Telegram Web Link
حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة.
الفيلسوف باروخ سبينوزا

وفيه نُبيِّن أن حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة.١


لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يُمكن السيطرة على الألسنة، لَما وجدَتْ أية حكومة نفسها في خطر، ولَما احتاجَتْ أية سلطة لاستعمال العنف، ولَعاش كلُّ فردٍ وفقًا لهوى الحكام، ولَما أصدر حكمًا على حقٍّ أو باطل، على عدل أو ظلم إلَّا وفقًا لمشيئتهم. ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو كما لحظنا في أول الفصل السابع عشر، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر؛ إذ لا يُمكن أن يُخوِّل أحد بإرادته أو رغمًا عنه إلى أي إنسان حقَّهُ الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحُر في كلِّ شيء. وعلى ذلك فإنَّ سُلطةً تدَّعي أنها تُسيطر على الأذهان إنما تُوصَف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكِمة ظالمة لرعاياها ومُغتصِبة لحقوقهم عندما تُحاول أن تفرِض على كلٍّ منهم ما يتعيَّن عليه قَبوله على أنه حق، وما يتعيَّن عليه رفضه على أنه باطل، وأن تفرِض عليه المُعتقدات التي تحثُّه على تقوى الله؛ ذلك لأنَّ هذه الأمور تُعدُّ حقًّا خاصًّا بكلِّ فرد، لا يُمكن لأحد — إن شاء — أن يسلُبَه إياه، وأنا أعترِف بأنَّ هناك أناسًا كثيرين لا يخضعون حقًّا خضوعًا مُباشرًا لسُلطة فردٍ آخر، ولكن ذِهنهم يحتشِد بقدْرٍ من الأفكار المُسبَقة العجيبة يجعلهم ينساقون وراء أفكار هذا الآخر، إلى حدٍّ نستطيع معه أن نَصِفهم بأنهم تابِعون له في فكره، ولكنه مهما كانت درجة الخضوع الذي يحصل عليه البعض بوسائل مُفتعلة، فمن المُحال أن نمنع الناس من الاعتقاد بأن آراءهم الخاصة أفضل من آراء الآخرين، وبأن اختلاف الأذهان لا يقلُّ عن اختلاف الأذواق؛ فمُوسى، الذي عرف كيف يكسِب ثقة شعبه، لا بالالتجاء إلى الخداع، بل بصفتِه الإلهية، حتى لقد اعتقد الناس أنَّ أفعاله وأقواله مُوحًى بها من الله؛ أقول: إنَّ موسى نفسه لم يَسلَم مع ذلك من الشُّبهات أو من التأويلات المُعارِضة له، فكيف يُسلِّم الملوك أنفسهم من ذلك؟ وفضلًا عن ذلك، فإذا كان مِن المُمكن تصوُّر عبودية الأذهان في النظام الملكي فإنَّ هذا الاحتمال مستبعد تمامًا في نظام الحكم الديمقراطي،٢ حيث يشارك الشعب كله أو مُعظمه في السلطة الجماعية، وأظنُّ أنَّ السبب في ذلك لا يخفى على أحد.
وإذن فمهما عظُم الحقُّ الذي تتمتَّع به السلطة العليا الحاكمة في جميع المجالات، ومهما ساد الاعتراف بها على أنها مُفسِّرة للقانون والتقوى فإنها لا تستطيع مَنْع الأفراد من إصدار أحكامهم في كلِّ شيءٍ طبقًا لآرائهم الخاصة أو الانفعال — على نحوٍ فردي — بهذا الشيء أو ذاك. صحيح أن من حقِّ هذه السلطة العليا اعتبار من لا يشاركونها في رأيها في كلِّ شيء أعداء، ولكننا لا نُناقش الآن حقَّها، بل نبحث فيما يُحقِّق مصلحتها. إنَّنا نُسلِّم بأنها تستطيع شرعًا الحكم بأعنف الطُّرق وإصدار أحكام الإعدام على المواطنين لأتفه الأسباب، ولكن الكلَّ مُجمعون على أنَّ هذا الأسلوب في الحُكم يُعارض العقل السليم، بل إنه لَمَّا كانت السلطة العليا لا تستطيع أن تحكم بهذا الأسلوب، دون أن تُعرِّض الدولة للخطر، فإننا نستطيع إنكار مَقدرتها على استعمال هذه الوسائل وما شابهها، وبالتالي إنكار حقِّها المُطلق في ذلك؛ لأننا نعلم أنَّ حقَّ السلطة العليا يتحدَّد حسب قُدرتها.

1
وعلى ذلك، فإذا لم يكن من المُمكن أن يتخلَّى أحد عن حُريَّته في الرأي وفي التفكير كما يشاء، وإذا كان كلُّ فردٍ شيَّد تفكيره بناءً على حقٍّ طبيعي أسمى، فإنَّ أيةَ مُحاولةٍ لإرغام أناس ذوي آراء مُختلفة، بل ومُتعارضة، على ألَّا يقولوا إلَّا ما تُقرِّره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب، بل إن الأذكياء منهم — ناهيك بالعامة — لا يُمكِنهم أن يَلزَموا الصمت؛ ذلك لأنَّ من الأخطاء الشائعة بين الناس أنهم يَبُوحون بنواياهم للآخرين، حتى في الحالات التي يَحسُن فيها الكتمان. وعلى ذلك فإنَّ السلطة السياسية تكون أشدَّ عنفًا إذا أنكرَتْ على الفرد حقَّهُ في التفكير وفي الدعوة لِما يُفكِّر فيه، وعلى العكس تكون مُعتدلة إذا سلَّمَت له بهذه الحرية. ومع ذلك فنحن لا نُنكِر أنَّ سيادة الدولة يُمكن أن يُطعن فيها بالأقوال كما يُطعن فيها بالأفعال. وبالتالي فإذا كان من المُستحيل سلب الرعايا لحُريَّتِهم في التعبير كليةً، فإنَّ من الخطورة التسليم لهم بها كليةُ؛ لذلك سنحاول أن نُبيِّن إلى أي حدٍّ يمكن ويجب التسليم بهذه الحرية دون أن يكون في ذلك تهديد لسلامة الدولة أو لحق السلطة العليا، وهذا، كما أعلنت في أول الفصل السادس عشر، هو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب.

يتبيَّن بوضوحٍ تام، من الأُسس التي تقوم عليها الدولة، والتي بيَّنَّاها من قبل، أنَّ الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلِهم يقعون تحت نَير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كلُّ فردٍ في أمانٍ بقدْر الإمكان، أي يحتفِظ بالقدْر المُستطاع بحقِّه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضَّرَر بالغَير. وأُكرِّر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيواناتٍ أو آلات صمَّاء، بل إنَّ المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما تقوم بوظائفها كاملةً في أمانٍ تام، بحيث يتسنَّى لهم أن يستخدموا عقولهم استخدامًا حُرًّا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معًا دون ظُلمٍ أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قِيام الدولة. وقد رأيْنا أيضًا أنَّ الشرط الوحيد الضروري لقيام الدولة هو أن تنبُع سُلطة إصدار القرار من الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فردٍ واحد. ولَمَّا كانت أحكام الناس، إذا ما تُركوا أحرارًا، تختلف فيما بينها كلَّ الاختلاف، ولَمَّا كان كلُّ فردٍ يظنُّ أنه وحده الذي يعلَم كلَّ شيء، ونظرًا إلى أن من المُستحيل أن يفكر الناس كلهم ويُعبِّروا عن أفكارهم بطريقةٍ واحدة، فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخلَّ كلُّ فردٍ عن حقِّه في أن يسلك وفقًا لِما يُمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإنَّ الحقَّ الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقُّه في أن يسلُك كما يشاء وليس حقُّه في التفكير والحكم. وعلى ذلك فإنَّ كل من يسلك ضِدَّ مشيئة السلطة العليا يُلحق بها الضرر، ولكن المرء يستطيع أن يفكر وأن يُصدر حكمه، ومن ثَم يستطيع الكلام أيضًا، بحرية تامة، بشرط ألَّا يتعدى حدود الكلام أو الدعوة، وأن يَعتمِد في ذلك على العقل وحده، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد، ودون أن يكون في نِيَّته تغيير أي شيء في الدولة بمحض إرادته. فلنفرِض مثلًا أنَّ شخصًا قد بَيَّن تعارُض أحد القوانين مع العقل، وأعرب عن رأيه في ضرورة إلغائه، وفي الوقت نفسه عرَض رأيه على السلطة العليا لتحكم عليه لا لأنَّها وحدَها هي التي لها الحقُّ في إلغاء القوانين، وكفَّ في أثناء مُحاولته هذه عن أي مظهرٍ من مظاهر المُعارضة للقانون المذكور، فإنه يكون جديرًا بلَقَب المواطن الصالِح وبثناء الدولة عليه، أمَّا إذا كان الهدف من تدخُّله هو اتهام السلطات العامة بالظلم وجعلها مَثارًا للغضب، أو حاول إلغاء القانون رغمًا عن السلطات العامة عن طريق إثارة الفتن، فإنه يكون مُشاغبًا عاصيًا.

2
وهكذا تتَّضِح لنا الآن الشروط التي يستطيع بموجبها الفرد أن يُعبِّر عمَّا يُفكِّر فيه وأن يدعو له دون أن ينال من حقِّ السُّلطة العُليا أو من سُلطتها، أي دون تهديد للسلام الداخلي: يكفيه أن يترك للسلطة العليا مهمة اتخاذ القرارات العملية، وألَّا يقوم بأيِّ شيءٍ ضِدَّ هذه القرارات، حتى ولو اضطرَّ في كثيرٍ من الأحيان أن يسلك على نحوٍ مُخالف لرأيه الذي يُجاهر بِصوابه، حينئذٍ لا يُمثل سلوكه هذا أية خطورة على العدالة أو على التقوى، بل إني لأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأقول: إنَّ من واجبه أن يفعَلَ ذلك إن أراد أن يكون عادلًا تقيًّا؛ وذلك لأنَّ العدالة، كما بَيَّنَّا من قبل، تتعلَّق بمشيئة السُّلطة العُليا وحدَها، بحيث لا يُمكن لأحدٍ أن يَعدِل دون أن يكون سلوكه مُطابقًا لقراراتها. أما التقوى فإن أسمى مظاهرها هي تلك التي تؤدي إلى سلامة الدولة وأمنها الداخلي (وقد بيَّنَّا ذلك في الفصل السابق) وهو ما لا يتحقَّق لو عاش كل فردٍ وفقَ هواه، فمن الفسوق إذن أن يفعل المرء شيئًا طبقًا لرأيه الخاص ضِدَّ مشيئة السلطة العليا التي يُعدُّ هو أحد رعاياها؛ إذ إنه لو استباح الجميع لأنفسهم أن يفعلوا ذلك لأدى هذا إلى انهيار الدولة، بل إن الإنسان لا يعمل شيئًا مُطلقًا ضِدَّ ما يقضي به عقله وما يُقرِّره، ما دام يعمل طبقًا لمشيئة السلطة العليا، إذ إنَّ العقل ذاته هو الذي أقنعه بأنه يُخوِّل لها حقَّه في أن يحيا على هواه طبقًا لمشيئته الخاصة. ولو أن التجربة اليومية تُقدِّم إلينا دليلًا آخر على ذلك، ففي المجالس — سواء أكانت مجالس عالية أم مجالس ثانوية الأهمية — يندُر أن تَصدُر القرارات بإجماع الآراء، ومع ذلك يَصدُر كلُّ قرار مُعبِّرًا عن إرادة جميع الأعضاء، سواء منهم من صوَّتوا معه أو ضده.٣
ولكن، لنرجِع إلى موضوعنا الأصلي، فقد رأيْنا بعد الرجوع إلى الأُسُس التي تقوم عليها الدولة، ما هي الشروط التي يستعمل بها الفرد حريته في الرأي دون أن ينال من حقِّ السلطة العليا. ومِن السهل الآن تحديد الآراء التي يؤدي التصديق بها إلى الفتن في الدولة؛ فتلك هي الآراء التي تؤدِّي المُناداة بها إلى نقض العهد الذي تخلَّى به الفرد عن حقِّه في أن يفعل ما يشاء. ومن أمثلة ذلك، الرأي الذي يُنكر استقلال السلطة العليا من حيث المبدأ، أو الرأي الذي لا يُحتِّم على كلِّ فردٍ الوفاء بوعده، أو الذي يُوصي بأن يعيش كلٌّ على هواه، وما شابه ذلك من الآراء التي تتعارَض مع هذا العهد تَعارُضًا مباشرًا، والتي يكون مُعتنِقها داعية للفتنة، لا بسبب حُكمه أو رأيه في ذاته، بل بسبب السلوك المُترتِّب عليها؛ إذ إن اعتناق هذه الآراء يعني التخلَّي — ضِمنًا أو صراحة — عن الولاء للسلطة العليا، أما الآراء الأخرى التي لا تنطوي على مسلكٍ من نوع نقض العهد، أو الانتقام، أو الغضب … إلخ، فلا يُمكن أن توصف بأنها داعية للفتنة، ما لم يكن ذلك في دولة فاسدة؛ أي في دولة أحرَزَ فيها المُتعصِّبون الطامِعون الذين لا يُطيقون كلَّ من كان على خلقٍ قويم، نجاحًا جعلهم يشتهِرون بين العامَّة إلى حدٍّ أصبحت معه سُلطتهم تطغى على سلطة الحاكم. ومع ذلك فنحن لا نُنكر وجود بعض الآراء التي لا يكون من الأمانة عرضُها ونشرُها مع أنها تبدو وكأنها مُجرَّد آراء تحتمل الصواب والخطأ. وقد بَيَّنا في الفصل الخامس عشر٤ هذه الآراء، مع حِرصنا على ألَّا نحدَّ على أي نحوٍ من حُرية الفعل. وأخيرًا فإذا أدركنا أنَّ الأفعال، أي الإحسان للجار مثلًا، هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها كل فرد أن يثبت ولاءه للدولة، كما يُثبت ولاءه لله، اعترفنا بلا تردُّد بأن أفضل الدول هي تلك التي تُسلِّم للفرد بالحرية نفسها التي يُسلِّم له بها الإيمان. وإني لأعترف بأنَّ هذه الحرية قد تُسبِّب بعض المُضايقات ولكن هل هناك تنظيم وضعي يبلغ من الحكمة حدًّا يجعل من المستحيل أن تنشأ عنه بعض المضايقات؟ إن من يُريد تنظيم الحياة الإنسانية كلها بالقونين يزيد من حدَّة العيوب دون أن يُقوِّمها، ومن الأفضل السماح بما لا نستطيع منعه مهما كان الضَّرَر الناتج عن ذلك. إنَّنا نعلم العواقب الوخيمة المُترتِّبة على التَّرَف والحسد والشهوة والثَّمالة وما شابهها من الانفعالات، ومع ذلك نسمح بهذا كله لأنَّنا لا نستطيع إلغاءه بسلطة القانون، مع أنها رذائل فعلية، فالأَولى أن نسمح بحرية الحكم، التي هي فضيلة في الواقع، وألَّا نقضي عليها. ولنُضِف إلى ذلك أنه لا يُوجَد ضررٌ واحد ينتج عن حرية التفلسُف لا تستطيع السُّلطات العُليا أن تتجنَّبه (وسأُبرهن على ذلك الآن). وأخيرًا أليست الحرية شرطًا أساسيًّا لتقدُّم العلوم والفنون؟ إنَّ العلوم والفنون لا تتقدَّم تقدُّمًا ملموسًا إلَّا على أيدي أناس تخلَّصوا تمامًا من المخاوف وأصبحت لهم حُرية الحُكم.


3
فلنفرض، مع ذلك، أنه يُمكن سلب الناس حريتهم والقضاء على استقلالهم بحيث لا يُمكنهم التفوُّه بكلمة واحدة إلَّا بأمر السُّلطة العُليا، في هذه الحالة لن يحدُث مُطلقًا أن تتَّفق جميع أفكارهم مع أفكار السلطة العليا، والنتيجة الحتمية لذلك هي استمرار الرَّعايا في التفكير على نحوٍ يتعارَضُ مع أقوالهم، وبذلك تضيع الثقة، التي هي شرطٌ ضروري لإقامة الدولة، ويؤدِّي تشجيع الفساد الكَريه والخِداع إلى سيادة المُخاتَلة والغش في جميع العلاقات الاجتماعية. وفضلًا عن ذلك فإن من يتوقَّع من جميع الناس تكرار الأقوال نفسها التي تُلقَّن لهم يكون واهمًا بحق؛ فالواقع يُثبِت عكس ذلك، إذ إنَّه كلما حاول المرء سلب الناس حريتهم في التعبير استثار مُقاومتهم. وأنا لا أقصد أولئك الشَّرِهين المُتملِّقين الذين لا خُلُق لهم، والذين تنحصِر أعظم أمانيهم في تأمُّل بريق الذهب وفي إشباع بطونهم، بل أقصد أولئك الذين تحرَّروا بفضل حُسن تعليمهم وطهارة حياتهم ونُبل أخلاقهم. لقد طُبِع معظم الناس على الاستياء الشديد إذا ما عُدَّت بعض آرائهم التي يعتقدون بصحَّتِها جرمًا، وإذا ما وُصِف ما يَحثُّ نفوسهم على تقوى الله وحب الناس أنه جريمة. ويؤدِّي بهم ذلك، في نهاية المطاف، إلى رفض قوانين الدولة، والتجرُّؤ على فِعل ما يضرُّ بالسلطات العامة. وعندئذٍ يرَون أن إثارة الفتنة واستعمال كلِّ ألوان العنف في سبيل ما يعتقدونه شيء رائع لا عار فيه. ولَمَّا كانت الطبيعة الإنسانية على هذا النحو، إذن يتَّضِح لنا أنَّ القوانين الموضوعة ضِدَّ هذه الآراء لا تُهدِّد المُجرمين، بل تُهدِّد أصحاب الشخصيات المُستقلة وأنها لا تضع عقابًا للأشرار، بل إساءة للشرفاء. ومن ثَمَّ كان الإبقاء عليها يُمثِّل خطرًا شديدًا على الدولة. وعلى أية حال، فإنَّ هذه القوانين الموضوعة لإدانة الآراء لا تنطوي على أية فائدة، لأنَّ من يُؤمنون بصحة الآراء لا يُمكنهم طاعة هذه القوانين، أمَّا من يرفضونها لبُطلانها فيجدون في هذه القوانين امتيازات لهم وينتابهم الغرور بانتصارهم، بحيث لا تستطيع السلطات العامة — لو أرادت إلغائها — لتُضيف إلى ما قُلناه الآن تلك النتائج التي استخلصناها من الفصل الثامن عشر في النقطة الثانية من تاريخ العبرانيين. وأخيرًا، فما أكثر الفِرَق التي نشأت داخل الكنيسة عندما أرادت السلطات العامة وضْعَ حَدٍّ لجدل رجال الدين بوساطة القوانين. والواقع أنه لو لم يُسيطر على الناس الأمل في أن يجتذبوا القوانين والسلطات العامة لصفِّهم، ولينتصروا على أعدائهم وسط تصفيق العامة لهم، وتلقي مظاهر التكريم، لَمَا تقاتَلوا بكل هذا القدْر من سوء النية، ولَمَا تملَّك نفوسهم كل هذا الغضب، وهذا ما تؤكده التجربة ذاتها — فضلًا عن العقل — بأمثلةٍ كثيرة من الحياة اليومية، فمعظم القوانين التي تأمُر كل فرد بما ينبغي أن يعتقد، وتُحرِّم عليه أن يتكلَّم أو أن يكتُب ضِدَّ هذا الرأي أو ذاك، قد وُضِعت لإرضاء أناس لا يُطيقون أن يَرَوا غيرهم مُعتزِّين بشخصيتهم المُستقلة، أو بالأحرى استسلامًا لغضبهم. وهؤلاء هم الذين يستطيعون بسهولة، بما لدَيهم من نفوذ ضار، تحويل إخلاص العامة الميَّالة إلى الفِتَن، إلى غضب عارم، وإثارتها ضِدَّ من يريدون هُم أنفسهم أن يقضُوا عليهم.

4
أليست السيطرة على غضب العامة واندفاعها أفضل من وضْع قوانين لا يُمكن أن يرفُضَها إلَّا مُحِبُّو الفنون والفضيلة وحدَهم، ومن سقوط الدولة إلى هذا الحضيض الذي لا نستطيع فيه تحمُّل وجود بعض الشرفاء من بين رعاياها. إنَّ أسوأ موقف تُوضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشُّرفاء من رعاياها وكأنَّهم مُجرمون، لا لشيء إلَّا لأنهم اعتنَقوا آراء مُخالفة لا يستطيعون إخفاءها. إنها لمُصيبة فادحة أن يُعامل بعض الأفراد على أنهم أعداء الدولة ويُساقون إلى الموت بلا ذنبٍ ارتكبوه وبلا جُرم اقترفوه، بل لمُجرَّد كونهم يَعتزُّون بشخصيتهم، بحيث تُصبح المِقصلة، التي يرتعِش منها الأشرار، مسرحًا عظيمًا تُمثَّل عليه أدوار رائعة من الشجاعة وقوة التحمُّل، على حين لا يلحَق بالسُّلطة العُليا إلَّا العار؛ ذلك لأنَّ من يعلم براءته لا يخاف الموت كما يخافه المُجرمون، ولا يطلُب العفو، ومن لا يُعذِّبه تأنيب الضمير لذنبٍ اقترفَهُ، يقبَل الموت في سبيل غايةٍ نبيلة على أنه شرف، لا عقاب، ويصبح عظيمًا حقًّا لأنه ضحَّى بحياته في سبيل الحُريَّة، فأيُّ مَثَل يُعطيه هؤلاء بموتهم الذي لا يَفهَم سببَه الأغبياء والجبناء، ويحقره دُعاة الفتنة، ويُعظمه الفضلاء؟ إنَّ كلَّ ما يستخلصه الحاضرون من هذا المشهد الأليم هو أنَّ عليهم إما أن يسيروا في خُطى أولئك الشهداء، وإمَّا أن يُصفِّقوا لجلاديهم.

أما إذا أردنا أن يكون الولاء، لا التهاوُن والنفاق، هو الجدير بالتقدير، وألَّا تضعُف السلطة العليا أو تخضع لدُعاة الفتن، فيجِب الاعتراف لكلِّ فردٍ بحريته في الرأي، وحُكم الناس بحيث يعيشون في سلام بالرغم من اختلافهم وتعارُضهم في الآراء. ولا يمكننا أن نَشُكَّ في أن هذه الطريقة في الحكم هي أفضل الطرق وأكثرها اتفاقًا مع الطبيعة الإنسانية، ففي الدولة الديمقراطية (وهي أقرب نُظم الحكم إلى حالة الطبيعة) بيَّنَّا أن جميع الناس يتَّفِقون على العمل بإرادة مُشتركة، ولكنهم لا يتَّفِقون على أن يُبدوا آراءهم أو يُفكِّروا بطريقةٍ واحدة.٥ وبعبارة أخرى، فلمَّا كان الناس يعلمون أنهم لا يستطيعون دائمًا الاجتماع على رأي واحد، فقد اتَّفقوا على العمل بالرأي الذي تجتمع عليه أغلبية الناس، وعلى إعطائه قوَّة القانون مع الاحتفاظ بحقِّهم في إلغاء هذا القرار الأول عندما يجدون ما هو أفضل منه، وكلَّما قلَّتْ حرية الرأي عند الناس ابتعدوا عن حالة الطبيعة، واشتدَّ عُنف السلطة.

5
وهناك أمثلة كثيرة على أنَّ الحرية لا تُمثِّل أي ضررٍ لا تستطيع السلطة العليا تجنُّبه بمفردها، وعلى أن احترام الناس لهذه السلطة وحدها يمنعهم من أن يسيئوا إلى بعضهم البعض مهما كان بينهم من اختلاف في الآراء. ولَسْنا في حاجة إلى الذهاب بعيدًا لكي نهتدي إلى هذه الأمثلة، فلدَينا مثلًا مدنية أمستردام، التي جنَتْ ثمار هذه الحرية فنالها من ذلك أعظم الفائدة، وحازت إعجاب جميع الأمم الأخرى، ففي هذه الجمهورية المُزدهرة وفي هذه المدينة الرائعة يعيش الناس، من كلِّ جنسيةٍ ومن كل طائفة في وفاقٍ كامل، وإذا أراد أحدٌ أن يَستدين فإنهم يسألون فقط إن كان غنيًّا أو فقيرًا، جديرًا بالثقة أو مشهورًا بالخداع، ولا يُهمهم معرفة دِينِهِ أو مذهبه؛ لأن هذه الاعتبارات لا تتدخَّل في كسْب القضية أو خُسرانها إذا رُفع الأمر يومًا إلى القضاء. ولا تُوجَد طائفة، مهما كانت مكروهة، لا يتمتَّع أنصارها بحماية السلطة العامة لها (بشرط ألا تُسبِّب هذه الطائفة أيَّ ضرَرٍ لأي فرد، وأن ترُدَّ لكلِّ ذي حقٍّ حقَّهُ وأن تحيا حياة شريفة). وعلى العكس عندما تدخَّل رجال الدولة، وتدخلت دول الأقاليم من قبلُ في الجدل اللاهوتي بين المُعاتبين وأعداء المُعاتبين٦ حيث الانقسام والفتنة، وأثبَتَت الأمثلة العديدة عندئذٍ أن القوانين الموضوعة للدين لإنهاء الجدَل تُثير الناس أكثر مِمَّا تُصلحهم، وأنَّ كثيرًا من الناس يتَّخِذون من هذه القوانين ذريعةً ليفعلوا ما يشاءون. وفضلًا عن ذلك فإنَّ الانقسام إلى شِيَع لا ينشأ عن رغبةٍ صادقة في معرفة الحقيقة لأنَّ هذه الرغبة تُؤدِّي إلى الطيبة والتسامُح، بل عن شهوةٍ عارمة للحكم. ومن ذلك يتبيَّن بوضوحٍ لا يقبَلُ أي شَكٍّ أن دُعاة الفتنة هم أولئك الذين يُدينون كتابات الآخرين ويُثيرون غضب الشعوب ضِدَّ مُؤلفيها، وليسوا هم المُؤلفين الذين لا يكتبون إلَّا للعلماء، ولا يعتمدون إلَّا على العقل وحده. أما مُثيرو الشغَب الحقيقيُّون فهم الذين يُريدون في دولة حرة القضاء على حرية الرأي، التي لا يُمكن قَمعُها.

وهكذا نكون قد بَيَّنَّا أنه:

(١)يستحيل سلب الأفراد حُريتهم في التعبير عمَّا يعتقدون.
(٢)لا يهدد الاعتراف بهذه الحرية حقَّ السلطة العُليا أو هَيبتَها، ويستطيع الفرد الاحتفاظ بحُريته دون تهديدٍ لهذا الحقِّ بشرط ألَّا يسمح لنفسه بتغيير قوانين الدولة المُعترَف بها أو بأن يفعل شيئًا ضِدَّ القوانين القائمة.
(٣)يستطيع الفرد أن يتمتَّع بهذه الحرية دون أن يكون في ذلك خطر على سلامة الدولة أو ضرَرٌ يصعُب إيجاد علاجٍ له.
(٤)لا يجلُب التمتُّع بهذه الحرية أي خطرٍ على التقوى.
(٥)لا فائدة من القوانين الموضوعة بشأن المسائل النظرية العقلية.
(٦)وأخيرًا، فإن تَمتُّع كلِّ فردٍ بحريته لا يُهدِّد — كما بَيَّنَّا — سلامة الدولة، أو التقوى أو حقَّ السلطة العُليا، بل هو بالإضافة إلى ذلك ضروري للمحافظة على ذلك كله.

6
والواقع أنه عندما يُحاول الناس سلْبَ خصومهم هذه الحرية، وعندما تُقدَّم مُعتقدات المنشقين للمحاكمة، لا مواقفهم واتجاهاتهم الإنسانية (التي هي الشيء الوحيد الذي يُمكن إدانته)، تكون تلك الأحكام التي تُوقَّع على الشرفاء أمثلةً للاستشهاد، وتُثير في نفوس الحاضرين من التعاطُف، بل من الرغبة في الانتقام للضحايا، أكثر مِمَّا تبعَثُه في نفوسهم من الخوف، ثُم تفسد العلاقات الاجتماعية ويضيع حُسن النية، على حين تقوى شوكة التملُّق والخداع، ويُصيب أعداء المُتَّهمين الغرور لأنَّ السلطات سايرَتْهم في غضبهم، ولأنَّ رؤساء الدول أصبحوا مُشايعين لذلك الرأي الذي جعلوا من أنفسهم رُسلًا له، وبالتالي يتجرَّءون على اغتصاب حقِّ السلطة العليا وعلى النَّيل من هيبتِها، ويصِل بهم الصَّلَف إلى حدِّ الادِّعاء المُباشِر بأنَّ الله قد اختارهم بحيث يُضفُون على قراراتِهم صِبغةً إلهية٧ يُريدون أن تخضع لها السلطة العليا، التي هي إنسانية مَحْضة. ولا يجهل أحد أن هذا الوضع مُضادٌّ على طول الخط لمصلحة الدولة. وكما فعَلْنا في الفصل الثامن نختتم عرضنا فنقول: لو أردنا أن نضمَن سلامة الدولة، فيجب أن نجعل التقوى والدين مُقتَصِرَين على مُمارسة العدل والإحسان، كما يجِب أن ينصبَّ تشريع السلطة العليا في المَجالَين الديني والدنيوي على أفعال الرعايا وحدَها، وأن يُترَك لكل فردٍ حُريَّته في التفكير والتعبير.
وهكذا انتهيتُ من مُعالجة جميع المسائل التي اعتزمتُ بحثها عندما شرعتُ في الكتابة، ولم يبقَ لي إلَّا أن أُعلن صراحةً أنني أُقدِّم عن طِيب خاطرٍ كلَّ ما كتبتُ للسلطات العليا لوطني لكي تفحصه وتحكُم عليه، فإن بدَتْ لها إحدى قضاياي مُعارضة لقوانين البلاد أو ضارَّة بالمصلحة العامة، فإني أتراجَعُ عنها؛ ذلك لأني أُدرِك أنني بشَر وأنَّ من المُمكن أن أكون قد أخطأت، ولكنِّي على الأقلِّ حاولتُ بقدر طاقتي ألَّا أقَعَ في الخطأ، وحرصتُ بوجهٍ خاصٍّ على ألَّا أكتب شيئًا يتعارض مع قوانين بلدي أو يتنافى مع الحرية والأخلاق الحميدة.٨

هوامش
١ في AP دولة، وفي FM جمهورية، انظر الهامش ١، من رسالة في اللاهوت والسياسة.
٢ يمكن أن نقول أيضًا وأنصاف الديمقراطية لأنَّ الذي يهمُّ هو نظام الحكم الجماعي بصرف النظر عن الأشكال.
٣ يخضع الإنسان الحُر للقانون حتى ولو صوَّت ضِدَّه.
٤ يقصد سبينوزا استشهاد أعضاء حزب المُعاتِبين (الرمونتران) Remontrants مثل أولدنبارنفلت Oldembarneveldt أو اعتقالهم مثل هوجو دي جروت Hugo de Groot.
٥ يتعرَّض أمن الدولة للخطر إذا سمَحْنا لبعض الفراد بالوصاية على الحكام باسم الله، وكأنهم مبعوثون منه. وهذا ما يؤيده تاريخ العبرانيين. ويتَّفِق سبينوزا وفولتير هنا على هذا الرأي (انظر عتاليا Athalie لفولتير).
٦ Remontrants أي المُؤنِّبون أو المُعاتبون وهو الاسم الذي أعطاه الهولنديُّون إلى الأرض بسبب تأنيب مجمع دردرشت Dordrecht لهم سنة ١٦١٠ وأعداؤهم هم الجوماريون Gomaristes. يُفكر سبينوزا هنا مثل لامارتين Lamartine: Il faut se séparer, pour penser, de la foule Et s’y confondre pour agir.
٧ يُشير سبينوزا إلى الاضطرابات التي حدثت في هولندا بسبب: الجدل الديني بين المُعاتِبين الأرمن وأعدائهم الجوماريين Gomaristes والتي فقد فيها بارنفلت حياته وجروسيوس حُريَّته، أو أنه يُشير إلى أنصار عائلة أورانج Orange الذين سبَّبوا الفِتَن.
٨ هذه الفقرة تكرار تقريبًا لآخِر فقرةٍ في المُقدمة, عود على بدء.

7

باروخ سبينوزا

www.tg-me.com/spinoza_2021
لن نستفيد من عزلتنا
سعد كموني



لن نستفيد من عزلتنا !‏
وكان الحكيم المعروف سينيكا (4 ق م – 65 م) من الذين غضب عليهم "نيرون" وآثر ‏العزلة إلى أن حاك له جملة اتهاماتٍ؛ وفتَك به، وقال بحق عزلته: "قرّرت الانغلاق بين أربعة ‏جدران، لا أحد يستطيع أن يسرق مني نهاري"‌‎.‌‏ ترى؟ من الذي يسرق النهار؟ ‏
إنّ أكثر الأوقات اقتراباً من السعادة عندما يكون الإنسان بمفرده. صحيحٌ لا نعرف ‏المقصود تماماً بمفردة السعادة، غير أنها هدف لا يستهان به، ربما لو كنا نعرفها ما كنا نجدّ في ‏طلبها، فالأوقات التي نُخمّنها أوقاتَها، هي الأوقات التي لا يعترف بها الزمن؛ فنعتقد أنها وراء ‏جدار ما، أو بعد يوم ما، أو قبل يوم ما. فالعزلة التي قررها "سينيكا" قبل مقتله؛ كان يتوقع ‏السعادة فيها، يجول في أنحائه الداخلية، يتعرف على كلماته التي لم ينطقها، أو يتعرف أكثر على ‏آخرين يقيمون فيه من صغره، أو يحاول أن يبحث عن ابتساماتٍ مخنوقة ليمدها بالحياة وتمده، ‏أو يداري أحزانه المكبوتة حتى لا تنفجر في وجهه دون أن يدري أحدٌ سبب الانفجار. ربما تكون ‏السعادةُ في العزلة. ولكننا نرى أنّ شروط العزلة الناجحة، هي أن لا يدخلها التلفاز وفي ألوانه ‏حشدٌ هائل من المنغِّصات التي لا تدعك وحيداً، فتسرق نهارك منك، وليلَك. كذلك ينبغي أن لا ‏تكون نوافذ حاسوبك مفتوحةً على محترفي النكَد اليوميّ، من الذين يستمتعون بما يسرقون من ‏أطراف حياتك الخاصّة. وهناك شروطٌ كثيرة ينبغي توافرها لتحقيق العزلة الناجحة كي نعيد ‏صياغة الأفكار والأوهام واللغة، وأبرز ما يجب توافره من الشروط هو أن لا تكون تلك العزلةُ ‏بالإكراه، سواء أكان من يمارس الإكراه "فيروس" قاتل، أم حاكم ظالم، أم حربٌ شعواء لا تميز ‏الخبيث من الطيب....‏
انتهت عزلة "سينيكا" بمقتله، كيف ستنتهي عزلتنا الكورونية، ولو كان ادعى أنه قرر ‏العزلة، إلا أنّ الفاعل الحقيقيّ المؤثر في اتخاذه هذا القرار، هو نيرون نفسه، وقد كان "سينيكا" ‏مستشاراً له. وأجسادنا كانت أكثر من مستشارٍ لهذا "الفيروس" القاهر، فهي مساحات من ‏الطبيعة، تتحرك مثلما تتحرك عناصر الطبيعة، تتشكّل من خلايا وجراثيم وبكتيريا وفيروسات ‏أليفة ومعادية، فهل ستنتهي عزلتنا كما انتهت عزلة "سينيكا"؟
هناك خارج جدران العزلة من يتقن سرقة النهار، يتقن أساليب النطق بالظلمات بعضها ‏فوق بعض، ليلقيها علينا من نافذة التلفاز أو الحاسوب، يدرك صعوبات الأحلام تحت وطأة ‏الإكراهات المتلاحقة، فيحبط هدوء خيالاتنا المسافرةِ إلى ما وراء الجائحة اللئيمة.‏
إذن، لا علاقة للعزلة بالسعادة، ولا علاقة للسعادة بحياتنا أصلاً ، سواء كانت في العزلة ‏أو بعدها. ما انتهت إليه عزلة "سينيكا" ستنتهي إليه عزلتنا، بغض النظر عن مظهر القتل أو ‏طريقته، فحياتنا هي في مقدار عقولنا، وعندما يتم ربط عقولنا بآثار الفساد المدمّرة، ولا نملك ‏القدرة على التفكير إلا وفقَ ما ألقي علينا، وعندما تذهب عقولُ الجميع باتجاه مقلقٍ صوب اللقمةِ ‏والدواء والعمل الذي طردونا منه أو يهددوننا بالطرد منه، فنكون قد قتلنا، ومراسم الدفن تقررها ‏الأنفاس المتبقية. شكراً "سينيكا"، وشكراً "جان جاك روسو"، سننسحب من التفكير انسجاماً مع ‏قولك: "الحياة السعيدة منسحبة من العالم، متحررة من الزمن نفسه، ومن كل ما يرافقه كالندم ‏والأمل والخشية". ‏
لست أدري إن كان يحق لنا الرهان على انتفاضةٍ تحمل في ثناياها جيلا يعرف مفاسدنا! ‏ولكننا لا نملك خياراتٍ متعددة، فالانتفاضة رهاننا الوحيد وعلى كلّ المستويات. ‏

الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
يُكرِّر العالَم نفس الحركات الدورية، أعلى وأسفل، من عصرٍ إلى عصر؛ فإمَّا أن عقل العالم يَتحرَّك خصيصًا لكل حالةٍ على حدة، وفي هذه الحالة عليك أن ترضى بالنتيجة. وإمَّا أنه تَحرَّك حركةً أصليةً واحدةً يتسلسل عنها كل شيءٍ كنتيجة، وماذا يضيرك في ذلك؟ وباختصار؛ إذا كان ثَمَّةَ إلهٌ فبها ونِعمَت، وإذا كانت المُصادَقة هي التي تُسيِّر العالم لغيرِ غاية، فإن عليك أن تخلُق غايتك لِنفسِك.

تُوشِك الأرض أن تطمُرنا جميعًا، ثُمَّ ما تلبث الأرض أيضًا أن تتغير، ثُمَّ تتوالى التغيُّرات إلى غير نهاية. فإذا ما تأمَّل المرء التبدُّلات والتحوُّلات التي يتلو بعضها بعضًا كالأمواج، وحين يتأمل سرعة تدفُّقها، فَلسَوف تهُون في عينه كل الأشياء الفانية الهالكة.

ماركوس أوريليوس
الدين و الأخلاق
براتراند راسل


يقول كثير من الناس لنا أنه بدون الإيمان بالإله لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً ولا فاضلاً. بالنسبة إلى الفضيلة يمكنني أن أتكلم فقط انطلاقاً من المشاهدة، وليس من التجربة الشخصية، أما بالنسبة إلى السعادة، فلا المشاهدة ولا التجربة قادتاني إلى التفكير بأن المؤمنين أسعد أو أشقى، بصورة عامة، من غير المؤمنين. إن من المألوف أن نجد أسباباً كبرى للشقاء، لأن من الأسهل على المرء أن يفتخر إذا ما كان باستطاعته أن يعزو شقاءه للافتقار إلى الإيمان، بدلاً من أن يعزوه للكبد. أما بالنسبة للأخلاق فإن قدراً كبيراً منها يتوقف على الكيفية التي نفهم بها هذا المصطلح. من جهتي أعتقد أن أهم الفضائل : اللطف والعقل. العقل تعوق عمله العقائد كلها، أياً كانت، و اللطف يحول دونه الاعتقاد بالإثم والعقاب ( وبالمناسبة هذا الاعتقاد هو الوحيد الذي ورثته الحكومة السوفييتية من المسيحية الأرثوذكسية ).

ثمة طرق عملية جديدة يمكن من خلالها للأخلاق التقليدية أن تتدخل بما هو مرغوب فيه اجتماعياً. إحدى هذه الطرق منع انتقال الأمراض التناسلية. لكن الأكثر أهمية هو تحديد عدد السكان. إن التحسينات التي أدخلها الطب جعلت هذه المسألة أكثر أهمية بكثير مما كانت من قبل. فإذا لم تُغيِّر الأمم والأعراق، التي ماتزال غريزة الإنتاج كما كان البريطانيون قبل مائة عام، عادتها في هذا المجال، فلا أمل للجنس البشري في أن يتوقع سوى الحرب والفقر المدقع. وهذا أمر معروف لكل دارس عاقل، لكن لا يعترف الدوغمائيون اللاهوتيون به.

أنا لا أعتقد أن اضمحلال الإيمان الدوغمائي يمكن أن يفعل أي شيء سوى الخير. كما أقر في الحال بأن نظماً دوغمائية جديدة كالنازية والشيوعية، هي أسوأ بكثير من النظم القديمة، لكنها ما كانت لتستطيع أن تقبض على أذهان الناس لو لم تكن عادات دوغمائية متزمتة قد غُرِست في تلك الأذهان أيام الشباب. فلغة ستالين ما تزال ملأى بالآثار المتبقية للمعهد اللاهوتي الذي تلت فيه تدريبه. أما ما يحتاجه العالم اليوم فليس العقيدة المتزمتة، بل موقف التحقق العلمي، يدعمه الاعتقاد بأن تعذيب الملايين أمر غير مرغوب فيه، سواء وقع على يد ستالين، أم على يد آلهة متخيّلة تشبه المؤمنين.

________________

براتراند راسل، لماذا لست مسيحياً، ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار التكوين، سوريا، ٢٠١٥.
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
121 عاما على رحيل " ديناميت " الفلسفة.. عزيزي نيتشه ..هل مازلت تعتقد اننا بؤساء ؟
علي حسين


أخشى الى حد الرعب أن يطلق عليّ يوماً ما اسم " المقدس "
فريدريك نيتشه

ما ذا لو أن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه اطلع على مئات الكتب التي وضعت عنه ، وشاهد المهرجانات التي اقيمت للاحتفاء بذكراه ، وتصفح الآف المقالات والدراسات التي تتبع سيرة حياته ، وجلس يستمع الى المحاضرات التي تلقى عنه في مختلف الجامعات ، هل سيصاب بنوع من الغرور ، ام تناتبه رعشة كتلك التي كانت ترافقه سنين حياته الاخيرة ؟ .. اليس هو القائل :" ما يمكن أن نعبر عنه بالكلمات نكون قد تجاوزناه " .. ها هو نيتشه الذي مرت امس ( 25 آب ) ذكرى مرور 121 عاما على رحيله لا يزال الكاتب الاكثر اثارة عند القراء ، ولا يزال القراء منقسمين على الحكم عليه انقساماً لا يشبه أنقسامهم في الحكم على فيلسوف آخر ، ونجد الجميع يستشهد بعبارات هذا الفيلسوف العبقري الذي عاش وحيدا ومات وحيدا . لم يكن احد قبله بمقدوره أن يقلب التفكير الغربي رأساً على عقب ، ولم يأت أحد بتاريخ متناقض وخطير النتائج كما فعل ، وهو الذي يقول عن نفسه " أنا ديناميت " ، إلا انه يفزع في لحظة من اللحظات من الذين سيستخدمون كلماته : " كم من الناس سيستند يوما من الايام الى سلطتي من غير وجه حق " ، وكانت مخاوفه معقولة ألم يقل يوما : " اضع يدي على الألف القادمة " ، واليوم في عصر الانترنيت والألكترونيات لا يزال الحديث عن نيتشه يشغلنا ، ففي كل يوم يولد قارئ جديد سيقرأ سطراً من " العلم المرح " فيدهشه ، أو عبارة من "هكذا تكلم زرادشت " فتسحره .. او يغريه تلخيص إرادة القوة . يظل هذا الفيلسوف الذي مات مجنونا لغز عالمي ، فنيتشه كما كتب يوما الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز :" لا يمكن استنفاذه ، وقد غرف كل جيل من نبع رؤاه ، وسعى الى استنفاذه ، وقد بليت كل الأنية وتكسرت ، غير انه في العمق ، ما يزال النبع نضاحاً لا ينضب " .
عاش فريدريك نيتشه ومات ، وهو شخصية غامضة ، وعلى مدى سنوات عمره الـ 56 ظل مجهولاً ، ولم يعرف المجد والشهرة إلا قبل وفاته بسنوات قليلة ، كتابه الشهير " هكذا تكلم زرادشت " والذي صدر عام 1883 لم يثير الانتباه ، ولم يبع اكثر من اربعين نسخة ، وسنجده قبل وفاته بعام واحد - توفي عام 1900 – يعاني من تدهور عقلي ، حيث شخص الاطباء حالته بانها نوعا من اوهام جنون العظمة ، كان يصرخ انه القيصر ، وسيعيش سنواته الاخيرة كانسان بليد خامل ، تحت رعاية امه اولاً ، ثم تحت رعاية شقيقته " اليزابيث " التي كانت شديدة الاهتمام بفلسفة شقيقها . كانت اليزابيث مصممة على ان تجعل الجميع يعترفون بنيتشه باعتباره اكبر عبقرية المانية بعد غوته ، وقد سارعت بتأسيس ارشيف لشقيقها جمعت فيه كل اوراقه ومؤلفاته . بعد وفاة نيتشه ظل البعض يشيرون الى جنونه كدليل على ان فلسفته لا يمكن ان تؤخذ على محمل الجد ، فيما كان البعض الآخر يدافعون ويؤكدون ان جنونه حالة من السمو الروحي ، ونتيجة لأنه قد ادرك حقيقة أبعد من العقل والمعاييرالاخلاقية البرجوازية ، للحكم على الاشياء .. وقعت في حياة نيتشه الكثير من المصادفات ، إلا ان ابرزها لقاءه بسالومي عام 1888 حيث اعتقد انه وجد المرأة المناسبة .كانت فتاة جميلة وذكية ، مسحورة بفلسفته . ورغم انها ستتركه فيما بعد إلا انها ستكتب واحدة من اجمل السير عن هذا الرجل المثقل القلب دوماً ، والذي تدل هيئته على الجنون – ترجمت كتاب ( نيتشه.. سيرة فكرية )

1
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
الى العربية الدكتورة هناء خليف غني – وقد وصفت هذه السيرة بانها افضل كتابة عن الجوانب النفسية لهذا الفيلسوف المحير . المصادفة الثانية كانت في عثوره على كتاب أرتور شوبنهاور "العالم ارادة وتمثيل" وقد قدر لهذا الكتاب ان يقلب كل اطوار حياته ، ويترك ثورة مستعرة في نفسه ، وكان أول ما شغله من هذا الكتاب شخصية صاحبه التي ستؤثر فيما بعد في كتاباته وخصوصا " مولد المأساة " الذي يقدم فيه التحية لشوبنهاورالذي علمه ان الارادة شيء قائم بنفسه ، وان الذاتية في الوجود مصدر كل ألم ، والموسيقى لغة أصيلة للارادة . وفي مدرسة شوبنهاور تعلم نيتشه ان يرى الحقيقة كما هي بما فيها من قبح وبما تنطوي عليه من ألم . وتعلم ان العبقرية يجب أن تناضل عصرها وابناء عصرها حتى تحمل الناس على الاعتقاد بوجودها . فهي حين تناضل العنف وتحارب الرذيلة ، تحاول في هذا كله ان تطهر ذاتها من كل الاضرار التي دخلت عليها من مجتمعها . كما في شوبنهاور تعريفه لحياة البطولة ، و:" أما الحياة السعيدة فهي ضرب من المستحيل . فخير ما تكافئ به نفسك ان تكون عظيماً ظافراً . ذكراك تبقى حية ، وانت تُمجد تمجيد الابطال وارادتك تثب من خطر إلى خطر ، وتصعد من قدر إلى قدر " .
بعد سنوات من رحيله ستصبح صورة نيتشه بوجهه الحائر وشاربه الكث ونظرته المجهدة ، هي الملصق الذي يعلقه الكتاب الطليعيون في العالم ، واصبح الفيلسوف الذي يرغب الجميع في الانتماء لمدرسته ، والشخصية الخارقة التي يريد الجميع رسم صورة لها ، وتذكر الفلاسفة والطلاب والادباء ابن " فرانشيسكا أولر" ، المراة التي حاولت ان تجعل من ابنها نسخة منها ، وستبلغ شهرته الحد الذي تجعل منه فيلسوفا مطابقا لذوق العصر ، تُدرس كتبه في معظم الجامعات ، وتجد فلسفته مكانا لها في اعمال ألبير كامو، وآندريه جيد، ود. هـ. لورانس، وجاك لندن، وتوماس مان، ويوكيو ميشيما، ويوجين أونيل، ، وجورج برنارد شو، وهايدغر وسارتر وفرويد وجاك ديريدا وميشيل فوكو.
أرسى سلامة موسى حجر الاساس الاول لمطالعاتي حول نيتشه بعدما انتهيت من كتابه " هكذا علموني " فقد اخبرني سلامة موسى ان نيتشه خدعه ، لكنه افتتن به سنوات، ثم قرر التخلص منه ، رغم ذلك لا يزال يحمل له الحب والتقدير .. كنت آنذاك في المرحلة المتوسطة ، وكنت بالكاد قادر على فهم كتب سلامة موسى وبعض كتب طه حسين والعقاد ، فكيف بفيلسوف مثل نيتشه ، إلا ان سلامة موسى سيطمئنني ، فصاحبنا لا يرطن بلغة الفلاسفة التي تستعصي على القارئ المبتدئ ، ولا يكتب للمثقفين فقط ،فهو يسطر كتبه بلغة الشعراء ، لذلك هو الفيلسوف الاكثر قربا من الشباب . بدأت في قراءة " هكذا تكلم زرادشت " وعثرت على كتاب فؤاد زكريا القيم " نيتشه " وكانت هذه القراءات مدخلي لعالم هذا الفيلسوف الغريب الاطوار ، وقد قرأته من اجل المعرفة ، وكانت هذه المعرفة تعني بالنسبة لي ان اتلمس طريقي ببطء من خلال البحث في المكتبات عن كل ما يتعلق بسيرة نيتشه واعماله التي لم اعثر سوى على " هكذا تكلم زرادشت " مترجم الى العربية ، ومقالات عدة في مجلات متنوعة كنت اقتنيها آنذاك ، ومثل اي قارئ مبتدئ _ لا حول له ولا قوة ويفتقر الى الخبرة – انجذبت الى حياة نيتشه اكثر من كتابه " هكذا تكلم زرادشت " ، وقد وجدت في حياته العديد من المواقف الغريبة .. وبعد سنوات ساسأل نفسي : لماذا كان هذا الرجل متمردا على بيئته ؟ . لقد عشت اوقاتا سرحت فيها عندما قرأت كتاب عبد الرحمن بدوي عنه ، لماذا تاخذ حياته كل هذا الاهتمام ؟ بعد سنوات ساعثر على الجواب : انه في قدرة هذا الفيلسوف ان يلبس لباس كل عصر رغم منظره الغريب بشاربه الكبير ، يعطي انطباعاً بأنه غاضب وأحياناً عنيف .. وسادرك ان نيتشه فيلسوف غير عادي يطلب منا ان لا نسيء له :" اقرأني ولكن فكر ملياً " .أما بالنسبة للأساطير والحكايات التي نسجت عنه فهو يوصينا :" من خلال التفكير في ما يمكن للأشخاص غير المؤهلين وغير المناسبين الاحتجاج على أفكاري ، ومع ذلك ، فإن هذا هو عذاب كل معلم " . وهو بالتاكيد عذاب كل قارئ يقترب من " عبوة الديناميت " هذه .

2
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
قبل اكثر من عام صدر كتاب طرح فيه مؤلفه الكاتب الانكليزي باتريك ويست فكرة تخيل عودة نيتشه الى حياتنا هذه الايام ، ويناقش تاثير نيتشه على عصرنا الحاضر ، خصوصا بعد صعود موجة الشعبوية في اوربا ، فهذا الفيلسوف الذي اخترع كلمة السوبرمان ، لا تزال افكاره حول طبيعة الخير والشر ، وارادة القوى ، تتردد صداها في جميع أنحاء العالم ، وفي وسائل الاعلام ، ونجده يظهر في سلسلة هاري بوتر كانسان خارق ، يطرح الكاتب سؤالا : هل نحن مدينون لنيتشه ، الذي اكد ان " ما هو عظيم في الإنسان ، أنه جسر وليس هدفًا ".
يقول الكاتب أن مهمة نيتشه كانت ولا تزال في طرح الاسئلة ، وقد كان يعتقد أنه كلما زادت عدد الأسئلة التي نطرحها كلما زادت الحكمة التي نكتسبها ونطورها في حيانتا بشكل أفضل ، وان الانسان عندما يعاني للوصول الى هدفه فان ذلك افضل له ، فالشجاعة هي في مواجهة المصاعب ، والسماح لنفسك بالعيش بشكل تجريبي ، واستكشاف خبرات الحياة بجرأة :" كن ممتنا لأنك لم تأخذ الطريق السهل وتستمر في ذلك مثل "متعرج ممل".
قبل الحرب العالمية الثانية ستصبح افكار نيتشه هي الرائجة وسيكتب ازولد اشبنجلر صاحب الكتاب الشهير " تدهور الحضارة الغربية :" كانت الصحراء في قلوبنا ، وفجأة ظهر نيتشه مثل النيزك " ، لنصبح كتاباته هي البضاعة الرائجة في عصر النازية الالمانية .
كثير من الذين درسوا فلسفة صاحب " هكذا تكلم زرادشت" يؤكدون ان كتابات نيتشه كانت بحثا عميقا عن جذور التفسخ في الثقافة الاوربية ، حيث وصل نيتشه الى استنتاج ان اوربا فقدت قوة الحياة الدافعة لخلق قيم تؤدي الى ثقافة قوية وجديدة ، وقوة الحياة هذه سيطلق عليها نيتشه اسم " ارادة القوة " . كان نيتشه يفهم ارادة القوة في الإنسان ، على انها شيء اوسع واكثر شمولا من مجرد رغبة في ممارسة السيطرة على الآخرين ، فارادة القوة كما يقول نيتشه تمنح الانسان شعورا :" بالكمال ، بالقوة المنضبطة والصلاحية التي تمكنه من ان يواجه بشجاعة وروح حية ، الكثير مما يجعل الضعفاء يرتعدون " وهو يؤمن ان المرض والتفسخ يطردان " غريزة الحياة " ، يصر نيتشه على ان ما نصادفه في الحياة مجرد تفاهة ، اطلق عليها تعبير تفاهة اللامعنى . لايوجد إله وبما انه لا يوجد إله لايوجد معنى مطلق للحياة البشرية ، أن أرادتنا وقدرتنا على اتخاذ القرارات هي التي تميز البشر عن باقي المخلوقات وان انحطاط الأنسان العصري يظهر في كونه جبانا يفتقر الى فضيلة الشجاعة ، ويقول نيتشه إن اوربا القرن التاسع عشر هي ثقافة ومجتمع يظهران ما أسماه "اخلاقية القطيع". الناس مستعبدون عبر اتباعهم الأعراف والتقاليد المجتمعية ويخشون الخروج عن المالوف ومثل قطيع غنم مغفل ، يجولون ويفعلون أي أمر يتوقعه منهم أقرانهم هذا ايضا يسحق الروح البشرية وتعزيز العظمة البشرية ،
لقد ادرك نيتشه منذ سنواته الاولى ان الظاهرة الأساسية القادمة في ثقافة الغد ستكون حتماً هي حاجة الفرد الى تمييز نفسه من الجماعة ، ومن أكثر أوصاف نيتشه تاثيرا في النفس وصفه للانسان ، والذي يرى نفسه شبيها بالإله ، ففي هذا الوصف لا يعود للانسان قمة اخرى يسعى اليها .
قبل وفاته بعام خرج نيتشه من بيته ، كان مريضاً ومحبطاً ، شاهد سائق عربة يضرب حصانه بقوه فهرع إليه، الفيلسوف المريض كان يصرخ مدافعاً عن الحيوان المسكين ، وفجأة سقط مغشياً عليه ، فحمله بعض المارّة الى المصحّة ، فحصه الأطباء فاكدوا انه مصاب بتدهور عقلي ، وتقرر حجزه في المصحة ، إلا أن الأم وشقيقته قررتا ان ينقلاه الى منزلهما ، حيث وضع تحت المراقبة الدقيقة. شُخصت حالته بداء جنون العظمة ، فقد كان مصراً على انه القيصر، وازدادت نوبات الصراخ . كان يعتقد ان حجزه في البيت جاء بأوامر من بسمارك شخصيا ، وفي أحد الأيام حطم النافذة ليهرب، واستمرت نوبات الغضب والصراخ الى ان مات عام في الـ " 25 " آب عام 1900 ، عندها اصرت شقيقته اليزابيث ، ان تزعج وهو في موته المسيحية ، بأن اصرت ان تكون جنازته دينيه ، وان يوضع الصليب فوق التابوت ، وقبل موتها عام 1935 شكرت اليزابيت الزعيم النازي ادولف هتلر "

3
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
لما أنعم على شقيقي من شرف " ، وفيما بعد تم الاستشهاد بنيتشه في محاكمات نورمبرغ التي جرت لمحاكمة جرائم النازية عام 1946 ، بوصفة شخصية مؤيدة للأيديولوجية النازية . ولا بد ان نيتشه المسكين قد فزع من هذه التهمة ، رغم انه تنبأ بأن افكاره ستشوه ذات يوم ، حيث كتب عام 1884 خطابا الى شقيقته اليزابيث قال فيه :" انني ارتعد رعبا عندما افكر في اولئك الناس الذين ، بلا مبرر، ودون قراءة لافكاري ، يستنجدون بسلطتي
ما زال نيتشه بعد اكثر من عشرة عقود على رحيله يحتل في تاريخ الفكر الأوروبي مرتبة مثيرة ومحيرة جدا في الوقت نفسه ، مثيرة لأنه تحدی كل الافكار والمعتقدات والقيم التقليدية في عصره ، ومحيره لأن نتاجه لايزال شدید الاثارة ، هذه الاثارة التي أسهمت فيها تناقضات ذلك النتاج الذي سيحظى بالتمجيد والاجلال بعد اهمال استمر طيلة حياته الخلاقة حيث تحولت افكاره فجأة إلى شيء من الشعار العقائدي في اوروبا كلها . ورغم أن تحديه لحضارتنا كلها قد أسيء تفسیره ، اذ اساءه كارهوه ، واحيانا كثيرة اتباعه ومريدوه ، فان الانفعالات التي أحدثها تفكيره كانت ذات أثر كبير في المناخ الفكري والفلسفي في حياتنا المعاصرة .
ظهر " نیتشه " في نهاية حقبة بارزة جعلت ازمات الانسان الداخلية والخارجية تشهد على الإفلاس التدريجي لتقاليد الانسانية . كان واحدا من هؤلاء الذين رفضوا الخديعة ، وبينما بدا وجه من أوجه تفكيره اشبه بالنبؤة ، جاء الوجه الآخر صلبا ، مليئا بالتشاؤم . وقد أعطت افكاره على مدى اكثر من مئة عام تشخيصا وتحليلا من أشد ما عرف عصرنا قسوة وكشفا للحقائق ، وهو من ناحية أخرى ، كان يسعى الى فلسفة حية ، تعاش ، فلسفة يمكن أن تؤثر في وجودنا تأثيرا فعليا .
في احدى مقالاته المبكرة يدون نيتشه هذه الكلمات : " بالنسبة لي يبدو أن اهم مسألة يجب على الفلسفة أن تبت فيها هي ، الى أي مدى اكتسبت الأشياء طابعا وشکلا لا يمكن تغييرهما وعندما يتم الجواب على هذا السؤال فمن واجب الفلسفة - كما أرى - ان تسير قدما في مهمة" .. كان السؤال الذي يشغله دوما :

4
Forwarded from فريدريك نيتشه (محمد سلمان)
هل ما زال بالامكان انقاذ الإنسانية والحضارة ، أم انهما محكومتان بالفساد واللامبالاة بصورة لا يمكن اصلاحهما بعدها ؟
تعلمت من خلال صحبتي مع كتب نيتشه أن افضل طريق الى صاحب الشارب الكث ، هي تلك التي تمر عبر نیتشه الانسان . وان الوصول اليه لا يتم إلا من خلال اختراق الأقنعة العديدة التي كان يرتديها والتي حيرت قراءه ومحبي فلسفته . الم يعترف هو نفسه بأن :" كل فلسفة ، تخفي كذلك فلسفة اخرى ، وكل فكرة مخبأ وكل كلمة هي ايضا قناع " .
يقول زراداشت لرفاقه: " إنني وحدي أذهب يا رفاقي ! وانتم وحدكم أذهبوا ! أنا أريد ذلك . في الحقيقة أعطيكم هذه النصيحة : ابتعدوا عني كثيراً ، واعتقوا أنفسكم مني ! والخير لكم أن تخجلوا مني . . . أنتم تقولون أنكم مؤمنون بي ، ولكن ماذا يهمني أيمانكم يا من آمنتم بي ، بل ماذا يهمني كل المؤمنين ! أنتم لم تبحثوا بعد عن أنفسكم ، ولذلك وجدتموني ، هكذا يقول المؤمنون كلهم . ولهذا أرى أن كل ايمان هو شيء ضئيل حقير . والآن ، آمركم أن تفقدوني لتجدوا أنفسكم ." .
يتركنا نيتشه في جدالنا الذي لا ينتهي حول أهميته ، وهل هو اديب ؟ ، وهل كان ديمقراطيا ام متعصباً؟ .. يتركنا بعد ان يوصينا بانه من الأفضل قراءة الكتب بدلاً من محاولة النميمة حول الكاتب .. في كل صفحة من كتبه سنشاهد صورته ذات الملامح الصارمة وسنسمع صوته يؤكد أن الافكار عندما تخرج على الورق ليست اكثر من آثار احد السائرين على الرمال ، حيث نرى جيدا الطريق الذي سلكه هذا الفيلسوف ، ولكي نعرف ما الذي رآه على الطريق يجب ان ننظر الى هذه الطريق بعينيه ، ونتتبعه وهو يردد أنشودته في تمجيد الحياة الفياضة ، مناضلاً حتى النهاية . ورغم الألم الذي غلب على عقله ، لكنه لم يستطع أن يقهر ارادته الواعية .

5
👍2
الوجود بين الوحدة والاختلاف في فلسفة سبينوزا
– أحمد العلمي



فلسفة الدين عند سبينوزا
مما لا شك فيه أن الفلسفة المعاصرة قد أضفت على مفهوم الوجود بعدًا أساسيًا منذ ظهور فلسفة سبينوزا. وأصبح الوجود بذلك هو المفهوم الرئيس في الفلسفة. وفعلا، فقد منحَ هايدجر، بربطه بين الوجود والزمن، بعدًا خلاَّقًا للأونطولوجيا، موقظًا بذلك الفلسفة من سباتها الميتافيزيقي العميق لكي تعود إلى حظيرة التفكير في الوجود. وعمل دولوز، من جهته، على ربط الوجود بالاختلاف وبالتكرار وبالصيرورة، فأصبح الوجود إبداعًا وخلقًا وبناءً للمفاهيم الجديدة، مفاهيم تفجر قوة الفكر وقوة الحياة. ويشكل هذا الرجوع لمفهوم الوجود دفعًا للفلسفة وللتفكير الفلسفي، مثلما أنه يمثل ربطًا لحاضر الفلسفة بماضيها الأونطولوجي. وكأن الفلسفة قد بدأت مع ماقبل السقراطيين، مع هيراقليطس وبارمنيدس، بالتفكير في الوجود لتعود ثانية، في الفلسفة المعاصرة، لتعطيَ الوجود حضورًا متميزًا.

غير أن أصل هذا العود لإشكالية الوجود ليس وليد الفلسفة المعاصرة، بل يرجع الفضل فيه، حسب المختصين1، إلى الفلسفة السبينوزية. فهي التي أعطت الوجود، في عمق فلسفة القرن السابع عشر، قوة ونفسًا جديدين كانا قد خفتا عندما انهممت الفلسفة بقضايا يعود أصلها إلى قوى متعالية. وبالفعل، فقد جسدت الفلسفة السبينوزية عودًا مظفرًا لمبحث الوجود.

فأهم ملامح أصالة كتاب “الإتيقا” تكمن بالأساس في إعطائه مشكل الوجود، مفهوم الوجود، دورًا أساسيًا في بنائه الفلسفي. وقد بينت دراسات دولوز أن كتاب “الإيتيقا” قد أسس أونطولوجيا أصيلة وخلاقة، أونطولوجيا تجاوزت التصورات اللاهوتية، بل تجاوزت كذلك التصورات الميتافيزيقية، كـ الفلسفة الديكارتية. ولن يكون بعيدًا عن الصواب الإقرار بأن التصور الأونطولوجي السبينوزي هو المؤسس الفعلي للحداثة الأونطولوجية الراهنة. حقيقة أن كتاب “الإيتيقا” يتحدث عن الجوهر الفرد الذي ينطوي على ما لا نهاية له من الصفات والأحوال، وحقيقة أن سبينوزا قد سمى كتابه الأول، في الله، غير أن ذلك كله لا يعني أنه قد ظل وفيًا للتقاليد القروسطية المعروفة. ف

مقصود سبينوزا عند حديثه عن الجوهر وعن الله هو الوجود. فالله، أو الوجود، أو الجوهر تعبيرات عن معبر عنه واحد، وتسميات لمسمى واحد. بل إن سبينوزا استعمل المفاهيم التقليدية، كمفهوم الجوهر ومفهوم الله ومفهوم الصفة، لضمنها بمعنى أونطولوجي لم تعهـده الفلسفة من قبل. والواقع أن تعامل سبينوزا مع مسألة الإبداع الفلسفي قد اتخذ مسارًا متميزًا، ويقوم بالخصوص على إفراغ المفاهيم المتداولة من أجل شحنها بمعنى جديد كل الجدة. فبعدما كان مفهوم الله ومفهوم الجوهر، وهما المفهومان الأكثر تداولا منذ أرسطو والفكر الديني، يحملان أبعادًا لا تَفِي بمطامح الأونطولوجيا وَمتطلباتها، أصبحت، مع سبينوزا، تعبر عن الطموح الأونطولوجي المحض.

1
أصبح مفهوم الجوهر، بل أصبح مفهوم الله، ينطوي على كل الصفات وعلى كل الأحوال، وأصبح علة محايثة للكل وعلة قريبة للكل. لقد أصبح مفهوم الجوهر أو مفهوم الله، بعدما كان عُربون التعالي المجسد للفكر الميتافيزيقي وللفكر اللاهوتي، شرطًا أساسيًا لتأسيس الأونطولوجيا. أصبح مفهوم الله محايثًا لكل الصفات المؤسِّسَة لماهيته. لذلك فالخصائص التي أسندها سبينوزا لمفهوم الجوهر أو لمفهوم الله هي خصائص تجعل كل واحد منهما هو التعبير الصريح عن الهدف الأونطولوجي، وعن الطموح الوجودي.

لذلك فافتتاح سبينوزا لكتابه بجزء عن الله هو في حقيقته افتتاح بمفهوم الوجود. مثلما أن إقراره بجوهر واحد لكل الصفات معناه أن الوجودَ فرد، مع أنه ينطوي على كل الصفات والأحوال. هكذا حقق سبينوزا قلبًا للتصوات اللاهوتية والميتافيزيقية باستعمال مفاهيمها ومصطلحاتها مؤسسًا بذلك أونطولوجيا تعطي لمفهوم الوجود البعد الذي يستحقه.

تهدف هذه المقالة إلى رسم معالم هذه الثورة الأونطولوجية التي أحدثها سبينوزا. غير أنه سيكون من الضروري، من أجل إدراك هذا الإسهام الكبير لكتاب “الإتيقا”، تقديم صورة عن البحث الأونطولوجي قبل الفلسفة السبينوزية، وعن المفاهيم التي كانت سائدة آنذاك.

الفلسفة ومفهوم الوجود بين الوحدة والاختلاف
الواقع أن الفلسفة قد بحثت منذ البداية في مفهوم الوجود. حقيقة أن هذا التفكير قد اتخذ وساطات متعددة ومتنوعة، غير أنها لم تكن إلا الوسيلة المفهومية الممكنة آنذاك للاقتراب من مفهوم الوجود. وبالفعل فقد عملت الفلسفة الطبيعية عند ماقبل السقراطية وسعها من أجل بناء تصور فلسفي أصيل قائم على وحدة العنصر الطبيعي أو على العناصر الطبيعية. فعندما قال طاليس “الماء أصل كل شيء”، فإنه كان يَرزَحُ تحت وطأة البحث عن الأصل الذي كان هو المحرك الأساسي للأسطورة وللدين، وحقيقة كذلك أنه أعطى العنصر الطبيعي، الذي هو الماء، قيمة أساسية تجعل منه ذروة التصور الوجودي.

لكن ذلك كله لا يمنع، ولن يمنع، من معاينة الثورة الأساسية والخلاقة التي قام بها هذا الفيلسوف الأَيُّونِي. لقد أقصى، بالفعل، التعالي الديني والأسطوري القائم على مفهوم الإله، أو الآلهة، وأسس مستوى من المحايثة تكون عناصرُه المؤسسةُ من أصل طبيعي. ومن جهة أخرى، نلحظ أن طاليس هو أول من شق الطريق نحو وحدة الوجود، حتى وإن عبر عن ذلك بشكل غير واضح. وكما قال نيتشه:”رأى طاليس وحدة الوجود؛ وعندما أراد أن يعبر عنها، تحدث عن الماء”2.

2
كانت تلك هي انطلاقة البحث الأونطولوجي. واستمر الأمر على ذلك المنوال عند الفلاسفة الطبيعيين ليصل البحث الوجودي إلى إحدى قممه مع هيراقليطس وبارمنيدس. لقد أصبح الوجود عند هؤلاء متصورًا، لا عَبْرَ وسائطَ طبيعية كما هو الشأن عند الفلاسفة الطبائعيين، بل مباشرة وبلا أي وساطة. (وذلك هو السبب الذي يجعل هايدجر يعتبر فلسفة بارمنيدس وهيرقليطس أعلى قمة في البحث الوجودي).

غير أن البحث الفلسفي لم يتابع هذا التوجه، ولم يسر على خطاه. إذ سرعان ما عادت الأمور تختلط وتتراكم فوق الوجود ليتوارى خلف وصاية وسائط عدة. ويمكن القول إن مفهوم الوجود قد عاش، لمدة طويلة، تحت وطأة خطرين أساسيين. يكمن الخطر الأول في الفكر الديني، الفكر الذي عاد مرة أخرى ليفرض تصوره المقابل للفلسفة. وبالفعل، يقوم الفكر الديني على مفهوم التعالي الذي يلغي الفلسفة ومفاهيمها الأساسية كمفهوم الوجود. لقد نصب الدين كائنًا خارج الوجود، ومتعاليًا عنه. وقد حاول رجال اللاهوت تدارك الموقف، بإقامة مفهوم اسمّي للوجـود، أي بإقامة وحدة اسمية للوجود.

هذا في حين أن المفهوم الحقيقي للوجود ينقسم إلى معان متعددة ومختلفة يستحيل ردها إلى مفهوم واحد. وهذه القسمة تفترض تعالي الكائن الكامل والمطلق. ونجد هذا التصور عند جميع الفلاسفة الدينيين الذين وهبوا أنفسهم للدفاع عن قسمة الوجود وتراتبه. غير أن هذه القسمة وهذا التراتب عصفا بمفهوم الوجود. فليست الوحدة الإسمية بشيء، ولا يمكنها أن تضمن للوجود قوة فعلية ومؤسسة لمبحث الوجود.

فإذا كان الوجود مختلفًا متعددًا بتعدد الوجودات، فما الذي يسوغ الحديث عن مفهوم واحد للوجود؟ ما الذي يضمن وحدة مفهوم الوجود؟ يهدف الدين والفكر الديني، في الحقيقة، إلى نفي البحث الأونطولوجي، وإلى نسف الفلسفة ومفاهيمها. هكذا تتعدد معاني الوجود بتعدد الموجودات، ويتوارى مفهوم الوجود. ذلك هو الخطر الأول النابع من الفكر الديني ومن الدين والهادف إلى محو مفهوم الوجود وتذويبه.

ويكمن الخطر الثاني، الذي يتهدد المبحث الوجودي، في التوجه الذي يضع الوجود بصفته مفهومًا واحدًا على جهة المناسبة والتناسب. وقد أخذ هذا التوجه الوجودي انطلاقته مع الفلسفة الأرسطية في صياغتها للمقولات العشر. لقد أعطى أرسطو للوجود البعد الأساسي الذي يستوجب على الفيلسوف القيام به، غير أنه قد وضعه تحت وسائط من شأنها الحد منه وتحجيم الدور الذي ينبغي عليه القيام به. فالمقولات العشر تقسم مفهوم الوجود وتعدد معانيه.

3
فالوجود الذي للجوهر يختلف عن الوجود الذي للعرض والكم والكيف، إلخ. غير أن هذه القِسمة تظل قسمةً تراتبيةً، إذ أن الوجود لا يُحْمل على الجوهر بالشكل الذي يُحْمل به على العرض. وأمام هذه القسمة التي تدور على مقولات عشر، استدرك أرسطو والأرسطية اللاحقة على وجه الخصوص الأمر بإقامة علاقات التناسب بين هذه المعاني. فالوجود متعدد مُنقسمٌ مُتَراتب، لكنه متناسب، إذ نسبة الوجود للجوهر هي نفس نسبته إلى العرض. فالاختلاف في المعنى والحكم، والاتفاق في النسبة. يحاول التناسب أن يقيم تصورًا لمبحث الوجود، أي الأونطولوجيا. لكن هل ينجح التناسب في ضمان الوحدة الوجودية التي تطالب بها الأونطلوجيا؟ هل يستطيع أن يُوَفِّرَ للوجود الشروط التي ينادي بها؟

يبدو أن هذا الموقف يؤدي هو نفسه إلى إضعاف مبحث الوجود. فالتراتبية التي تنخر الوجود وذلك بغية منح الجوهر مرتبة أعلى من الأعراض، تعيد إنتاج التعالي الديني. وبالفعل، فكون الوجود مُنْقسمًا بانقسام المقولات يفتح المجال لانتصاب المتعاليات. وهذا ما جعل الفلسفة الأرسطية تجد آذانًا صاغية في الفلسفة الدينية القروسطية. إذ ستصبح التراتبية المقولية، بين الجوهر والأعراض، قائمةً على تراتبية وجودية بين الوجود الإلهي والوجود الطبيعي.

وقد جسد كل من ابن رشد، في الفلسفة الإسلامية، والقديس طوما الإكويني، في الفلسفة المسيحية، هذا التوجه في تاريخ الفلسفة. واستطاع ابن رشد الادعاء بأن الفلسفة توافق الدين، إذ الحق لا يضاد الحق، بل يدعمه ويسانده. نعم، الحق لا يضاد الحق، لكن متى كان حق واستحقاق الأونطولوجيا، أي مبحثِ الوجودِ، هو التناسب؟ متى اكتفت الأونطولوجيا بوهم واستيهام التناسب؟ لا يقيم أصحاب هذا الموقف التوفيق بين الفلسفة والدين إلا بإفراغ محتوى الوجود من معناه الحقيقي القائم على التواطؤ، أي وحدة معنى الوجود. وعندما ينتفي التواطؤ، يصبح الوجود متراتبًا بتراتب الموجودات.

4
2025/07/14 21:35:34
Back to Top
HTML Embed Code: