Telegram Web Link
فلسفة «سيمون فايل» والحاجة إلى الجذور في عالمٍ سائل

بالإمكان تشكيل نظرة حول أدبيات سيمون فايل وفلسفتها بالرجوع إلى ثلاثٍ من أطروحاتها الفلسفية وهي: بيانها المعنوَن «أطروحة حول فرائض الإنسان/ Draft for a statement of Human Obligation»، وكتابها «الحاجة إلى الجذور/ The need for roots»، ومقالتها «الإنسان والقداسة/ La personne et la Sacré»، التي كتبتها خلال فترة عملها في لندن لصالح قوات التحرر الفرنسية. تتمخَّض هذه النصوص عن العديد من المفاهيم الأساسية في فكر فيل الأخلاقي، الذي يعتقد بأن الفعل الأخلاقي مبنيٌّ على واجبنا تجاه فكرةٍ ما بمعزلٍ عن مآربنا الشخصيّة، وهذا الواجب أو الفريضة تكشف ماهيّتها أفضل الكشف في موقفنا الحريص على الإصغاء إلى الآخر/ أخينا الإنسان ورؤية مكمن ألمه وخزيّه. هذه الفريضة لا يفرضها علينا عالمنا العقيم الذي نعيشه، وإنّما هي فريضةٌ مقدَّسة يستوجبها منّا عالمٌ أرحب يتجاوز عالمنا هذا.



تستجلبُ فايل أسس فلسفتها آنفةِ الذّكر من محبّتها الصادقة وإيمانها بفلسفة «أفلاطون»، ومن قناعاتها الدينيّة التي تتحدّر من جذور صوفيّة وممارسات زاهدة ربّتها على معتقدات مسيحيّة كلاسيكية بشقّها الكاثوليكي. لكنها، في نفس الوقت، تركتها عند باب الكنيسة دون أن تدعوها إلى الدخول. وأظهرت قناعات فيل الدينية والإيمانية وجهها في مقالتها «La Personne et la Sacré» والتي تُرجِمت «الهديّة الإنسانية أو ما هو جوهر القداسة في كلّ إنسان».

تهدف فيل في مقالتها تلك توطيدَ وجهة نظرها الأخلاقيّة، والطّعن في فكرتنا المُقولَبة الجّاهزة حول كيفيّة تعامُلنا مع «الآخر» وسببيّته. إذ تستهلُّها بالتركيز على ما يبدو أنّه المقاربة المنطقية لسؤال: «كيف ينبغي علينا بناء علاقتنا مع الآخر؟». وتطرح فكرتها مجيبةً، بأنّنا يتحتّم علينا أن نتطلّع إلى الآخر بوصفه نفسًا جوهريّة تملك هويّةً خاصّةً بها. هوية نتجاوب معها ونتعلّق بأهدابها، وهذا ضربٌ من ضروب «الشخصنة/ Personalism». إذ ترى الشخصنة أنّ الهوية ما هي إلّا جوهرٌ ميتافيزيقي.

وتستطرد فايل في شرح الفكرة وتسألنا تخيُّل لقاءٍ ما برجلٍ مجهول في الشارع. سنلاحظ في بداية اللقاء عدّة جوانب من شخص هذا الرجل. على سبيل المثال: ذراعاهُ الطويلتان، عيناهُ الزرقاوان، عقله المزدحم بالأفكار التي لا تتمحور حول شيئٍ بالتحديد. وبعدها تطرح عريضتها بصورةٍ مباشرة: «ما الذي يحولُ دون أن نفقأ عينيه؟!» فبالنتيجة، إن كنّا ندين بالفعل الأخلاقي تجاه ما يُدعَى (بالهوية= الجوهر الميتافيزيقي للإنسان) فهويته ليست في عينيه:

3
«إن كانت الهوية الإنسانيّة هي الأقنوم المقدّس بالنسبة لي، عندها لفقأت عينيه بكل يُسرٍ وسهولة. فحتّى إن كان أعمى ودونما عينين، ستبقى هويته على حالها».


تشدِّد هذه الفكرة الصارخة على الجدال الجذريّ لفلسفة فيل مع مفهوم الشّخصنة. فالشّخصنة تضربُ بعرض الحائط تأثيرَ البلاء النّاحت لهوية الإنسان وشخصه. وعليه، إن كان أساسُ تعاملنا مع الآخر مبنيًّا على الاعتقاد باستحالة دمار روح الإنسان وتهتُّكها جرّاء المعاناة، بل وحتّى بدلًا عن انهياره سيتغلَّب على ظروفه بالرغم من كلِّ العقبات. إذن، لا يمكن أن يكون ما يحول دون أن نفقأ عيني أخينا الإنسان هو إيماننا بأنّ هويته وأناه ستبقيان دون أن يمسّهما ضرر، لكن ما يُصلّب عضلات يدينا ويحول دون إقدامنا على فعلتنا هو: «معرفتنا أنّ إقدامنا على فقأ عينيه، سيحكُم على روحه بالتمزّق جرّاء كمِّ الشّرِّ الذي أُنزِلَ به».

وبالمثل، ترفض فايل الفكرة القائلة إنّ ما يمنعنا من إلحاق الأذى بالآخرين هو حقّهم في البقاء آمنين. فمدلول «الحقوق» بحدّ ذاته لا يعني شيئًا إن بُتِر عن فكرة أن البشر إخوة وينتمون إلى عالمٍ واحد. مجاهرتنا بالحقوق المُستَلَبة لن يقفَ عائقًا في وجه اجتراح الشّر. فمصطلح «الحقوق» يُستخدَم لملء صفحاتٍ من مرافعات قضائيّة أو صفقات تجارية. وعند استخدامنا للفظة «حقوق» تغدو علاقتنا بالآخر علاقةً ماديّة وتشييئيّة وتفتقر للإنسانيّة، لأنّها تمسخ دمعةً استجرَّها الألم إلى مصطلح قانونيٍّ أبكم. وحينها نتوقّف عن رؤيته بوصفه «آخر» مدينون نحن له بفريضة جوهريّة وأصيلة ومتنصّلة من الأنانية، وإنّما بوصفه وعاءً لقيم ظاهرية لا معنى لها. وتطرح فيل مثال الفلّاح الذي يضعُ سعرًا محدَّدًا للبيض الذي أنتجته دجاجاته، ولديه كلّ الحق في رفض ثمنٍ بخس قدّمه أحد الشارين. هنا تغدو لفظة «حق» مُستحَقَّة بناءً على علاقة الفلّاح بالبيض بوصفه مالكًا له، وبناءً على طبيعة الصفقة التي هي صفقةٌ تجارية. لكن عندما تُجبَر سيّدةٌ شابّة على ممارسة البِغاء، تغدو لفظة «حقوق» مثيرةً للسخرية. فما يُنتَهك هنا أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن حالة الفلّاح. نحن هنا أمام «ثورةٍ شاملة لكينونة الإنسان الكليّة؛ ثورةٌ عاتيةٌ ومستميتة. وفي نفس الوقت، هي صرخة استجداءٍ لأملٍ لا يجيء. صرخةٌ من صميم القلب». هذه الأذيّة لا يعوّضها المال أو الصفقات والمساومات.

تبني فايل محاججتها على وجوب الفعل الأخلاقي بوصفه فريضة. فريضةٌ ليست تجاهَ ما نعرفه من ماهية الشخص الآخر أو ما نتخيّل أننا نعرفه، وإنّما فريضة تجاه صرخة الألم التي يطلقها من صميم معاناته. هذه الصرخة مستقّلة عن ماهية الشخص وكينونته وتخصُّنا أجمعين. أي، صرخةُ إنسان هي صرخة البشرية جمعاء. ولا يقتصر واجبنا على الحيلولة دون المعاناة الكونية وإنما أيضًا في التأكيد على أن المعاناة ظالمة وليس فيها شيئٌ من الإنصاف. وعلى الرغم مما تظهره سيرة فيل الذاتية من دلائل جليّة على إدراكها لماهية الألم والمعاناة ومدى شموليّتهما، تحاجج بفكرة أن على البشرية أن تتحلى بالأمل وتتوقع الخير بدلًا من الشر. وفي تأكيدها على شمولية الألم، تضرب فيل جذور الهوية الإنسانية بعرض الحائط مؤكّدة أن حرقة دموع إنسانٍ يرزح تحت نير البؤس هي دموعٌ لا تخصّه وحده بل هي دموعنا كلّنا. وما تشير إليه هذه الدموع، ليس مدى جاذبية المعاناة، بل جدارتنا أمام البؤس وقداستنا عند الصمود، إذ تقول :

«ما يعلو بإنسانٍ إلى مرتبة القداسة هو بؤسه الذي يتجاوز كينونته وأناه ليشمل العالم أجمع. فكلّ ما يتنصّل من ذاتيته ويستقلّ عنها يغدو مستوحِدًا ومقدَّسًا».

4
أو لنقل ذلك بطريقةٍ أخرى، ثمّة بالتأكيد هالةٌ من القداسة تحيط كلّ إنسان؛ قداسةٌ لا علاقة لها بظروف حياته وحيثيّاتها واحتماليات هويته. فإذن، ما يحول دون اجتراح الشرّ هو هذا الوعي بالجانب المقدَّس للكائنات البشريّة، وليس المعرفة المُسبقة بحقهم في البقاء آمنين من الأذية!

واستتبعت فايل قولها بأنّ لا-فردانية الإنسان أو كونه مجهولًا بالنسبة لنا هي ما يجعله مقدَّسًا؛ فكلّ مجهولٍ مقدّس. وواجبنا الأخلاقي تجاه إنسانٍ آخر يستند جذريًّا على إدراكنا لقداسته رغم جهلنا لخصاله ولهويته.

في نصّها: «تمهيدٌ لأطروحة حول فرائض الإنسان»، تقرّ فيل أنه على الرغم من الشمولية الموروثة لمفهوم المعاناة وتساوينا أمام الألم، فنحن لا نعيش ضمن ظروف وحيثيات تمكِّننا من إدراك هذا التكافؤ وذلك لأننا: «في كلّ حيثيّاتنا الاجتماعية وظروفنا، لسنا متكافئين أمام مكوّنات هذا العالم». ولذلك تشدّد على مكامن التماهي والقداسة عند كل إنسان، وتقول: «إلَّم تُبنى أرضيّتنا النفسية على هذا الأساس فمن المستحيل أن نشعر بالدرجة نفسها من الاحترام تجاه أمورٍ هي في الحقيقة غير متكافئة ما لم تَحُز على الدرجة نفسها من الاحترام!».

ينبغي على فريضتنا تجاه الآخر أن تكون مطلقة دونما شروط أو قيود، وأن نؤدّي واجبنا تجاهه بصورةٍ لها منفعةٌ ومدلول. وترجع لا-شرطيّة هذه الفريضة في أن مَعينها ومنبعها يكمن في حيّزٍ خارج هذا العالم. هذا الحيّز الذي يقع خارج العالم وخارج مدارك الإنسان ومساعيه هو الخير المطلق الذي وجِد في شخص الإله؛ الإله بوصفه مفهومًا يشتمل على كل ما هو بهيجٌ ووضّاح وعادل وطيب في هذا العالم:
«في صميم قلب الإنسان، يكمن توقٌ إلى خيرٍ مطلق. توقٌ لطالما اعتملَ هناك ولمّا يلطّفه أو يخفّفه أيّ غرضٍ أو بغية أخرى». الإله هو النسخة الأفلاطونية للواقع التي تسوّغ واجباتنا وفرائضنا، لأن: «إدراك شتّى الفرائض ينبع على الدوام من الحنين إلى الخير. وهو حنينٌ يتيمٌ وثابتٌ ومتشابه عند كلّ البشر من مهدهم إلى لحدهم».

وبالعودة إلى مفهوم الحقوق، ترى سيمون فايل أن الحديث بموجب الحقوق يُعمينا عن مفهوم القداسة الإنسانية ومكمنها، ويحوّل واجبنا ويدفعه في اتجاهٍ آخر:
«إلى الكينونة الإنسانية، نحن مدينون بكلّ شيئ. وذلك لسببٍ وحيدٍ أوحد، وهو لإنّه كائنٌ إنسانيّ دونما الحاجة إلى توفّر شروطٍ أخرى. وحتّى دون إقرار الشخص ومطالبته بتأديتنا لواجبنا تجاهه».

وكما يُظهر مثالها عن الرجل في الشارع، لا ندرك هذا الواجب على الفور. ولا يرجع ذلك إلى ظهور جوانب من هوية الرجل تدفعنا للاكتراث تجاهه دون غيره لأنه يعلو عنهم مرتبةً فحسب، بل أيضًا لأننا نعايشُ ظروفًا تعلو ببعض الأشخاص فوق غيرهم من البشر. وذلك لميلنا في اعتبار الآخرين وسائلًا لا غايات، ونادرًا ما نرى أبعد من الصورة الماثلة أمامنا بحثًا عن شيئٍ ما مجهول.

5
وهنا، نلاحظ ارتقاء مواقف أخلاقية بعينها لتعلو عن مجرد فرائض أدبية أو معنوية. فالمجتمع الذي يرقى لصفة «المجتمع العادل» هو المجتمع الذي تتوفَّر فيه حاجاتُ الجسد البشريّ الفطريّة من طعامٍ ودفء ونوم وصحّة وراحة وهواء طلق بالتوازي مع الحاجات الروحيّة.




التصوُّف بحثًا عن المعنى


تدور فلسفة سيمون فايل حول فكرةٍ واحدة وهي: الحبّ. إذ يستوجب عالمنا وقفة «حبٍّ واكتراث» نغدقه على محيطنا ونتلقّاه بالمقابل من هذا العالم البرّاني. فليس بمقدورنا، إن نحن أخذنا الأمر على عاتقنا، جلبَ الخير إلى هذا العالم لأنّ مفهوم الخير يتجاوز الحيّز المكاني الكوني ويتجاوز مَلكات الإنسان وإمكاناته البسيطة. لكن ما بحوزتنا هو القدرة على تحويل محور اهتمامنا ليشمل عمل الخير وإغداق الحبّ بكرمٍ وسخاء، وعليه فإن:
«تلك الأرواح التي أغدقت حبّها وحنانها على واقعها اليقينيّ هي الوعاء الوسيط الذي من خلاله يمكن للخير والطيبة أن تنحدر نازلةً من السّماء لتعمَّ بني البشر».

الحدب على الآخرين بشتّى السبل هو ملَكةٌ بحوزتنا، ملكةٌ ننمّيها مع الأيام، وليست موهبةً نكتسبها بالفطرة. وتقترح فيل في مقالتها «تأمُّلاتٌ في الاستغلال القويم للتعليم المدرسي لينمّي محبّة الإله» أن إدراكنا كيفية محبّة الآخر والاهتمام لأمره هو أمرٌ مماثلٌ للمثابرة على إنجاز الفروض المدرسية:

«إن نحن كثّفنا انتباهنا على حلّ معضلةٍ رياضية وبعد مرور ساعة من الوقت لم نقترب قيد أنملة من حلّها. ففي هذه الساعة، حتّى إن كنا لم نُحرز تقدُّمًا يُذكَر على المستوى الظاهري، فقد أحرزنا تقدُّمًا في بعدٍ آخر باطني. ومن دون أن نعي ذلك، فقد جلَبت هذه النزاهة في إتمام العمل والإخلاص في حلّ المعضلة، جلبت نورًا إلى غرفة الروح المُعتمة».

ليس الاكتراث مهمةً خفيفةً كما تبدو للوهلة الأولى. فكما تتصوره فايل، الاهتمام ليس نشاطًا فاعلًا كحلّ معضلةٍ رياضية، بل هو حالةٌ منفعلةٌ جمودية ساكنة ينصبُّ فيها انتباهنا على ماهية الظروف التي ساندتنا في رحلتنا لإتمام حلِّ المعضلة. إذ تكتب:
«ينبع الاهتمام من تعطيل الفكر وبَتره وإفراغه، مما يؤهِّبه ويجهِّزه لاستقبال البُغية أو الغاية التي هي موضوع اهتمامنا. فلننحّي إذن المعرفة التي اكتسبناها جانبًا، فاسحين المجال لهذه الغاية أن تسِمنا برموزها ودلالاتها».

هذا الاهتمام مسيّر نحو هدف أسمى هو الآخر/ الأخ الإنسان والإله بوصفه الأب الأكبر للإنسان.
وهنا تظهر فلسفة سيمون فايل الروحانيّة الزّاهدة بأفضل تجليّاتها. فبعد وقوعها أسيرةً لأمراض لا-متناهية وآلام عاتية، فتحت المعاناة الجسدية والكرب النفسي آبارها الصوفيّة، وكتبت في نصّها «الخبرة مع الله؛ حبُّ الإله والبلاء»:

«يُخفي البلاء الإله خلال أوقات معيّنة. إذ يمسي الإله غائبًا غيبة كائنٍ ميت، غيبة الضوء عن زنزانةٍ يلفّها الظلام. يغدو غيابه نوعًا من الرعب يغمر كلّ النفس. وخلال هذا الغياب، ليس ثمّة من شيئٍ نحبُّه. والمرعب في الأمر، هو أنه إذا توقفت النفس عن الحبّ في هذه الظُلمات فإن غياب الله يصبح قطعيًّا مُبرَمًا. ينبغي أن تستمرّ النفس في الحب دون غاية. عندئذٍ يُظهِرُ الإله وجهه يومًا ويكشف لها جمال الوجود كما أظهره لنبيّه أيّوب. لكن، إذا ما توقّفت النفس عن الحبّ فإنّها تسقط، حتى وهي في الحياة الدنيا، في ما يعادل الجحيم تقريبًا».

6
وأحد أشكال هذا الحبّ والاكتراث هو عبر الإصغاء والرؤية. إذ ترى فايل أن محبّة الآخر، وبالتحديد ذلك الآخر البائس، تكمنُ في أن ننظر إليه نظرةً مُنصِفةً وعطوفةً وحانية:

«تفرغ روح النّاظر ذاتها من كلّ متاعها لتحتوي بين جنباتها روح المنظور إليه بكل كينونته المشوّهة وأصالته المشوبة. والقدرة على رؤية ألم الآخرين لا تُكتَسَب بالتناضح، وإنما تحتاج إلى تمرين. الاكتراث بمصائر الآخرين هو ثقافةٌ مبنيّةٌ على الممارسة».

نظرةٌ عادلةٌ وحانية تكفي لإنقاذ العالم
هذا ما احترمته «آيريس مردوخ»، من بين كُثُر، في فكر سيمون فايل. فمفهوم فيل حول ثقافة الاكتراث بمصائر الآخرين لا تفترض أن الأخلاق مسألةٌ حسابية محضة، أو أن نتائجها على الصعيد الإنساني في غاية الأهمية. وبدلًا عن ذلك، وفي توصيف مردوخ لمفهوم فيل، يشتمل الاكتراث على القدرة على النظر إلى الآخر نظرةً عادلةً وحنونة. نظرةً تغضُّ النظر عن خياراته وأفعاله وتترفَّع عن المرافعات الأخلاقية. حينها، وحينها فقط، تصبح الأخلاق هي الموقف الشموليّ المُتبنَّى حيال الآخر وحيال العالم بشكل عام. فعنما ننظر إلى الإنسان نظرةَ إنصافٍ وحنوّ، عندئذ نتمكّن من رؤية حقيقته الكاملة؛ كائنٌ خائفٌ وطفل مشرَّد.

هذا المطلب ليس بالأمر الهيّن. فبالرغم من تماهيه مع المطلب «الكانطي» في النظر إلى الآخر على أنه غاية وليس وسيلة، لا يحدّد أو يفصّل في كيفية تعاملنا مع الآخر، بل يُسهب في شرح آلية تصحيح رؤيتنا للآخر. وربما سيكون ردّنا على الكلام آنف الذكر هو أننا عليمون أبلغ العلم بأولئك البائسين والمضطهدين، وبصيرون أبلغ البصيرة بكيفية تسكين ألمهم وتلطيفه.
ومن هذا المنطلق، انصبَّ إشفاق فايل، ليس على الآخر الذي يعاني بصورته المجردة فحسب، بل أيضًا على الطريقة التي نخدع فيها أنفسنا ونسوّغ أفعالنا.

فكما كتبت في مقالتها «تمهيدٌ لأطروحة حول فرائض الإنسان»:
«نعيش في عالمٍ يمرّ فيه البائسون والفقراء والمساكين دون أن نراهم أو نلاحظهم. ويسترعي أفراد معيّنون انتباهنا بمحض الصدفة أو بضربة حظ، بينما يمرُّ الآخرون غير مرئيين دون حتى أن ننظر إليهم. إن بقي اهتمامنا محصورًا بهذا العالم، فلن نلحظ أولئك الآخرين. لأنه من غير الممكن إكرام كلّ البشر بصورةٍ عادلة ما لم نستبصِر أبعد من الخاصيات المتشابهة لدى الكل. ينبغي علينا التعمّق خلف الهويات والحكايات».
لقد كان هذا حجر الأساس لروح سيمون فيل وبصيرتها. إذ أدركت أننا يجب أن ننسحب من تحزّبنا لصالح الفرد وأن ننتسب لحزب الكل.

7
تتماهى سيمون فايل في روحانيّتها مع كبار المتصوّفين، وذلك بعد تجارب عصيبة وأهوال جمّة واجهتها في حياتها. في رسالتها إلى الشاعر الفرنسي «جو بوسكيه- Joë Bousquet»، كتبت:

«الفرحُ هو المحبّة، والمحبّة هي الله ذاته. يسكن الإله في عمقِ كلّ إنسان كبذرة غير مرئيّة».

فقد دفعها ألمها الجسدي ومرضها إلى تقبُّل البلاء والألم برحابة صدرٍ وأنَفة، إذ تقول:
«أصل الشّر، عند الجميع ربّما، وعند من يعانون بالتحديد، وخصوصًا ممن يعانون بلاءً بيولوجيًّا، إنما هو حلمُ يقظة. الشرّ بالنسبة لروحٍ مريضة هو العزاء الوحيد، العون الوحيد لحمل الثّقل الرهيب للزّمن، عونٌ بريء لا غِنى عنه على أيّة حال. وعزوفُ المرء عن اجتراح الشر يعني تخلّيه عن ملكاته وتضحيته بها في سبيل الحبّ. وساعتها حقًّا سيحمل المرء صليبه؛ الزمن هو الصليب».

كما كتبت تأمّلاتٍ صوفيّة حول ولادة الإله: «استيلاد الإله في الإنسان» بوصفها حالة مخاضٍ دائم ودائرةً مُفرغة قوامها البلاءُ، والاصطبار على المحن والتواضع أمامها:

«الإله في حالة انتظارٍ دائمٍ أن نتعرّف عليه. إنه حاضرٌ حضور البذرة التي قد تنتظر عُمُرًا رطوبة الأرض التي تحرّضها على الإنتاش. الله لا ينام، ولا البذرة! بيد أن الله والبذرة يلوذان بالصمت. لكن عندما تقبَل الأرض في رحمها البذرة، تُنتِش. فليَصِر الإنسانُ أرضًا، ينبُت الله فيه! إنها الولاةُ الجديدة؛ عودٌ على الذات؛ دائرة. التواضع يهبُ الإنسان ما تمنحه الأرض من دفءٍ ورطوبة. أي الرضى ضروري، وهو الشرط اللازم والكافي لولادة الإله في النفس. الإله هو قبولٌ غير مشروطٍ للحبّ والخير الخالص. ولا يتبيّن المرء أنه حظي به إلا بعد حين!»

تستحثّنا أخلاقيات سيمون فايل أن نقف وقفة احترامٍ لمسيرتها الإنسانية وفكرها، فقد عاشت حياةً استثنائيّة وفريدة وعلى جانبٍ كبيرٍ من البطولة والروحانيّة. حياةً من التصدّي لعقائدنا الأخلاقية ومحاولة تغييرها. إذ تلخّص الأديبة الأمريكية «سوزان سونتاغ» حياةَ سيمون فايل بعبارةٍ تحمل الكثير من الدلالات: «وتلك الحياةُ التي ننظر إليها عن مسافة بمزيجٍ من الشفقة والإجلال، ذلك هو الفرق بين البطل والقدّيس. لو أمكن استعمال كلمة قدّيس باعتبارها الجمالي وليس الديني».

لكن، إن كان لنا فعلًا أن نأخذ فرائض أدبيّاتها على محمل الجد، أي إن كان من المُتاح تطبيقها، فعلينا أن نتحوّل بأبصارنا عن حياتها وفلسفتها ونوجّهها نحو كلّ ما هو لا-فرداني، وكونيّ وشمولي في الإنسانية. هذه هي العقيدة التي دونها نحن تائهون لا محالة، والتي تستأهل دون شك تقديم الذات أُضحيةً على مذبح الإنسانية. ونختم مع مقولة لفيل تختصر بين حناياها فلسفتها كاملة:
«إنّ المعرفة ليست شقاءً للعارف، بل ألوهيّةً أمسكت بيده وشدّت عليها بقليلٍ من القوّة».

8
" الماركسية هي حلمٌ من الطوباوية. إنها تؤمن بإمكانية مجتمع مثالي خالٍ من العناء أو الألم أو العنف أو من الاختلاف. تحت ظلِّ الشيوعية لن تكون هناك منازعة أو أنانية أو تملُّك أو منافسة أو لامساواة. لن يكون أحداً أعلى أو أدنى من أي شخص آخر. لن يُستغَّل أحد، و ستعيش الكائنات البشرية في انسجام كامل بعضها مع بعض، وسيكون تدفُّق الخيرات المادية دون نهاية.
تنبع هذه الرؤيا المدهشة الساذجة من إيمانٍ شديد التصديق بالطبيعة البشرية، الفساد البشري الذي يُنحّى جانباً بكل بساطة. وكوننا أنانيين بحكم طبيعتنا، وطماعين، ومخلوقات عدائية ومتنازعة، وأنه لا يمكن للهندسة الاجتماعية أن تغيّر هذا الواقع، هو بكل بساطة أمر تم التغاضي عنه. إن رؤيا ماركس المُتنبِّئة عن المستقبل، تعكس عدم واقعية سياساته ككل.


تيري إيجلتون - لماذا كان ماركس على حق ؟
كُلنا عَبَدة النظام، ما دُمنا نريد أن نكتشفَ أنفُسنا من خلاله، ما هذا الإغتراب؟، إنها أيضاً خديعة، فنحنُ من صنعنا هذا النظام!، وحيَّزناهُ،

يقول هايدجر في مسألة أنَ الكائن البشري يوجد في نحو وجودهِ، في شعوره بملمس داخلهُ من ذاتٍ و فكر، وليس العكس في محاولتهِ أن يكتشف نفسهُ عبر الآلة التي صنعها و حددها، و أعتقد هذا ينطبقُ على "مُتبني القضايا الواقعية و تحويلها لسلعةٍ فارغة في التواصل الإجتماعي لكسب عَدد من الشرائح التي برمَجت نفسها تحت نظامها":

"لقَد ولى الزمنُ الذي كانَت فيهِ الشروحات المُفصَلة ضرورية إذ تمكّن من إدراك الإجتماع الذي ضمنهُ ينحو الإنسانَ والكينونة أحدهُما نحو الآخر، لَم يعُد الأمر كذلكَ اليوم كما يبدو على الأقل، وبالوّد الإعتقاد أنهُ يكفي الكلام عن العصر الذري کي نشعُر كيف تحضرنا الكينونة اليوم ضمن العالم التقني، لكن هل يصِحُ لنا أن نُطابق الكينونة بالعالم التقني؟، صراحةّ لا، حتى لو تمثلنا العالم كما لَو أنهُ ذلكَ الكُل الذي تتجمعُ فيهِ الطاقات الذرية، الحسابات وخطط الإنسان والتطبيع الآلي، لماذا أنَ الكشف عن عالم التقنية مهما كان دقیقاً ومفصلاً لايفتحُ أيّ منفذ على إجتماع الإنسان والكينونة؟، لأن أيّ تحليلٍ للوضعية يظلُ بمعزلٍ عن الهدف، بحيث أنهُ منذ البداية يفَسِر هذا التحليل كُلية عالم التقنية إنطلاقاً من الإنسان وإنطلاقاّ من أن هذا العالم هو من صُنع الإنسان، إن التقنية بمعناها الواسع وفي مختلف تجلياتها مُخطط من وضع الإنسان، لكنها في آخر المطاف تجبرهُ الحَسم فيما إذا أرادَ أن يُصبح عبداً للمُخططات أو يظلُ سيداً يحكمها"،

- مارتن هايدجر فيلسوف ألماني
- الفلسفة، الهوية، الذات، صـ 35،
- ترجمة / محمد مزيان.
ماركس ومعضلة المعرفة عند سُختنغ
مارك شوفاني



يقوم سُختنغ (W. A. Suchting 1931 – 1997) بدراسة معضلة المعرفة عند ماركس في كتابه «ماركس والفلسفة: ثلاث دراسات» (Marx and Philosophy: Three Studies). يخصّص الدراسة الأولى لهذه المعضلة حيث يقوم بشرحها ويجادل بأن ماركس يقدّم حلًّا لها، لا بل يلغي المعضلة من أساسها ويجعلها تتلاشى؛ إذْ يقول: «إنّ مسألة ما إذا كانت الحقيقة الموضوعية يمكن أن تُنسَب إلى التفكير البشري ليست مسألةً نظريّةً بل هي مسألةٌ عمليّةٌ» (Marx, Selected Writings 171). في هذه الجملة من «الأطروحات حول فويرباخ»، يطرح ماركس معضلة المعرفة، ويحاول سُختنغ في دراسته تفسير الحلّ العملي الماركسي. إنّ الأبستمولوجيا التقليدية، من رينيه ديكارت (1596- 1650)، إلى إيمانويل كانط (1724 – 1804)، تميّزت بتقديم بعض المعايير العامة والشاملة التي تضمن معرفة الذات (subject) للشيء (object)، وذلك لأنها تنطلق من استقلالية الذات عن الشيء وتسعى إلى ترميم العلاقة بين هذين الطرفين. الحلّ الماركسي، بحسب سُختنغ، هو أنه على الأبستمولوجيا ألّا تنطلق من استقلالية الذات عن الشيء، بل من العلاقة العملية التي تجمعهما. فالمفاهيم التي نستخدمها في العلوم والاقتصاد تنبع من تفاعلاتٍ عمليةٍ بين الذات المعرفية والشيء المعرفي. بعد عرض ما يطرحه سُختنغ، سوف أقدم نقدًا له معتبرًا أنّ تفسيره لماركس يقوم على الفصل بين العمل اليدوي والعمل النظري، بينما يفترض الموقف الماركسي وحدتهما.

معضلة المعرفة

المعرفة تفترض وتستلزم أن يكون هناك حقيقةٌ، والحقيقة تتشكَّل في التمثيل الصحيح الذي تقوم به الذات المعرفية للشيء المعرفي وخصائصه (Suchting 10). الذات تسعى لمعرفة الشيء بحيث أن يكون التمثيل الذهني للشيء متطابقًا مع واقع الشيء، وفي هذا التطابق يكمن مفهوم الحقيقة أو المعرفة الصحيحة. إنّ معضلة المعرفة تظهر في مسألة إيجاد معايير تضمن التطابق بين الشيء ومعرفة الذات للشيء. «يتوجّب على الأبستمولوجيا العامة أن تكون قبلية (a priori)، على الأقل بمعنى ألّا تفترض صحّة أيّ اعتقادٍ خاصٍّ أو نتيجة أيّ استفسارٍ» (Suchting 10). المقصود بالأبستمولوجيا العامة هو البحث عن معايير المعرفة التي تضمن صحة المعرفة ككل، أي بمعزلٍ عن معرفة أيّ شيءٍ خاصٍّ. على سبيل المثال، أبستمولوجيا إيمانويل كانط التي تضع قوانين الفهم، كقانون السببية مثلًا، لتضمن المعرفة الصحيحة للشيء كظاهرةٍ، أيًّا كان هذا الشيء. بالإضافة إلى أبستمولوجيا ديكارت التي تقترح أنّ المعيار الذي يضمن صحّة معرفة الذات للشيء، وهو أن تكون الفكرة عن الشيء واضحةً ومتميّزةً، بغض النظر عمّا هو هذا الشيء تحديدًا. هذا النوع من المعايير العامة للمعرفة التي تُطَبَّق على جميع الأشياء المعرفية، تتّصف به الأبستمولوجيا التقليدية، على حدّ تعبير سُختنغ.

«باختصار، يكون الخيار إمّا الدوغمائية (هناك عناصرٌ معرفيةٌ لا يمكن ضمانها أو تبريرها)، أو الشكوكية (لا يمكن ضمان أو تبرير أيّ تأكيدٍ)» (Suchting 10). في هذه الجملة، يعبّر سُختنغ عن فشل الأبستمولوجيا التقليدية في تقديم حلولٍ مقنعةٍ لمعضلة المعرفة، حيث إن الحلّ الكامن في المعيار العام للمعرفة يوصلنا في نهاية المطاف إلى الشكوكية أو الدوغمائية.

المبدأ الذي يبني عليه سُختنغ هذه الحجّة هو أن المعيار لا يختلف عن أيّ تأكيدٍ أو اعتقادٍ. فكما أنّ صاحب الاعتقاد يقدم تبريرًا له، على الفيلسوف الذي يقدم معيارًا للمعرفة أن يدعمه بتبريرٍ. وإذا أردنا تبرير معيارٍ معيّنٍ، علينا تقديم معيارٍ آخرٍ يثبت صحة المعيار الأول. الخيار الآخر هو إنكار أنّ المعيار الأول بحاجةٍ لتبريرٍ، ورغم أنه لا يمكننا أن نضمن صحته ونبرّرها، علينا أن نتّخذه كمعيارٍ صحيحٍ للمعرفة، وهذا هو الموقف الدوغمائي. أمّا إذا أردنا تبرير كل معيارٍ بمعيارٍ آخرٍ، فسوف نقوم ببناء سلسلةٍ لانهائيةٍ من المعايير التي فيها كلّ معيارٍ يبرّر الذي يسبقه. إنّ هذا التسلسل اللانهائي يعني أنه لا يمكننا تبرير أيّ معيارٍ بما أننا لن نصل إلى معيارٍ ينهي السلسلة ويبرّر كل ما سبقه، وهذا ما قصده سُختنغ بالشكوكية. وفي حال وجدنا معيارًا يوقف السلسلة ويضع حدًّا للا-نهائيّتها، فسنقع مجددًا بالدوغمائية لأننا سنكون قد اعتبرنا أن المعيار الأخير لا يُبرَّر أو لا يحتاج إلى تبريرٍ. وهكذا، يبدو أنه لا يمكن الوصول إلى حلٍّ لمعضلة المعرفة. علمًا بأن من يقدم معيارًا لا يحتاج لتبريرٍ، لا يعتبر أنّ موقفه دوغمائيٌ، لكنه يعتبر أن المعيار يبرر ذاته. بالنسبة إلى سُختنغ، هذا هو موقف ديكارت، كما موقف التجريبيين والماديين الذين يتخذون الأحكام النابعة من التجربة الحسية على أنها صحيحةٌ ولا تحتاج لتبريرٍ.

حلول المعضلة

1
يعتبر سُختنغ الحلّ التقليدي الأول لمعضلة المعرفة يكمن في المعايير التي تنقسم ما بين العقلانية والتجريبية، حيث إن المعايير العقلانية تعتمد على الذات المعرفية والمعايير التجريبية تعتمد على الشيء المعرفي. بتعبيرٍ آخر، المعايير يمكن أن تنبع من الثقة بالقدرات الفكرية للإنسان، أو من الثقة بتجربته الحسية للشيء.

الحلّ الثاني، يكون بإلغاء الهوّة القائمة بين الذات والشيء، وذلك لأن الفصل بين الذات والشيء يجعلنا بحاجةٍ إلى المعايير المعرفية (Suchting 11). هذا الحلّ يأتي إما في دمج الذات مع الشيء كما عند الفيلسوف هنري برغسون (1941 – 1859)، أو في إنتاج الذات للشيء كما عند كانط. برغسون يرمّم الهوّة بين الذات والشيء عبر الحدس (intuition)، الذي من خلاله تستطيع الذات أن تندمج مع الشيء وعالم الأشياء المتغيّر. لذلك، يصبح لدينا وحدةٌ بين الذات والشيء في نوعٍ من التواصل المباشر بين الذات الإنسانية والعالم. فبما أن هذا العالم يتغير بشكلٍ دائمٍ، على الإنسان أن يندمج مع هذا التغيُّر. أما في فلسفة كانط، فالذات المعرفية تُنتج الشيء كما يظهر لها، أي أنها تقوم بنشاط إنتاج الظواهر. وهذا يعني أن الشيء المعرفي، أي الشيء كما تعرفه الذات، هو نتيجة نشاط الذات. وهذا الإنتاج يعني أن الأشياء كما تظهر للعقل الإنساني تأتي من نشاط هذا العقل، أيّ أن الأشياء كظواهرٍ ليست منفصلةً عن الذات المعرفية. لذلك، إن الذات يمكنها معرفة ما تنتجه، فالشيء أو العالم الخارجي للإنسان ليس غريبًا عنه. على الرغم من أن هناك مصدرًا آخرًا للشيء، وهو الشيء بحدّ ذاته بمعزلٍ عن الذات المعرفية، إلّا أن الذات كمصدرٍ للشيء كما يظاهر لها يجعلها في وحدةٍ معه، وليس في انفصالٍ عنه.

وأخيرًا، الحلّ الثالث، هو لهيجل (1770 – 1831) بحسب سُختنغ، وهو أن الذات المعرفية تشمل وتتضمّن الشيء. يشير سُختنغ إلى الفكرة المطلقة[1] عند هيجل كالذات المطلقة (absolute subject)، ويعتبر أنها نقطة النهاية لمسارٍ من التمايز بين الذات والشيء، وهذه النقطة تعني وحدة الذات والشيء (Suchting 11).

الحلّ الماركسي لمعضلة المعرفة

يرى سُختنغ (Suchting 12) أنه إذا أردنا فهم ما يقصده ماركس في النشاط، العمل، أو الممارسة كحلٍّ لمعضلة المعرفة التي تطرّق لها في الأطروحة الثانية من الأطروحات حول فويرباخ، علينا أن نعود إلى أطروحته الأولى حيث نقرأ الآتي: «إنّ العيب الرئيسي في الفلسفات المادية الموجودة حتى الآن (بما في ذلك مادية فويرباخ)، هو أن الشيء، الواقع، الحسّيّة، يتم تصوّرها فقط في شكل موضوع تأمّلٍ، ولكن ليس كنشاطٍ إنسانيٍّ حسّيٍّ، كممارسةٍ، ليس بشكلٍ ذاتيٍّ» (Marx, Selected Writings 171).

يفترض ماركس أن العلاقة الأساسية التي تربط بين الإنسان وعالمه الخارجي هي العمل. إنّ العمل هو النشاط الإنساني المنتِج الذي يغيّر أشياء العالم ويصنع أشياءً جديدةً. فالأشجار التي نراها من حولنا هناك من زرعها، كما أن البيوت والسدود هناك من بناها، بالإضافة إلى إنتاج معدات وأدوات الزراعة والصناعة والأجهزة الإلكترونية كالحاسوب. لذلك، إنّ واقعية العالم تأتي نتيجة التعديلات التي قامت بها البشرية في العالم، وهذه التعديلات هي نتاج العمل والنشاط الحاصل عبر الأجيال. لكن هذا النشاط لا يغيّر العالم فحسب، بل أيضًا الإنسان، بحيث أنه يكتسب قدراتٍ جديدةً للتعامل مع الأشياء الجديدة والمتغيرة. بكلمات سُختنغ: «أشارت اعتبارات ماركس في مخطوطات العام 1844 في المقام الأول إلى الحالات التي أنتج فيها العمل أنواعًا جديدةً من الأشياء، وبالتالي استدعى قدراتٍ حسّيّةً جديدةً للتعامل معها، كما هو الحال، على سبيل المثال، عندما تستدعي طريقةٌ جديدةٌ لإعداد الطعام حاسةَ تذوّقٍ جديدةٍ، وحاسةَ شمٍّ، وما إلى ذلك من قدراتٍ، كما أنواعٌ جديدةٌ من الموسيقى تستدعي قدراتٍ جديدة للإدراك السمعي، وما إلى ذلك» (Suchting 13).

إنّ هذه العلاقة العملية التي تربط بين الذات والشيء تُظهر لنا أن ليس هناك هوةٌ بين الذات والشيء. فإذا كان كانط يعطي الأولوية في حلّ المعضلة للذات، وبرغسون للشيء، فماركس يعطي الأولوية للعلاقة العلمية التي تجمعهما. وهذا يعود إلى تأثير هيجل على ماركس، بما أنه بالنسبة لهيجل إنّ الذات والشيء طرفان متساويان في علاقةٍ جدليةٍ. لكن الفرق بين هيجل وماركس هو أن هذه العلاقة هي نشاط يقوم به الوعي الإنساني عند هيجل، أما العلاقة عند ماركس يقوم بها الإنسان بقواه الفكرية والجسدية معًا.

يجادل سُختنغ بأن المفاهيم العلمية كالصلابة، الذوبان، والوزن تنبع من العلاقات العملية التي تحدث بين الأشياء أولًا، وبين الأشياء والإنسان ثانيًا، (Suchting 13). مثلًا، نحن نعرف أن الأشياء صلبةٌ لأنها غير قادرةٍ على الاندماج مع أشياءٍ أخرى بمعنى الاختراق، واختبارنا لهذه العلاقة العملية يُنتج مفهوم الصلابة.

2
وهكذا، لم تأتِ هذه المفاهيم من الجهد والإنتاج الفكري وحده، إنما أيضًا من العلاقة العملية بين الإنسان والأشياء. فالذات المعرفية تقوم بإنتاج المفاهيم المناسبة لتمييز الأشياء عن بعضها بحسب العلاقات العملية والتفاعلات المادية بين الأشياء واختبار الإنسان لها. كما أن المفاهيم الاقتصادية تقوم على علاقاتٍ عمليةٍ، فمفهوم المال مثلًا يفترض نشاط تبادل السلع.

إنّ المعضلة الأبستمولوجية تقوم على كيفية تطابق الأشياء مع التمثيلات الذهنية التي تصدرها الذات المعرفية عن الأشياء، لكن الأبستمولوجيا التقليدية تنطلق من استقلالية الأشياء عن الذات المعرفية. إن الموقف الماركسي يوضح بأن تمثيلات الأشياء ليست منفصلةً عن الأشياء، بل هي ناتجةٌ عن العلاقات العملية التي تربط بين الإنسان والعالم. يقارن سُختنغ بين ماركس والأبستمولوجيا التقليدية بقوله إن في حين هذه الأخيرة تعطي الأولوية للعلاقات النظرية، ماركس يعطي الأولوية للعلاقات العملية (Suchting 15). فبالنسبة لماركس، ليس الأمر أن يكون لدى الذات المعرفية مفاهيم وأفكار تُطبَّق على الواقع والأشياء بشكلٍ عمليٍّ، بل أن تُترجَم العلاقات العملية بطريقةٍ نظريةٍ. والأمر الأهم هو أن ليس هناك بالنسبة لماركس من «ذاتٍ»، أو «شيءٍ» كمفهومٍ عامٍ، بل هناك الذات كمنظومة تمثيلاتٍ عن الأشياء تأخذ معناها من طرائق تفاعلها مع الأشياء والتي تتغير مع هذه التفاعلات العملية، كما أن هناك الشيء الخاص الذي يتميّز عن الأشياء الأخرى عبر العلاقات العملية التي تربطه بها.

الممارسة النظرية

هناك معنىً ثانٍ للممارسة عند ماركس بحسب سُختنغ، وهو الممارسة النظرية (theoretical practice) أو ما يسميه أيضًا الإنتاج النظري (theoretical production). يستخرج سُختنغ المعنى الثاني للممارسة من مقدمة كتاب «أُسُس نقد الاقتصاد السياسي»[2] المعروف بجرندريسه (Grundrisse). يستعمل ماركس العبارتين «مادة واقعية»[3] (real concrete)، و- «مادة ذهنية» (mental concrete)، ويعطي سُختنغ تفسيرًا لها (Suchting 18-9). المادة الواقعية هي واقعٌ خاصٌ كسقوط الكرة على الأرض، جلوس القطة على الكرسي، إنتاج سلعةٍ معينةٍ، أو عملية تبادل سلعٍ معينةٍ. أما المادة الذهنية فهي نتاج الجمع بين المفاهيم والأفكار التي تشير إلى العلاقات والخصائص الموجودة في المادة الواقعية. بتعبيرٍ آخرٍ، المادة الذهنية هي التمثيل الذهني لما هو واقعيٌ، بما أنها تعكس العلاقات العملية والخصائص الواقعية للأشياء. لذلك، تفهم الذات المعرفية واقع الشيء عبر إنتاج المادة الذهنية، وعملية الإنتاج هذه هي عملية تجريدٍ للواقع وتحويله إلى تمثيلٍ نظريٍ وذهنيٍ.

يجادل سُختنغ بأن هذا الإنتاج النظري يحمل نمطًا معينًا، فكما أن هناك أنماطًا للإنتاج المادي الاقتصادي، هناك أيضًا أنماطٌ للإنتاج النظري (Suchting 19). المقصود بأنماط الإنتاج النظري هو الطرائق التي يمكن للذات المعرفية أن تفهم من خلالها العالم والأشياء. «لم يصرّح ماركس قط بفكرة “نمط الإنتاج النظري”. لكن الأمر يستحق بذل الجهد لمحاولة رسم هذا الجزء من الصورة» (Suchting 19). يتّخذ سُختنغ مفهوم نمط الإنتاج الاقتصادي عند ماركس ويقوم بمماثلةٍ (analogy) لكي يستنتج مفهوم نمط الإنتاج النظري. وفي هذا، يكون سُختنغ قد قدم نقدًا فلسفيًا لعمل الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير (1990 – 1918) عن الإنتاج المعرفي عند ماركس، معتبرًا بأنه فشل في تثبيت الممثلة ما بين الإنتاج الاقتصادي والإنتاج الفكري النظري.

وهكذا، يطبّق سُختنغ العناصر الخمسة لنمط الإنتاج الاقتصادي على نمط الإنتاج النظري. يشرح سُختنغ النمط الاقتصادي على النحو التالي (Suchting 20): يشكل العنصران الأولان وسائل الإنتاج، وهما المواد الخام التي تكون موجودةً مسبقًا، أي قبل عملية الإنتاج، والأدوات المستخدمة في تحويل هذه المواد خلال عملية الإنتاج. إلى جانب ذلك، العنصر الثالث هو قوى الإنتاج التي تُعرَّف بأنها وسائل الإنتاج المضافة إلى قوة العمل التي تحوّل المواد الخام باستخدام أدوات الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، العنصر الرابع هو الخطة التي يتم بموجبها سير الإنتاج، أما الخامس فهو المُنتَج أو السلعة.

بالمقابل، يفسر سُختنغ النمط النظري على النحو التالي (Suchting 22): إذا أخذنا على سبيل المثال أننا نريد معرفة وزن شيءٍ ما من خلال استعمال الميزان التقليدي، فلنرى ما هي عناصر هذه المعرفة. العنصر الأول للمعرفة هو المواد الخام، أيّ الشيء الواقعي الذي تريد الذات معرفته، وفي المثل الذي أخذناه هو الشيء الذي نريد معرفة وزنه. العنصر الثاني هو أدوات الإنتاج التي يتم تطبيقها على العنصر الأول، أيّ الميزان وعناصر المعرفة الموجودة مسبقًا مثل قوانين الفيزياء والأساليب الإحصائية والرياضياتية. العنصر الثالث هو قوة العمل التي تستخدم لتطبيق العنصر الثاني على الأول، أي وسائل الإنتاج على المواد الخام.

3
بتعبيرٍ آخرٍ، قوة العمل الفنية أو التقنية اللازمة لإعداد العملية، وقوة العمل اللازمة لإجراء الحسابات والاستنتاجات. العنصر الرابع هو المخطط العام لعملية القياس، أما الخامس فهو المُنتَج، والذي يمثل هنا بيانًا عن وزن الجسم المعني، ويمكن وصفه بشكلٍ عام بأنه حلٌّ أو إجابةٌ لمشكلةٍ ما.

جديرٌ بالذكر أنه بالنسبة لسُختنغ تنقسم العلاقات بين العوامل الخمسة لنمط الإنتاج الاقتصادي إلى علاقاتٍ اجتماعيةٍ وعلاقاتٍ تقنيةٍ. يعرّف سُختنغ مثل هذه العلاقات الاجتماعية على أنها «علاقات السيطرة على عوامل الإنتاج (وبالتالي على المُنتَج) من قبل وكلاء الإنتاج» (Suchting 20). فإن علاقات الإنتاج الطبقية هي علاقات الإنتاج الاجتماعية، على سبيل المثال، مجموعة العلاقات الطبقية بين الرأسماليين والبروليتاريا في النظام الرأسمالي. إلى جانب ذلك، يعرّف العلاقات التقنية على أنها «العلاقات بين العوامل الناتجة عن العلاقات الاجتماعية ضمن قيود الضرورات الموضوعية الطبيعية لعملية الإنتاج نفسها» (Suchting 20). وهذا يعني أن العلاقات التقنية هي العلاقات بين المنتجات، على سبيل المثال، علاقات التبادل بين السلع.

نقد سُختنغ

يميّز سُختنغ بين النمط الاقتصادي والنمط النظري للإنتاج، وكأنهما نمطان منفصلان عن بعضهما ويحتاجان إلى مماثلةٍ بينهما. يُعتبر الإنتاج النظري نشاطًا عقليًا، بينما الإنتاج الاقتصادي يُعتبر نشاطًا يدويًا. لم يوضح سُختنغ ما إذا كانت هناك وحدةٌ بين النشاط الفكري والنشاط اليدوي، كما لو كانت هذه الوحدة غير ضروريةٍ لحلّ معضلة المعرفة، بينما أعتقد أنها كذلك. فإذا كان هناك فصلٌ بين هذه الأنشطة، فسيكون هناك فصلٌ بين ما هو نظريٌ وما هو ماديٌ. على سبيل المثال، إذا كان النشاط اليدوي ينتج أشياءً ملموسةً بينما ينتج النشاط الفكري بشكلٍ منفصلٍ النظريات المعرفية، فسيكون هناك فصلٌ بين الذات التي تنتج نظريًا والذات التي تنتج يدويًا، وبين الأشياء المنتَجة عقليًا والأشياء المنتَجة يدويًا. إذا كان هناك فصلٌ في النشاط البشري بين ما هو عقليٌ وما هو يدويٌ، فلا يمكن أن يكون النشاط أو الممارسة مصدرًا للوحدة بين الذات والشيء. فإذا كان لا بدّ للنشاط الإنساني المنتج أن يكون مصدرًا لوحدة الذات والشيء، فيجب أن تكون هناك وحدةٌ بين الأنشطة الذهنية واليدوية. وذلك لأن على مصدر الوحدة أن يكون واحدًا غير منقسمٍ على ذاته.

«العمل الوحيد الذي يعرفه هيجل ويعترف به هو العمل العقلي المجرد» (Marx, Manuscripts 131). في هذه الجملة، ينتقد ماركس هيجل بأنه يتصور العمل كنشاطٍ عقليٍ للوعي فقط. ومع ذلك، لا يعني ماركس أن النشاط يدويٌ فقط، ولكنه يقصد بأن هذا النشاط عقليٌ ويدويٌ في الوقت ذاته. من ناحيةٍ أخرى، يعتبر ماركس أنّ المعرفة هي نشاط الوعي الإنساني: «الطريقة التي يكون فيها الوعي، والتي يكون فيها الشيء بالنسبة له، هي المعرفة. المعرفة هي عملها الوحيد» (Marx, Manuscripts 137). وهكذا، بما أن الإنسان كائنٌ حسّيٌّ يتمتع بالوعي، يتضمن نشاطه كلًا من نشاط جسده ونشاط وعيه. ليس هناك فصلٌ بينهما: النشاط واحدٌ وله جانبان، الجانب العقلي والجانب اليدوي الجسدي. على سبيل المثال، يجلس الفيلسوف على الكرسي ويكتب ويتحدث، وهذه أنشطةٌ جسديةٌ ويدويةٌ، فلا يقتصر نشاطه الإنتاجي على عمله الفكري النظري. ويقوم المزارع بنشاطٍ عقليٍ عندما يفكر في نوع النباتات المناسب لنوعٍ معين من التربة بحسب الموسم، ولا يقتصر نشاطه الإنتاجي على عمله اليدوي. لا يمكن للإنتاج إلا أن يقوم على النشاط الفكري – اليدوي.

لذا، فإن مفهوم النشاط الماركسي يتضمن النشاط الفكري، وليس هناك ضرورةٌ للاعتقاد بأن ماركس كان فقط يقصد المعنى الحسّيّ للنشاط. هذا الاعتقاد دفع بسُختنغ إلى البحث عن المعنى الثاني للنشاط في كتابات ماركس والتعامل مع المعنيين على أنهما مختلفان عن بعضهما، في حين أن ماركس لا يقصد فصلهما. لا يمكن فصل النشاط الفكري عن النشاط اليدوي لأن الوعي لا يمكن فصله عن الإنسان الواقعي الحسّيّ. يمكن أن تكون منتجات هذا النشاط أشياءً محسوسةً مثل الطاولة، أو أشياءً غير محسوسةٍ مثل القيمة أو رأس المال، أو أشياءً من التجريد الفكري مثل مفهوم الجمال. إنّ إنتاج مفهوم الجمال يعتمد بشكلٍ أساسيٍ على الوعي، وهذا ما يجعله مختلفًا عن مفهوم المال الذي لا يعتمد بشكلٍ أساسيٍ على الوعي الإنساني، بل على عملية الإنتاج الاقتصادي والتبادل. لكن هذا لا يعني أن إنتاج مفهوم الجمال لا يتطلب نشاطًا جسديًا كمشاهدة مناظرٍ طبيعيةٍ جميلةٍ، كما لا يعني أن النشاط الذي ينتج المال لا يشمل نشاط الوعي. أقصد أنه من الممكن أن تختلف أنواع نتاج النشاط الإنساني، ولكن هذا لا يعني أنه يمكننا فصل نشاط كلّ نوعٍ عن الآخر كالفصل بين النشاط الذهني واليدوي.

4
صحيحٌ أنه يمكننا أن نرى في كتابات ماركس تقسيمًا للعمل ما بين يدويٍ وفكريٍ. بكلمات ماركس: «يصبح تقسيم العمل حقًا كذلك فقط من اللحظة التي يظهر فيها تقسيم للعمل اليدوي والعقلي. من هذه اللحظة فصاعدًا، يمكن للوعي أن يملّق نفسه حقًا بأنه شيءٌ آخرٌ غير وعي الممارسة القائمة، وأنه يمثل حقًا شيئًا دون تمثيل شيءٍ واقعيٍ؛ من الآن فصاعدًا، يكون الوعي في وضعٍ يسمح له بالتحرر من العالم والمضي قدمًا في تشكيل النظرية “النقية”، اللاهوت، الفلسفة، والأخلاق، إلخ» (Marx, Selected Writings 184).

إنّ هذا التقسيم الاجتماعي للعمل يعود إلى المجتمع اليوناني حيث كان العبيد يقومون بالعمل اليدوي، ويتلقى المفكر والفيلسوف الإجلال والاحترام لأنه يقوم بالعمل الفكري. وكما يوضح ماركس، إنّ الوعي يخدع ذاته ويظن أنه من الممكن أن يكون نشيطًا بشكلٍ مستقلٍ عما يسميه ماركس «وعي الممارسة». لذلك، فإن تقسيم العمل اليدوي عن العمل الفكري بهذا المعنى الاجتماعي لا يتضمن فعليًا فصل النشاط اليدوي عن الفكري. فالعمل الفكري، كعمل الفيلسوف مثلًا، هو تصنيفٌ اجتماعيٌ للعمل الذي يتضمن نشاطًا فكريًا أكثر مما يتضمن نشاطًا يدويًا. بالمقابل، العمل اليدوي، كعمل المزارع، هو تصنيفٌ اجتماعيٌ للعمل الذي يتضمن نشاطًا يدويًا أكثر مما يتضمن نشاطًا فكريًا.

الخاتمة

إنّ سُختنغ، كما لوي ألتوسير، لا يقدّر مدى تأثير هيجل على ماركس. ولهذا السبب، يفصل سُختنغ ما بين النشاط الفكري والنشاط اليدوي، أو على الأقل لا يرى أهمية وحدتهما. إنّ النقد الماركسي لهيجل[4] يقوم على أنه لا يجب فصل نشاط الوعي عن النشاط الإنساني ككل، ما يشمل النشاط اليدوي. فالمثالية الألمانية تختزل الإنسان في وعيه، وتختزل النشاط الإنساني في نشاط الوعي، وهذا ما يرفضه ماركس. إنّ نشاط الوعي عليه أن يكون بوحدةٍ مع النشاط اليدوي الجسدي لكي يصبح الحلّ الهيجلي لمعضلة المعرفة واقعيًا. بالنسبة لهيجل، لسنا بحاجةٍ إلى معيارٍ عام للمعرفة لأن المعرفة نشاطٌ يُنتج جوهر الشيء كمعيارٍ داخليٍ خاصٍ للشيء المعرفي المحدد. لكن الذات، الشيء، والنشاط عند هيجل ليست واقعيةً، بل هي مجردةٌ من واقعيتها، بحسب النقد الماركسي. لذلك، الحلّ الماركسي يبدأ من وحدة نشاط الوعي مع النشاط الانساني ككل، ووحدة الإنسان كذاتٍ معرفيةٍ مع الإنسان ككل، أي بجسده وعقله، وطبعًا وحدة الشيء كما يظهر للوعي مع الشيء الحسّيّ الواقعي.

من جهةٍ أخرى، أدخل هيجل على النقاش الأبستمولوجي أهمية الطابع الاجتماعي والجماعي للنشاط الفكري، ما يعني أن المعرفة تُبنى جماعيًا واجتماعيًا. لذلك، بما أن معضلة المعرفة تظهر في الشكوكية، إنّ الطابع الاجتماعي للنشاط الإنساني الذي يتضمن نشاط الوعي، هو الحلّ للمعضلة. فإذا عزل الإنسان الفرد ذاته عن المجتمع، وإذا نظر إلى الطاولة وشكّ بوجودها وبتطابقها مع تمثيله الذهني لها، فهذا أمرٌ منطقيٌ بما أنه يعتمد فقط على إدراكه لمعرفة الطاولة. لكن الموقف الماركسي يفيد بأنه لا يجب عزل الإنسان والطاولة عن المجتمع. فالنجار الذي بنشاطه يبني الطاولة، يبني في الوقت ذاته معرفةً عن الطاولة. إنّ الإنتاج الاجتماعي للطاولات يبني مفهوم الطاولة، كما أن استخدام الطاولة في المجتمع يبني لها قيمةً استخداميةً تتداخل مع مفهومها.

لم يوضح سُختنغ بشكلٍ كافٍ كيف أن الممارسة أو النشاط المنتِج يقدم حلًّا لمعضلة المعرفة. إنّ النشاط الإنساني كمصدرٍ لوحدة الذات والشيء يعني عمليًّا أن الشكّ بوجود الطاولة، أو الشيء بشكلٍ عام، غير مبرَّرٍ إذا كان يعتمد فقط على الشكّ بالقدرات الفكرية أو الإدراكية للإنسان. هذا لأن معرفة الطاولة لا تعتمد حصرًا على الإدراك، ولا حتى على إنسانٍ ما أو مجموعةٍ معينةٍ من البشر، ولا على طاولةٍ محددةٍ. إنّ مفهوم الطاولة يُبنى جماعيًا واجتماعيًا ويعتمد على النشاط الإنساني غير المختزَل في نشاط الوعي الإدراكي، ومعرفتنا بالطاولة تبدأ من الممارسة الاجتماعية المنتجة التي تبني الطاولات والتي تعتمد على القيمة الاستخدامية الاجتماعية للطاولة. إذا فصلنا المعرفة كإدراكٍ عن المعرفة كنشاطٍ، وإذا فصلنا المعرفة كنشاطٍ فكريٍ عن النشاط اليدوي، نقع في الشكوكية ونرى أن معضلة المعرفة لا حلّ لها.

المراجع:

Marx, Karl. Economic and Philosophic Manuscripts of 1844. Progress Publishers, Moscow, 1974.

—. Karl Marx: Selected Writings. Edited by Davis McLellan, Second ed., Oxford University Press, Oxford, 2000.

Suchting, W. A. Marx and Philosophy: Three Studies. Macmillan, 1986.

[1] الفكرة المطلقة عند هيجل تأتي في نهاية عمله عن المنطق:

Hegel, Georg W. F., and William A. Wallace. The Logic of Hegel: Translated from the Encyclopaedia of the Philosophical Sciences. Clarendon Press, Oxford, 1892.

[2] (Marx, Selected Writings 379 – 423)

5
[3] المادة هنا تدل على شيءٍ ماديٍ (concrete) بمعنى أنه غير مجردٍ (abstract)، أي أنه موجودٌ في الزمان والمكان. لكن هذا لا يعني أن يكون شيئًا ملموسًا، فبالنسبة لماركس، القيمة (value)، على سبيل المثال، هي شيءٌ ماديٌ موجودٌ في الزمان والمكان كعنصرٍ من الواقع الاجتماعي على الرغم من أنها غير ملموسةٍ.

[4] (Marx, Manuscripts 124-47)

6
ما وراء الخير والشر عند نيتشه

منى عوض الله




على خلاف من سبقوه من الفلاسفة، لم يكتفِ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بالمرور العابر على ظاهر الوقائع الأخلاقية في إطار محيطه وزمانه وموقعه، بل عمد إلى سبر أغوارها، والبحث في تاريخها وأصل نشأتها، ومقارنة أنماطها، وتفكيك مفاهيمها وقلبها. ولا غرابة، فهو اللغوي الخبير، ومؤسس المنهج الجنيالوجي في تحقيق النصوص، قبل أن يكون فيلسوفًا. مما يعني أنّ بحثه في الأخلاق ليس بحثًا تأصيليًا فحسب، وإنما هو قلب جذري للقيم بصورتها الراهنة، وتخليص لها من تصورات وتحكيمات وتأويلات طمست معالمها الأولى، وفي هذا يقول عن نفسه: "لا تؤاخذوني لأنني، وأنا فيلولوجي عتيق، ما زلت أزاول هوايتي الخبيثة، وأضع الإصبع على الجرح بكشفي فنون تأويل رديئة". فكان هذا أول سهامه المصوّبة تجاه الفلاسفة السابقين، إذ إنّ ما يدّعونه "تأسيسًا للأخلاق" إنما هو استقصاء اعتباطي، و"ضرب منمق من طيب الإيمان بالأخلاق السائدة، ووسيلة جديدة للتعبير عنها".

تناول نيتشه في فلسفته العديد من الموضوعات المتعلقة بالفعل البشري الأخلاقي واللاأخلاقي، فنقد الإرادة الحرة، وقال بتراتبية الناس وتراتبية أخلاقهم، ونقد المساواة، وأثبت تناقض الخير والشر، وتضاد أخلاق السادة وأخلاق العبيد، مرسخًا بذلك منطلقات فلسفته الرئيسة القائمة على إرادة القوة والتفوق الإنساني المستمر، ومتجاوزًا تصنيفات الخير والشر باعتبارات قيمة الفعل المرتبطة بنتائجه أو مقاصده، ليقفز بفلسفته إلى ما وراء الخير والشر، ويبشر بإنسان المستقبل المنشود.

يرفض نيتشه في فلسفته حصر المنظومة الأخلاقية للمجتمع في نمط واحد ووحيد من الأخلاق، بحيث تقتصر على تلك التي هي على شاكلة غرائز التراحم والإنصاف والرفق وتبادل العون، وهي أخلاق القطيع التي صارت تُسمى خيرًا، بل والخير الوحيد. ويطالب بإعادة الاعتبار إلى الأخلاق الفردية التي باتت تُسمى شرًا بعرف العامة، موضحًا أنّ هذه الحال التي صارت إليها التقييمات الأخلاقية إنما هي وليدة الخوف الذي قاد إلى استهجان غرائز الإقدام والجرأة والانتقام والمكر، وما شابهها من صفات، بحيث اعتُبرت غرائز خطرة، فاستُبعدت وأُقصيت وسُمّيت شرًا؛ "كل ما يسمو بالفرد عن القطيع، كل ما يبثّ الخوف إلى القريب، يُسمى منذ الآن شريرًا".

يدعو نيتشه إلى مراعاة التراتبية بين الناس، وبالتالي تراتبية أخلاقهم، فما يُعّد فضيلة بالنسبة إلى أحدهم قد يكون رذيلة بالنسبة إلى آخر (نظرًا إلى رتبته ومكانته ودوره في المجتمع)، يقول: "إنّ ما يصلح غذاءً ورحيقًا للنوع الأعلى من البشر، يجب أن يكون بمثابة سمٍ لنوع مختلف جدًا وأوضع". ويذكر مثالًا على ذلك فيقول: "لنأخذ على سبيل المثال إنسانًا قُدّر له أن يأمر، وجُبل على ذلك، فإنّ نكران الذات والانكفاء المتواضع لن يكونا بالنسبة إليه فضيلة، بل سيكونان هدرًا للفضيلة". ونتيجة لهذه التراتبية هو يقول بأخلاق السادة وأخلاق العبيد، ففي حين يجلّ السادة في أخلاقهم كل ما هو قاسٍ وصارم، ويكنون الاحترام لذواتهم، ويتمسكون بفضيلة القدرة والصدق والإكرام وسمو النفس وشموخها، فإنّ العبيد يكرمون "التراحم، واليد اللطيفة المسعفة، والقلب الدافئ، والصبر، والاجتهاد، والخنوع، واللطف". وفي حين يشرّع السادة أخلاقهم ويخلقون قيمهم، فإنّ العبيد منساقون إلى تزيين تلك الصفات التي تخفف عنهم عبء الوجود وألمه. وفي حين أنّ أخلاق السادة هي أخلاق قدرة، فإنّ أخلاق العبيد هي أخلاق منفعة، ومن ثم فإنّ ما يثير الحسن من وجهة نظر السادة، يثير الخوف ويشكّل خطرًا من وجهة نظر العبيد.

ويقبل نيتشه بالمساواة فقط بين أولئك الذين يتماثلون في مقدار القوة ومقياس القيمة، والمجموعين ضمن جسم واحد، أي من كانوا في رتبة واحدة؛ فكل رتبة من الناس تمثّل جسمًا مستقلًا، يتساوى أعضاؤه/ أفراده بينهم، بينما يتمايزون عن غيرهم ممن هم في رتب أقل شأنًا، والتي تمثّل أجسامًا أخرى، يقول: "إنّ ذلك الجسم الذي كما سبق وفرضنا يتعامل الأفراد ضمنه سواسية، ويحدث ذلك في كل أرستقراطية سليمة، عليه هو نفسه، إن كان جسمًا حيًا ومتحضرًا، أن يقوم هو الآخر إزاء الأجسام الأخرى بكل ما امتنع عنه الأفراد ضمنه في مخالطة بعضهم بعضًا: لا بد له من أن يكون إرادة القدرة المتجسدة"، وما عدا ذلك تصبح المساواة مبدأً لانحلال المجتمع وانحطاطه.

وخلاصة القول، إنّ اختلاف القيم بين الناس، وعدم اتفاقهم عليها، إنما هو، كما يرى نيتشه، دليل على اختلافهم وتراتبيتهم، وعلى اختلاف الخير بينهم وتراتبيته، ومن الخطأ تعميم نمط أخلاقي واحد على الجميع. وإنّ تطوّر الإنسان من العادي إلى المتفوّق منوط دائمًا بالسادة الأرستقراطيين النبلاء، وما يسعى إليه هؤلاء السادة من إقرار لأخلاق القادرين هو ما يقود في نهاية الأمر إلى إعلاء الإنسان وتغلبه على ذاته بصورة مطّردة، ومن ثم يمكّننا أخيرًا من استخدام صيغة أخلاقية بمعنى فوق أخلاقي.

1
أما ما هو فوق أخلاقي، أو ما وراء الخير والشر في فلسفة نيتشه، فهو ما كان نابعًا من إرادة القدرة التي تمثّل الغريزة الأساسية للكائن الحي وغاية أخلاق السادة، وهي تشكّل منطلقًا للفعل الأخلاقي مع الفئات الأقل رتبة كذلك. ولا يقتصر الأمر هنا على الغرائز الفردية التي تمتاز بها أخلاق السادة، بل ويندرج في هذا السياق الغرائز التي هي على شاكلة الرحمة والتعاطف والعفو ونحوه، من حيث هي فائض للقدرة. وتتمثل متعة هؤلاء السادة بالسبعية (التلذذ بالألم)، فما "يقع في النفوس موقعًا عذبًا في حضرة ما يُسمى بالتأثر التراجيدي، وأصلًا في حضرة كل سامٍ، صعودًا إلى أعلى ارتعاشات الميتافيزيقا، وأكثرها رقة، لا يستمد عذوبته إلا مما يشوبه من سبعية". وهذه السبعية تمثّل إرادة الروح الأصيلة التي تلتذ بكل حيرة والتباس.

وكملمح آخر لما وراء الخير والشر، تقرّ فلسفة نيتشه باللاحقيقة شرطًا للحياة في مقاومتها لما اعتدنا عليه من مشاعر قيمية، إذ ترفض جميع الأحكام التي تم ربطها بأوهام منطقية مختلقة ومزيفة، مثل الأحكام التأليفية القبلية التي قال بها كانط، وتفترض خطأها، منطلقة من سؤال "إلى أي مدى يكون الحكم منميًا للحياة، محافظًا على الحياة، محافظًا على النوع، بل ربما محسنًا للنوع؟". كما وترفض ربط قيمة الفعل بنتيجته أو قصده، فقيمة الفعل الحاسمة تكمن في لاقصديته، وكل ما هو قصدي و"كل ما يُرعى ويُعرف ويوعى منه ينتمي بالأحرى إلى سطحه وقشرته التي شأنها شأن كل قشرة تبوح بشيء وتستر أشياء"، أي إنّ القصد مجرد رمز وعارض يظهر بظهور الحاجة إلى التأويل، ويدل على أمور كثيرة متنوعة، ومن ثم فهو يدل على لا شيء تقريبًا. كما أنّ تلك الأخلاق القصدية إنما هي ضرب من التهور، "وربما شيء مؤقت"، فلا بد من تجاوز الأخلاق لذاتها، باعتبارها محكًا للنفس وحكمًا عليها.

ختامًا، سواءً قبلنا ما جاءت به فلسفة نيتشه أم رفضناه، لا بد لنا أن نعترف على الأقل بأسبقيتها في التأصيل للأخلاق، وإدخالها عنصر القيمة كركيزة تنطلق منها لتكشف لنا ما وراء التقييمات الأخلاقية المسلّم بها، فلا يعود السؤال حول "ما هي الأخلاق؟"، وإنما ما هي قيمة هذه الأخلاق؟ وماذا نريد منها؟

2
كيف نظر الفلاسفة إلى مفهوم الحب ؟


تتعدد أوجه الحب وأنواعه تبعًا لمختلف المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان، والظروف المحيطة به على مرّ سنيِّ عمره، فتراه منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا، يبدأ بالتعلّق بوسطه القريب ومحبة أبويه وذويه، وتتشكل لديه مشاعر حبّ أخويّ مع أصدقائه، ليتطوّر لاحقًا إلى محبة الجنس الآخر، فالإنسان يبقى في سعيٍ دائم ليجعل من نفسه شخصًا محبوبًا، ويبذل من الجهد الكثير ليجذب إليه الآخرين، فهو بطبعه توّاق ليجد شخصًا يُحبه ويُحِب ذاته، ليصل في نهاية المطاف إلى صفة «نصفيَ الثاني».

فلسفة الحب : تعددت التعبيرات في وصفه، و الحب واحدُ
يُعبَّر عن الحب من وجهة نظر الفلسفة بأنه كلمة لا ترتبط بشيء ماديّ ملموس، ويُعبّر عنه أيضًا بأنه شيء لا يدركه عقلٌ ولا يفسّره منطق. فهو موجود قبلنا، ومستمرّ معنا، وسيبقى إلى ما بعدنا، أي أنه يتعدّى الوجود الطبيعي الملموس.

في الواقع إنّ الحب هو ما يدفعنا كبشر لنظهر بشخصيتنا الحقيقيّة. إنه ذلك الشغف الذي لم نَزل نلاحقه، فكم من أقوام وأمم اتّحدت تحت راية الحب ؛ فكان محرّكًا للعلاقات، وفي الوقت ذاته محرّكًا للصراعات؛ فكم من حرب قامت تحت اسم الحب (كحرب البسوس مثلًا). وحتى من منظور عِلم النفس والاجتماع، فقد أظهرا أن المشكلات الأساسية في حياة الإنسان، وما يمر به من اضطرابات في سلوكه ونفسيّته، ما هي إلا نتاجٌ لنقص الحب في حياته. وذلك في تأكيد منهما على أهمية الحب ، لكونه حاجة إنسانيّة تعادل في مفهومها معنى الحياة.

الحب من دعامات الفلسفة الأساسية
هكذا بدأت فلسفة الحب لدى الإغريق، إذ كانوا يرون الحب واحدًا من دعامات الفلسفة الأساسية، وشرعوا في بناء العديد من النظريات التي من شأنها النهوض بالحب والانتقال به من مفهومه المادي إلى مفهومه الروحي، لكونه صفة أساسيّة تظهر آثارها في سلوك الكائنات الحيّة.

لكن هناك اعتقاد آخر، يرى بأن الفلسفة و الحب نقيضين، لا يمكن الجمع بينهما، كإله الحب في الميثولوجيا الرومانية «كيوبيد»، الذي كان يجمع في ذاته بين الرقّة والعدوانية معًا، فهو يُلاحقك ليُطلق عليك سهمًا يُخفيه تحت جناحيه، ليُصيب قلبكَ وتخضع لحب محبوبك.

الحب في زمن فلاسفة الغرب
أفلاطون، أريستوفان، سقراط
اهتم الفلاسفة منذ العصور القديمة بذلك الشعور الذي يدفعهم للبحث عن قرب جسديّ، أو فكريّ، أو حتى تخيّلي، واعتنو بمفهومه، فنرى كيف اكتسب مفهوم الحب خطابًا متعاليًا وأهمية فلسفية كبرى بفضل مأدبة أفلاطون.

تُصوّر مأدبة أفلاطون الذي أجرى فيها حوارًا بين أستاذه سقراط، وبعض من معاصريه من الفلاسفة والشعراء ورجالات السياسة والأطباء؛ مذهب سقراط وآراءه في الحب، بالإضافة لتعبير كل متحاور عن رأيه في الحب ، وكيف يتطبّع حديثه بطابع شخصيته، وتجلّت المأدبة بثلاثة نظريّات رئيسية:

نظريّة الحب النبيل:
ركّزت على مشاعر الشرف والوفاء واحترام ما تلتزم به من قول وفعل؛ إذ يَخلق الحب المبنيّ على أساس التقدير المتبادل، عددًا من الأفعال السامية، هذا ما طرحه «فيدروس» في محاورته، كأن تتخيّل دولة قوامها جيش من المُحبّين ومحبوبيهم، فهل تتوقع منهم سوى الانتصار في معركة ما؟

لا يمكن حدوث غير ذلك، حتى ولو اجتمعت ضدهم البشرية جمعاء، فلن يترك أيّ مُحب محبوبه جريحًا دون إسعافه، أو يجعله يتعرّض للخطر، ولن يفرّ ويتركه وراءه. وبذلك فإن الحب النبيل، يؤدي إلى أعمال نبيلة.

لكن تكمن المشكلة هنا، في أن يكون الحب نبيلًا في المقام الأول.

يرى «بوزانياس» أن ليس كل أنواع الحب نبيلة، أو تستحق التقدير فهناك حبّ نابع من آلهة الحب والجمال «أفروديت السماوية» الذي يتّسم بجمال العواطف، وآخر نابع من «أفروديت الأرضية»، والذي يُسمى بالحب الدنيء، فالحب السماوي لا يختار إلا الأشخاص الذين يتّسمون بالفضيلة والذكاء، ويعقِد مع الطرف الثاني معاهدة إخلاص بعد التأكد من الأخلاق وطبيعة النوايا.

نظرية توأم الروح:
يعتبر «أريستوفان» الشاعر الكوميدي بأن الكائنات البشرية لم تكن بفطرتها الحالية ذكورًا وإناثًا منفصلين، بل كانوا متحدّين في شخص واحد، بأربعة من الأيدي والأرجل، وزوجٍ من الرؤوس والأعضاء التناسلية. لكن غرورهم اشتد وتجرّؤوا على مهاجمة الآلهة، فعاقبهم الإله زيوس وشطرهم لنصفين ليتركهم يهيمون في الأرض كل نصف يبحث عن نصف ذاته الآخر، ليلتحم من جديد بالتزاوج ويُحقق الرجوع إلى الطبيعة الأولى.

يبدو لنا الحب من خلال هذه النظرية الفلسفية بأنه استعادة الجزء المفقود من كل إنسان، بغية الرجوع إلى الأصل وحالة الاكتمال الأولى، ليصبح الكائنان كائنًا واحدًا، وهذا ما يُفسّر إحساس المحبة، والقرابة والصداقة الغريب والقوي الذي ينشأ بشكل عارم حينما يلتقي الإنسان بنصفه الآخر، شعور غامرٌ لا يتعلّق بطبيعة الإنجذاب الجنسي قصير المدى، بل التجلّي برغبة الاستمرار، والمشاركة معًا، بسموّ وإخلاص حتى يذوب الواحد في الآخر بعد الموت عند «هاديس» إله العالم السفلي.


1
وهنا يوصي «أريستوفان» النوع البشري بأن يتزاوج كل نصف مع نصفه الذي خُلق له ويخصّه بالذات، حتى يتّحدا سويًا ويعودا للطبيعة الأولى، ويصلا للسعادة المطلقة، وإن محبّة الآخر هنا، ما هي إلا إشارة أيضًا لحب الشخص لذاته.

نظرية الحب الخلاّق:
يعتبر «سقراط» أن الحب الذي ينتهي ليس حبًا أصلًا، ودومًا ما يكون الحب لشيء ما ينقصنا أو قد حُرمنا منه، وبأن السعادة تتمثّل بالجمال والخير، وبما أن البشر في سعي دائم يبحثون عن السعادة التي تنقصهم، بالتالي يتوقون لامتلاك الجمال والخير، وبذلك نرى اختلاف سقراط مع أريستوفان؛ فهو يرى بأنه لا يكفي لأن يكون الطرف الثاني هو نصفي الخاص كي أحبّه، بل ينبغي أن يكون خيّرًا، فإن لم يكن ذلك فسيؤدي إلى سُمّية الارتباط، ويمكنني بتر جزء من جسدي إن لم يكن صالحًا لبقية الجسم، لذا فالشيء المحبوب الوحيد هو ما يتّسم بالخير.

وبحسب العرّافة «مانتيني» فإن الحب ما هو إلا ولادة في الجمال عبر الجسد والروح، لذا فرغبة الولادة التي يمتلكها البشر، لا يمكنها التمام إلا بالجمال، أما في القبح فسيؤدي بهم إلى النفور

شوبنهاور
لو قرأت يومًا عن الفيلسوف الألماني شوبنهاور، ستعرف عن فلسفته العدميّة للحياة، بل من الممكن أن تتوقع بسهولة وجهة نظره في أي موضوع كان، ولا شك بأنك لو فكّرت في أكثر الأمور غرابة واكتئابًا، فستجدها في فلسفته، وبالتالي فإنه ومن نظرته التشاؤمية للحياة، يرى الحب بأنه مجرّد غطاء جميل لرغباتنا الجنسية، وأن رغابتنا تقودنا لاعتقاد بأن شخصًا آخر سيجعلنا سعداء، وإننا مخدوعون من قِبل الطبيعة التي تدفعنا لنتكاثر، فعندما تُشبع رغباتنا الجنسية، نعود إلى وجودنا المُعذّب، والشي الوحيد الذي ننجح فيه، هو الحفاظ على الجنس البشري، واستدامة دورة الكدح الإنساني.

الحب في زمان الفلاسفة والأدباء العرب

تعددت الآراء ووجهات نظر الأدباء والفلاسفة العرب عن الحب، أيضًا وجعلوا له مؤلّفات وكتب عدّة تطرح أفكارهم

الجاحظ
في كتابه «النساء»، و «رسالة القيان»، عبّر الجاحظ، عن الحُبّ بأنّه ذلك الشعور العقلاني البعيد عن اللهو، وطالب الناس أن يقاوموه.

ابن حزم الأندلسي
نرى في كتابه «طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف» بأن الحُبّ يبدأ هزليًا، ما يلبث وأن ينتهي بشكل جديّ، ولا يمكننا أن نُدرك معانيه أو أن نصفه إلا بالمعاناة، وأي نوع من أنواع الحب الذي يقوم على أساس المنفعة الحسّية، سرعان ما سيزول، وينتهي بانتهاء العلّة؛ إلى ما تأصّل وتوغّل في النفس، فلا ينتهي إلا بالموت.

ابن سينا
تطرّق ابن سينا في كتابه «القانون في الطب» إلى ما يظهر من علامات على من يُحب، كالهذيان، وتشتت الذهن، وقارن بين العشق والاكتئاب، وكيّف أن الحالة النفسية للفرد عندما يُهجر، تنقلب من السعادة إلى الحزن، ومن الضحك للبكاء.

ابن عربي
شرح ابن عربي في كتابه «الفتوحات المكّية» كيف أن المُحب يفقد القدرة على النوم، وأن الغاية الأساسية هي العشق، ومابعده تأتي أية غاية، وكيف أن للحب درجات، التي تبدأ بنظرة عابرة تجعل من الفرد يميل عاطفيًا، أمّا الدرجة الثانية فهي الحُبّ الناتج عن هذا الميل، لكنّه يقوم على أساس الإخلاص، بحيث يختار فيه الإنسان محبوبًا واحدًا، لا يستبدله بغيره، وتأتي الدرجة الثالثة لتمثّل العشق، وهي عندما تستولي المشاعر على صاحبها، ويصبح فيها مُسرفًا في الحب،

نجيب محفوظ
بالرغم من معرفتنا بأن نجيب محفوظ هو أحد أشهر الأدباء المصريين، إلا أنه في الواقع متخصص في الفلسفة قبل أن يشق طريقه في بحر الروايات. إذ يرى محفوظ بأن الفلسفة هي علم كل شيء. تناول محفوظ في مقال نشره في شبابه «فلسفة الحب»؛ أن أنواع الحب المختلفة تأتي من تغلب أحد عناصره الكثيرة، فقد يغلب على النفس فيصير الحب جنونًا. غير أن شكل الحب الأسمى عند نجيب محفوظ ليس الحب الجسدي، وإنما الشوق، لانه لا يتعلق بانفعال الشهوة، ولا الغيرة، ولا أيٍ من الانفعالات الأخرى، فهو حب يحرر الجسد من جميع الغرائز.

ختامًا
كنا قد تعوّدتا على فهم راسخ بأن الفلاسفة هم أبرع البشر تعاملًا فيما يخص الحب وعلاقاته، لكن بعد مقولة سقراط، «تزوّج يا بنيّ، فإن نجحت بذلك عشتَ سعيدًا، وإلا أصبحت فيلسوفًا»، قد يساورنا الشك ونطرح تساؤلات عمّا إذا كان تفسير هذه المقولة بأن الفشل في العلاقات ينتج الفلسفة أم لا؟.

قد يكون صعبًا معرفة إن كانوا حقًا أكثرنا أو أقلّنا معرفة في التعامل مع الحب وتحليله.

2
يقول نيتشه: " ان المشكلات الكبري توجد في الشارع" .
فالفلسة تتفجر من معين الإنسان، ايّ إنسان، وتنبثق من اعماق وجوده، لأنه يحتاج لعقلنة الاشياء وتعليلها واشاعة النظام فيها، والا فقد معني وجوده ونقطة ارتكازه، وزلت به القدم في مهاوي العدم، أنه مفطور علي تقدير الأشياء ووزنها بميزان من قيمه ومعاييره ليري ما عسي ان يكون لها من معنى بالنسبة اليه. فاذا به يتساءل دائما عن الأغراض والغايات: لم هذا ؟ ولِم ذاك؟ وما الحكمة من وجود هذه الاشياء؟ وهل للحياة غاية تسعي اليها؟ وهل هي تستطيع ان تحقق هذه الغاية ؟ ثم هل هذا الكون صديق للإنسان يساعده علي بلوغ مثله العليا من خير وجمال ؟ أم هو مجرد آلة صماء عمياء تدور وتدور، ولا يهمها في شيء انتصار الخير والجمال علي القبح والشر ؟ ان "ما" و "لِم" و "هل" الخ ... هي التي تعطي للإنسان المادي وجوداً غير مادي، وتقحم به في عالم ما بعد الطبيعة، وبحسب إلحاحها علي نفسه ووعيه لها يكون شعوره بوجوده ويتعين مستواه الروحي والعقلي، ويدلف إلي ذلك العالم الذي لا يعرف الحدود أو السدود.

* المصدر: محمد عبد الرحمن مرحبا , كتاب "المسألة الفلسفية" .
العدالة.. فلسفياً وعلمياً ونفسياً كورس كامل مهم جداً للدارسين وللمهتمين. ☑️👇
2025/07/07 15:05:21
Back to Top
HTML Embed Code: