Telegram Web Link
إن الإنسان الأعلى كائن شديد الإيجابية؛ إذ يفيض بالصحة والبهجة الشديدتين. إلا أنه يختلف جذريًّا عن الإنسان ذي الروح العظيمة عند أرسطو في الثمن الفادح الذي يجب أن يدفعه لإيجابيته الأبدية. والثمن هو مواجهة مخيفة مع النظام الواقعي؛ أي إدراك أنه لا حقيقة ولا جوهر ولا هُوِيَّة ولا أساس ولا غاية ولا قيم فطرية في الكون؛ فالإنسان وهم، وكذلك الأشياء التي تبدو راسخةً أمامه. إن إدراك كل هذا يُمثِّل التحديق في الهُوَّة الديونيسيوسية المظلمة عند المذكورة في عمل «مولد التراجيديا» مع رفض كل مسكنات الوهم الأبولوني. فهو يعني تحويل حتى هذا الإدراك المريع لدافع الموت إلى عادة غريزية، والرقص دون أي يقينيات على حافَّة الهُوَّة؛ فالإنسان الأعلى هو من ينتزع الفضيلة من الإلزام الشديد، ويُحوِّل انعدام وجود أساس للواقع إلى حالة من المتعة الجمالية ومصدر لعملية ابتكار الذات التي لا توقف. فهو شأنه شأن أبطال النظام الواقعي الأخلاقيين عند لاكان قد تخطَّى مرحلة التعميد بالنار التي هي مأساة في مكان فيما وراء هذه المحنة السعيدة، إلا أن الوصول إلى تلك الحالة التي يُحسد عليها يتطلب من النوع البشري أن يستعد لدروس النظام الرمزي القاسية.

إذًا ثمة تفسير يرى أن نيتشه يعتقد أن الإنسان حقيقي الوجود يتقدَّم من السُّقوط السعيد الخاص بالنظام الرمزي، إلى مواجهة مهذِّبة مع النظام الواقعي، ثم إلى حالة من الفضيلة تُحيل العقل الخطابي إلى غريزة تلقائية. فالإنسان الأعلى منَّان وكريم، لكن ذلك مقرون بلا مبالاة السيد النبيل الراقية الخالية من الهموم. وفي هذه الحالة تكون الدوافع والعواطف الجسدية مهمَّتين، وهو ما يجعل هذه الحالة من بعض الجوانب نموذجًا أرقى للنظام الخيالي. وسنرى لاحقًا أن الأخلاق عند جاك لاكان وآلان باديو تكمن في الإخلاص الثابت للنظام الواقعي، الذي يجب أن يتمسَّك به الفرد رغم فخاخ النظام الرمزي وأوهامه؛ فالفعل الأخلاقي الحقيقي عند الطليعة الباريسية هو الفعل الذي يرفض زَيْف وملل ما هو معتاد من أجل الالتزام المستدام بهذه الحقيقة السامية؛ لكن ليس هذا هو الحال عند نيتشه. صحيح أنه من خلال المواجهة المكلفة مع النظام الواقعي وَحْدَها يمكن للإنسان أن يدرك أن العالم بلا أُسُس أخلاقية، وأن الرب ليس ميتًا فقط بل لم يكن حيًّا يومًا، وأن الأنظمة الأخلاقية التقليدية بغيضة ومنحطة في جُلِّها، إلا أنه بمجرد أن يصبح الإنسان سيد نفسه روحيًّا بهذا النحو، تكون النتيجة حياةً تملؤها الفضيلة بطريقة ربما يفهمها إدموند بيرك. على أيِّ حال، فإن بعضًا من فضائل نيتشه المفضلة تتفق بصورة كبيرة مع الفضائل التقليدية؛ الشجاعة والبهجة واللطف والشهامة وما شابه. لذا، فإن أحد الانتقادات الموجهة لنيتشه ليس أن كتاباته تمثل نهاية الحضارة كما نعرفها، بل إن الإنسان الأعلى يحمل شبهًا مخيبًا للآمال بالشخص الأرستقراطي القديم المعهود، فهو أحد شخصيات دزرائيلي أكثر منه شخصية شيطانية.

25

الفيلسوف الجديد
بدلا من التعويل على أسئلة الموت الأخروي يريد منّا سيوران أن نعود بالأحرى إلى الدهشة من الحياة نفسها. فالموت يبدو "دقيقا" جدّا، في حين أنّ الحياة لا تملك أيّة حجّة عن نفسها. ولأنّها تراكم قدرا هائلا من اللامعنى، فإنّ "الحياة تُشعرنا بالفزع أكثر من الموت". إنّ الرغبة الحادة في الحياة هي المشكل وليس الموت. لكنّ الموت هو المقياس الحقيقي للتمييز بين قدرات البشر على الحياة، بل إنّ سيوران يقسّم "الأحياء" إلى نوعين بينهما توجد هوّة لا يمكن قطعها أو اختزالها: "أحدهما يجهل موته، والآخر يعرفه؛ أحدهما لا يموت إلاّ برهةً، والآخر ما فتئ يموت في كل حين...أحدهما يعيش كما لو كان أبديّا؛ والآخر يفكّر باستمرار في أبديّته وينكرها عند كل فكرة".

لا تعني الكرامة أكثر من السيطرة على بُعد الموت في حياتنا. ومن يشعر أنّه مائت هو يقبض على معنى الموت بوصفه بُعدا داخليا في حياته أو في طبيعته، "ولا شيء ممّا هو طبيعي يمكن أن يجعل منّا شيئا آخر غير أنفسنا". إنّ الصحّة مثلا تبقي على الجسد في براثن "هوية عقيمة"؛ أمّا المرض، فهو "نشاط، وهو النشاط الأكثر حدّة الذي يمكن لإنسان ما أن يطوّره ..."، لأنّه نوع من الانتظار لإشراقة "لا يمكن تداركها". المرض نوع من الكرامة، يضع الجسد أمام هواجسه دون أن يزيّفها؛ إذ لا يوجد أيّ دواء ناجع ضد "هواجس الموت". ولذلك، يعتبر سيوران أنّ المنهج الوحيد للانتصار على هذه "الشهوة" هو أن "نعيشها إلى النهاية، أن نتحمّل كلّ مفاتنها، وكل فظائعها، ألاّ نفعل شيئا من أجل تجنّبها...فمن كثرة ما يشغل نفسه بلانهاية الموت، ينجح الفكر في إنهاكه".

ما يقترحه سيوران هو عدم تجنّب التفكير في الموت، بل مواجهته حتى يتمّ إنهاكه وإفراغه من المعنى. وهكذا بدلا من الخوف من الموت، علينا أن نفكّر في قدرتنا الداخلية على الانقراض. أن ننخرط كلّية في قلق سحيق من "انقراضنا الخاص" (propre extinction) حتى لا نسمح لأيّ تصوّر ديني عن الموت بأن يزعجنا. على التفكير أن يكون خاصا دائما؛ أي منهمكا في نوع من "أدب الرعب والتأمّل في تعفّنه" الخاص بوصفه يحمل موته من الداخل كقدرة خاصة على احتمال الحياة. على المرء أن يتحوّل من الداخل وبكل إرادة إلى ما يشبه "الرماد" الوجودي، حيث ينجح آخر المطاف في النظر إلى حياته بوصفها "ماضي موته - وهو نفسه لن يكون سوى مبعوث من بين الأموات لم يعد يستطيع الحياة". على المرء أن يعامل قدرته على الموت كما لو كان "أركيولوجيّ القلب والكينونة" الذي لم يعد بإمكان أيّ نوع من "الأسرار" المقدّسة أن تغريه. حسب سيوران لا توجد أيّ أسرار، بل فقط "شعائر ومشاعر" (rites et frissons) استعملها الناس من أجل التغلّب على هاجس الموت بواسطة الحياة. ومن ثمّ لا يستطيع أيّ كشف للحجب أن يجعلنا نبصر بأكثر من "هاويات بلا نتيجة"، ولن يبقى أمامنا غير الإقرار بأنّه "لا يوجد من تدريب روحي إلاّ على العدم - وعلى سخافة أن تكون حيّا".


- فتحي المسكيني
من مقال "من سيرة النبيّ المضاد:
#سيوران آخر ملحد توحيدي"
فلسفة الشهادة وعلاقتها بالمعرفة



تركز فلسفة الشهادة على دراسة ما يتم تناقله بين الأشخاص ويمكن أن يكون أساساً معرفياً. تعد الشهادة (Testimony) مصدراً كبيراً لما نعرفه عن العالم من حولنا. والشهادة هنا تعني ما يخبرنا به الآخرون – أي ما يشهد به الآخرون. فنحن نعرف التاريخ من الكتب التي كتبها المؤرخون، ونعرف الأخبار مما نقرأه في الصحف أو نراه على شاشة التلفاز. كما أن العلم وكافة تطوراته تأتينا بطريقة “الشهادة” من أشخاص قاموا بأبحاث ودراسات وأطلعونا على نتائجها [1].

تعريف فلسفة الشهادة
تركز فلسفة الشهادة أو نظرية معرفة الشهادة (Epistemology of Testimony – Philosophy of Testimony) على كيفية تقييم هذه الاعتقادات التي نبنيها على شهادات الآخرين. فتطرح تساؤلات حول إمكانية تبرير هذه الاعتقادات، ومتى يمكن لها أن ترقى لمستوى المعرفة [2].

يمكن تعريف فلسفة الشهادة على أنها مكان الالتقاء بين “طبيعة المعرفة” و”اللغة”، وهما من المواضيع المهمة في الفلسفة. فما نكتسبه من شهادة الآخرين – ويمكن أن نعتبره معرفة – يصل إلينا عن طريق اللغة. فالمرء الناقل للشهادة يحتاج وسطاً ينقل به شهادته، ويشترط لتحقيق عملية نقل فعالة أن يكون هذا الوسط ملائماً للمتلقي. إذ إنّ هذا الوسط هو ما يمكن للشخص الآخر اكتساب المعرفة من الشهادة عن طريقه. ويتمثل هذا الوسط بشكل رئيسي باللغة التي نقرأها أو نسمعها [3].

ولدى التدقيق بهذين العاملين، نرى أن انتشار المعرفة عن طريق اللغة هو أمر واقع لا غبار عليه. فنحن نسمع أو نقرأ شهادة غيرنا، ونفهمها، من خلال اللغة التي توصلها لنا. ولكن الجدال يكمن في طبيعة هذه المعرفة. وكما ذُكر آنفاً، تطرح فلسفة الشهادة تساؤلات حول إمكانية اعتبار ما يصلنا بطريق الشهادة على أنه معرفة [3].


وهنا تختلف وجهات النظر المجيبة على هذا التساؤل.

الاختزالية (Reductionism)
ترى الاختزالية أنه يشترط لاكتساب المعرفة عن طريق الشهادة أن يكون لدينا أسباب موجبة للإيمان بأن الشخص الناقل للشهادة هو محلّ ثقة [2]. وفي هذا الصدد، يعد الفيلسوف ديفيد هيوم (David Hume) من أوائل المنادين بأهمية الدليل في تبرير تصديق الشهادة. وهذا الدليل، إما أن يكون دليلاً على مصداقية الشخص المعني، أو دليلاً عاماً على مصداقية البشر بالمجمل [4].

ويرى هيوم أن ثقتنا تتناسب طرداً مع معقولية محتوى الشهادة. أي أنها تتناقص بالقدر الذي تكون فيه الشهادة غير اعتيادية أو غريبة. والعكس صحيح، فعادة ما نميل إلى تصديق ما يقوله الآخرون إذا كان أقرب للواقع، أو إذا كان لحدوثه احتمالية عالية [4].


1
لنفرض أنك ذهبت إلى مقهى وطلبت فنجاناً من القهوة. ولكن النادل اعتذر عن تلبية طلبك لأن آلة صنع القهوة معطلة. يسهل هنا تصديق شهادة النادل نتيجة ارتفاع احتمال حدوثها. ولكن تخيل أن يقول لك النادل أن فضائيين أتوا ليلاً وسرقوا مخزون القهوة من المقهى، ولهذا لا يمكنه تلبية طلبك. مع هذه الشهادة، يصعب إعطاء المصداقية لناقلها. فمن غير المحتمل، بل ربما من المستحيل، أن يحدث هذا في الواقع [4].


ويتوسع هيوم في شكوكه حول الشهادة، ويطال بذلك المعجزات (miracles). ففي كتابه مبحث في الفاهمة البشرية، يعبر عن رأيه بوجوب عدم تصديق حدوث المعجزات بناءً على شهادة الغير. حيث يعرّف المعجزة على أنها “نقض لقوانين الطبيعة.” وعليه، لا يرى أنه من الممكن أن تصل أية شهادة إلى درجة من المصداقية يمكن معها تصديق حدوث شيء مناقض لقوانين الطبيعة. والاستثناء الوحيد الذي يطرحه هيوم، والذي يمكن معه تصديق حدوث المعجزة، هو أن يكون عدم حدوثها أمرٌ أكثر إعجازاً وأكثر غرابة من حدوثها [4].

يدعم هيوم موقفه من الشهادة بأن الناس عادة ما يميلون إلى إعطاء شهادات غير دقيقة. ربما يكون هذا بدافع الكذب أو المزاح أو المبالغة. وربما يكون من دون دافع، أي أنهم لا يعلمون أن شهادتهم خاطئة، بل لديهم اعتقاد بأن ما يقولونه يمثل الصواب [4].

اللا-اختزالية (Non-Reductionism)
من جهة أخرى، يرى مناقضو الاختزالية أن الأدلة الموجبة غير ضرورية. بل للمرء حق مفترض بتصديق شهادة الآخرين، طالما أنه لا يوجد سبب قاهر يقتضي عدم تصديق ناقل الشهادة. فتصديق الشهادة في هذه الحالة هو الأمر الطبيعي [1].

ويعد الفيلسوف توماس ريد (Thomas Reid) من مناصري هذا الفكر الذي يعبر عن جاهزية أكبر ورغبة أقوى في تصديق الغير. حيث يدافع ريد عن رأيه عن طريق الأطفال الذين يميلون إلى تصديق كل ما يسمعونه، مع أنهم لا يملكون أية قاعدة استقرائية من تجارب سابقة. ويقول إنه إذا كانت الرغبة في تصديق الآخرين مبنية على التفكير والتجارب، فبالأحرى لها أن تتعزز مع تزايد التجارب والقدرة على التفكير المنطقي. لكن ما يحدث هو أن هذه الرغبة أو الجاهزية تكون في أقوى درجاتها عندما تأخذ شكل الفطرة أو الهبة الطبيعية. وهي التي تكون لدى الأطفال، مما يدفعهم تلقائياً إلى تصديق كل ما يقال لهم. لكنها تتضاءل مع تقدمهم في العمر ومرورهم بالتجارب وتشكيلهم للمنطق [2].


على عكس فكرة هيوم الذي يرى أنه من الممكن للبشر أن ينطقوا بشهادات مغلوطة لأسباب متعددة، يرى ريد أنه من الممكن لنا أن نعتمد على شهادة المتحدث للأسباب التالية. أولاً، إن البشر يتمتعون بميل لقول الحقيقة. ثم إن لديهم نزعة لتصديق ما يسمعون. وأخيراً يستطيعون أن يشعروا عندما يكون المتحدث غير أهل للثقة [1].

ومن غير المستغرب هذا الموقف من ريد. فهو رجل دين، يرى الأمور من منظور مؤمن بالطبيعة البشرية كإيمانه بخالقها. أما هيوم، فقد حملت كتاباته أفكاراً مناهضة للدين وللعقائد الدينية. وهذا ما جعله محل انتقاد للبعض، ومن بينهم ريد نفسه [5] [6].

علاقة فلسفة الشهادة بالاستقلال/التضامن الفكري
وأخيراً، يمكن تبنّي إحدى وجهتي النظر في التعامل مع الشهادة. فالبعض يرى أهمية كبيرة لكسر التفكير التقليدي والابتعاد عن التلقي. ومن الأمثلة على هذا ما كتبه الفيلسوف إيمانويل كانت (Immanuel Kant) عند حديثه عن التنوير (Enlightenment). ويرى كانت أن التنوير هو انبثاق المرء من حالة عدم النضج المنغمس فيها. ويعرّف “عدم النضج” بأنه عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون الاستدلال بالآخرين. ويقصد هنا مدى اعتماد الشخص في تكوين الآراء والمعتقدات على شهادة الآخرين وعدم الخروج من عباءتهم. فيرى كانت أهمية كبيرة – بل فضيلة – في قدرة الشخص على الاستغناء عن شهادات الآخرين كقاعدة للأفكار. وهذا ما يدعوه الفلاسفة المعاصرون بالاستقلال الفكري [4].

ومن جهة أخرى، قد يفضل البعض وجهة النظر التي تحافظ على العادات السائدة ولا تنسلخ عنها. وفي هذا تضامن فكري يرى فيه ريد فضيلة تفوق الفردية والاستقلال. فهذا النمط من التفكير يحافظ على معتقدات المجتمع ككل، ولا يؤدي إلى ابتعاد جذري عنه [4].




المصادر
Stanford Encyclopedia of Philosophy – Epistemological Problems of Testimony
Internet Encyclopedia of Philosophy – Epistemology of Testimony
Elizabeth Fricker and David E. Cooper – The Epistemology of Testimony
Coursera: Hazlett, Allan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
Stanford Encyclopedia of Philosophy – David Hume
Stanford Encyclopedia of Philosophy – Thomas Reid

2
👍1
التناسق الرائع بين أدمغتنا
مايكل سبيفي - ترجمة: كمال المصري



في سبعينيات القرن العشرين، بدأت شركة حلوى أمريكية حملةً إعلانية للترويج لأكواب زبدة الفول السوداني؛ وفي الإعلان التلفزيوني، يسير شخص على رصيف مزدحم بالمدينة بينما يتناول قطعة من الشوكولاتة، ويسير شخص آخر باتجاهه بينما يتناول زبدة الفول السوداني من جرة زجاجية. وعندما يصطدما ببعضهما، يختلط الطعام في أيديهما، فيتذمر أحدهما قائلًا للأخر «لقد أوقعت زبدة الفول السوداني على الشوكولاتة التي في يدي!» بينما يشتكي الآخر قائلًا «لقد أوقعت الشوكولاتة في زبدة الفول السوداني التي في يدي!» كما لو كان أحد هذين الأمرين صحيحًا والآخر خاطئًا.

وينتهي الأمر بأن يجد كلاهما أن مزيج النكهة الجديد لذيذ جدًا. ثمة شيء مشابه جدًا لحادثة اختلاط الحلوى هذه يحدث داخل دماغك عندما تصطدم دورة «الفعل والإدراك الحسي» (action and perception) الخاصة بك بدورة (الفعل والإدراك الحسي) لشخص آخر، فعندما تكون أحد الأشياء في المحيط الخارجي جزءًا من إدراكك وإدراك شخص آخر، فإن الإدراكين يندمجان.



هذا المقال مقتبس من كتاب مايكل سبيفي «ماهيتك: علم الترابط»

على سبيل المثال، قد تشير أنت وصديقك إلى خريطة، وتتحدثان عنها معًا، أو ربما تشاهدان برنامجًا تلفزيونيًا معًا وتتبادلان الملاحظات حوله، وقد تتذكر الاسم الأول لأحد المشاهير بينما لا تتذكر اسم عائلته، فتذكّرك به زوجتك؛ فهل هذا الشيء (أو الحدث) الموجود في البيئة الخارجية ينتمي إلى إدراكك أم إلى إدراك الشخص الآخر؟

وكثيرًا ما يكون هذا التبادل السلس للمعلومات بينك وبين الآخرين كثيفًا لدرجة أنه قد يصعُب التعامل معك ومع الآخرين كأنظمة إدراكية منفصلة؛ فإذا كانت الأداة التي تعزز قدراتك قد تصبح امتدادًا لـ«ماهيتك»، فماذا عن شخص آخر يعزز قدراتك؟ إنّ المعلومات التي تصنع ماهيتك لا تقتصر على المعلومات التي تحملها داخل دماغك وجسمك والأشياء القريبة منك؛ بل تشمل أيضًا المعلومات التي يحملها الأشخاص من حولك.

بل إن الآخرين يشاطروننا العديد من تجاربنا الأكثر تأثيرًا -مثل مشاريع الفِرق والفعاليات المجتمعية والوجبات الجماعية في العطلات- ويشكلونها معنا جزئيًا. وسواء كنت تُجري محادثة مع شخص ما، أو تحضر محاضرة، أو تُنسق مشروع في العمل، أو تشاهد التلفاز، أو حتى تقرأ كتابًا؛ فإن أي من هذه الأنشطة ينطوي عادةً على تبادل معلومات بين شخصين أو أكثر، وهناك مثل إسباني قديم يقول «قل لي مع من تتحدث، وسأخبرك من أنت» (Dime con quien andas y te diré quien eres).

1
👍1
وقد أثبتت مجموعة متزايدة من أبحاث علم الإدراك أنه عندما يتعاون شخصان في مهمة مشتركة، فإن أفعالهما كأفراد تتناسق بطريقة تُشبه كثيرًا كيفية التنسيق بين أطراف الشخص الواحد حينما يؤدي مهمة فردية. انظر على سبيل المثال إلى المهمة الفردية المتمثلة في تحريك سبابتيك لأسفل ثم لأعلى بحركة متعاكسة. جربها، فهي مهمة سهلة. إن ما يحدث هنا ليس هو التزامن التام (Perfect Synchrony) حيث تقوم السبابتان بعمل نفس الأمر في نفس الوقت، بل هو شكل من أشكال التناغم الزمني المختزل (Syncopation) حيث تفعل السبابتان أمرين متعاكستين في نفس الوقت.

لقد وجد سكوت كيلسو -الباحث في الأنظمة الديناميكية- أن الناس قادرون على القيام بالمهمة المذكورة أعلاه بسرعة نسبية والحفاظ على نمط الحركة المتعاكسة لفترة من الزمن (حيث يتحرك كل إصبع عكس الآخر)؛ إلا أنهم عندما يُسرعون الحركة بحيث تصل فعلًا إلى وتيرة اهتزاز الإصبع السريعة، فإنهم عادة ما يقعون بطريق الخطأ في نمط الحركة المتوافقة؛ حيث تنتقل السبابتان بدون قصد إلى نمط من الحركة حيث يتحركان فيه كلاهما لأعلى في نفس الوقت ثم يتحركان كلاهما لأسفل في نفس الوقت. وبيّن كيلسو أن هذا الميل العرضي نحو توافق حركة السبابتين، حتى عندما يحاول المرء القيام بحركات متعاكسة، يتفق جدًا مع نموذج رياضي يصف كيف يمكن لنظامين فرعيين مختلفين التصرف في كثير من الأحيان وكأنهما نظام واحد.

في حالتنا هذه، نجد أن أحد هذين النظامين الفرعيين هو القشرة الحركية لنصف الدماغ الأيسر التي تحاول القيام بحركة معينة (رفع سبابتك اليمنى) والنظام الفرعي الآخر هو القشرة الحركية لنصف الدماغ الأيمن التي تحاول القيام بالحركة العكسية (خفض سبابتك اليسرى) في نفس الوقت، ثم يقوم النظامين بعكس هذا النمط من الحركات بشكل متكرر. وتحتوي هاتان المنطقتان في الدماغ على عدة روابط عصبية بينهما، وهذه الروابط هي التي تجعل من الصعب الحفاظ على نمط الحركة المتعاكسة عندما تحاول زيادة سرعة الحركات؛ فتتحول إلى حركات متزامنة، حتى عندما تحاول أنت جعلها غير متزامنة. ولكن قد يسأل سائل هنا: ماذا عن نقل المعلومات إلى أشخاص آخرين؟

قام عالم النفس ريتشارد شميدت بتوسيع تجربة كيلسو مطبقًا التجربة على الساق اليسرى لشخص يجلس على سطح طاولة والساق اليمنى لشخص آخر يجلس إلى جانبه على سطح الطاولة، بحيث تتأرجح رجليهما في نفس الوقت في اتجاهين متعاكسين، باتجاه الطاولة وعكس اتجاه الطاولة، بنفس الطريقة التي كانت السبابتان تتحركان فيها في تجربة كيلسو، إذ يقوم أحدهما بتحريك ساقه للأمام (بعيدًا عن الطاولة) بينما يقوم الآخر بتحريك ساقه للخلف (تحت الطاولة). وكانت النتيجة مثل ما حدث في تجربة كيلسو، فمع تسارع الحركة غالبًا ما تتحول حركات الرجلين المتعاكسة إلى حركات متزامنة في نفس الاتجاه.

ومن الواضح أن ما حدث ليس بسبب الجسم الثفني -الذي يربط القشرة الحركية اليسرى والقشرة الحركية اليمنى ببعضهما- فلا يوجد ما يربط القشرة الحركية لأحد الشخصين والقشرة الحركية للشخص الآخر. وهكذا يتبين أن الروابط العصبية ليست هي الشيء الوحيد الذي يُتيح مشاركة المعلومات التي تنسق عمل نظامين فرعيين مختلفين؛ إذ يمكن لدورة «الفعل والإدراك الحسي» الخاصة بك أن تتبادل المعلومات مع دورة «الفعل والإدراك الحسي» الخاصة بشخص آخر بطريقة تجعلكما تنسقان حركتكما بشكل متزامن وتتصرفان -جزئيًا- وكأنكما نظام واحد.

2
وجدت عالمة النفس التجريبية آنا كوهلن وزملاؤها أن تنسيق النشاط العصبي بين الأفراد يرتبط مباشرةً بالمعلومات التي تُنقل شفهيًا. المصدر: Frontiers in Human Neuroscience

ويأتي أحد الأمثلة المثيرة على مشاركة المعلومات هذه عبر عقلين من تجربة مبتكرة أجرتها عالمة النفس التجريبية آنا كوهلن، حيث سجلت كوهلن النشاط الدماغي (باستخدام جهاز «مخطط كهربية الدماغ» EEG) لامرأة تحكي قصة، وسجلت فيديو للمرأة في الوقت ذاته. وكررت نفس الأمر مع رجل يروي قصة مختلفة، ثم قامت بتركيب مقطعي الفيديو على بعضهما، بحيث تظهر صورة شبحية نوعًا ما لكلا رأسيهما وهما يتحدثان ويتراكب التسجيل الصوتي من كلتا القصتين. وعندما تشاهد هذا الفيديو وتستمع إليه، فقد تشعر بالتشتت بعض الشيء، ولكن إذا قررت تركيز انتباهك على أحد المتحدثين في الفيديو المركب وتجاهلت الآخر؛ فإنك تستطيع فعل ذلك. وهذا هو بالضبط ما طلبته كوهلن من المجموعة التالية من المشاركين في التجربة، وقد كانت تسجل نشاطهم الدماغي وهم يفعلون ذلك.

وهكذا توفر لديها عدة دقائق من النشاط الدماغي للمتحدثة الأنثى، ومن النشاط الدماغي للمتحدث الذكر، ومن النشاط الدماغي للمستمعين الذين طُلب منهم التركيز على المتحدثة الأنثى، ومن النشاط الدماغي للمستمعين الذين طُلب منهم التركيز على المتحدث الذكر. وجاءت النتيجة كما توقعت كوهلن، حيث أنتج المستمعون الذين ركزوا على صوت المتحدثة الأنثى نشاطًا دماغيًا يرتبط إحصائيًا بنشاط دماغ المتحدثة الأنثى (وأقل ارتباطًا بنشاط دماغ المتحدث الذكر)، وحدث عكس ذلك بالنسبة للمستمعين الذين ركزوا على صوت المتحدث الذكر. ومن ثم فإن الاستماع إلى شخص يحكي لك قصة يجعل عقلك يقوم جزئيًا بنفس ما كان يقوم به دماغ المتحدث.

ولكنك لست مضطرًا لتسجيل نشاط الدماغ لكي ترى ظهور هذه الارتباطات بين المتحدث والمستمع. ذلك لأنه إذا كان هناك دماغان مترابطين بشكل كبير، فمن المحتمل جدًا أن حركات الجسمين اللذين يحملان هذين الدماغين مترابطةٌ هي كذلك.

وفي بيان ذلك، قام اثنان من تلاميذي، هما دانيال ريتشاردسون وريك ديل، بتسجيل حركات عين إحدى المتحدثات أثناء نظرها إلى إطار سداسي يضم ست صور لممثلي المسلسل التلفزيوني «فريندز Friends» بينما تحكي قصة غير مكتوبة عن حلقتها المفضلة من المسلسل. وتم لاحقًا تشغيل التسجيل الصوتي لتلك القصة عبر سماعات الرأس لمستمعين كانوا ينظرون أيضًا إلى ذلك الإطار الذي يضم الصور الست. وقام الباحثان بتسجيل حركات العين الخاصة بالمستمعين، الذين لم يروا المتحدثة، بل سمعوا صوتها فقط. وعلى مدار الدقائق القليلة التي استغرقها سماع القصة، وجد الباحثان أن هناك ارتباطًا ملحوظًا بين حركات عين المتحدثة وحركات عين المستمعين، ولكن مع فارق زمني حيث يتأخر المستمعين بحوالي 1.5 ثانية.

3
مقطع قصير – مأخوذ من دراسة دانيال ريتشاردسون وريك ديل – يُظهر حركات عين المتحدث (الشعيرات المتقاطعة) وحركات عين المستمع (النقطة)، وتبدو حركات عين المستمع تابعة لحركات عين المتحدث.

قد نفسر الأمر بما يلي: ستنظر المتحدثة إلى وجه الممثل، وبعد نصف ثانية تقول اسم الشخصية التي يؤديها في المسلسل. بعد ذلك، سيستغرق دماغ المستمع نصف ثانية لمعالجة سماع الاسم ثم نصف ثانية أخرى ليوجه عينيه إلى وجه الممثل. وهكذا تتأخر حركة عين المستمع بفارق يبلغ 1.5 ثانية. ومن المثير للاهتمام هنا أن المستمعين الذين كانت حركات أعينهم مرتبطة بدرجة أكبر بحركة عين المتحدثة قد أجابوا أيضًا بشكل أسرع على أسئلة الفهم والاستيعاب التي طرحها عليهم الباحثان في نهاية التجربة، ومن ثم فقد وجد الباحثان أن المستمعين الذين كانت حركات أعينهم أكثر تزامنًا مع حركات عين المتحدثة قد استوعبوا المعلومات من القصة على نحو أكثر كفاءة.

كل هذا يعني أنه عند معالجة اللغة، غالبًا ما يبدي المستمع (أو القارئ) نشاطًا دماغيًا وحركات عين تشبه نشاط الدماغ وحركات العين التي تحدث لدى المتحدث (أو الكاتب). نعم، وهذا صحيح؛ فأثناء قراءتك لهذه الفقرة، من المحتمل أن يكون نشاط دماغك وحركات عينيك مرتبطين إلى حد ما بنشاط الدماغ وحركات العين التي حدثت لي أثناء تدقيق هذه الفقرة. وبغض النظر عمن تكون، وبغض النظر أيضًا عن الوقت الذي تقرأ فيه هذه الفقرة، فإن ثمة شريحة زمنية منك وشريحة زمنية مني تكونان متوافقتين لفترة وجيزة، بالمعنى الحرفي والمجازي، وعلى الصعيدين الجسدي والميتافيزيقي.

ويكون هذا التنسيق الجسدي والعقلي أكثر تأثيرًا عندما يكون الشخصان حاضرين مع بعضهما في نفس الوقت، ويسهمان بشكل متساوٍ في المحادثة. وقد قام ريتشاردسون وديل، بمساعدة من ناتاشا كيركهام، بتوسيع تجربتهما في تتبع حركة العين بحيث يطبقوها على شخصين يدخلان في حوار ارتجالي، فوضعوا جهازين لتتبع حركة العين في غرفتين منفصلتين، وكان في كل غرفة شخص، بحيث يشاهد الشخصان نفس اللوحة أثناء التحدث مع بعضهما عبر سماعات الرأس.

تخيل نفسك في هذه التجربة: أنت وحدك في غرفة تنظر إلى صورة، لكن يمكنك عبر سماعة الرأس أن تتحدث إلى شخص آخر موجود في غرفة أخرى وينظر إلى نفس الصورة التي تنظر إليها أنت. الأمر هنا يشبه إلى حد ما الاتصال بصديق على الهاتف بينما تشاهدان معًا مباراة رياضية تُبث على التلفاز مباشرةً (مثلما نفعل أنا وصديقي ستيف). لقد كان الشخصان المشاركان في التجربة يتحدثان عن اللوحة التي كانا ينظران إليها، بينما يقوم الجهازان بتسجيل حركات أعينهما، وعندما تقوم بتحليل نص المحادثة، تجد أنهما يقاطعان بعضهما، ويكملان جمل بعضهما عدة مرات، ذلك لأن جزءًا مهمًا من كيفية فهمنا لما يقوله الشخص الآخر هو توقعنا لما سوف يقوله.

4
الأمر المهم هنا هو أنه نظرًا لأن الشخصين في المحادثة كانا يتوقعان كلمات وأفكار بعضهما عن كثب، فقد اختفى هذا الفارق البالغ 1.5 ثانية في العلاقة بين حركات العين. كان الشخصان ينظران إلى ذات الأجزاء من ذات الصورة في ذات الوقت، وكانت حركات أعينهما قد دخلت في حالة من التزامن الحقيقي، على عكس ما حدث في تجربة حركة السبابتين التي أجراها كيلسو، وتجربة الرِجلين المتأرجحتين التي أجراها شميدت.

وعندما يرتبط دماغان بمحادثة مشتركة، فإن التنسيق في السلوك لا يقتصر على الدماغين والعيون فحسب، بل يمتد إلى الأيدي والرأسين والعمودين الفقريين أيضًا، إذ يحدث التنسيق بين الجسدين بطرق لم يكن يحدث بها قبل بدء المحادثة.

على سبيل المثال، جاء الباحث في الحركة البشرية كيفين شوكلي بشخصين يتحدثان مع بعضهما حول أحجية مشتركة بينما كانا يقفان على لوحات قياس القوة التي تُسجل تأثير تغير وضعية الجسم، إذ إنه حتى عندما تعتقد أنك ساكن في مكانك، فإن مركز كتلة جسمك يظل يتغير بمقدار بضعة ملليمترات. وعندما كان المشاركان في تجربة شوكلي يتحدثان مع بعضهما حول هذا الأحجية، كانت وضعيات جسميهما تتغير بصورة توضح ارتباطًا بينهما. وعندما تحدث المشاركان مع أشخاص آخرين حول الأحجية، زال الارتباط بين تغير وضعيات جسميهما. وربما يكون بعض هذا التنسيق بين تغير وضعيات الجسم نتج عن إشارات الأيدي التي قاما بها معًا أو إيماءات الرأس التي قاما بها لبعضهما أثناء تبادلهما الحديث.

وعندما ركز عالم الإدراك ماكس لوويرس على الحركات والإيماءات الصادرة عن الشخصين أثناء محادثتهما حول الأحجية المشتركة، وجد أن ضروبًا معينة من الحركات أظهرت ارتباطات بينهما ولكن بفوارق زمنية مختلفة، فعلى سبيل المثال يحدث التناسق بين إيماءات الرأس بفارق زمني يبلغ حوالي ثانية واحدة بين الشخصين، وما يحدث هنا هو أن أحدهما يفترض شيئًا ما ثم يهز رأسه كشكل من أشكال طلب التوكيد من الشخص الآخر، ثم يومئ الشخص الآخر برأسه للتعبير عن ذلك التوكيد.

5
وعلى الرغم من ذلك، فإن المحاكاة الاجتماعية تحدث في مقياس زمني يختلف عن هذا، إذ غالبًا ما يقوم الناس بتقليد بعضهم بعضًا دون أن يدركوا ذلك، كأن تضع ساقًا فوق الأخرى أثناء أحد الاجتماعات بعد أن يفعل شخص آخر ذلك، أو أن تُشبك أصابع يديك وتسندها على مؤخرة رأسك بعد أن يفعل شخص آخر ذلك، أو أن تفرك ذقنك بيدك بعد أن يفعل شخص آخر ذلك. وقد وجد لوويرس في تجربته أنه عندما يلمس أحد المتحدثين وجهه، فإنه من المرجح إحصائيًا أن يلمس المتحدث الآخر وجهه، ولكن الفارق الزمني بين الشخصين هنا لا يكون ثانية واحدة مثل إيماءات الرأس بل يكون على الأرجح من 20 إلى 30 ثانية. وهذا التناسق العرضي بين الحركات من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من التعاطف والألفة بين الشخصين المعنيين، فهذه المحادثة المشتركة لا تحسّن معالجة المخرجات الحركية المشتركة فحسب، بل يمكن أيضًا أن تُحسن معالجة المدخلات الإدراكية الحسية المشتركة بينهما. هل تتساءل الآن كيف لشخصين أن «يتشاركان المدخلات الإدراكية الحسية؟» حسنًا، هذا سؤال وجيه.

لقد فحص عالم الإدراك ريكاردو فوسارولي نصوص محادثة بين شخصين يقومان بمهمة إدراكية حسية مشتركة عبر إجراء حوالي مئة محاولة في التجربة. في كل محاولة، كان كل منهما يقوم بمهمة تمييز بصري صعبة ثم يناقشان معًا استجاباتهما الفردية للوصول إلى إجماع بينهما على استجابة مشتركة للمحفز البصري، وأحيانًا كانت استجاباتهما الفردية تتباين، ومن ثم كانت الاستجابة المشتركة تتطلب أن يغير أحدهما إجابته.

تخيل مثلًا أن تقوم بالتجربة الآتية مع صديق مقرب: ترى وميضًا خاطفًا للعديد من المحفزات البصرية، وعليك أن تُقرر أي من المحفزات كان شاذًا عن البقية، وتعبر عن تخمينك بالضغط على زر، ثم قد تكتشف أن استجابة صديقك كانت مختلفة، فيتعين عليكما عندئذ أن تقررا معًا أيكما كان على حق. لقد وجد فوسارولي أن بعض نصوص المحادثة لم تُظهر ارتباطًا كبيرًا في استخدام الشخصين لتعبيرات اليقين (فقد يستخدم أحدهما عبارات مثل «واثق» أو «غير متأكد إلى حد ما» أو «ملتبس تمامًا» بينما يستخدم الآخر عبارات مثل «لا أعرف» و «ربما»).

ففي هذه الفرق المكونة من شخصين، غالبًا لا تمثل الاستجابة المشتركة أي تحسن [في الإدراك الحسي] مقارنةً بإجابة الشخص الأفضل في الثنائي؛ ففي بعض الأحيان مثلًا يمكن للشخص شديد الدقة في الثنائي أن يتنازل لصالح الشخص الأقل دقة، وهكذا قد تكون إجابتهما المشتركة أسوأ من أداء الشخص شديد الدقة. ولكن فوسارولي وجد أنه عندما يبدي الثنائي تنسيقًا قويًا بينهما في تعبيراتهما عن اليقين، باستخدام نفس العبارات، فإن إجاباتهما المشتركة تتفوق على إجابة الشخص الأفضل فيهما.

ولب ما يقع في هذه التجارب هو أن الثنائي يطوران لغتهما المصغرة التي تسمح لهما بمعايرة دقيقة لمستوى ثقة بعضهما في إدراكهما الحسي لمحفز بصري معين. وهذا التنسيق اللغوي هو ما يجعل عقليهما يعملان كما لو كانا نظامًا واحدًا، ولكن بأداء أفضل من أداء أي من الدماغين منفردًا. يبدو أن عقلين أفضل من عقل واحد حقًا، خاصةً عندما يكونان متفقين على كيفية التحدث عما يرونه.

6
إن وجود هذه الارتباطات بين شخصين يعني أنك إذا كنت تعرف الإيماءات، وموجات الدماغ، وحركات العين، واختيارات الكلمات التي يقوم بها أحد المتحدثين في محادثة، فإنه يكون باستطاعتك أن تقدّر تقديرًا حسنًا معقولًا الإيماءات، وموجات الدماغ، وحركات العين، واختيارات الكلمات التي سيقوم بها المتحدث الآخر. ذلك لأن تلك المجموعة من الموجات الدماغية والسلوكيات (الصادرة عن الشخصين) تصير نظامًا واحدًا.

لذلك عندما تلتقي بأصدقائك وعائلتك مرة أخرى -أو ربما عندما تحادثهم عبر تطبيق زووم في ظل الوباء الحالي- تذكر أن المحادثة الحسنة ليست عبارة عن أفراد يتناوبون في إرسال رسائل كاملة لبعضهم بعضًا -فليس دور الأفراد أن يضيفوا الرسائل تباعًا إلى الحوار؛ فبئس المحادثة تلك- بل إن المحادثة الحسنة هي التي تضم أشخاصًا يشاركون آنيًا في إبداع مونولوج مشترك، أي كما لو كان تنسيقًا متبادلًا بين الأدمغة.

مايكل سبيفي أستاذ علم الإدراك في جامعة كاليفورنيا، ومؤلف كتاب «اتصالية العقل» (The Continuity of Mind) وكتاب «ماهيتك» (Who You Are)، الذي تم اقتباس هذه المقالة منه.

7


علم النفس (مقالات وأبحاث)
دليل سبينوزا
كه يلان محمد



التوصل إلى الحرية عمليةُ صعبة وشائكة، والانقلاب على القيم والأعراف السائدة مغامرةُ مُكلفة، كما أنَّ السير بعكس التيار التقليدي لا يتجرأُ عليه إلا من أوتي إدراكاً وبصيرة بضرورة الخروج من الأسيجة المُغلقة، ولا يكونُ ذلك إلا إيذاناً بنهاية الوصاية على العقل.
ويُعدُ الفيلسوف الهولندي سبينوزا رائداً في ثورته على التقييدات، التي تحرمُ الروح من فضيلة الحرية، لذا لا أستغراب من انضمام طيف كبير من الفلاسفة إلى ركبه، وحظوته الكبيرة لدى أصحاب العقول النيرة. فالشاعر الألماني غوته ما انفك يحملُ كتاب «الأخلاق» وهو من أكثر مؤلفات سبينوزا صعوبةً، فقد راسلَ أحدَ أصدقائه موضحاً السبب الكامن وراء هذا الاختيار «لكي أجعلَ برهنتي واضحةً وموجزةً، لم أجدْ بداً من عرضها عليكم في الصورة التي يستخدمها الهندسيون». وبدوره أشار فريدريك لونوار إلى ما حدا بسبينوزا لتأليف كتابه بطريقة هندسية، فبرأيه أنَّ الفيلسوف الهولندي كان يؤمنُ على غرار ديكارت بأنَّ بنية العالم رياضية، وأنَّ عرض مشكل ما وحلِّه يكون أكثر استيفاء بقدر ما يكون، في صيغة استدلال هندسي. بدوره وصف جيل دولوز سبينوزا بأنه مفكر مستقل، وقد أعلن حرباً على القيم.
فعلاً ما يلفتُ في شخصية سبينوزا هو رفضه التستر وراء الأقنعة، ولم يقبل بالعرض الذي قدمه رجال الدين في طائفته، وكان يقضي بالتكتم على أفكاره مقابلَ مبالغ مالية طائلة، وبذلك فضّل الفقر على الكذب على حد قوله، وأصبح منبوذا لدى أفراد طائفته، لاسيما بعد إصدار قرار الحِرمان بحقه، وقطع علاقته مع أخيه جبرائيل وأخته ربيكا، غادر محيطه الاجتماعي، وأقام في منزل أستاذه فان دن إن، الذي سيقتل لاحقاً في فرنسا. إذن فإنَّ مساعي سبينوزا لتقويض الأفكار التقليدية بشأن وهم التفوق الطائفي والشعوب المختارة، في عصر مطاردات ومحاكم التفتيش، تضفي أهمية لتجربة حياته وثورته على الأنساق التي تتغذى على الولاء للخرافة والعبودية. وبالتالي تستمدُ فلسفة سبينوزا قيمتها الكبيرة من طاقتها التفكيكية للخطابات المتعصبة، والخروج من نفق التأويلات المكرسة للمرويات الدينية.

الوباء الفكري

ومن المعلوم أنَّ وباء التعصب يطفوُ على مسرح التاريخ مغلفا بأردية الدين، أو القومية أو الطائفية وأياً كان الغطاء الذي يتخذه فإنَّ التعصب ارتداد عن القيم الإنسانية، ويخلفُ خراباً روحياً، وقد تكونُ الفلسفة العقلانية آلية لتعرية الخطابات المسكونة بالنزعة التدميرية، لذلك اختار الروائي الأمريكي إرفين د. يالوم الاشتغال على ظاهرة التعصب، انطلاقاً من معطيات فلسفية في روايته المعنونة بـ«مشكلة سبينوزا» إذ يتابعُ صاحب «عندما بكى نيتشه» رصد التعصب بوجهه الديني والقومي في آن واحد، فكانَ سبينوزا مستهدفاً من طائفته الدينية ومن الأيديولوجية النازية، وهذا ما يؤكدُ فرادته في النهوض الفلسفي ورؤيته المنفتحة. إذ كان مشروعه يقومُ على توطيد مفهوم الإنسانية، وتنحية الانتماءات الفرعية جانباً، حسبما تستشف ذلك من رواية د. يالوم، إذن تنتظمُ الحلقات السردية على مسلكين، الأول يتناولُ حياةَ سبينوزا وأفكاره، إضافة إلى الأحداث التي عاصرها من هجرة اليهود إلى هولندا، واستعادة ما حلَّ بأبناء طائفته في إسبانيا، وطردهم من بلد إلى آخر، حيث راجت شائعة في إنكلترا بأن اليهود يصنعون الخبز من دم الأطفال، وصدرت في إسبانيا قوانين الدم الإيبيرية، التي منعت تبوأ اليهود المتحولين دينيا مناصب مؤثرة ومن المفارقات الغريبة، أن توماس دي توركيمادا المحقق الأول في محاكم التفتيش، أقنع إيزابيلا بأن الوصمة اليهودية تسري في الدم حتى بعد اعتناق أتباعها لأديان أخرى. كان أول ضحايا العنف الديني لأنَّ شكوكا طافت حول جذوره اليهودية، وما انفك العنف يلاحق اليهود إلى أن استقلت أقاليم هولندا الشمالية، والتأم شتات اليهود على هذه الأرض. والغرضُ من الإبانة عن هذه الخلفية التاريخية، هو معرفة الأسباب وراء العنف المُضاد الذي طال المنشقين عن اليهود، وبالطبع كان سبينوزا من بين هؤلاء، ولم يعاقب بالإقصاء وحسب، بل طعنه أحد المتطرفين وكاد أن يودي بحياته.
كذلك دا كوستا، الذي أعلن التمرد على طائفته، وما أنْ شدهُ الحنين إلى حاضنته الاجتماعية حتى تم التنكيل به جسدياً ورمي به على مدخل الكنس وداسَ عليه زوار المعبد. هذا يعني أنَّ التشدد قد تفاقمَ جراءَ الهاجس من وجود أفكار مخالفة للعقيدة اليهودية. بموازاة ذلك يتابعُ الراوي كلي العلم حياةَ شخصية تفصلها الأزمنة عن عهد سبينوزا ولا يكونُ وجودها في سياق الرواية إلا للتأكيد على أنَّ التطرفَ ينشأُ من الأفكار قبل أن يتحول إلى حركةٍ سياسية، أو ظاهرة اجتماعية، فكان الفريد روزنبرغ قد تشربَ من منهل المفكر الإنكليزي هيوستن ستيوارت تشامبرلين صهر الموسيقي الألماني فاغنر، إذ كان مؤلفه «أسس القرن التاسع عشر» بمثابة تميمة لألفريد، ألهمه بنشر كتاب بعنوان «أسطورة القرن العشرين» ومن ثمَّ يجدُ في الزعيم النازي هتلر مثالاً

1
مناسباً لإسباغ الصورة الحية لأفكاره، حيثُ يتعرفُ على صاحب «كفاحي» من خلال ديتريش إيكارت الذي كان محرراً لصحيفة تعبر عن أفكار متطرفة. عليه فإنَّ السؤال الذي يفرض نفسه، هو ما علاقةُ مهندس المحرقة ألفريد روزنبرغ بسبينوزا؟

كذلك دا كوستا، الذي أعلن التمرد على طائفته، وما أنْ شدهُ الحنين إلى حاضنته الاجتماعية حتى تم التنكيل به جسدياً ورمي به على مدخل الكنس وداسَ عليه زوار المعبد.

الصدمة

تظهرُ بوادرُ التطرف لدى روزنبرغ في مرحلة مبكرة، عندما يلقى خطاباً مسكوناً ببذور أفكاره العنصرية، وهو طالب في مدرسة البوليتيكنيوم. وما يثير الريبة لدى إينشتاين أنَّ ألفريد يبدوُ مهتماً أكثر بالفلسفة والأعمال الكلاسيكية أكثر، حسب ما يفهمُ ذلك من ملفه، متسائلاً عن عدم اختياره الدراسة في الجمنازيوم؟ بناءَ على هذا الشعور بالاستغراب لدى كل من إينشتاين وهير شافر يدسُ المؤلفُ بأحجية سبينوزا في حياة ألفريد روزنبرغ، إذ يستجوبُه مدير المدرسة، راصداً آراءه عن اليهود، حيثُ ينفثُ كلام الطالب عن الكراهية الشديدة لهذا العرق الأمر الذي يدفع بالحوار إلى مستوى آخر، ويكون السؤال أكثر تحديداً إذ يستفسرُ هير شافير طالبه عن رأيه بشأن اليهود الذين لا يُنكر دورهم الإيجابي، ولعلَ من أبرزهم هير أبفيلباوم طبيب ألفريد منذ ولادته. وما كان من ألفريد إلا أن يقرَ بوجود اليهود الطيبين، لكن ذلك استثناء برأيه ولا ينقض صحة آرائه، ويدور جزء آخر من الحوار حول المسيح، مع الإشارة إلى ما يقوله تشامبرلين حول هذا الرمز، طبعاً يوافقُ ألفريد أباه الروحي في رأيه بأن المسيحَ رجل أخلاقي وشجاع، غير أنَّ تعاليمه قد تم تهويدها. ولا يكونُ التحولُ في هذا المفصل إلا مع تمرير سؤال عن قدوة ألفريد وما كان من الأخير إلا ويذكر غوته ومن ثمَّ يسمعُ من المقابل أنَّ مؤلف «فاوست» هو من أبرز المُعجبين بسبينوزا وبالطبع أنَّ هذا الموقف يضعُ روزنبرغ أمام تحدٍ، وانطلاقاً من ذلك تتوإلى حركة السرد متناوبةً بين ما يمرُ به سبينوزا وحدوث الشرخ بينه وبين أبناء طائفته من جهة، وتصاعد الفكر النازي من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يغطي السرد ارتحال سبينوزا بين المدن الهولندية، منفصلاً عن الحشود، ولم يكن مصدر معيشته سوى ما يكسبه من صقل العدسات. وما يضاعف من منسوب المتعة هو حركة السرد بين زمنين مختلفين، ولا ينفتحُ النصُ على التاريخ إلا بقدر ما يخدم خطابه، وبذلك يتحاشي المؤلف الوقوع في مطب الحشو وتراكمات الأحداث والشخصيات، إذ مع مضي السرد ينسحبُ عدد من الشخصيات، وينفردُ سبينوزا وصديقه فرانكو بالمساحة، وبذلك يكتسبُ العمل مواصفات الرواية الفكرية أكثر، إذ تتسعُ البيئة النصية للحوار حول ما يقع ضمن الاهتمامات الفلسفية، وما يجدرُ بالذكر أنَّ فلسفة سبينوزا مستمدةُ من تجاربه الذاتية، فهو يناقشُ موضوع العاطفة على ضوء طبيعة علاقته بكلارا التي ارتبطت بصديقه المقرب ديرك، فكان سبينوزا قد أدرك بأنَّه لا يمكن أن يصبحَ حراً إذا لم يتبعْ سبيل العقل، موضحاً أنَّ مهمته هي تحويل العقل إلى العاطفة، لأنَّ العاطفة لا تقهرها إلا عاطفة أقوى، وعلى غرار أبيقور، رأى سبينوزا أن الخوف من الموت هو ما يزيدُ من توتر الإنسان، ويعمق أزمته النفسية والعقلية، وقد راق له ما قاله فيلسوف الحديقة عن التناظر بين حالة عدم الكينونة قبل الولادة وحالة الكينونة بعد الموت.

التأمل

العنصر الأساسي في فلسفة سبينوزا هو التأمل في الحياة بصورتها الظاهرية ومن ثمَّ التنقيب عن العوامل المحركة وراء السلوكيات البشرية، وهذا ما يشيرُ إليه إرفين د. يالوم، من خلال مقطع حواري بين سبينوزا وأستاذه فان دن إندن، عندما يسأله الأخير عما يكتبه وهو داخل محله، فيردُ سبينوزا قائلا «ببساطة أكتب ما يجري خارج نافذة متجري» ما يعني أنَّ الفكر الفلسفي يضربُ بجذوره في الواقع الإنساني وهمومه النفسية، لذلك تقعُ على تقاطعات بين الفلسفة والطب النفسي ضمن الرواية، إذ يقولُ فريدريش وهو وجه آخر للروائي مخاطباً ألفريد «أحد الأشياء التي أحبها في الطب النفسي، هو بخلاف أي مجال آخر في الطب، فإنه يقترب كثيرا من الفلسفة» فعلاً أنَّ المؤلفَ يجوس في فلسفة سبينوزا بنفس عملي بعيداً عن التجرد، وما يتوخاه من ذلك هو ربط الأفكار بواقع الحياة، وفهم العقد النفسية التي قد تكلف البشرية عناءً وكارثةً، يشارُ إلى أنَّ الفلسفة حلت محل أريكة الطبيب النفسي، وما يضمهُ هذا النص الروائي في طياته هو بمثابة وصفة سبينوزية لفهم ظاهرة التعصب الديني، والتفوق الطائفي والانسداد اللاهوتي. لهذا لا يصحُ تجاهل براعة صاحب «العلاج بشوبنهاور» في تصميم منجزه الإبداعي وتطويع المعلومات التاريخية لبناء المنحى التحليلي في خطاب الرواية، ومن الطبيعي أن يتمَ تضفير النص، بمقتبسات من كتب سبينوزا، لاسيما كتاب «الأخلاق» و«رسالة في إصلاح العقل».

2
Forwarded from فريدريك نيتشه (*محمد)
نيتشه... فن تحويل اللغة اليومية إلى مستويات فنية غير مسبوقة
بنى علاقة مع القراء تتجاوز برودة مطالعة النص المكتوب
.
لندن: ندى حطيط



ذهب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 – 1900) إلى رفض المفاضلة بين العقل والغريزة، وتحدث عن تشابكهما. فالكلام عنده قد يكون طوعياً متعقلناً، أو تلقائياً غريزياً. فنحن ننطلق من وجهة نظر محددة لما نريد قوله، ثم يأخذ نظام اللغة وإجراءات الكلام الأمر من يدنا ويدير الحديث كسائق آلي، فيما يترك ذلك عقلنا متحرراً من ضغط الصياغة اللحظية ويدعه لإدارة أمور أخرى، وهي بالتأكيد ميزة عظيمة للعقل البشري.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن المعرفة الفلسفية التي يتم التعبير عنها من خلال الكلام قد تنتهي إلى ذلك المكان تماماً، أقرب للفعل الغريزي منه للتعقل. ولعل ضمانتنا الوحيدة لمنع انزلاقها نحو اللاطوعية هي في بناء مجال لغوي خاص يمكن من استفزاز العقل دون خلق لغة خاصة بديلة، وإلا انتهت الفلسفة إلى الانفصال نهائياً عن العالم الحي، وانعزلت في كوكبها الخاص تماماً كما يحدث الآن في أبراج الأكاديميات العاجية.
نيتشه رفض دائماً التعاطي بتلك المصطلحات المجردة التي يخترعها الفلاسفة ليقرأها أقرانهم وسعى بدلاً من ذاك إلى رفع سوية اللغة اليومية وصقلها وأوصلها في الممارسة الفلسفية إلى مستويات فنية غير مسبوقة. ولقد بقيت لغته في متناول الأغلبية رغم إمكان فهمها على عدة مستويات مختلفة بحسب ثقافة المتلقي. ونيتشه في ذلك قد جعل خياره الأسلوبي في الكتابة شكلاً من أشكال التفلسف بحد ذاته.
التشابك العضوي بين العقل والغريزة الذي يتحدث عنه نيتشه يسمح له وقتما يكتب بالتخلي عن الجدال والتظاهر والألعاب اللغوية ويفاجئنا بعميق الرؤى التي توسع إمكانيات المعرفة الفلسفية، وبالتالي زعزعة الأسس التقليدية للجدال والتظاهر. وبهذه الطريقة «تُخلق» الفلسفة بالمعنى الذي يستشعر نيتشه: فهي تفتح إمكانيات جديدة لفهم وتشكيل العالم وأيضاً معرفة ذاته، ولكنها مع ذلك لا تُخلق إلا من مادة الإمكانيات المتاحة في لحظة معينة بما فيها اللغة والمعارف التي قد يتم توسيعها في البحث الفلسفي، ولكن دائما ضمن ممرات محددة.
يميل نيتشه إلى ربط عضوي بين نشوء الوعي الإنساني وتطور اللغة، إذ إن كل وعي جديد بحاجة إلى لغة أكثر تعقيداً للتعبير عنه، كما أن استيعاب التعقيد المتزايد في بنية التكوينات اللغوية يتطلب بالضرورة مزيداً من الوعي. وهو لذلك يرى أن الوعي الفردي في واقعه مشتق أساساً من وعي جمعي وفق منظور القطيع، وبالتالي فإن كل وعي فردي إنما يتطور بدقة في إطار مدى خدمة ذلك الوعي للحياة المشتركة. وعليه فإن أي جهد مخلص يبذله أحدنا لفهم ذاته عبر وعيه الفردي سيأخذه حتماً إلى فضاء الوعي الجمعي - اللافردي - الأقرب إلى حالة وسطية لمجموع وعي (القطيع)، وهو فضاء مهما اتسع فإنه يفرض سقفاً لكل فكرة فردية، ويعيدها دائماً إلى حظيرة القطيع.
وإذا ترتب على هذا التصور من شيء، فإنه من الأولى أن ينطبق على المعرفة الفلسفية ذاتها التي وفق ما ذهب إليه نيتشه ستكون حكماً داخل فضاء (القطيع) المجتمعي. فكيف يتسق ذلك مع دور الفلسفة في استكشاف سماوات غير مطروقة في الفكر والعمل، وأين تقع «الثورات العلمية» – وفق تعبير توماس كوهين – التي تطيح بكل قيود على العقل في هذا السياق؟
يصف نيتشه الفلسفة بأنها وعكس المعارف البشرية الأخرى لا تسعى لاستعادة غير المألوف إلى مساحة المعلوم المعرف بحكم الخوف من المجهول الذي يوجه حاجتنا للبحث والمعرفة، بل تحديداً مساءلة ذلك المعلوم، وإظهار غرائبيته، وتباعده عنا، ووقوعه خارج نطاقنا. وهي لذلك – ودائماً وفق نيتشه – تجربة فردية شجاعة يعرض فيها الإنسان ذاته للخوف، ويتحدى شعوره الغريزي بالحاجة إلى الألفة والأمان، ويخاطر بفقدان الاتجاه جاعلاً من نفسه سيرة استكشاف لأجل بشرية جديدة ستجد دائماً بأنها تطوف على سطح بحر مفتوح غاضب، وأنها ينبغي أن تستمد القوة والإلهام من داخلها إن هي أرادت النجاة. الفلسفة هكذا تصبح قهر الخوف من مواجهة غير المألوف، الأمر الذي يستدعي اللغة والوعي والمعرفة معاً لأن يشرع كل منها بكسر سقوفه الزجاجية.
وفق هذه المجادلة، يبدو نيتشه وكأنه يُخاطر – كفيلسوف - بألا يفهمه غالب (القطيع)، أو على أفضل الأحوال، أن يُساء فهمه. وفي الواقع، فإنه ذكر في غير موضع من نصوصه أنه لاحظ ذلك كثيراً معتبراً إياه ثمناً لا بد من دفعه عند محاولة التحليق خارج سقف (القطيع)، وأن ذلك نوع من الميزة لا العيب في وسط يمارس العنف لتدجين اللغة وحصرها ضمن الأطر المتعارف عليها، وهو عنف يصفه نيتشه بأنه مقبول ومرحب به من قبل الأغلبية لأنه يمكنها من الشعور بالأمان والسيطرة على المصير، واضعاً في الوقت نفسه تلك القلة من الرواد الاستثنائيين في مربع صعوبة عبور نصوصهم ومحدودية جمهورهم.

1
Forwarded from فريدريك نيتشه (*محمد)
نيتشه، في مختلف أعماله كان واعياً بالكلية لتلك المسألة، وهو يريد عندما يكتب أن يختار، من خلال أسلوبه عند استخدام اللغة، جمهوره الذي يرغب بالتواصل معه، وفي ذات الوقت أن يبني جدراناً عازلة تمنع كل الآخرين من النفاذ إلى أفكاره. يبدو نيتشه بذلك وكأنه يمارس عنفاً مضاداً في وجه عنف اللغة، لكنه عنف معقلن، يخدم كأداة لامتلاك ثبات الجأش قبالة هاوية المجهول وغير المألوف.
يتحدث نيتشه عما يسميه منطقاً متوارياً يسكن أسلوب الكتابة ويعتمده عند تدوين نصوصه، ويمنحه الوسع لبناء علاقة مع القراء تتجاوز برودة عملية مطالعة النص المكتوب إلى ما يشبه الخطاب المباشر، فكأنهم يستمعون إليه أكثر مما هم يقرأونه. هؤلاء المستمعون وبحكم قدرتهم على ترك انحيازاتهم الشخصية جانبا يلحظون لدى ممارسة طقوس التعامل مع النصوص نوعاً من موسيقى داخلية ذات إيقاع ونبرة مميزين، يمكن من خلالها التقاط معالم فردانية الكاتب وديدنه في صوغ أفكاره.
هذا المنطق المتواري داخل أسلوب الكتابة يتطلب التقاطه، وفق نيتشه، أذناً مرهفة وخبيرة في آن، قادرة على مواجهة حقائق مفاجئة وصادمة لا يحتاج طرحها إلى طويل تقديم، ويكون تأثيرها على المتلقين صريحاً في برودته، وربما يكون متسبباً بالهلع لهم لدرجة أنهم قد لا يتحملون وقعها إلا لفترة وجيزة. هذه الحقائق، تتسبب لغير أصحاب الآذان المرهفة بفقدان للأمان، فلا يطيقون سماعها، «إذ لم تمنحهم الحياة من عطاياها سوى السذاجة».
نصوص نيتشه بهذا المعنى لا تسعى إلى تخريب شعور الأفراد بالأمان، بقدر ما تهدف إلى تنبيهم إلى حقائق العالم القاسية، وإلهامهم لفعل ما يمكنهم فعله تجاهها. وهي لذلك محاطة بجدر فاصلة عن الضعفاء والأبرياء والسذج وتخاطب جمهوراً محدداً لديه مزاج للاستقلال الفكري، والمرونة لتغيير المواقف، وعنده رغبة في التجوال عبر آفاق الحياة.
بالطبع، فإنه من المستحيل عملياً الوصول إلى فهم متطابق بين ما قصد إليه الكاتب وما التقطه القارئ، وخصوصا أحداً مثل نيتشه بكل تعقيد أفكاره وفجاجتها، وكل ما يتأمله المرء هنا هو التقاط ذبذبات الموسيقى الداخلية للنص و(الرقص) على أنغامها. وبعكس اللغة المحملة بتعدد المعاني والتأويلات الممكنة، فإن الرقص، عندما تعجز اللغة، أصدق تعبيراً وأبلغ، وأقدر على نقل التدرجات والتلوينات الدقيقة للفكر المجرد. نيتشه نفسه كان يقول عن نفسه إنه «مقيم في تلك التنويعات على الأفكار».

2

@Nietzsche1
ميشيل فوكو بين إضاءة الهوامش ورهانات الحقيقة.
أوس حسن




لعل الحديث عن عصر ما بعد الحداثة فيه الكثير من التشابك والغموض لأولئك الذين اعتادوا أن يروا الأشياء بمنطقها الصوري الثابت، أو يُخضعوا جميع الإشكالات للعقل ومركزيته في الوجود، حيث التناقضات تبقى في مسارها متنافرة، دون أن تلتقي، بينما تشكل التشابهات نوعا من الكتلة المعرفية لفهم الأشياء أو الظواهر.
إن المتاهة الحاضرة في لعبة فوكو هي محاولة دائمة للإفلات من قبضة العقل الهيغلي، والقبض على رهانات الحقيقة المبعثرة بين الهوامش وخلف الكواليس.
إن ما يميز فوكو هو حفرياته النادرة والغريبة في حقول المعرفة، وتحليله لمركبات السلطة وأنساقها عن طريق الخطاب السائد في كل مرحلة من مراحل التاريخ، فإذا كان فوكو هو وريث نيتشه الحقيقي في مفهوم الجنالوجيا، التي تفسر كيفية نشوء المعرفة، وإعادة تقييم لكل القيم، إلا أن الأركيولوجيا عند فوكو هي الغوص في أعماق معارفنا، والنبش في وثائقها من أجل الكشف عن حقائق لا مفكر فيها، أو مهمشة في الحقول المعرفية، أو عن طبقة سحيقة في اللاوعي الإنساني، أدت إلى بزوغ ظاهرة معينة، أو اكتشاف علمي ساعد على الانتقال من مرحلة معرفية مغلقة إلى مرحلة معرفية أخرى أكثر اتساعا وتطورا من سابقتها، وعلى أساسها تبنى حقائق جديدة. حفريات فوكو ليست مجرد سرد لتاريخ الأفكار، وليست تدوينا للتاريخ على طريقة المؤرخين والحكائين، إنها اللحظات الأكثر إشراقا في عصرنا لتأسيس أنطولوجيا للحاضر.

«حفريات المعرفة»

يعد كتاب «حفريات المعرفة» الذي ألفه ميشيل فوكو عام 1969 من أهم الكتب التي اكتشفت لنا الأنظمة المعرفية، وسياقات الفكر في كل حقبة من حقب التاريخ، كما هو معروف فإن التاريخ وفقا للمنظرين والمؤرخين هو عبارة عن امتداد أفقي، وسلسلة متصلة من الحلقات، لكن التاريخ عند فوكو هو عبارة عن تصدعات وانشقاقات، وقطيعة بين حقبة وأخرى، وهذا ما ساعد فوكو في الحفر المعرفي في كل مرحلة من هذه المراحل، عن طريق الكشف عن الشبكات والاستراتيجيات التي تشكل نظاما داخل الظاهرة التاريخية، من خلال دراسة اشتراطات وجودها في تلك المرحلة وتحليل تشكيلاتها الخطابية السائدة. فالحفريات تهدف بالأساس إلى اكتشاف الأنساق الأساسية في ثقافة ما، من خلال البنى الخطابية وقوة حضورها في المجتمع العام.
يعتمد فوكو في حفرياته وتحليله للأنظمة على مفهوم الخطاب، ويقصد بالخطاب مجموعة الممارسات التي يقوم بها الإنسان في سياق وضع تاريخي معين من أجل معارف تتعلق بالذات والسلطة والمعرفة، أو باختصار هو نمط الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية السائدة والمسيطرة في فترة من الفترات التاريخية.
يتردد مفهوم السلطة كثيرا في مؤلفات فوكو، ويرى أن السلطة هي التي تنتج الخطاب والمعرفة، فهو لا يقصد بالسلطة السلطة السياسية فقط، وإنما يذهب في تعريفه لمفهوم السلطة إلى أبعد من ذلك، لتشمل المؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية، والسجون والمستشفيات، التي اعتبرها مراكز مهيمنة لإنتاج الخطاب. حتى الخطاب المضاد للسلطة عند فوكو هو سلطة أخرى تعتمد على أنساق وثوابت يمنع الخروج عليها. إذن فلا يمكن تحليل أي نظام معرفي في فترة معينة من الزمن إلا بتفكيك الخطاب ودلالته، بوصفه مجموعة من الرموز التي ينفتح عليها العالم.
ما هي الاستراتيجيات التي استخدمها فوكو في تفكيك الأنظمة المعرفية للحقب الزمنية؟ وما نوع الخطابات التي لجأ إليها في القطائع المعرفية بين فترة وأخرى؟

1
«الكلمات والأشياء»

لعل كتاب «الكلمات والأشياء» الذي ألفه فوكو عام 1966 سيجيب على جزء من تساؤلاتنا وحيرتنا أمام فيلسوفنا المشاكس، حيث يقسم الأنظمة المعرفية ويفصلها عن بعض كدوائر مغلقة، وهذه الأنظمة هي عصر النهضة، والعصر الكلاسيكي، والعصر الحديث، ويطلق على النظام المعرفي لكل حقبة مفهوم (الأبستيم) والأبستيم هو عبارة عن نظام معرفي مغلق غير متصل، تتبين من خلاله طريقة الحياة وشروط المعرفة، ويضيء الرموز التي تشكل جوهر لغتها بكل ما في هذه اللغة من تحولات وتقنيات وأسلوب للممارسة الحياتية. فالابستيم هو مبدأ مستقل عن الخطاب أو الوضع الذي تتخذه المعرفة في حقبة محددة. يدرس كتاب «الكلمات والأشياء» نشوء المعارف الإنسانية انطلاقا من الشبكة المفهومية للمعارف، وسيتم من خلال ثلاثة مجالات.. اللغة، البيولوجياوعلم الاقتصاد. ففي عصر النهضة كان أبستيم التشابه هو السائد في مجال الفكر والمعرفة، فهي التي تحدد تأويل النصوص، وتسمح بمعرفة الأشياء، وتقوم بعملية التصوير والتمثيل باعتبارها تكرارا دائما ومستمرا، وكانت اللغة في ذلك العصر تستخدم فقط لوصف الأشياء، ولم تكن بذلك الثراء اللفظي الذي يؤول وينتج المفاهيم.
وأبستيمية التشابه تعتمد على أربع صيغ وهي، التوافق والمنافسة والقياس والتعاطف
فالعالم هو التوافق الكلي بين الأشياء، وهناك تشابه هائل بين العلاقات وفي صيغ الوجود والتعبير عنه. أما في العصر الكلاسيكي فلم تعد المعرفة تتحرك في فضاء التشابه بل مع مجيء رائد العقلانية ديكارت، أصبح هناك مجال للخطأ وحلت التضادات مكان التشابهات وأصبح هناك مجال للتصنيف، وتحديد موقع كل عنصر من عناصر المجموعة وعلاقته بالعناصر الأخرى. ومع تطور علم الأحياء والاقتصاد لم تعد اللغة تحمل سمة الأشياء وتوقيعها، بل أصبحت أداة للتصرف في الأشياء، فالأبستمية في العصر الكلاسيكي تحولت من نظام للفكر إلى نظام للوجود.

لم يهمل فوكو الذات الإنسانية ومصيرها في هذا العالم، بل دعا إلى العودة للتأمل الباطني العميق لمعرفة الذات، والاهتمام بصحة الجسد من خلال التمارين والتغذية وساعات النوم، كما أكد على ضرورة التخلص من القيود الاجتماعية والأسرية والفكرية والمجاهرة بقول الحقيقة، والتصرف بعفوية خارج هذه القيود

أما العصر الحديث فيصفه فوكو بأبستيمية اللإنسان، ففي عصر النهضة وعصر الكلاسيكي وما حدث بينهما من قطيعة معرفية، لم تدع مجالاً للإنسان أن يفكر بالإنسان، ولم يكن هناك أي وعي أبستمولوجي بالإنسان، نجد أن العقلانية في العصر الكلاسيكي كانت مجرد آلة جامدة، استخدمت الإنسان كأداة للمعرفة والفكر، نازعة عنه كل روح للتأمل الباطني في كينونته ومصيره، لكن مع تطور العلوم والاقتصاد واتساع اللغة في ميادين العمل والسياسة، نجد أن الإنسان يقف وحيدا أمام معضلته الوجودية حائرا أمام السؤال المصيري والمتكرر، من أنا؟
تاريخ الإقصاءات/ الجنون/ الجنس/ العقوبة
تكمن أهمية ميشيل فوكو في الفلسفة المعاصرة في تسليطه الضوء على أكثر المناطق عتمة وتهميشا وإقصاء في تاريخنا المعرفي، فكتبه «تاريخ الجنون» و»تاريخ الجنسانية» بأجزائه الثلاثة و»المراقبة والمعاقبة» هي عبارة عن مجموعات من الحفريات لاستخراج ظواهر المسكوت عنه، كحقائق دامغة تلغي المراكز الحيوية في التاريخ والمعرفة،

2
ففوكو هو فيلسوف الهوامش بامتياز. في كتابه «تاريخ الجنون» في العصر الكلاسيكي يتتبع فوكو ظاهرة الجنون في العصر الوسيط، عندما كان المجنون تحيط به هالة من القدسية والبركة، إلى العصر الكلاسيكي الذي أصبح فيه الجنون جرما وخطيئة، فكانت هناك دور عزل كبيرة للمجانين ولم يشمل ذلك المجانين فقط، بل تعداه إلى أكثر من ذلك، فحتى المرضى والخارجين عن القانون والمشردين والمتسولين تم عزلهم في تلك المحاجر، ومورست بحقهم أفعال لا إنسانية، لكن مع تطور العلم والطب النفسي في العصر الحديث، تم تشخيص الجنون كمرض عقلي يتوجب علاجه من قبل مختص أو معالج نفسي. يركز فوكو كثيرا على الجسد بوصفه أداة بيد السلطة، ويتجلى ذلك في كتابه «المراقبة والمعاقبة» و»تاريخ الجنسانية» فميلاد السجن والعقوبة والقمع الجنسي هي إكراهات تمارس على الجسد لإخضاعه والسيطرة عليه كليا، حتى المريض والمنهمك في الأعمال الشاقة يفقد السيطرة على جسده، وينقاد للسلطة وخطابها العام، فالسلطة تمارس عنفها الناعم دائما لإخضاع الجسد بوصفه مركز النشاط والحياة.
من أهم الآراء التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الفكرية، هي نظرة فوكو إلى الفرد كفرد، حيث يلغي فوكو مركزية الإنسان تماما عن هذا العالم، وحتى في ما يخص الاكتشافات العلمية وعناصر الإبداع الفنية الأخرى، حيث يرى فوكو أن كل القوانين والمعرفة العلمية كانت كامنة في الأشياء، ولا يعود الفضل لأحد في اكتشافها، لكن تاريخا من الإكراهات والعنف والمحو الذي تمارسه السلطة وخطابتها، أخرت ظهور هذه الاكتشافات العلمية والنظريات، لكنه كان يدرس هذه الظواهر لحظة تجليها وخروجها من أعماق اللاوعي الإنساني إلى الوعي عند هؤلاء الأفراد.
لم يهمل فوكو الذات الإنسانية ومصيرها في هذا العالم، بل دعا إلى العودة للتأمل الباطني العميق لمعرفة الذات، والاهتمام بصحة الجسد من خلال التمارين والتغذية وساعات النوم، كما أكد على ضرورة التخلص من القيود الاجتماعية والأسرية والفكرية والمجاهرة بقول الحقيقة، والتصرف بعفوية خارج هذه القيود. فيرى فوكو أن كثيرا من الأمراض الاجتماعية تكمن في عدم التعبير عن الرغبات الدينوسية وإظهارها لسطح الوعي.
تطابقت حياة فوكو كثيرا مع فلسفته وآرائه، بل إن معظم هذه التجارب نبعت من تجاربه الشخصية، كالجنون ومحاولاته للانتحار في بداية شبابه، عندما أودع المصحة العقلية، كذلك زيارته للغرف المظلمة التي يمارس فيها الجنس الجماعي واللواط، إضافة لولعه الكبير بالسادية والتعذيب الجنسي.
توفي ميشيل فوكو عام 1984 متأثرا بإصابته بمرض الأيدز، بعد أن ترك لنا تورطا كبيرا في اللعبة الفلسفية ونسقا جديدا في التفكير والمغامرة.

3

الفيلسوف الجديد
"الموت السعيد".. عدم ارتهان الحياة للخوف
كه يلان محمد


بحث عن السعادة في اليقظات الصباحية حتى لو تكرر هذا البحث بصورته السيزيفية فعليك أن لا تتوقف.


مفهوم البساطةثنائية الموت والحياة
الموتَ برأي كامو لا يُعيقُ ممارسة الحياة بالعنفوان والرغبة الملتهبة


تعقيدات الحياة لم تُثنِ الإنسان عن البحث والتجريب لأنَّه محكوم بالحياة


سؤال السعادة هو من بين الموضوعات الأساسية التي شغلت المباحث والأطروحات الفلسفية، إذ احتل الموضوع حيزاً واسعاً في الاشتغالات الفكرية، كما أدلت الأديان بدلوها فيه. وتفتح مسألة السعادة الباب لموضوع آخر وهو محدودية حياة الإنسان، إضافة إلى إدراك هذا الكائن لجملة من الشروط التي تحد من حريته ورغباته في الحياة، غير أنَّ هذه التعقيدات لم تُثنِ الإنسان عن البحث والتجريب لأنَّه محكوم بالحياة، على حد قول البير كامو وهو يتوقف في روايته «الموت السعيد» عند ثنائية الموت والحياة، وما يُبررُ حالة السعادة واليأس لدى الإنسان.
كما يقدم رؤيته حول ضرورة الاندماج في الحياة والتناغم مع إيقاعات الزمن بدلاً من الاقتناع بتصورات معينة حول السعادة. كأن بصاحب «الغريب» يقتفي أثر نيتشه، فالأخير رأى أن ما أضر بالإنسان هو تضحيته بالحياة من أجل مفاهيم مُجَرَدةَ. هنا يحاول كامو معالجة مسألة السعادة بربطها مع مفهوم البساطة وعدم التعقيد. كما أنَّ الموتَ برأي كامو لا يُعيقُ ممارسة الحياة بالعنفوان والرغبة الملتهبة.

الرسالة التي أراد الكاتب أن يوصلها هي أن الموت لا يبرر الهروب من الحياة


الفيلسوف الروائي
بخلاف كل الفلاسفة، آثر كامو الابتعاد عن صوغ أفكاره وتصوراته في قوالب نظرية وفلسفية بل بثَّ فلسفته في حنايا أعماله الروائية، وهو يقول إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فأكتب الروايات. ومن ثمة يرسمُ صاحب «الملكوت والمنفى» الحياة كوحدة مترابطة في أعماله. كما تجد ذلك في «الموت السعيد» حيثُ لا تنفصِلُ حياة الإنسان عن دورة الطبيعة.
ويصورُ الكاتب بطل روايته باتريس في طقوس مختلفة وردود أفعاله لما يعيش فيه من أوضاع مُتباينة. يشتغل باتريس موظفاً في غرفة التجارة يقضي أوقات فراغه بالمقاهي ومشاهدة الأفلام السينمائية، لا يوجد فرق كبير بين بطل الغريب وبطل «الموت السعيد» إضافة إلى التشابه في الاسم فإن تصرفاتهما مُتقاربة. ميرسو باتريس عبثي أيضاً مثل مرسو في رواية "الغريب" كما يتورط الاثنان في جريمة القتل. ويعيش كل منهما وحيداً بعد رحيل الأُم. وبيوم واحد عقب موت الأم يعلق بياتريس إعلاناً لإيجار جزء من شقته غير أنَّ الراوي يَنقلُ لك صورة أخرى لباتريس مغايرة لسلوكه العبثي، إذ يُشخص ما يعتمل من الشعور بالفراغ واختلال في الحياة اليومية لدى باتريس إذ يقارنُ بين حالة الفقر عندما يعيشها مع أمه وحالة الفقر بعد غياب الأم. في الأولى كانت للفقر نكهة عذوبة أما في الثانية فيصبح الفقر أشدُ بؤساً كأنه ينفرد بفريسته.
هنا يستعيد الراوي تفاصيل الحياة اليومية ويكشف ما يضفيه وجود الأم من الحميمية إلى أشياء بسيطة. يفتتح الكاتبُ العمل بحادث مقتل زغرو على يد مرسو من دون أن يتم الكشف عن ملابسات هذا الأمر. زد على ذلك، فإن الظروف والخلفية التي تجمع الاثنين زغرو ومرسو تظل مجهولةً وتتخلل أحداثا أخرى في بناء الرواية ويتعرف المتلقي على شخصيات جديدة إلى أن تظهر مارت وهي صديقة مرسو.

1
2025/07/09 15:48:42
Back to Top
HTML Embed Code: