عليها بقوة السلاح الذي لا تعرف لغة سواه، فتكون النتيجة النهائية أن الناس يخرجون من جَور وتسلّط إلى جور وتسلط ويستبدلون استبداداً باستبداد، لا فرق سوى أن الاستبداد القديم ملوَّن بالألوان الزاهية والاستبداد الجديد مُسَربَل بالسواد.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:

مَن أحب أن يُسخّر الله له مَن هو أقوى منه وأغنى فليُعِنْ من هو أضعف منه وأفقر، وليضع كلٌّ منا نفسه في موضع الآخر، وليحبّ لأخيه ما يحب لنفسه. إن النعم إنما تُحفَظ وتدوم وتزداد بالشكر، وإن الشكر لا يكون باللسان وحده. ولو قال الإنسان ألف مرة: "الحمد لله"، وهو يضنّ بماله إن كان غنياً ويبخل بجاهه إن كان وجيهاً ويظلم بسلطانه إن كان ذا سلطان، لا يكون حامداً لله وإنما يكون مرائياً أو كذّاباً.

فاحمدوا الله على نعمه حمداً فعلياً، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن الله إليكم، واعلموا أن ما أدعوكم إليه اليوم هو من أسباب النصر على العدو ومن جملة الاستعداد له؛ فهو جهاد بالمال، والجهاد بالمال أخو الجهاد بالنفس.

ورحم الله مَن سمع المواعظ فعمل بها ولم يجعلها تدخل من أذن لتخرج من الأخرى.

[من كتاب "مع الناس"، مقالة "أحسن كما أحسن الله إليك" (1959)]
رسالة إلى مجاهدي جنوب دمشق

إخواني الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سألني عدد من الإخوة فُرادى وأجبتهم فرادى كما سألوا، ثم وجدت أن الهمّ عام وأن من حق كل ساكني المنطقة معرفة الجواب، فآثرت كتابته على شكل رسالة عامة ليصل إلى الجميع.

السؤال عن حكم البقاء في المنطقة في ظل المصالحة المقترحة مع النظام برعاية الروس. هذا السؤال الخطير هو سؤال الوقت، وجوابه دقيق جداً وخطير جداً، فقد تُبنى عليه خسارة أرواح وانتهاك حرمات (لا قدر الله) أو إنقاذ الأرواح والحرمات بأمر الله.

كما يقول علماؤنا: لا يستطيع المفتي تقديم الحكم إلا بعد تصور الواقعة، فالحكم فرع عن التصور وتَبَعٌ له، فأنا أقدم الرأي بناء على ما استقرّ في ذهني من تصور الحالة، فإن أخطأت فصوّبوني مشكورين.

لا شك أن الفتوى تختلف من شخص لآخر، ففي كل منطقة في سوريا ثلاثة أنواع من الناس: نوع مُوال للنظام، إن كان في مناطقه أظهر ولاءه وإن كان في مناطق الثوار أخفاه. ونوع مؤيد للثورة، إن كان في مناطقها أظهر تأييده وإن كان في مناطق النظام استتر ودارى. النوع الثالث هو الذي يسمونه رمادياً، وهو خارج السياق، فلا هو في العير ولا في النفير.

فأما الأولون فالخطر عليهم في حال بقائهم في المنطقة ضئيل، ولكنه ليس معدوماً، وفي كل الأحوال هم لن يختاروا الخروج إلى مناطق الثورة، فأمرهم محسوم. ربما ظنوا أنهم سيَسْلمون في حضن النظام، ذلك لأنهم لا يعرفونه حق المعرفة، ولو عرفوه لما اطمأنوا غاية الاطمئنان، فإن لهم عبرة في مؤيدي النظام الذين خرجوا من مخيم اليرموك عبر معبر الوحش قبل أربع سنوات ونيّف، فقد سيقوا إلى المعتقلات ومات كثير منهم بسبب الجوع والتعذيب، وهي قصة حزينة تعرفونها أنتم أنفسكم أكثر من أي شخص آخر.

الرماديون (المحايدون) سيختارون البقاء أيضاً، فلا فائدة من بحث مصيرهم، وإن كنت أظن (بل أغلّب) أن يتعرضوا لبعض التضييق والانتقام، فإن معاشرة الثوار جريمة والعيش في المناطق المحررة زمناً طويلاً سيستدعي -في عرف النظام المجرم- بعضَ التكفير والتأهيل.

الفريق الثاني هو الذي يهمنا، وهو الذي أكتب له هذه الرسالة. هؤلاء لو بقوا في المنطقة سيبقون في خطر كبير وسوف يتعرضون للأذى والتنكيل آجلاً أو عاجلاً، أجزم بذلك من معرفة طويلة بهذا النظام المخابراتي الأمني المجرم، فقد عشنا مأساة الثمانينيات -أنا وأقراني- ورأينا كيف صنع بالذين وقفوا في وجهه أو كانت لهم علاقة، أي علاقة، بالذين حاربوه.

لقد اعتقل نظام الأسد الأب نحو أربعين ألفاً، منهم أقل من أربعة آلاف من عناصر الطليعة والإخوان. أي أنه اعتقل تسعة من الأبرياء مقابل كل واحد من "المطلوبين"، ولم يكن لهؤلاء الناس ذنب سوى أنهم كانوا أقارب أو معارف للمطارَدين، أو مجرد أشخاص عاديين أقاموا بهم علاقة عمل وانتفاع عابر.

أنا لا أشك أن النظام سينتقم من كل من شارك بالثورة (لو قدر على الوصول إليه) سواء مَن شارك بمعركة أو بمنشور، بمظاهرة أو بتصوير، بإغاثة محتاجين أو بعلاج مصاب. إنه نظام فريد ليس له في الدنيا في هذا العصر مثيل في الإجرام. نعم، عاشت في الماضي أنظمة مشابهة وتعرض الناس في كل زمان ومكان للظلم والاضطهاد، أما الآن في هذا العصر بالذات فلا يوجد لنظام الأسد مثيلٌ في الجبروت والظلم والإجرام، فأعيذكم بالله أن تُسلموا له أنفسكم طائعين مختارين وأنتم تملكون الفرصة للنجاة.

خلاصة ما أراه من رأي، وهي فتوى أتحمل مسؤوليتها أمام الله: مَن غلب على ظنه أنه لو بقي فسوف يُضارّ في نفسه أو عِرضه فالبقاء في حقه حرام، ومن غلب على ظنه أنه سوف يُسحب للخدمة الإلزامية (ولو مؤجَّلاً بعد حين) ثم يُضطر للقتال مع النظام ضد إخوانه الثائرين في مناطق أخرى فإن بقاءه حرام.

بقي عليكم أنتم، أو على كل واحد منكم، إسقاط الحكم على نفسه وتحقيق مناطه فيه، فكل واحد أدرى بنفسه، أمّا أنا فلو كنت مقيماً في المنطقة وكانت لي مشاركة في الثورة، مهما تكن مشاركتي رمزية وضئيلة، لو كنت كذلك سأغادر، لن أبقى صيداً سهلاً مؤجَّلاً للنظام، ولا يهمني أن أبقى فترة قصيرة لأتأكد مما ستؤول إليه الأمور لأنني أعرف إلى أي شيء ستؤول، ولأن باب الفرصة لا يُفتَح للأبد، فإما أن أستغلّ الفرصة الآنية للخروج أو سيغلق الباب إلى أجل غير معلوم وأقع في المصيدة.

مع تقديري العظيم للشجاعة والوعي العالي والإيمان العميق الذي دفعكم إلى الإحساس بالمسؤولية والبحث عن حل ينجّي المنطقة من التشييع والتغيير الديمغرافي، لكنني أظن أن بقاءكم لن يحسم الموضوع بقدر ما سيحسمه بقاء الموالين والرماديين الذين أشرت إليهم سابقاً، ولا بد أنهم كثيرون.

أسأل الله أن يلهمكم الصواب، وأن يحفظكم ويحميكم من كل شر، وأن يجزل لكم الثواب بنيّتكم الحاضرة وبما سلفَ لكم من جهاد وصمود.
الهزيمة والسِّواك

كلما تأخر علينا نصرٌ أو تعرضنا لهزيمةٍ بُعِثت من مرقدها تلك الأسطورةُ العجيبة، قصة الجيش الذي حُرم من النصر لأنه عطّل سنّة السواك! وهي "قصة موسميّة"، لها مواسم تنتشر فيها حتى تنافس وصية الشيخ أحمد، خادم الحجرة النبوية المزعوم، وما أدري أيُّهما أكثر إساءة للدين واستهانة بعقول المسلمين!

نعم، السواك سُنّة يثاب فاعلها، ولكنّ تارك السنّة لا يعاقَب، بل إن تعريف الرغائب والسنن والمندوبات عند الأصوليين هو "ما يُثاب فاعله ولا يعاقَب تاركه". وهَبُوا أن المجاهدين تركوا السواك ثم عوقبوا على تركه، فبأيّ شيء تكون العقوبة؟ سوف يعاقَبون بتسوّس أسنانهم وحسب، لأن الجزاء من جنس العمل. أمّا أن يُهزَم الجيش كله بسبب التقصير في أداء بعض السنن فإنها خرافة عجيبة لا يقبلها عقل ولا دين!

وإن من أعجب العجب أن نترك كتاب ربنا وآياته المحكمات ثم نركض وراء الخرافات والموضوعات! ما لنا وللبحث عن أسباب هزيمتنا في تلك الأخبار الواهية، وفي كتاب الله آياتٌ محكمات تبيّنها لنا بأوضح عبارة وأبيَن أسلوب؟

* * *

لو بحثنا في كتاب الله سنجد أن "قانون الهزيمة" يدور في القرآن على معنيَين كبيرين: التنازع والظلم. فأما التنازع فنستخرجه من قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وأما الظلم فمن قوله: {والظالمون ما لهم من وليّ ولا نصير}.

فإذا ابتعد عنّا النصر وطرقت الهزيمةُ بابَنا فلا تبحثوا عن الفروع والمندوبات، ابحثوا عن الأصول والفرائض الكبرى. فكّروا: ألم يتنازع قادةُ الثورة ويتفرّقوا شَذَرَ مَذَر في سبيل النفوذ والسلطان؟ أمَا انتشر الظلم في الأراضي المحررة حتى صارت بعض الفصائل نُسَخاً رديئة من النظام؟ أليس في جمهور الثورة كثيرون، كثيرون جداً يستهينون بالظلم ويدافعون عن الظالمين؟

لقد عُرف الجواب، ففيمَ البحث ولِمَ الاستغراب؟ ليس ترك السواك هو سبب الهزيمة؛ إن سببها هو الظلم والفساد والفُرقة والتنازع، سببها فاسدون وظَلَمة كثيرون يملؤون الأرض، ومِن ورائهم أنصار ومُريدون لا يحصيهم العَدّ، رضوا عن الظلم والفساد ومضوا يصفّقون للفاسدين والظالمين.
قرأت في مذكرات سائح أجنبي في الصين أن حمّالَين صينيَّين وقفا يتجادلان بعنف وسط شارع مزدحم. قال: وبلغ بهما الغضب والهياج مبلغاً عظيماً حتى ظننت أن أحدهما سيقتل صاحبه لا محالة، إلا أن أياً منهما لم يمدّ يده على الآخر! وكان معي صديق صيني، لمّا رأى استغرابي قال: لا تخف، لن يُكسر عظم ولن يُراق دم؛ إنهما يتجنبان العنف لأن الذي يضرب أولاً يسلّم بعدم جدوى أفكاره.

[نسخة لبعض الناس]
شركاء لا عبيد

لم يكن متوقَّعاً أن يملك الريفُ الشمالي قرارَه المستقل تمام الاستقلال، فالدولة التي ساهمت في تحريره سوف تساهم بالقدر نفسه في السيطرة والتحكم والنفوذ. هذا القدر من المشاركة والتدخل مفهوم في ضوء ملابسات التحرير وما بعدها، وقد يكون مقبولاً في ظل الضعف الذي تعاني منه فصائلنا العسكرية وعجزها عن مجاراة اللاعبين الكبار.

نعم، بعض التنازل عن النفوذ الكامل لأهل الثورة على الأرض المحررة مفهوم ومقبول، ولكنْ ليس مفهوماً ولا مقبولاً أن تتحول الفصائل العسكرية والمؤسسات المدنية في أراضينا المحررة إلى بيادق شطرنج! ليس مفهوماً ولا مقبولاً أن يتحول الجميع إلى موظفين لدى الدولة الداعمة، مهما بلغ دعمها وأيّاً تكن حاجتنا إليها، فمَن قال إننا لا نقدم لها بالمقابل خدمةً هي في حاجة إليها أيضاً؟ ولماذا تكون خدمتنا بلا ثمن؟

فلنَحْنِ الرؤوس في زمن العواصف ولنتنازلْ عن بعض الكبرياء في سبيل البقاء، لا بأس، ولكنّ الفرق بين عطف الرأس على الصدر والسجود على أربعٍ كبيرٌ كبير، الفرق بين التنازل عن بعض الكبرياء والتضحية بالكرامة والحرية كلها كبير كبير، الفرق بين الشراكة والعبودية كبير كبير كبير.

رضينا بالشراكة مع إخوة كرام دعمونا بالكثير، وما يزالون يدعمون، أمّا أن يصبح أهل الأرض عبيداً وموظفين في أرضهم فهذا كثير! ولعل بعض اللوم فقط يستحقه الأتراك، أما أكثره فيستحقه قادة فصائل الريف الشمالي الذين هانوا في أعين أنفسهم فهانوا في أعين الآخرين، وإلاّ فكيف سمحوا أن يبيت إخوةٌ لهم وأخواتٌ في العراء يومين وهم صامتون؟

ألا قليلٌ من كرامة يا قادة الشمال؟ اهتفوا بملء الصوت حتى يسمعكم القريب والبعيد: إخواننا المهجَّرون من حمص والجنوب الدمشقي سيبيتون الليلة في الأرض المحررة مهما يكن الثمن. أنتم تمثلون شعباً حراً وثورة عظيمة، فارفعوا رؤوسكم كما يصنع الشريك مع الشريك، لا تسمحوا لأحد بعد اليوم أن يعاملكم كما يتعامل السادة مع العبيد.
ما أبشعَ الضعفَ في دنيا القُساة!

يرى بعض النقّاد أن أنطون تشيخوف هو أعظم مؤلفي القصص القصيرة في التاريخ، وهو معدودٌ في الطبقة العالية من الأدباء الروس، مات سنة 1904 تاركاً وراءه مئات القصص والمسرحيات، منها قصة "المغفلة" الشهيرة التي نشرها سنة 1883، وقد أُدرجت ضمن المقررات الدراسية في كثير من الدول بلغات شتّى.

هذه القصة ذات المغزى العميق قرأ ترجمتَها العربيةَ كثيرون من القراء العرب ولم يقرأها كثيرون، فلهؤلاء الآخَرين أحببت تقديمها هنا (وقد اقتصر عملي فيها على تحرير النص العربي ومراجعته على الأصل الأجنبي) أنشرها بلا تعليق، فإن في جملة الختام ما يغني عن أي تعليق.

____________________

منذ أيام دعوتُ الى غرفة مكتبي مربّيةَ أولادي "يوليا فاسيليفنا" لكي أدفع لها حسابها. قلت لها: اجلسي يا يوليا، هيّا نتحاسب. أنت بحاجة إلى النقود، ولكنك خجولة لدرجة أنك لن تطلبيها بنفسك. حسناً، لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلاً في الشهر.

قالت: أربعين.

قلت: لا، بل ثلاثين، هذا مسجل عندي. لقد كنت أدفع دائماً ثلاثين روبلاً للمربّيات.

قالت: حسناً.

قلت: لقد عملتِ لدينا شهرين.

قالت: شهرين وخمسة أيام.

قلت: شهرين بالضبط، هذا مسجل عندي. إذن تستحقين ستين روبلاً. نخصم منها تسعة أيام آحاد، فأنت لم تعلّمي "كوليا" في أيام الآحاد بل كنت تتنزهين معه فقط، ثم ثلاثة أيام أعياد...

تضرّج وجه يوليا فاسيليفنا وعبثت أصابعها بأهداب ثوبها، ولكنها لم تنبس بكلمة.

واصلتُ قائلاً: نخصم ثلاثة أعياد، المجموع اثنا عشر روبلاً. وكان كوليا مريضاً أربعة أيام فلم يدرس، كنت تدرّسين "فاريا" فقط. وثلاثة أيام كانت أسنانك تؤلمك فسمحتْ لك زوجتي بعدم التدريس بعد الغداء. إذن اثنا عشر زائد سبعة، المجموع تسعة عشر. نخصمها فيبقى واحد وأربعون روبلاً. صحيح؟

احمرّت عينا يوليا فاسيليفنا وامتلأت بالدموع وارتعش ذقنها وسعلت بعصبية، ولكنها لم تنبس بكلمة.

قلت: قُبَيل رأس السنة كسرتِ فنجاناً وطبقاً، فسوف نخصم روبلّين. الفنجان أغلى من ذلك، فهو من إرث العائلة، ولكن فليسامحك الله. وبسبب تقصيرك تسلّق كوليا الشجرة ومزق سترته، نخصم عشرة. وبسبب تقصيرك أيضاً سرقت الخادمة حذاء فاريا، وكان من واجبك أن ترعي كل شيء، فأنت تتقاضين راتبك من أجل ذلك. وهكذا نخصم خمسة روبلات. وفي الشهر الماضي أخذت مني عشرة روبلات...

همست يوليا فاسيليفنا بصوت خافت: لم آخذ!

قلت: لكن هذا مسجَّل عندي.

قالت: حسناً، كما تشاء.

قلت: من واحد وأربعين نخصم سبعة وعشرين، الباقي أربعة عشر روبلاً.

فاضت عيناها بالدموع، يا للفتاة المسكينة! قالت بصوت متهدج: أخذتُ مرة واحدة، أخذت من زوجتك ثلاثة روبلات، لم آخذ غيرها.

قلت: حقاً؟ تصوري أنني لم أسجل ذلك! نخصم ثلاثة من الأربعة عشر، الباقي أحد عشر. ها هي نقودك يا عزيزتي، تفضلي.

قدمت لها أحد عشر روبلاً، فتناولتها ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة وهمست: شكراً.

انتفضتُ واقفاً وأخذت أروح وأجيء في الغرفة وقد بلغ بي الغضب والانفعال أقصاه. سألتها: شكراً على ماذا؟

قالت: على النقود.

قلت: ولكني نهَبْتك، سلبتك! لقد سرقت مالك، فعلامَ تشكرينني؟

قالت: في أماكن أخرى لم يعطوني شيئاً.

قلت بانفعال: لم يعطوكِ؟! أليس هذا غريباً؟ لقد أردت أن ألقّنك درساً ولم أكن جاداً. والآن سأعطيك نقودك كاملة، ثمانين روبلاً، ها هي هنا في الظرف، لقد جهزتها لك. ولكن هل يمكن أن تكوني عاجزة لهذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجّين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن أن لا تكوني حادّة الأنياب في هذه الدنيا القاسية؟ هل يمكن أن تكوني مغفلة لهذه الدرجة؟

ابتسمَت بعجز، فقرأتُ في تعابير وجهها: نعم، يمكن!

اعتذرتُ عن الخدعة القاسية التي عرّضتها لها، وسلّمتها -وهي في غاية الدهشة- الروبلات الثمانين، فشكرتني بخجل وانصرفت.

نظرتُ إليها مُدْبرةً وفكّرتُ: ما أبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدنيا القاسية!
كل عام وأنتم بخير

أسأل الله أن يبارك لكم جميعاً في هذا الشهر الكريم، وأن يجعله شهر خير وفرج وأمن وطمأنينة ورضا وسكينة لكم ولمَن تحبّون، وللسوريين في كل مكان على ظهر الأرض وللمسلمين أجمعين.

مَن كان مقيماً في تركيا وصام اليوم بصيامها فقد أحسن، فاتّباع الجماعة خيرٌ والالتزام بتوقيت البلد الذي يقيم المرء فيه هو الأصل، وهو ما ذهب إليه بيان المجلس الإسلامي الموفق الذي أصدره أمس. ومَن أفطر لأنه تحقق أن الشرط الشرعي لم يتوفر فلا إثم عليه إن شاء الله، والأفضل أن يصوم يوماً قضاءً من باب الاحتياط، ولو اختار أحد أيام الشتاء القصيرة فلا بأس عليه.

مع العلم بأن إثبات تركيا لدخول الشهر بُني على حساب بحت ولم يأخذ الرؤية بعين الاعتبار، والرؤية كانت مستحيلة حتى بالتلسكوبات، لأن الهلال "وُلد فلكياً" (حصل الاقتران) في الثانية والنصف من بعد ظهر الثلاثاء تقريباً، إلا أنه غاب مع الشمس أو قبلها في أكثر دول العالم الإسلامي (ما عدا الشمال الأفريقي).

* * *

توضيح وتفصيل: عندما تقف على سطح الأرض تكون النقطة فوق رأسك هي نقطة "السمت"، وتسمى النقطة المقابلة تحت رجليك "النظير". والآن تخيل دائرة وهمية عملاقة تمر بثلاث نقاط: السمت والنظير والشمس الموجودة في السماء. هذه الدائرة تمثل أحد خطوط الطول السماوية. في أي لحظة من لحظات النهار سيكون القمر على أحد طرفَي الدائرة، وهو يتحرك (ظاهرياً) مبتعداً عنها في أوائل الشهور القمرية ومقترباً منها في أواخرها.

يستمر القمر بالاقتراب من هذا الخط (الوهمي) مع نهاية لحظات الدورة القمرية، وفي لحظة من اللحظات يمرّ بالدائرة ويقطعها من جهة إلى أخرى (في حالات قليلة يمرّ القمر أمام الشمس مباشرة فيكسفها -كلياً أو جزئياً- ولكن الغالب أن يقطع الدائرة فوق الشمس أو تحتها على مستوى النظر الظاهري). هذه اللحظة تسمى بالتعبير الفلكي "الاقتران"، وفي اللحظة التالية تبدأ "دورة اقترانية قمرية جديدة" تستمر لمدة شهر كامل حتى يحصل الاقتران القادم.

لكن الاقتران بذاته لا يستلزم أن يصل القمر إلى الأفق قبل الشمس أو تصل الشمس إلى الأفق قبله، فالأمر يعتمد على السرعة (الظاهرية) لكل من الجرمين وعلى المسافة القَوْسيّة التي بقي عليه قطعُها قبل وصوله إلى الأفق، ومن ثَمّ فإن القمر يمكن أن يغيب بعد الشمس أو قبلها، وقد يغيبان معاً في بعض الأحيان.

النتيجة: إن الاقتران والولادة الفلكية للهلال (ما يسمى فلكياً "القمر الجديد") يدل على بدء "دورة اقترانية قمرية" جديدة ولا يدل على "شهر قمري" جديد، فالشهر القمري يبدأ في اليوم التالي لليوم الذي يغيب فيه الهلال بعد غياب الشمس، ولو بدقيقة. وغالباً يشترط الفلكيون الذين يُعدّون التقاويم في معظم البلدان الإسلامية شرطين لإثبات دخول الشهر القمري الجديد: أن يحدث الاقتران قبل غروب الشمس بتوقيت البلد المحلي، وأن يغرب القمر بعد الشمس في ذلك البلد.

يبدو أن تركيا اعتمدت على الاقتران والولادة الفلكية وحدها، وهذا هو سبب الاختلاف بينها وبين معظم دول العالم الإسلامي في تحديد بداية رمضان بين الأربعاء والخميس هذا العام. ولا شك أن طريقة البلدان الأخرى هي الصحيحة شرعاً، لذلك قلت في مطلع هذا المنشور إن من أفطر اليوم -من السوريين المقيمين في تركيا- فلا إثم عليه إن شاء الله، لكني ما زلت أرى أن الأفضل والأحوط هو أن يصوم يوماً محله على سبيل القضاء. تقبل الله منكم أجمعين.
مسائل رمضانية (1)
بخّاخ الربو

هل يَفسد الصوم باستعمال بخاخ الربو؟ هذه مسألة حادثة لم يبحثها القدماء لأنها لم تكن في زمانهم، وقد اختلف فيها أهل العصر على رأيين، أصحّهما -لتأييده بالأدلة الطبية والشرعية- أنه لا يُفطر.

هذا هو رأي القرضاوي وابن باز وابن عثيمين، واختارته اللجنةُ الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية، جاء في فتواها المنشورة: "دواء الربو الذي يستعمله المريض استنشاقاً يصل عن طريق القصبة الهوائية إلى الرئتين لا إلى المعدة... والذي يظهر عدم الفطر باستعمال هذا الدواء استنشاقاً، لما تقدم من أنه ليس في حكم الأكل والشرب بوجه من الوجوه".

وهو الرأي الذي اعتمدته "الندوة الفقهية الطبية التاسعة" التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت سنة 1997، وجاء في قرارها المعلَّل ما يلي:

إن الرذاذ الذي ينفثه بخاخ الربو عبارة عن هواء حدوده الرئتان ومهمته توسيع شرايينهما وشُعَبهما الهوائية التي تضيق بالربو. والأصل في هذا الرذاذ أنه لا يصل إلى المعدة، فليس أكلاً ولا شرباً ولا هو في معناهما. ولأنه لو دخل شيء من بخاخ الربو إلى المريء ثم إلى المعدة فهو قليل جداً، فالعبوة الصغيرة التي أعدت لمئتَي بَخّة تحتوي على عشرة مليلترات من الدواء السائل، أي أن البخة الواحدة تستغرق نصف عشر مليلتر، وهذا شيء يسير جداً. ولأنه لمّا أبيح للصائم المضمضة والاستنشاق مع بقاء شيء من أثر الماء يدخل المعدة مع بلع الريق فكذلك لا يضر الداخل إلى المعدة من بخاخ الربو قياساً على المتبقي من المضمضة.

وبالقياس على استعمال السواك، فقد ذكر الأطباء أن السواك يحتوي على ثمانية مواد كيميائية، تقي الأسنان واللثة من الأمراض، وهي تَنْحَلّ باللعاب وتدخل البلعوم، وقد جاء في صحيح البخاري معلقاً (ووصله عبد الرزاق عن عامر بن ربيعة) قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي". فإذا كان قد عُفي عن هذه المواد التي تدخل إلى المعدة لكونها قليلة وغير مقصودة فكذلك ما يدخل من بخاخ الربو، يعفى عنه للسبب ذاته. كما أن دخول شيء إلى المعدة من بخاخ الربو ليس أمراً قطعياً بل هو مشكوك فيه، فقد يدخل وقد لا يدخل، والأصل صحة الصيام وهو اليقين فلا يزول بالشك.
في صحبة جدي علي الطنطاوي (رحمه الله)

برنامج يومي يُذاع في ليالي شهر رمضان المبارك عبر "قناة المجد العلمية"

موعد إذاعة الحلقات قبل منتصف الليل بربع ساعة (23:45) بتوقيت مكة المكرمة
مسائل رمضانية (2)
أقراص تحت اللسان

أصيب أبي رحمه الله بذبحة صدرية في وقت مبكر نسبياً من حياته، وعاش بعدها سنوات طويلة وفي جيبه علبة أقراص لا تفارقه في حلّه وترحاله، فكلما أحس بألم في صدره أخرج من العلبة قرصاً صغيراً وضعه تحت لسانه فيزول الألم ويحس بالارتياح.

تتسبب الذبحة الصدرية بألم في الصدر منشؤه نقص كمية الدم المتدفق إلى عضلة القلب نتيجة لانسداد أو تضيّق بعض الشرايين التاجيّة، فإذا شعر المريض بهذا الألم وضع تحت لسانه حبّة "نيترو غلسرين" فتذوب في ثوان قليلة، وتُمتَصّ المادة الدوائية على الفور عبر الأوعية الدموية التي تنتشر تحت اللسان بكثافة فتصل إلى الأوردة والشرايين وتوسعها، فيزداد تدفق الدم إلى عضلة القلب وتحصل على حاجتها من الأكسجين.

يتضح من ذلك أن الأقراص التي توضع تحت اللسان لا تعبر الحلق ولا تصل إلى الجوف، لذلك فإنها لا تفطر الصائم، إلا إذا بلع بقايا الدواء التي تبقى بعد امتصاص المادة العلاجية. فإذا تمضمض المريض بعد استعمال القرص ولم يدخل جوفَه شيء من بقاياه فهو في أمان، وصيامُه صحيحٌ إن شاء الله.

وقد أفتى بذلك مجمع الفقه الإسلامي الدولي (التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) في دورته العاشرة التي عقدها في جدة سنة 1997، حيث صدر القرار بالإجماع، ولا أعلم مخالفاً له بين فقهاء العصر المعتبَرين.
مسائل رمضانية (3)
الإبر العلاجية والمغذّية

لا خلاف في أن "الإبر العلاجية" لا تفطر، سواء منها ما يُحقَن تحت الجلد أو في العضل أو الوريد، وقد نص على جوازها للصائم وعدم تأثيرها في صحة صيامه أكثرُ فقهاء العصر المعتبَرين، وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته العاشرة سنة 1997، وفيه: "من الأمور التي لا تعتبر من المفطرات: الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية".

بقيت الإبر المغذّية: هل تفطر أو لا تفطر؟ اختار المجمعُ الرأيَ الأول كما اتضح في قراره المذكور، وهو رأي اللجنة الدائمة في السعودية وعدد من كبار علماء العصر، وحجتهم أن هذه الإبر تقوم مقام الطعام والشراب، والشرع لم يفرق بين متماثلَين. ولم يفرق بعض الفقهاء بين نوعَي الإبر، فهي كلها عندهم لا تفسد الصيام. إلى هذا الرأي ذهب محمد بخيت المطيعي ومحمود شلتوت، وهو ما أفتت به لجنة الفتوى في الأزهر عام 1948.

والذي يطمئن إليه القلبُ أن الإبر المغذية مفطرة، لأن الغرض من الصيام ليس مجرد حرمان الصائم من لذة تذوق الأكل في فمه، بل من الغذاء نفسه، وهذه الإبر تغني المرءَ عن الطعام والشراب.

على أن الإبر المغذية لا يعالَج بها إلا من ثبتت حاجتُه الطبية إليها، فلا خلافَ في جواز استعمالها أو وجوبه، والطبيب الحاذق هو من يقرر: هل الإبرة "جائزة" لتحصيل منفعة للمريض والمسارعة في شفائه، أو "واجبة" لدفع الضرر والخطر عنه؟ وتبقى مسألة القضاء، فما على المريض لو أنه شكر الله بعد الشفاء فقضى الأيام التي أفطرها بتلك الإبر إن كان شاباً قوياً، أو أطعم المساكين إن كان هَرِماً عاجزاً أو مريضاً مزمناً؟ ألا ما أجملَ شكرَ الله على نعمة الشفاء.
نصف قرن في "خَوْفِستان"

الذين شاهدوا فلم الجزيرة الوثائقي عن تدمر فريقان، أولهما لم يجد فيه إضافة ذات شأن لما يعرفه أصلاً عن فظائع وأهوال باستيل سوريا الرهيب، والثاني تساءل بدهشة: أكان هذا كله في سوريا وأنتم صامتون؟ كيف عشتم في الخوف والذل والعذاب كل هاتيك السنين؟

فأما الأولون فإنهم نشؤوا في "مملكة الخوف" وعاشوا في القهر والاستعباد زماناً فعرفوا النظام على حقيقته، عرفوه كما لم يعرفه من أهل الأرض أحد، وصبروا حتى يئس الصبر من صبرهم، فانتفضوا ذات يوم وعزموا على إنهاء هذا الكابوس الثقيل الطويل بأي ثمن، قرروا أن لا يستمرا بالتناسل في مملكة الخوف، أقسموا أن لا يولد لهم في العبودية والقهر والاستبداد أولاد وأحفاد، فثَمّ كانت ثورة سوريا المجيدة، أعظم ثورات العصر الحاضر، ولعلها أعظم ثورات التاريخ.

وأما الآخرون فإنهم لما سمعوا ما سمعوه وشاهدوا ما شاهدوه قالوا: الآن عرفنا لماذا ثار السوريون. ليس غريباً أنهم ثاروا قبل سبع سنين، الغريب أنهم لم يثوروا قبل ثلاثين سنة وأربعين وخمسين!
مسائل رمضانية (4)
قطرة العين والأنف والأذن

ذهب أكثر الفقهاء -قديماً وحديثاً- إلى أن قطرة العين لا تفطر، ومثلها قطرة الأذن، وغسول الأذن أيضاً. واختلفوا في قطرة الأنف فذهب بعضهم إلى أنها تفسد الصيام. وليس الخلاف بسبب الإحساس بالطعم، فإن الصائم لا يُفطر حتى لو شعر بطعم قطرة العين أو الأذن في فمه، إنما اعتبر من ذهب إلى التفطير بقطرة الأنف أنها لا بد أن تصل إلى الجوف عبر البلعوم، لأن الأنف مَنْفَذ -كما قالوا- والعين والأذن ليستا كذلك.

غير أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي لم يفرّق بين القطرات الثلاث وأجازها كلها للصائم، وقرر في دورته العاشرة (المنعقدة في جدة عام 1997) أن من الأمور التي لا تُعتبَر من المفطرات "قطرة العين وقطرة الأذن وغسول الأذن وقطرة الأنف وبخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق".

وهذا الرأي وجيه وهو الأصح والله أعلم، لأن ما يصل إلى الفم من بقايا قطرة الأنف يُمتَصّ أكثرُه عبر الغشاء الباطني لجوف الفم كما قرر الأطباء، فلا تصل إلى البلعوم منه إلا آثار قليلة لا تُذكَر، فإذا تمضمض المريض ولم يبلعها لم يبقَ منها شيء. حتى لو تسرب قدر ضئيل جداً منها عبر البلعوم فإنها لا تفسد الصيام، قياساً على السواك، فقد ثبت أنه يحتوي على ثماني مواد كيماوية (تساعد على وقاية اللثة والأسنان) وهي تتحلّل باللعاب فيبلعها الصائم، ولم يقل أحدٌ إن السواك يفطر الصائم، بل صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه استعمله صائماً ومفطراً وفي كل حال.
مسائل رمضانية (5)
الحُقَن والتحاميل

ذهب أكثر العلماء قديماً إلى أن الحقنة الشرجية تفسد الصيام، وخالفهم ابن تيمية، قال: "وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، والذين قالوا إنها تفطر لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم".

ولم يفرّق أكثرُ المجتمعين في الندوة الفقهية الطبية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية (المنعقدة في الدار البيضاء سنة 1997) بين الحقنة والتحاميل الشرجية، فذهبوا إلى أنها كلها لا تفسد الصيام، وبذلك صدر قرار الندوة بالأكثرية. وحجتهم أنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا بمعناهما، ولا تصل إلى المعدة محل الطعام والشراب، ولأن التحاميل تحتوي على مادة دوائية تمتصها الأوردة الدموية، فهي تشبه امتصاص الجلد الخارجي للماء.

وذهب جمهور أهل العلم قديماً إلى أن الصائم لا يفطر لو أدخل مادة علاجية في مجرى البول، سواء أكانت مائعة أم دهنية. وصدر قرار الندوة الفقهية الطبية التاسعة (بالإجماع) بالنصّ على أن الأمور التالي لا تفطر: العلاج الداخل إلى قناة البول (الإحليل) للذكور والإناث، سواء أكان مادة دوائية أو ظليلة للتصوير الشعاعي أو محلولاً لغسل المثانة، والعلاج الداخل إلى المهبل، من تحاميل أو بيوض دوائية أو غسول. وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته العاشرة بجدة 1997.

الخلاصة: كل أنواع العلاج عن طريق أيٍّ من تلك المنافذ مُباح للصائم، ولعل الخلاف محصور في الحُقَن والتحاميل الشرجية لأنه مَنفذ متصل بالأمعاء التي يُمتَصّ فيها الغذاء، فإذا استطاع الصائم تأجيلها إلى ما بعد الإفطار دون أن يلحقه بتأجيلها ضررٌ فهو الأفضل، وإن لم يستطع واضطُرَّ إلى استعمالها نهاراً فصومُه صحيح إن شاء الله.
مسائل رمضانية (6)
المِنظار والقِثطار واللولب

اعتمد "المُعجم الطبي الموحد" (وهو من أعظم المُعجمات العربية في بابه) مصطلح "القِثطار" (والجمع قثاطير) تعريباً للكلمة الأجنبية، وهو تعريب موفق لأن "مِفعال" وزن قياسي لاسم الآلة، كمِنظار ومِنشار ومِفتاح ومِبراة.

والقثطار آلة طبية تُستعمَل للعلاج والتشخيص، وهو أنبوب دقيق يُدخله الطبيب في الأوعية الدموية أو الحالب أو النخاع الشوكي (وغيرها من تجاويف البدن) لسحب السوائل وحقنها وإدخال أدوات علاجية وجراحية، كالبالونات والشبكات التي تساعد على صيانة وتوسيع الأوردة والشرايين. و"القَثْطَرَة" مصدر (من فعل مشتق من القِثطار) هي اسم لكل عملية تُستعمل فيها القثاطير.

أما المنظار فقد صار من أهم الأدوات الطبية وصارت له اختصاصات مستقلة، حتى إن أخي مؤمن، وهو طبيب جرّاح، صار أخيراً اختصاصياً في "جراحة المناظير". ويُستعمَل المنظار للفحص والتصوير والتشحيص وتُجرى به عمليات كاملة من خلال ثقوب أو شقوق في البدن لا تتجاوز سنتمتراً واحداً، كإزالة الزائدة والمرارة، وكانت لا تتم قديماً إلا بشق كبير للوصول إلى العضو المصاب.

بحثت الندوة الفقهية الطبية التاسعة (التي عُقدت في الدار البيضاء سنة 1997) القثاطير والمناظير واعتبرتها غير مفطرة بالإجماع، وتابعها مجمع الفقه الإسلامي الدولي (في دورته العاشرة المنعقدة في جدة سنة 1997) فنَصَّ قراره على اعتبار الأمور الآتية غيرَ مفسدة للصيام:

"ما يدخل المهبل من منظار مهبلي أو إصبع للفحص الطبي، وإدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم، وما يدخل الإحليل (مجرى البول للذكر والأنثى) من قثطرة أو منظار، وإدخال قثطرة في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء، وإدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها، ومنظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى، ودخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي".
2025/10/28 04:49:50
Back to Top
HTML Embed Code: