لذلك من الطبيعي أن أصبحت "المنطقية الشاملة" -Panlogism (أي الكون ككل ما هو إلا تجسيد للمطلق)-الهيغيلية هدفاً لنقد النظريات اللاعقلانية التي كانت تهدف الى انقاذ "الارادة" و"الحياة" من قيود البُنى المنطقية الفولاذية.
لكن هذه "المنطقية الشاملة" نفسها، استدعت الى الوجود فلسفة فويرباخ عن الانسان كرد فعل على "دين الفكر" الهيغيلي.
كانت أعماله النقدية الأولى موجهة ضد المفهمة الهيغيلية للواقع والوجود. تمرّد فويرباخ ضد مُطابقة المفهوم والواقع، والوجود و"الحتمية". يكتب: "انه ليس عدماً، بل ما هو نقيض الوجود هو وجود محسوس مُدرَك حسياً، كما يفهمه المنطق"(6). بالنسبة الى فويرباخ، فان التناقض بين الوجود على هذا النحو، والوجود كما هو موجود في (فينومينولوجيا) هيغل، أن الفينومينولوجيا تنطلق ليس من الوجود وليس من "الأصالة الحسية"، بل بفكرة أهمية الأصالة الحسية للوعي. كان فويرباخ مُحقاً تماماً عندما قال بأن هيغل يعتبر الوجود مُجرّد واقع "نظري"، وبالتالي حتى الفينومينولوجيا هي نوع من "المنطق الفينومينولوجي"(7). انه يقترح على جميع الهيغيليين أن يضعوا في اعتبارهم أن الفكر، عموماً، هو خاصية للانسان، بحيث أنه لا يُمكن بأي حال اختزال الوجود الى مُجرّد فكر.
بتعريفه الوجود على أنه طبيعة، بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، باعتباره عالم الأشياء الطبيعية الحقيقي، يفهم فويرباخ الانسان على أنه أحد هذه الأشياء الطبيعية. بالاضافة الى ذلك، بالنسبة الى قدرة الانسان على الادراك الحسي لا تقتصر على تخيّل العالم في ذهنه وحسب، بل انها تُمثل خاصية مُميزة للجنس البشري، وخط يفصله ويُحدده ككائن فردي محدود.
ولكن، فان القدرة على الادراك الحسي لا تُفرّق الانسان عن الكائنات الأُخرى، بل توحّده معها. في المشاعر، ولا سيما في مثل مشاعرٍ كالحب، لا يكون الوجود هدفاً للكفاح وحسب، بل هو مُقدمة موضوعية للوجود الانساني. في هذا الاتحاد للانسان مع العالم بأسره، لا يظهر الوجود كخاصية مُحددة منطقياً، ولكن كاكتمال للحياة ومصدر لولادة كل جديد. لهذا السبب بالتحديد، "الطبيعة هي مبدأ مؤكّد، وهي المبدأ الحقيقي للفلسفة"(8).
يعتقد فويرباخ أن الفكر ليس مُقدمة كافية للفلسفة، تماماً كما أن الفلسفة ليست مُجرد تخطيطية ذهنية "منطقية" صرف. الانسان الحي هو الشخص الذي يتفلسف، بحيث تنطوي العملية الحقيقية للحياة دائماً على منظور تأملي. وبالتالي، ليس الفكر فحسب، بل جوهر الانسان بأكمله هو المقدمة الضرورية لكل التفلسف: لأن "الرؤية هي التفكير" و"وأعضاء الحس"، بالمثل، هي "أعضاء الفلسفة"(9).
ومع ذلك، بعد هيغل، لم يعد من المُمكن مُجرّد وضع التوصيف المفاهيمي الكُلّي للوجود والادراك جانباً. تفترض عملية الادراك بالضرورة الأهمية الموضوعية للشامل أو الكُلّي، وحتى جوهرية الشمولية أو الكُلّية في العالم. مُجرّد الانطلاق من هذا يعني العودة الى هيغل. لكن فويرباخ لم يعد قادراً على افتراض مبدأ حقيقة المعرفة في الشامل أو الكُلّي نفسه. أنه يود أن يُفسر الشامل أو الكُلّي على أنه سمة من سمات الكائن الطبيعي.
اذا كان الوجود الحقيقي هو التنوع التجريبي للموجودات والكيانات وللأشياء المحدودة التي تُواجه تأملنا الحسي، فان الشامل أو الكُلّي في الطبيعة-عند تمظهر العالم للانسان- لا يظهر كمُعطىً مُباشر بل كنتيجة لنظرة الى العالم يتميز بها الانسان. ولكن اذا تمت الاشارة الى هذه النظرة الانسانية الى العالم على أنها عقلانية، فان السؤال الذي يطرح نفسه مرةً أُخرى حول ما هي الأسس الموضوعية الموثوقة لعقلانية الانسان كذات؟
بقدر ما تكون دراسة الطبيعة من خلال المفاهيم هو نشاط العقل البشري، اذاً فان اثبات حقيقة هذا النشاط وتطابقه مع طبيعة الأشياء، يجب، حسب فويرباخ، أن تبدأ بتلك العلاقة التي لا يتصرف الانسان فيها كمجرد كائن عقلاني، بل ككائن طبيعي. بعبارةٍ أُخرى "يجب على الفيلسوف أن يُدرج في تكوين الفلسفة نفسها ذلك الجانب من الطائن الانساني الذي لا ينخرط في الفلسفة..."(10). هذا الجانب، هو الشيء الطبيعي الذي يُميّز الانسان، انه جسديته، حسيته. "على عكس الأنا المنفصلة، يُمثل الجسد العالم الموضوعي. وبفضل الجسد، لم تعد الأنا هي أنا، بل ذاتاً"(11). انه بسبب الجسد بالتحديد، كجزءٍ من العالم الملموس، وكأحد أشياءه، يكون لدى الانسان القدرة-الادراك الحسي- التي تجعله ذاتاً في الادراك. بالنسبة للانسان، يظهر نشاط الأشياء في الادراك الحسي. ان الادراك الحسي بالتحديد، هو شكل وجود العالم الموضوعي في الادراك الانساني.
ومع ذلك، فان هذه "الحسية" لا تُشبه اطلاقاً حسية القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي كانت تعتبر المفاهيم الانسانية مجموعة عشوائية من الأحاسيس. بالنسبة الى فويرباخ، فان "الادراك الحسي" يعني قبل كل شيء، كمالية الحياة والتجربة المُتضمنة، لأن الانسان مندمج في العالم ليس بسبب العقل وحده بل بالوجود كله كذلك.
2
لكن هذه "المنطقية الشاملة" نفسها، استدعت الى الوجود فلسفة فويرباخ عن الانسان كرد فعل على "دين الفكر" الهيغيلي.
كانت أعماله النقدية الأولى موجهة ضد المفهمة الهيغيلية للواقع والوجود. تمرّد فويرباخ ضد مُطابقة المفهوم والواقع، والوجود و"الحتمية". يكتب: "انه ليس عدماً، بل ما هو نقيض الوجود هو وجود محسوس مُدرَك حسياً، كما يفهمه المنطق"(6). بالنسبة الى فويرباخ، فان التناقض بين الوجود على هذا النحو، والوجود كما هو موجود في (فينومينولوجيا) هيغل، أن الفينومينولوجيا تنطلق ليس من الوجود وليس من "الأصالة الحسية"، بل بفكرة أهمية الأصالة الحسية للوعي. كان فويرباخ مُحقاً تماماً عندما قال بأن هيغل يعتبر الوجود مُجرّد واقع "نظري"، وبالتالي حتى الفينومينولوجيا هي نوع من "المنطق الفينومينولوجي"(7). انه يقترح على جميع الهيغيليين أن يضعوا في اعتبارهم أن الفكر، عموماً، هو خاصية للانسان، بحيث أنه لا يُمكن بأي حال اختزال الوجود الى مُجرّد فكر.
بتعريفه الوجود على أنه طبيعة، بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، باعتباره عالم الأشياء الطبيعية الحقيقي، يفهم فويرباخ الانسان على أنه أحد هذه الأشياء الطبيعية. بالاضافة الى ذلك، بالنسبة الى قدرة الانسان على الادراك الحسي لا تقتصر على تخيّل العالم في ذهنه وحسب، بل انها تُمثل خاصية مُميزة للجنس البشري، وخط يفصله ويُحدده ككائن فردي محدود.
ولكن، فان القدرة على الادراك الحسي لا تُفرّق الانسان عن الكائنات الأُخرى، بل توحّده معها. في المشاعر، ولا سيما في مثل مشاعرٍ كالحب، لا يكون الوجود هدفاً للكفاح وحسب، بل هو مُقدمة موضوعية للوجود الانساني. في هذا الاتحاد للانسان مع العالم بأسره، لا يظهر الوجود كخاصية مُحددة منطقياً، ولكن كاكتمال للحياة ومصدر لولادة كل جديد. لهذا السبب بالتحديد، "الطبيعة هي مبدأ مؤكّد، وهي المبدأ الحقيقي للفلسفة"(8).
يعتقد فويرباخ أن الفكر ليس مُقدمة كافية للفلسفة، تماماً كما أن الفلسفة ليست مُجرد تخطيطية ذهنية "منطقية" صرف. الانسان الحي هو الشخص الذي يتفلسف، بحيث تنطوي العملية الحقيقية للحياة دائماً على منظور تأملي. وبالتالي، ليس الفكر فحسب، بل جوهر الانسان بأكمله هو المقدمة الضرورية لكل التفلسف: لأن "الرؤية هي التفكير" و"وأعضاء الحس"، بالمثل، هي "أعضاء الفلسفة"(9).
ومع ذلك، بعد هيغل، لم يعد من المُمكن مُجرّد وضع التوصيف المفاهيمي الكُلّي للوجود والادراك جانباً. تفترض عملية الادراك بالضرورة الأهمية الموضوعية للشامل أو الكُلّي، وحتى جوهرية الشمولية أو الكُلّية في العالم. مُجرّد الانطلاق من هذا يعني العودة الى هيغل. لكن فويرباخ لم يعد قادراً على افتراض مبدأ حقيقة المعرفة في الشامل أو الكُلّي نفسه. أنه يود أن يُفسر الشامل أو الكُلّي على أنه سمة من سمات الكائن الطبيعي.
اذا كان الوجود الحقيقي هو التنوع التجريبي للموجودات والكيانات وللأشياء المحدودة التي تُواجه تأملنا الحسي، فان الشامل أو الكُلّي في الطبيعة-عند تمظهر العالم للانسان- لا يظهر كمُعطىً مُباشر بل كنتيجة لنظرة الى العالم يتميز بها الانسان. ولكن اذا تمت الاشارة الى هذه النظرة الانسانية الى العالم على أنها عقلانية، فان السؤال الذي يطرح نفسه مرةً أُخرى حول ما هي الأسس الموضوعية الموثوقة لعقلانية الانسان كذات؟
بقدر ما تكون دراسة الطبيعة من خلال المفاهيم هو نشاط العقل البشري، اذاً فان اثبات حقيقة هذا النشاط وتطابقه مع طبيعة الأشياء، يجب، حسب فويرباخ، أن تبدأ بتلك العلاقة التي لا يتصرف الانسان فيها كمجرد كائن عقلاني، بل ككائن طبيعي. بعبارةٍ أُخرى "يجب على الفيلسوف أن يُدرج في تكوين الفلسفة نفسها ذلك الجانب من الطائن الانساني الذي لا ينخرط في الفلسفة..."(10). هذا الجانب، هو الشيء الطبيعي الذي يُميّز الانسان، انه جسديته، حسيته. "على عكس الأنا المنفصلة، يُمثل الجسد العالم الموضوعي. وبفضل الجسد، لم تعد الأنا هي أنا، بل ذاتاً"(11). انه بسبب الجسد بالتحديد، كجزءٍ من العالم الملموس، وكأحد أشياءه، يكون لدى الانسان القدرة-الادراك الحسي- التي تجعله ذاتاً في الادراك. بالنسبة للانسان، يظهر نشاط الأشياء في الادراك الحسي. ان الادراك الحسي بالتحديد، هو شكل وجود العالم الموضوعي في الادراك الانساني.
ومع ذلك، فان هذه "الحسية" لا تُشبه اطلاقاً حسية القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي كانت تعتبر المفاهيم الانسانية مجموعة عشوائية من الأحاسيس. بالنسبة الى فويرباخ، فان "الادراك الحسي" يعني قبل كل شيء، كمالية الحياة والتجربة المُتضمنة، لأن الانسان مندمج في العالم ليس بسبب العقل وحده بل بالوجود كله كذلك.
2
يتكشّف وجود الانسان في عالم الزمان والمكان بشكلٍ أصيل على وجه التحديد بسبب الادراك الحسي، والذي يظهر أيضاً كوسيلة للتوجه بالعلاقة مع الشامل أو الكُلّي. بالاضافة الى ذلك، فان الادراك الحسي هو تجسيد موضوعي للعالم كحقيقة موجودة في الزمان والمكان(12). من الواضح هنا أن فويرباخ يتفق مع التقليد العقلاني، الذي يعتبر المشاعر مصدراً للأخطاء. بالنسبة الى فويرباخ فان الادراك الحسي ليس شيئاً مُعيقاً للفرد المُدرِك الذي يقف أمام عالم مُجسّد يُمكن للحواس أن تُدركه، بل ميزة له.
أسدى لنا فويرباخ، بلا شك خدمةً، باعتباره أن الادراك الانساني الحسي تعبيراً ضرورياً عن الطبيعة الشاملة والعالمية للانسان. يكتب: "حتى الحواس الدُنيا، مثل الشم والذوق- ارتقت في الانسان الى مستوى الأنشطة الروحية والعلمية"(13). يتضمن هذا بالفعل، "حدساً مُسبقاً" لما سيطرحه ماركس مُستقبلاً أن المشاعر الانسانية هي "بُنىً نظرية". والحقيقة أن فويرباخ هو الذي ركّز انتباه ماركس على الظرف الذي مفاده أن كل مشاعر الانسان وأعضاءه "مُثقفة"، أي تختلف بشكل أساسي عن الطبيعة الحيوانية، وخالية منها. بالطبع، لا ينبغي للمرء أن يعتقد أن فويرباخ يميل الى تعريف الذات المُدركة من خلال خبرة الحواس فقط. انه يعتبر التفكير قدرة ضرورية يُمكن بفضلها دمج التنوع الحسي في وحدة كُلية، وفقط يُمكن للصور الحسية المحدودة أن تؤخذ من زاوية اللانهائية (العالمية الشاملة).
ان الوجود والادراك الحسي لهما صفة كونهما يُميزان الفرد. ومع ذلك، فان الفكر يمتلك الشمولية في كل مكان، كما يُلاحظ فويرباخ. لا يُمكن أن تُعزى صفة الحقيقة الى أيٍ من هذه الجوانب بشكلٍ فردي، لأن الطبيعة ذات وحدة وتعددية في وقتٍ واحد. وبينما يكشف التأمل لنا عن عالم الأشياء في تنوعها واختلافها، يكشف الفكر الوحدة في هذا التنوع ويُظهر لنا قوانين الحياة العملية، والتي لا تتطابق مع الحياة نفسها.
ان حقيقة أن الكوني والشامل يتمثل في الطبيعة لا يُثير أي شك عند فويرباخ. ولكن، من بين كل تصريحاته القوية، لا يواجه المرء أبداً محاولاتٍ لاثبات موضوعية الكون، ولهذا النقص في اطروحاته أسبابه. عند فويرباخ، يُظهر الانسان نفسه كموضوعٍ طبيعي، والطبيعة بدورها مادة، والتي يكون الفكر هو احدى سماتها (أي الشامل والعام). يرتكز فويرباخ هنا على تقاليد وحدة الوجود من عصر النهضة وحتى على "العالم الفكري الذي يتحدث عنه الأفلاطونيين الجُدد"(14). ولكنه يبتعد عنهم لاعتبارات "تقاليد ثقافية" و"عاداتٍ" فكرية مُعينة أكثر من كونها اعتبارات منطقية ضرورية. فويرباخ هو بلا شك انتقائي، وليس على المرء أن يبحث عن الجانب القوي من تعاليمه هنا بالذات.
تتجلّى أصالة فويرباخ في حقيقة أنه يطرح مسألة عقلانية الانسان بطريقةٍ جديدة، وينقل مسألة نشاط الذات الى مجالٍ لم يكن معروفاً حتى ذلك الوقت. هنا بالتحديد ندخل منطقة فلسفته عن الانسان.
كان فويرباخ أول من تخلّى بوعي عن تقليد تعريف الانسان من منظور العقل. بالنسبة الى فويرباخ، يختلف الانسان عن الحيوانات ليس بالفكر وحده، وليس بالعقل فقط. ان كل وجوده يختلف عن الحيوان. انه كائن عالمي وشمولي. لكن هذه الشمولية لا تنحلّ الى الفكر، لأن الفكر مُجرّد سمة واحدة من سمات الوجود الانساني. كتب فويرباخ: "ان المبدأ الادراكي، وهو موضوع الفلسفة الجديدة، ليس الأنا، وليس المُطلَق المُجرّد أو الروح، بعبارةٍ أُخرى، ليس العقل المأخوذ بالمعنى المُجرّد، بل الكائن الانساني الحقيقي. الانسان فقط هو الواقع، وهو ذات العقل"(15).
ولكن، لا يُمكن دمج أساس هذه الشمولية والاكتمال في الفرد الانساني مُباشرةً، لأنه على هذا النحو هو شيء فردي ومحدود. لذلك من الضروري أن نفترض أن شمولية وعقلانية الانسان ليسا صفاتٍ للفرد، بل صفاتٍ للنوع Species، أي جوهر نوع الانسان هي الذات الحقيقي للمعرفة والابداع. من زاوية كونه كائناً طبيعياً، فالانسان هو شيء سلبي وفرد مُدرِك. لكنه يظهر ككائن نشط وعقلاني فقط عندما يكون على اتصال بالنوع، وهو يكتسب العالمية والشمولية من خلال هذا الاتصال.
وهكذا، فان مصدر شمولية الانسان، ومركز نشاطه نابعين من جوهره كنوع، جوهره الاجتماعي. وهكذا، يتضح، عند فويرباخ، أن الخصائص العامة والشاملة للعالم تُمنَح للانسان من خلال تلك العلاقات التي تربطه بأشخاص آخرين. "الفرد المنفصل، كشيء مُنعزل، لا يتضمن الجوهر الانساني ككائن أخلاقي أو مُفكّر. فالجوهر الانساني موجود فقط في التواصل، في وحدة الانسان مع الانسان الآخر، في وحدة تقوم فقط على واقع الفرق بيني وبينك"(16). تبرز الضرورة المشتركة بيني وبينك، ووحدتهما الحية وتفاعلهما هنا، كأساس للوجود الانساني الحقيقي. يؤكد فويرباخ الفكر العميق-الذي عبّر عنه الرومانسيون لأول مرة (خاصةً نوفاليس)، وشيلر- والذي، وفقاً له، تُعتَبَر أفكار العالم بمثابة اسقاطات على طبيعة علاقات الناس في المجموعات والمُجتمع(17).
3
أسدى لنا فويرباخ، بلا شك خدمةً، باعتباره أن الادراك الانساني الحسي تعبيراً ضرورياً عن الطبيعة الشاملة والعالمية للانسان. يكتب: "حتى الحواس الدُنيا، مثل الشم والذوق- ارتقت في الانسان الى مستوى الأنشطة الروحية والعلمية"(13). يتضمن هذا بالفعل، "حدساً مُسبقاً" لما سيطرحه ماركس مُستقبلاً أن المشاعر الانسانية هي "بُنىً نظرية". والحقيقة أن فويرباخ هو الذي ركّز انتباه ماركس على الظرف الذي مفاده أن كل مشاعر الانسان وأعضاءه "مُثقفة"، أي تختلف بشكل أساسي عن الطبيعة الحيوانية، وخالية منها. بالطبع، لا ينبغي للمرء أن يعتقد أن فويرباخ يميل الى تعريف الذات المُدركة من خلال خبرة الحواس فقط. انه يعتبر التفكير قدرة ضرورية يُمكن بفضلها دمج التنوع الحسي في وحدة كُلية، وفقط يُمكن للصور الحسية المحدودة أن تؤخذ من زاوية اللانهائية (العالمية الشاملة).
ان الوجود والادراك الحسي لهما صفة كونهما يُميزان الفرد. ومع ذلك، فان الفكر يمتلك الشمولية في كل مكان، كما يُلاحظ فويرباخ. لا يُمكن أن تُعزى صفة الحقيقة الى أيٍ من هذه الجوانب بشكلٍ فردي، لأن الطبيعة ذات وحدة وتعددية في وقتٍ واحد. وبينما يكشف التأمل لنا عن عالم الأشياء في تنوعها واختلافها، يكشف الفكر الوحدة في هذا التنوع ويُظهر لنا قوانين الحياة العملية، والتي لا تتطابق مع الحياة نفسها.
ان حقيقة أن الكوني والشامل يتمثل في الطبيعة لا يُثير أي شك عند فويرباخ. ولكن، من بين كل تصريحاته القوية، لا يواجه المرء أبداً محاولاتٍ لاثبات موضوعية الكون، ولهذا النقص في اطروحاته أسبابه. عند فويرباخ، يُظهر الانسان نفسه كموضوعٍ طبيعي، والطبيعة بدورها مادة، والتي يكون الفكر هو احدى سماتها (أي الشامل والعام). يرتكز فويرباخ هنا على تقاليد وحدة الوجود من عصر النهضة وحتى على "العالم الفكري الذي يتحدث عنه الأفلاطونيين الجُدد"(14). ولكنه يبتعد عنهم لاعتبارات "تقاليد ثقافية" و"عاداتٍ" فكرية مُعينة أكثر من كونها اعتبارات منطقية ضرورية. فويرباخ هو بلا شك انتقائي، وليس على المرء أن يبحث عن الجانب القوي من تعاليمه هنا بالذات.
تتجلّى أصالة فويرباخ في حقيقة أنه يطرح مسألة عقلانية الانسان بطريقةٍ جديدة، وينقل مسألة نشاط الذات الى مجالٍ لم يكن معروفاً حتى ذلك الوقت. هنا بالتحديد ندخل منطقة فلسفته عن الانسان.
كان فويرباخ أول من تخلّى بوعي عن تقليد تعريف الانسان من منظور العقل. بالنسبة الى فويرباخ، يختلف الانسان عن الحيوانات ليس بالفكر وحده، وليس بالعقل فقط. ان كل وجوده يختلف عن الحيوان. انه كائن عالمي وشمولي. لكن هذه الشمولية لا تنحلّ الى الفكر، لأن الفكر مُجرّد سمة واحدة من سمات الوجود الانساني. كتب فويرباخ: "ان المبدأ الادراكي، وهو موضوع الفلسفة الجديدة، ليس الأنا، وليس المُطلَق المُجرّد أو الروح، بعبارةٍ أُخرى، ليس العقل المأخوذ بالمعنى المُجرّد، بل الكائن الانساني الحقيقي. الانسان فقط هو الواقع، وهو ذات العقل"(15).
ولكن، لا يُمكن دمج أساس هذه الشمولية والاكتمال في الفرد الانساني مُباشرةً، لأنه على هذا النحو هو شيء فردي ومحدود. لذلك من الضروري أن نفترض أن شمولية وعقلانية الانسان ليسا صفاتٍ للفرد، بل صفاتٍ للنوع Species، أي جوهر نوع الانسان هي الذات الحقيقي للمعرفة والابداع. من زاوية كونه كائناً طبيعياً، فالانسان هو شيء سلبي وفرد مُدرِك. لكنه يظهر ككائن نشط وعقلاني فقط عندما يكون على اتصال بالنوع، وهو يكتسب العالمية والشمولية من خلال هذا الاتصال.
وهكذا، فان مصدر شمولية الانسان، ومركز نشاطه نابعين من جوهره كنوع، جوهره الاجتماعي. وهكذا، يتضح، عند فويرباخ، أن الخصائص العامة والشاملة للعالم تُمنَح للانسان من خلال تلك العلاقات التي تربطه بأشخاص آخرين. "الفرد المنفصل، كشيء مُنعزل، لا يتضمن الجوهر الانساني ككائن أخلاقي أو مُفكّر. فالجوهر الانساني موجود فقط في التواصل، في وحدة الانسان مع الانسان الآخر، في وحدة تقوم فقط على واقع الفرق بيني وبينك"(16). تبرز الضرورة المشتركة بيني وبينك، ووحدتهما الحية وتفاعلهما هنا، كأساس للوجود الانساني الحقيقي. يؤكد فويرباخ الفكر العميق-الذي عبّر عنه الرومانسيون لأول مرة (خاصةً نوفاليس)، وشيلر- والذي، وفقاً له، تُعتَبَر أفكار العالم بمثابة اسقاطات على طبيعة علاقات الناس في المجموعات والمُجتمع(17).
3
طوّرَ فويرباخ هذا الفكر في المقام الأول على مستوى نقد الدين. ومن وجهة نظر انسانية طبيعية، فان النوع Species هو الذات "المُطلقة" وأن "المفهوم الانساني عن الله هو مفهوم الفرد الانساني وجنسه"(18). ألله، هو "المفهوم المُكثّف عن خصائص الأنواع"، ولهذا السبب بالتحديد ظهر كنموذج مثالي بالنسبة الى الانسان. ان الاله هو ما يريد الانسان أن يكونه. انه جوهر الانسان الذي اغترب وأُخِذَ بعيداً عنه (عن الانسان). "ان سر اللاهوت يكمن في فلسفة الانسان".
ولكن بغض النظر عن مدى حدة نقد فويرباخ للدين، فانه يجب الاعتراف بأنه أخفق في حل مسألة سر فلسفة الانسان. صحيح أن فويرباخ لم يُلاحظ
لم يُلاحظ فويرباخ، بسبب تأثره بما اكتشفه، أن الافتراض الذي قدمه بنفسه يتطلب اثباتاً علمياً متطوراً. وبالتالي يكتب: "كان الثالوث هو اللغز الأكبر، وهو النقطة المركزية في الفلسفة المُطلقة والدين. لكن سر الثالوث هو سر الحياة الجماعية الاجتماعية(19). ومع ذلك، بالنسبة لمسألة أين يكمن جوهر الحياة الاجتماعية، لم يُقدّم فويرباخ اجابةً أبداً. انه يتقدّم بـ"وحدة الانسان مع الانسان" كمبدأ أساسي للفلسفة، مؤلهاً الارتباط والشراكة بينهما على هذا النحو: "وحدة أنا وأنت هي الله"(20).
بالنسبة لفويرباخ، فان المجموعة الاجتماعية التجريبية الحقيقية هي الكائن الحي الوحيد الذي يمتلك معنىً مُطلقاً. لكن أصل الروابط الجماعية، ومنشأ الجماعة نفسها لا يتضح له. وهنا يكمن ضعف الحاده. ولكن، فان الحاد فويرباخ هو أكثر اثارةً للاهتمام بكثير، من الحاد رجال عصر التنوير. انه الحاد أكثر دقةً ومنطقيةً وشمولاً. الدين بالنسبة له، ليس مجرّد "اختراع" أو "خداع" أو شيئاً مُخالفاً لطبيعة الانسان. على العكس من ذلك، فوفقاً لفويرباخ، يختلف الانسان عن الحيوان على وجه التحديد في أن لديه ديناً(21). يسعى فويرباخ الى اثبات ضرورة الدين، والاجابة حول مسألة كيف يُمكن اكتشاف "جوهره". لقد رأينا كيف يفعل ذلك، من خلال طرحه "لأنثروبولوجيته" المشروطة بدلاً من الايمان بالله. وبعد أن وضع حقيقة المُجتمع كأساس مُطلق للوجود البشري، استبعد فويرباخ كل المصادر المُتعالية المُمكنة للنشاط الانساني. لقد صاغ موقفه بشكلٍ صريح: "الالحاد... هو رفض الله باعتباره مُختلفاً عن الانسان"(22). تحتوي هذه الكلمات على حقيقة الحركة الانسانية Humanist بأكملها في العصر الحديث، والتي سعت الى تفسير جميع القيم الانسانية على أنها تأتي من الانسان نفسه. وقد عَكَسَ فويرباخ أكثر من أي شخصٍ آخر هذه الحركة الجبارة للعصر، وعلى وجه التحديد سعى الى تفسير ظواهر الدين العالمي والأساطير على أنها نتاج للابداع الانساني، باعتبارها لحظةً ضروريةً في تاريخ تأكيد الذات الانسانية، وكرمز للسعي الانساني الداخلي أن يؤكد نفسه بما هو القيمة الكونية الوحيدة والمُطلقة(23). الحب بالنسبة للانسان والأنواع هو الشعور الذي أقامه فويرباخ مكان سعي المسيحية للوصول الى الله. انه يريد أن يتأمل الأنواع كوحدة حقيقية، من خلال الحب. انه يستبدل دين (الانسان الاله) ليحل محل البحث الديني عن (الاله الانسان)
النقطة الأكثر ضعفاً في اطروحات فويرباخ هي أنه يُضفي طابعاً مُطلقاً على الحقيقة التجريبية للمُجتمع. التاريخ وحده هو الذي يُفسّر حقيقة أن المُجتمع بعيد عن افق تجربة فويرباخ الفلسفية. في الوقت ذاته، فان مُجرّد نقل "مسؤولية" الشمولية والعقلانية من الفرد الى النوع لا يحسم في حد ذاته مسألة كيف يٌمكن للشمولية والعقلانية أن تُصبح مُمكنة. في حالة فويرباخ، تم استبدال مسألة موضوعية الشمولي، بالحديث عن الأهمية الشمولية لـ"التواصلية" في الحوار بين أنا وأنت. ان مجتمع البشر هو بحد ذاته "المبدأ والمعيار الأصيلان للحقيقة والشمولية"(24). على هذا المستوى، تعامل فويرباخ مع جميع الأفكار والمفاهيم على أنها أشكال من التواصل بين البشر، وتم التأكيد على الدياليكتيك باعتباره توحيداً حيوياً للبشر وكرابط لفظي حيّ للحوار بينهم. "الدياليكتيك الحقيقي ليس مُناجاة مُفكّر منعزل مع نفسه. انه حوار بيني وبينك"(25).
بالطبع،العلاقة بيني وبينك في الحوار والتواصل هي التي ذكرها بشكلٍ صحيح. العلاقة موجودة بشكلٍ عام في كل فعل من أفعال الروح: لا يُمكن لأي ابداع أن يكون، بدون أن يكون هناك مُخاطبة بين شخصٍ وآخر. وبهذا المعنى فان فهم فويرباخ للدياليكتيك ليس تبسيطياً. انه فهم عميق ودقيق للغاية، لأنه عندما وضع أفلاطون وبرونو ونيكولاس كوسا Nicholas of Cusa وغاليليو وليبينيز ومفكرين آخرين تعاليهم في شكل "حوارات"، فانهم لم يفعلوا ذلك من أجل "تبسيط" تعاليمهم وجعلها أكثر انتشاراً. ان كل التجارب وكل الفكر هو انجاز اجتماعي، وهو نتيجة للفهم الجماعي. في نفس الوقت، الدياليكتيك ليس منطقاً متناقضاً، بل انه منطق التناقض. الحياة بكليتها متناقضة تماماً، وهذا يتجلّى بشكلٍ أفضل في الحوار.
4
ولكن بغض النظر عن مدى حدة نقد فويرباخ للدين، فانه يجب الاعتراف بأنه أخفق في حل مسألة سر فلسفة الانسان. صحيح أن فويرباخ لم يُلاحظ
لم يُلاحظ فويرباخ، بسبب تأثره بما اكتشفه، أن الافتراض الذي قدمه بنفسه يتطلب اثباتاً علمياً متطوراً. وبالتالي يكتب: "كان الثالوث هو اللغز الأكبر، وهو النقطة المركزية في الفلسفة المُطلقة والدين. لكن سر الثالوث هو سر الحياة الجماعية الاجتماعية(19). ومع ذلك، بالنسبة لمسألة أين يكمن جوهر الحياة الاجتماعية، لم يُقدّم فويرباخ اجابةً أبداً. انه يتقدّم بـ"وحدة الانسان مع الانسان" كمبدأ أساسي للفلسفة، مؤلهاً الارتباط والشراكة بينهما على هذا النحو: "وحدة أنا وأنت هي الله"(20).
بالنسبة لفويرباخ، فان المجموعة الاجتماعية التجريبية الحقيقية هي الكائن الحي الوحيد الذي يمتلك معنىً مُطلقاً. لكن أصل الروابط الجماعية، ومنشأ الجماعة نفسها لا يتضح له. وهنا يكمن ضعف الحاده. ولكن، فان الحاد فويرباخ هو أكثر اثارةً للاهتمام بكثير، من الحاد رجال عصر التنوير. انه الحاد أكثر دقةً ومنطقيةً وشمولاً. الدين بالنسبة له، ليس مجرّد "اختراع" أو "خداع" أو شيئاً مُخالفاً لطبيعة الانسان. على العكس من ذلك، فوفقاً لفويرباخ، يختلف الانسان عن الحيوان على وجه التحديد في أن لديه ديناً(21). يسعى فويرباخ الى اثبات ضرورة الدين، والاجابة حول مسألة كيف يُمكن اكتشاف "جوهره". لقد رأينا كيف يفعل ذلك، من خلال طرحه "لأنثروبولوجيته" المشروطة بدلاً من الايمان بالله. وبعد أن وضع حقيقة المُجتمع كأساس مُطلق للوجود البشري، استبعد فويرباخ كل المصادر المُتعالية المُمكنة للنشاط الانساني. لقد صاغ موقفه بشكلٍ صريح: "الالحاد... هو رفض الله باعتباره مُختلفاً عن الانسان"(22). تحتوي هذه الكلمات على حقيقة الحركة الانسانية Humanist بأكملها في العصر الحديث، والتي سعت الى تفسير جميع القيم الانسانية على أنها تأتي من الانسان نفسه. وقد عَكَسَ فويرباخ أكثر من أي شخصٍ آخر هذه الحركة الجبارة للعصر، وعلى وجه التحديد سعى الى تفسير ظواهر الدين العالمي والأساطير على أنها نتاج للابداع الانساني، باعتبارها لحظةً ضروريةً في تاريخ تأكيد الذات الانسانية، وكرمز للسعي الانساني الداخلي أن يؤكد نفسه بما هو القيمة الكونية الوحيدة والمُطلقة(23). الحب بالنسبة للانسان والأنواع هو الشعور الذي أقامه فويرباخ مكان سعي المسيحية للوصول الى الله. انه يريد أن يتأمل الأنواع كوحدة حقيقية، من خلال الحب. انه يستبدل دين (الانسان الاله) ليحل محل البحث الديني عن (الاله الانسان)
النقطة الأكثر ضعفاً في اطروحات فويرباخ هي أنه يُضفي طابعاً مُطلقاً على الحقيقة التجريبية للمُجتمع. التاريخ وحده هو الذي يُفسّر حقيقة أن المُجتمع بعيد عن افق تجربة فويرباخ الفلسفية. في الوقت ذاته، فان مُجرّد نقل "مسؤولية" الشمولية والعقلانية من الفرد الى النوع لا يحسم في حد ذاته مسألة كيف يٌمكن للشمولية والعقلانية أن تُصبح مُمكنة. في حالة فويرباخ، تم استبدال مسألة موضوعية الشمولي، بالحديث عن الأهمية الشمولية لـ"التواصلية" في الحوار بين أنا وأنت. ان مجتمع البشر هو بحد ذاته "المبدأ والمعيار الأصيلان للحقيقة والشمولية"(24). على هذا المستوى، تعامل فويرباخ مع جميع الأفكار والمفاهيم على أنها أشكال من التواصل بين البشر، وتم التأكيد على الدياليكتيك باعتباره توحيداً حيوياً للبشر وكرابط لفظي حيّ للحوار بينهم. "الدياليكتيك الحقيقي ليس مُناجاة مُفكّر منعزل مع نفسه. انه حوار بيني وبينك"(25).
بالطبع،العلاقة بيني وبينك في الحوار والتواصل هي التي ذكرها بشكلٍ صحيح. العلاقة موجودة بشكلٍ عام في كل فعل من أفعال الروح: لا يُمكن لأي ابداع أن يكون، بدون أن يكون هناك مُخاطبة بين شخصٍ وآخر. وبهذا المعنى فان فهم فويرباخ للدياليكتيك ليس تبسيطياً. انه فهم عميق ودقيق للغاية، لأنه عندما وضع أفلاطون وبرونو ونيكولاس كوسا Nicholas of Cusa وغاليليو وليبينيز ومفكرين آخرين تعاليهم في شكل "حوارات"، فانهم لم يفعلوا ذلك من أجل "تبسيط" تعاليمهم وجعلها أكثر انتشاراً. ان كل التجارب وكل الفكر هو انجاز اجتماعي، وهو نتيجة للفهم الجماعي. في نفس الوقت، الدياليكتيك ليس منطقاً متناقضاً، بل انه منطق التناقض. الحياة بكليتها متناقضة تماماً، وهذا يتجلّى بشكلٍ أفضل في الحوار.
4
الحوار هو شكل عالمي مهم للدياليكتيك، حيث تظهر الحقيقة كسيرورة حياة جماعية اجتماعية.
ومما هو مُميز، على سبيل المثال، أن ف. ابنر F. Ebner يُشير الى فويرباخ تحديداً باعتباره مكتشفاً للأهمية غير المشروطة للعلاقة بين أنا وأنت في اثبات القِيَم الثقافية(26). ومع ذلك، فان فويرباخ بعيد جداً عن وجهة نظر الوجوديين حول الدياليكتيك، فهم يُنكرون "الأصالة" الاجتماعية للحوار (غالباً ما يُطابقون "الجماهير" بـ"الاجتماعي"). بالنسبة له، فان "أصالة" الصلة بين أنا وأنت، هي أصالة ما هو اجتماعي (أي طبيعة تجربة النوع)، بينما يُحاول الوجوديون استبعاد كل أشكال التعبير الاجتماعي والعالمي ذات الأهمية من "التواصل" (كارل ياسبرز).
في الوقت نفسه، يجب ملاحظة، أن "الحوار" لا يستنفد المعنى الكامل للدياليكتيك، لأن الدياليكتيك موضوعي (حوار دائماً حول شيءٍ ما) وبنّاء (أي يجب أن يكون منهجاً بناء الوجود الفعلي في حد ذاته).
فويرباخ يفترض فقط الطبيعة الاجتماعية والنوعية Species للعقل الانساني. وكما لوحِظَ أعلاه، فان اثبات هذه الأطروحة مُمكن فقط من خلال تحليل نشاط البشر في العملية التاريخية. لكن مادية فويرباخ كانت تأملية. ولكن، لعبت تعاليم فويرباخ دوراً مُهماً للغاية في الانتقال الى الفهم المادي التاريخي للذات. يُمكن هنا مُلاحظة العناصر التالية: 1- عارضَ فويرباخ فكرة هيغل المُطلقة عن الشخص الواقعي الحي، وفي الوقت نفسه، كان قادراً على انقاذ فلسفته من المادية المُبتذلة المتطرفة. في فلسفة هيغل حول الانسان (الجزء الأول من كتابه فلسفة العقل) فقد تم تفسير "الملموس" Corporeality، والقدرة على الادراك الحسي وكل الخصوصية الطبيعية بشكلٍ عام، على أنها تلك التي يجب تجاوزها من خلال تطوير الفكر والتفكير. أما فويرباخ فقد فَهِمَ "ملموسية" الانسان كحقيقة روحية، وكجانب ضروري لطبيعة الانسان الشاملة. 2- فسّرَ فويرباخ الوجود مادياً. بينما كان هيغل يعتبره مفهوماً أو عاملاً في الافتراض المنطقي. اما القدرة الانسانية على الادراك الحسي فقد كانت عند الأول مُعتبرةً بأنها "حقيقة وأصالة" العالم المادي الملموس. 3- لقد فَهِمَ الانسان نفسه على أنه ذلك الكائن الطبيعي الذي يمتاز بالقدرة على اعادة انتاج الطبيعة في كُليتها. بينما ظهر العالمي والمثالي Ideal نفسه كشكل من أشكال اختزال مجموعة متنوعة من العلاقات بين البشر (أنا وأنت) الى الوحدة بين الأنواع، بالاضافة الى ذلك، كاسقاط عكسي لهذه الوحدة على العالم الحقيقي. توصّل ماركس، مُتبعاً أفكار فويرباخ هذه، الى فهم الثقافة كنتيجة لتحوّل الطبيعة الى "جسم الانسان غير العضوي"(27). في هذه النقاط يجب على المرء أن يبحث عن مصدر الأثر الذي تركته أعمال فويرباخ على ماركس. كان فويرباخ هو الذي أعدّ امكانية التعامل مع سيرورة التاريخ الحقيقة، وتفسير الوجود الانساني ليس كحالة خاصة للتطور الذاتي للفكرة المُطلقة، بل كشكل من أشكال اكتشاف الروابط الاجتماعية للبشر. وعلى الرغم من أن فويرباخ لم ينجح في توضيح القوة الدافعة الفعلية للتطور الاجتماعي، الا أنه تم بفضله على وجه التحديد الكشف عن أن أساس نقد النظام القائم يكمن في اكتشاف أصل العلاقات الاجتماعية المُعظاة بين البشر. ولكن هذا لم يحدث من قبل، حتى عبّر ماركس لأول مرة بوضوح عن الفكرة التي تقول بأن على "علم التاريخ" أن يكون نظرةً عامةً الى العالم. ومع ذلك، فان أهم ما في ماركس يكمن في حقيقة أنه حدد نوعاً جديداً من النشاط باعتباره مُقدمةً فلسفية، ووجد "في تاريخ تطوّر العمل Labor المفتاح لفهم تاريخ المُجتمع بأكمله"(28).
ان الفكرة القائلة بأن علاقة الانسان بالعالم هي علاقة عمل ملموسة، بحد ذاتها، هي ليست فكرةً جديدة. لقد تم التعبير عنها منذ زمنٍ بعيد من قبل الأرسطيين العرب ودانتي (29) وسبينوزا وتحدّث هيغل عنها بما يكفي. لكن لم يتم اعتبار هذا المفهوم كنقطة انطلاق حتى ماركس. وفقاً لماركس، فان النشاط المادي البشري هو مصدر ظهور الانسان في عملية الاتصال العملي وأن "كل ما يُسمى تاريخ العالم لا يعدو أن يكون انجاب الانسان عن طريق العمل الانساني"(30). بهذا المعنى، فقد تحققت في فلسفة ماركس لأول مرة أسبقية العملي على النظري، والنَشِط على التأملي. لم يعد ينظر الى جوهر الانسان على أنه مجرد "نوع" يربط العديد من الأفراد من خلال "الروباط الطبيعية"، ولكن كـ"مجموع للعلاقات الاجتماعية" والتي من أهم سماتها الموضوعية تملّكها لعلاقة عملية مع العالم. على الرغم من أن فلسفة ماركس عن الانسان تستند على تخمين هيغل أن الانسان قد خلق نفسه بعمله الخاص، فان تأثير فويرباخ يتجلّى في حقيقة أن الفكر لا يُعرّف على أنه جوهر الوجود والحياة، بل كواحد من "القوى الأساسية" للانسان والتي طورها في سياق نشاطه المادي(31). لكن عند ماركس يظهر شيء كان غير متوفّر عند فويرباخ: وهو التاريخ.
5
ومما هو مُميز، على سبيل المثال، أن ف. ابنر F. Ebner يُشير الى فويرباخ تحديداً باعتباره مكتشفاً للأهمية غير المشروطة للعلاقة بين أنا وأنت في اثبات القِيَم الثقافية(26). ومع ذلك، فان فويرباخ بعيد جداً عن وجهة نظر الوجوديين حول الدياليكتيك، فهم يُنكرون "الأصالة" الاجتماعية للحوار (غالباً ما يُطابقون "الجماهير" بـ"الاجتماعي"). بالنسبة له، فان "أصالة" الصلة بين أنا وأنت، هي أصالة ما هو اجتماعي (أي طبيعة تجربة النوع)، بينما يُحاول الوجوديون استبعاد كل أشكال التعبير الاجتماعي والعالمي ذات الأهمية من "التواصل" (كارل ياسبرز).
في الوقت نفسه، يجب ملاحظة، أن "الحوار" لا يستنفد المعنى الكامل للدياليكتيك، لأن الدياليكتيك موضوعي (حوار دائماً حول شيءٍ ما) وبنّاء (أي يجب أن يكون منهجاً بناء الوجود الفعلي في حد ذاته).
فويرباخ يفترض فقط الطبيعة الاجتماعية والنوعية Species للعقل الانساني. وكما لوحِظَ أعلاه، فان اثبات هذه الأطروحة مُمكن فقط من خلال تحليل نشاط البشر في العملية التاريخية. لكن مادية فويرباخ كانت تأملية. ولكن، لعبت تعاليم فويرباخ دوراً مُهماً للغاية في الانتقال الى الفهم المادي التاريخي للذات. يُمكن هنا مُلاحظة العناصر التالية: 1- عارضَ فويرباخ فكرة هيغل المُطلقة عن الشخص الواقعي الحي، وفي الوقت نفسه، كان قادراً على انقاذ فلسفته من المادية المُبتذلة المتطرفة. في فلسفة هيغل حول الانسان (الجزء الأول من كتابه فلسفة العقل) فقد تم تفسير "الملموس" Corporeality، والقدرة على الادراك الحسي وكل الخصوصية الطبيعية بشكلٍ عام، على أنها تلك التي يجب تجاوزها من خلال تطوير الفكر والتفكير. أما فويرباخ فقد فَهِمَ "ملموسية" الانسان كحقيقة روحية، وكجانب ضروري لطبيعة الانسان الشاملة. 2- فسّرَ فويرباخ الوجود مادياً. بينما كان هيغل يعتبره مفهوماً أو عاملاً في الافتراض المنطقي. اما القدرة الانسانية على الادراك الحسي فقد كانت عند الأول مُعتبرةً بأنها "حقيقة وأصالة" العالم المادي الملموس. 3- لقد فَهِمَ الانسان نفسه على أنه ذلك الكائن الطبيعي الذي يمتاز بالقدرة على اعادة انتاج الطبيعة في كُليتها. بينما ظهر العالمي والمثالي Ideal نفسه كشكل من أشكال اختزال مجموعة متنوعة من العلاقات بين البشر (أنا وأنت) الى الوحدة بين الأنواع، بالاضافة الى ذلك، كاسقاط عكسي لهذه الوحدة على العالم الحقيقي. توصّل ماركس، مُتبعاً أفكار فويرباخ هذه، الى فهم الثقافة كنتيجة لتحوّل الطبيعة الى "جسم الانسان غير العضوي"(27). في هذه النقاط يجب على المرء أن يبحث عن مصدر الأثر الذي تركته أعمال فويرباخ على ماركس. كان فويرباخ هو الذي أعدّ امكانية التعامل مع سيرورة التاريخ الحقيقة، وتفسير الوجود الانساني ليس كحالة خاصة للتطور الذاتي للفكرة المُطلقة، بل كشكل من أشكال اكتشاف الروابط الاجتماعية للبشر. وعلى الرغم من أن فويرباخ لم ينجح في توضيح القوة الدافعة الفعلية للتطور الاجتماعي، الا أنه تم بفضله على وجه التحديد الكشف عن أن أساس نقد النظام القائم يكمن في اكتشاف أصل العلاقات الاجتماعية المُعظاة بين البشر. ولكن هذا لم يحدث من قبل، حتى عبّر ماركس لأول مرة بوضوح عن الفكرة التي تقول بأن على "علم التاريخ" أن يكون نظرةً عامةً الى العالم. ومع ذلك، فان أهم ما في ماركس يكمن في حقيقة أنه حدد نوعاً جديداً من النشاط باعتباره مُقدمةً فلسفية، ووجد "في تاريخ تطوّر العمل Labor المفتاح لفهم تاريخ المُجتمع بأكمله"(28).
ان الفكرة القائلة بأن علاقة الانسان بالعالم هي علاقة عمل ملموسة، بحد ذاتها، هي ليست فكرةً جديدة. لقد تم التعبير عنها منذ زمنٍ بعيد من قبل الأرسطيين العرب ودانتي (29) وسبينوزا وتحدّث هيغل عنها بما يكفي. لكن لم يتم اعتبار هذا المفهوم كنقطة انطلاق حتى ماركس. وفقاً لماركس، فان النشاط المادي البشري هو مصدر ظهور الانسان في عملية الاتصال العملي وأن "كل ما يُسمى تاريخ العالم لا يعدو أن يكون انجاب الانسان عن طريق العمل الانساني"(30). بهذا المعنى، فقد تحققت في فلسفة ماركس لأول مرة أسبقية العملي على النظري، والنَشِط على التأملي. لم يعد ينظر الى جوهر الانسان على أنه مجرد "نوع" يربط العديد من الأفراد من خلال "الروباط الطبيعية"، ولكن كـ"مجموع للعلاقات الاجتماعية" والتي من أهم سماتها الموضوعية تملّكها لعلاقة عملية مع العالم. على الرغم من أن فلسفة ماركس عن الانسان تستند على تخمين هيغل أن الانسان قد خلق نفسه بعمله الخاص، فان تأثير فويرباخ يتجلّى في حقيقة أن الفكر لا يُعرّف على أنه جوهر الوجود والحياة، بل كواحد من "القوى الأساسية" للانسان والتي طورها في سياق نشاطه المادي(31). لكن عند ماركس يظهر شيء كان غير متوفّر عند فويرباخ: وهو التاريخ.
5
التاريخ ليس باعتباره تطوراً ذاتياً للفكرة المُنطقية ولكن كعملية تأكيد ذاتي لما هو فعّال عملياً ومتوجه مادياً في عالم الانسان. وهكذا، فان مبدأ مُبادرة الذات وفعاليتها تؤكده الماركسية في بحثها عن أوجه النشاط العملي الذي يُعيد الانسان فيه انتاج منطق العالم الواقعي. بعبارةٍ أُخرى، يظهر الانسان هنا ليس فقط ككائنٍ عقلاني، ولكن قبل كل شيء ككائنٍ عمليٍ نَشِط، ويظهر الادراك كشكل من أشكال علاقة الذات بالعالم الذي يكون محتواه هو عملية نشاط العمل. اذا كان على المرء أن يُعبّر عن هذه الفكرة بطريقة فويرباخ، فيُمكن القول أن الانسان لا تعتمد حياته على تفكيره، بل على العكس، يعتمد تفكيره على حياته.
من وجهة نظر الماركسية، لا يكتسب الانسان ما وهبته له الطبيعة. انه يحوّل الطبيعة ويكيفها مع نفسه. يوجد الواقع المُحيط بالانسان على نفس النمط الذي يُحققه الانسان: كلما زادت عدد القدرات التي يُتقنها الانسان، وكلما زادت درجة وحدتها، كلما زادت درجة حُريته، وزادت فاعلية الذات الاجتماعية وعالم الثقافة التي تجد تعبيرها عنده. في هذا الجانب، تتداخل مسألة نشاط الذات مع نظرية الشخصية الانسانية، والتي هي سمة ضرورية لأي فلسفة عن الانسان.
* المؤلّف هو طالب خِريج في معهد موسكو الطبي الثاني.
لم أستطع أن أجد اسمه الكامل وتعريفاً كافياً له، للأسف الشديد.
1- Jacques Maritain, Pour une philosophie de l education, Paris, 1959, p. 22.
2- See Karl Jaspers, Philosophie, Vol. 2, Berlin, 1956, pp. 49-51
3- علم ظهور العقل، هيغل، ترجمة مصطفى رضوان، دار الطليعة، الطبعة الثالثة 2001، ص79
4- في احدى محاضراته يقول فيخته: "القضية ليس "أنا". ليست "أنا" هي التي تختار أن تبحث وتُفكّر. لو كان الأمر برمته يتعلق بشخصيتي أنا، لربما كنت قد اهتممت بها دون أن أُخبر روحاً أُخرى عنها.وبصفة عامة، فان المسألة عما يعتقده أي فرد مُعين أو لا يعتقده ليس مهماً. ان (النحن)، هو مفهوم أصبح بالكامل جُزءاً من فهمنا، قد اندمج بالتفكير الموحّد في تجاهلٍ تام لذواتنا الفردية. هذا التفكير الموحّد هو مُجتمع موحّد كنا عليه ذات مرة، وما زلنا عليه في الوقت الحاضر. هذه هي الـ(نحن) التي أود دراستها وأن افكر بها، وليس عن الأنا المُطلقة عندما أتحدث عن تحليل الذات وصعوبات القيام بذلك في الكلام الشفهي.
Fichte, Osnovnye cherti sovremennoi epokhi, St. Petersburg, 1906, p. 219
5- Hegel, Sochineniia, Vol. 4, p. 9
6- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. 1, Moscow, Gospolitizdat, 1955, p. 73
7- See ibid., p. 80
8- Ibid., p. 100
9- Ibid., p. 99
10- Ibid., p. 124
11- Ibid., p. 105
12- See ibid., pp. 192-194
13- Ibid., p. 201
14- Ibid., p. 194
15- Ibid., p. 198
16- Ibid., p. 198، على هذا المستوى، تختلف فلسفة فويرباخ عن الانسان اختلافاً كبيراً عن المركزية الانسانية anthropocentrism الوجودية المتطرفة. بالنسبة الى ميرلوبونتي فان العالم موجود وله أهمية فقط في تجارب الذات.
see Merleau-Ponty, Les aventures de la dialectique, Paris, 1955, p. 383
17- كان لوسيف مُحقاً في الاشارة الى ما يدين به فويرباخ للرومانسية الألماني.
see A. F. Losev, "Problema Rikharda Vagnera v proshlom i nastoiashchem," in the collection Voprosy estetiki, Issue 8, Moscow, "Iskusstvo" Press, 1968, p. 131
18- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. I, p. 148
19- Ibid., p. 203
20- Ibid
21- See L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. 11, Moscow, Gospolitizdat, 1955, p. 30
22- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. I, p. 111.
23- A. F. Losev, "Problema Rikharda Vagnera v proshlom inastoiashchem," in the collection Voprosy estetiki, Issue 8, p. 137
24- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. I, p. 190
25- Ibid., p. 203
26- F. Ebner, Fragmente, Aufsatze, Aphorismen, Munich, 1963, p. 251.
27- مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، ص73
28- Marx and Engels, -Soch Vol. 21, p. 317
29- See Dante Alighieri, Malye proizvedeniia, Moscow, Goslitizdat, 1968, p. 322
30- مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، ص105
31- See V. A. Lektorskii, Problema sub ekta i ob ekta v klassicheskoi i sovremennoi burzhuaznoi filosofii, Moscow, 1965, p. 100 M. B. Turovskii, "Dhlektika kak metod postroeniia teorii," Voprosy filosofii, 1965, No. 2, pp. 46-48.
ترجمة لمقالة:
A. A. Mitiushin (1973) Feuerbach s Philosophy of Man and the Problem of the Subject s Activity, Soviet Studies in Philosophy, 12:1, 18-32
6
من وجهة نظر الماركسية، لا يكتسب الانسان ما وهبته له الطبيعة. انه يحوّل الطبيعة ويكيفها مع نفسه. يوجد الواقع المُحيط بالانسان على نفس النمط الذي يُحققه الانسان: كلما زادت عدد القدرات التي يُتقنها الانسان، وكلما زادت درجة وحدتها، كلما زادت درجة حُريته، وزادت فاعلية الذات الاجتماعية وعالم الثقافة التي تجد تعبيرها عنده. في هذا الجانب، تتداخل مسألة نشاط الذات مع نظرية الشخصية الانسانية، والتي هي سمة ضرورية لأي فلسفة عن الانسان.
* المؤلّف هو طالب خِريج في معهد موسكو الطبي الثاني.
لم أستطع أن أجد اسمه الكامل وتعريفاً كافياً له، للأسف الشديد.
1- Jacques Maritain, Pour une philosophie de l education, Paris, 1959, p. 22.
2- See Karl Jaspers, Philosophie, Vol. 2, Berlin, 1956, pp. 49-51
3- علم ظهور العقل، هيغل، ترجمة مصطفى رضوان، دار الطليعة، الطبعة الثالثة 2001، ص79
4- في احدى محاضراته يقول فيخته: "القضية ليس "أنا". ليست "أنا" هي التي تختار أن تبحث وتُفكّر. لو كان الأمر برمته يتعلق بشخصيتي أنا، لربما كنت قد اهتممت بها دون أن أُخبر روحاً أُخرى عنها.وبصفة عامة، فان المسألة عما يعتقده أي فرد مُعين أو لا يعتقده ليس مهماً. ان (النحن)، هو مفهوم أصبح بالكامل جُزءاً من فهمنا، قد اندمج بالتفكير الموحّد في تجاهلٍ تام لذواتنا الفردية. هذا التفكير الموحّد هو مُجتمع موحّد كنا عليه ذات مرة، وما زلنا عليه في الوقت الحاضر. هذه هي الـ(نحن) التي أود دراستها وأن افكر بها، وليس عن الأنا المُطلقة عندما أتحدث عن تحليل الذات وصعوبات القيام بذلك في الكلام الشفهي.
Fichte, Osnovnye cherti sovremennoi epokhi, St. Petersburg, 1906, p. 219
5- Hegel, Sochineniia, Vol. 4, p. 9
6- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. 1, Moscow, Gospolitizdat, 1955, p. 73
7- See ibid., p. 80
8- Ibid., p. 100
9- Ibid., p. 99
10- Ibid., p. 124
11- Ibid., p. 105
12- See ibid., pp. 192-194
13- Ibid., p. 201
14- Ibid., p. 194
15- Ibid., p. 198
16- Ibid., p. 198، على هذا المستوى، تختلف فلسفة فويرباخ عن الانسان اختلافاً كبيراً عن المركزية الانسانية anthropocentrism الوجودية المتطرفة. بالنسبة الى ميرلوبونتي فان العالم موجود وله أهمية فقط في تجارب الذات.
see Merleau-Ponty, Les aventures de la dialectique, Paris, 1955, p. 383
17- كان لوسيف مُحقاً في الاشارة الى ما يدين به فويرباخ للرومانسية الألماني.
see A. F. Losev, "Problema Rikharda Vagnera v proshlom i nastoiashchem," in the collection Voprosy estetiki, Issue 8, Moscow, "Iskusstvo" Press, 1968, p. 131
18- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. I, p. 148
19- Ibid., p. 203
20- Ibid
21- See L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. 11, Moscow, Gospolitizdat, 1955, p. 30
22- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. I, p. 111.
23- A. F. Losev, "Problema Rikharda Vagnera v proshlom inastoiashchem," in the collection Voprosy estetiki, Issue 8, p. 137
24- L. Feuerbach, Izbrannye filosofskie proizvedeniia, Vol. I, p. 190
25- Ibid., p. 203
26- F. Ebner, Fragmente, Aufsatze, Aphorismen, Munich, 1963, p. 251.
27- مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، ص73
28- Marx and Engels, -Soch Vol. 21, p. 317
29- See Dante Alighieri, Malye proizvedeniia, Moscow, Goslitizdat, 1968, p. 322
30- مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، ص105
31- See V. A. Lektorskii, Problema sub ekta i ob ekta v klassicheskoi i sovremennoi burzhuaznoi filosofii, Moscow, 1965, p. 100 M. B. Turovskii, "Dhlektika kak metod postroeniia teorii," Voprosy filosofii, 1965, No. 2, pp. 46-48.
ترجمة لمقالة:
A. A. Mitiushin (1973) Feuerbach s Philosophy of Man and the Problem of the Subject s Activity, Soviet Studies in Philosophy, 12:1, 18-32
6
- الجزء الأول -
الرواقية
بقلم الفليسوف الانجليزي برتراند راسل
ترجمة: فؤاد زكريا
أما أقوى الحركات الفلسفية تأثيرًا من بين المذاهب التي ازدهرَت في العصر الهلينستي فهي الرواقية. ولقد كانت الرواقية مذهبًا أضعفَ ارتباطًا بأرض اليونان الأصلية من المدارس الأثينية الكبرى؛ ولذلك كان البعض من أشهر مُمثِّليها شرقيين، وفيما بعدُ كانوا من الرومان الغربيين، وكان مؤسِّس الحركة فينيقيًّا قبرصيًّا اسمه زينون، لا نعرف تاريخ مولده بالضبط، ولكنه يقع خلال النصف الثاني من القرن الرابع ق.م، وقد انتقل في شبابه أولًا إلى أثينا؛ لمتابعة الأعمال التِّجارية لأسرته، وهناك ظهرت ميوله الفلسفية، فتخلى عن التجارة وأنشأ بعد مدة مُدارَسة خاصة به، وكان من عادته أن يُحاضِر في رواق بويكيلي Stoa Poikile، وهو ممر مسقوف ومصبوغ بألوانٍ متعددة، ومن هنا جاء اسم المذهب الرواقي Stoicism استمرت الفلسفة الرواقية زهاء خمسة قرون، وخلال هذه المدة طرأت على تعاليمها تغيراتٌ كبيرة، غير أن ما يَجمع الحركةَ كلها هو تعاليمها الأخلاقية التي ظلت على ما هي عليه طوال الوقت. ويرجع أصل هذا الجانب في الرواقية إلى الطريقة السقراطية في الحياة، وهكذا كانت الفضائل التي يُقدِّرها الرواقيون هي الشجاعة في مواجهة الخطر والألم، وعدم الاكتراث بالأوضاع المادية. وكان هذا التأكيد لأهمية قوة التحمل والتنزه هو الذي أضفى على كلمة «الرواقي» معناها الحديث.
إن الرواقية — من حيث هي نظرية أخلاقية — تبدو نظامًا صارمًا لا لون له، إذا ما قُورِن بنظريات العصر الكلاسيكي، غير أنها نجحت من حيث هي مذهبٌ في اجتذاب محدَّد من الأتباع يفوق ما اجتذبه مذهب أفلاطون وأرسطو، ومن الجائز أن تأكيد أفلاطون للمعرفة بوصفها الخير الأسمى لم يكن يُقبَل بسهولة بين أناس كانوا منغمسين في الحياة العملية. وعلى أية حال فقد كان الذهب الرواقي هو الذي استحوذ على خيال الملوك والحكام الهلينستيين. أما مسألة إن كان هذا يكفي لتحقيق آمال سقراط في أن يُصبِح الفلاسفة ملوكًا والملوك فلاسفة، فهذا أمر مشكوك فيه.
ولم يتبقَّ لنا شيء من أعمال الرواقيين الأوائل إلا على شكل شذرات، وإن كان من الممكن تكوينُ فكرة معقولة عن تعاليمهم عن طريق تجميعها، ويبدو أن اهتمام زينون كان أخلاقيًّا في المحل الأول، ومن المسائل الرئيسية التي ظلت تَشغَل الاهتمامَ طوال عهد الفلسفة الرواقية مشكلةُ الحتمية وحريةِ الإرادة، وهي مسألة فلسفية كبرى ظلت تحتفظ بقدرٍ من الحيوية جعلها موضوعًا لاهتمام الفلاسفة عبر العصور حتى يومنا هذا؛ ففي رأي زينون أن الطبيعة خاضعة بدقة لحكم القانون، ويبدو أن نظريته الكونية قد استلهَمَت آراء الفلاسفة السابقين لسقراط أساسًا؛ فقد كان زينون يرى، مثل هرقليطس، أن المادة الأصلية هي النار، ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمُضيِّ الوقت، وذلك على نحوٍ يُشبِه نظريات أنكساجوراس إلى حدٍّ ما. وفي النهاية يحدث حريق شامل، ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، وتبدأ الأمور كلها سيرتَها من جديد، كما في نظرية الدورات عند أنبادقليس، أما القوانين التي يسير العالم في مجراه وفقًا لها فتَصدُر عن سُلطة عليا تحكم التاريخ في كافة تفاصيله؛ فكل شيء يحدث من أجل هدف معين على نحوٍ مقدَّر مقدمًا. أما الفاعلية العليا أو الإلهية فلا تُعَد شيئًا خارجًا عن العالم، وإنما هي تسري فيه كالماء حين يتسرب في الرمال. وهكذا فإن الله قوة كامنة يحيا جزءٌ منها داخل كل كائن بشري، وقد أصبح هذا الاتجاه في التفكير مشهورًا في العصر الحديث بفضل الكتابات الفلسفية لاسبينوزا الذي تأثر بالتراث الرواقي.
وأسمى خيرٍ هو الفضيلة التي يكون قوامها هو العيش في وَحْدة مع العالم، ولكن ينبغي ألا نتصوَّر هذه الفكرة على أنها تحصيلُ حاصل، على أساس أن كل ما يوجد لا بد أن يكون في وحدة مع العالم، بل إن المقصود هنا هو توجيه إرادة الشخص، بحيث تمتزج بالطبيعة بدلًا من أن تُعارِضَها، أما النعم الدنيوية فلا تُعَد ذاتَ قيمة كبيرة؛ فقد يَحرِم طاغيةٌ إنسانًا من كل الأشياء الخارجية التي يملكها، بل حتى من الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يَسلبه فضيلته، التي هي مِلكٌ له مُتأصِّل فيه، يستحيل انتزاعه منه، وهكذا نصل إلى النتيجة القائلة إن الإنسان حين يرفض المطالب الزائفة للخيرات الخارجية تُصبِح حريته كاملة؛ لأن فضيلته التي هي وحدها الشيءُ الجدير بالاهتمام، لا يُمكِن أن يُؤثِّر فيها أي ضغط خارجي.
وعلى الرغم مما تُثيره هذه الآراء من إعجاب بوصفها قواعدَ لحياةٍ كريمة، فإن في المذهب أخطاءً خطيرة من حيث هو نظرية أخلاقية؛ وذلك لأنه إذا كان العالم يحكمه القانون، فلا جدوى من أن تعظ الناس بأن الفضيلة تعلو على كل شيء، إذ إن السبب الوحيد الذي جعل الفضلاء فضلاء هو أن الأمور كان ينبغي أن تكون على هذا النحو، وكذلك الحال في الأشرار، وماذا نقول عندئذٍ عن الألوهية التي تُدبِّر للشر مقدمًا؟ إن الاقتراح الذي تَقدَّم به أفلاطون في أحد مواضع «الجمهورية»، والقائل إن الله
1
الرواقية
بقلم الفليسوف الانجليزي برتراند راسل
ترجمة: فؤاد زكريا
أما أقوى الحركات الفلسفية تأثيرًا من بين المذاهب التي ازدهرَت في العصر الهلينستي فهي الرواقية. ولقد كانت الرواقية مذهبًا أضعفَ ارتباطًا بأرض اليونان الأصلية من المدارس الأثينية الكبرى؛ ولذلك كان البعض من أشهر مُمثِّليها شرقيين، وفيما بعدُ كانوا من الرومان الغربيين، وكان مؤسِّس الحركة فينيقيًّا قبرصيًّا اسمه زينون، لا نعرف تاريخ مولده بالضبط، ولكنه يقع خلال النصف الثاني من القرن الرابع ق.م، وقد انتقل في شبابه أولًا إلى أثينا؛ لمتابعة الأعمال التِّجارية لأسرته، وهناك ظهرت ميوله الفلسفية، فتخلى عن التجارة وأنشأ بعد مدة مُدارَسة خاصة به، وكان من عادته أن يُحاضِر في رواق بويكيلي Stoa Poikile، وهو ممر مسقوف ومصبوغ بألوانٍ متعددة، ومن هنا جاء اسم المذهب الرواقي Stoicism استمرت الفلسفة الرواقية زهاء خمسة قرون، وخلال هذه المدة طرأت على تعاليمها تغيراتٌ كبيرة، غير أن ما يَجمع الحركةَ كلها هو تعاليمها الأخلاقية التي ظلت على ما هي عليه طوال الوقت. ويرجع أصل هذا الجانب في الرواقية إلى الطريقة السقراطية في الحياة، وهكذا كانت الفضائل التي يُقدِّرها الرواقيون هي الشجاعة في مواجهة الخطر والألم، وعدم الاكتراث بالأوضاع المادية. وكان هذا التأكيد لأهمية قوة التحمل والتنزه هو الذي أضفى على كلمة «الرواقي» معناها الحديث.
إن الرواقية — من حيث هي نظرية أخلاقية — تبدو نظامًا صارمًا لا لون له، إذا ما قُورِن بنظريات العصر الكلاسيكي، غير أنها نجحت من حيث هي مذهبٌ في اجتذاب محدَّد من الأتباع يفوق ما اجتذبه مذهب أفلاطون وأرسطو، ومن الجائز أن تأكيد أفلاطون للمعرفة بوصفها الخير الأسمى لم يكن يُقبَل بسهولة بين أناس كانوا منغمسين في الحياة العملية. وعلى أية حال فقد كان الذهب الرواقي هو الذي استحوذ على خيال الملوك والحكام الهلينستيين. أما مسألة إن كان هذا يكفي لتحقيق آمال سقراط في أن يُصبِح الفلاسفة ملوكًا والملوك فلاسفة، فهذا أمر مشكوك فيه.
ولم يتبقَّ لنا شيء من أعمال الرواقيين الأوائل إلا على شكل شذرات، وإن كان من الممكن تكوينُ فكرة معقولة عن تعاليمهم عن طريق تجميعها، ويبدو أن اهتمام زينون كان أخلاقيًّا في المحل الأول، ومن المسائل الرئيسية التي ظلت تَشغَل الاهتمامَ طوال عهد الفلسفة الرواقية مشكلةُ الحتمية وحريةِ الإرادة، وهي مسألة فلسفية كبرى ظلت تحتفظ بقدرٍ من الحيوية جعلها موضوعًا لاهتمام الفلاسفة عبر العصور حتى يومنا هذا؛ ففي رأي زينون أن الطبيعة خاضعة بدقة لحكم القانون، ويبدو أن نظريته الكونية قد استلهَمَت آراء الفلاسفة السابقين لسقراط أساسًا؛ فقد كان زينون يرى، مثل هرقليطس، أن المادة الأصلية هي النار، ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمُضيِّ الوقت، وذلك على نحوٍ يُشبِه نظريات أنكساجوراس إلى حدٍّ ما. وفي النهاية يحدث حريق شامل، ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، وتبدأ الأمور كلها سيرتَها من جديد، كما في نظرية الدورات عند أنبادقليس، أما القوانين التي يسير العالم في مجراه وفقًا لها فتَصدُر عن سُلطة عليا تحكم التاريخ في كافة تفاصيله؛ فكل شيء يحدث من أجل هدف معين على نحوٍ مقدَّر مقدمًا. أما الفاعلية العليا أو الإلهية فلا تُعَد شيئًا خارجًا عن العالم، وإنما هي تسري فيه كالماء حين يتسرب في الرمال. وهكذا فإن الله قوة كامنة يحيا جزءٌ منها داخل كل كائن بشري، وقد أصبح هذا الاتجاه في التفكير مشهورًا في العصر الحديث بفضل الكتابات الفلسفية لاسبينوزا الذي تأثر بالتراث الرواقي.
وأسمى خيرٍ هو الفضيلة التي يكون قوامها هو العيش في وَحْدة مع العالم، ولكن ينبغي ألا نتصوَّر هذه الفكرة على أنها تحصيلُ حاصل، على أساس أن كل ما يوجد لا بد أن يكون في وحدة مع العالم، بل إن المقصود هنا هو توجيه إرادة الشخص، بحيث تمتزج بالطبيعة بدلًا من أن تُعارِضَها، أما النعم الدنيوية فلا تُعَد ذاتَ قيمة كبيرة؛ فقد يَحرِم طاغيةٌ إنسانًا من كل الأشياء الخارجية التي يملكها، بل حتى من الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يَسلبه فضيلته، التي هي مِلكٌ له مُتأصِّل فيه، يستحيل انتزاعه منه، وهكذا نصل إلى النتيجة القائلة إن الإنسان حين يرفض المطالب الزائفة للخيرات الخارجية تُصبِح حريته كاملة؛ لأن فضيلته التي هي وحدها الشيءُ الجدير بالاهتمام، لا يُمكِن أن يُؤثِّر فيها أي ضغط خارجي.
وعلى الرغم مما تُثيره هذه الآراء من إعجاب بوصفها قواعدَ لحياةٍ كريمة، فإن في المذهب أخطاءً خطيرة من حيث هو نظرية أخلاقية؛ وذلك لأنه إذا كان العالم يحكمه القانون، فلا جدوى من أن تعظ الناس بأن الفضيلة تعلو على كل شيء، إذ إن السبب الوحيد الذي جعل الفضلاء فضلاء هو أن الأمور كان ينبغي أن تكون على هذا النحو، وكذلك الحال في الأشرار، وماذا نقول عندئذٍ عن الألوهية التي تُدبِّر للشر مقدمًا؟ إن الاقتراح الذي تَقدَّم به أفلاطون في أحد مواضع «الجمهورية»، والقائل إن الله
1
هو فاعل الخير وحده في العالم، لن يُجدِيَ هنا فتيلًا. يُمكننا أن نُوجِّه اعتراضاتٍ مماثلةً إلى اسبينوزا وليبنتس٦ اللذَين يُحاولان تجنب الصعوبة بالقول إن العقل البشري عاجزٌ عن إدراك ضرورة الأشياء ككل، على حين أن كل شيء مرتَّب على أفضل نحو في أحسن عالمٍ ممكن.
ولكن بغضِّ النظر تمامًا عن الصعوبات المنطقية في النظرية، فيبدو أن هناك أخطاءً واقعية واضحة؛ ذلك لأن من حقنا أن نخشى ألا يكون البؤسُ بوجهٍ عام مؤديًا إلى رفع شأن الفضيلة أو إعلاء الروح، وفضلًا عن ذلك فإن مِن الاكتشافات الباعثة للأسى في هذا العصر التقدمي الذي نعيش فيه أنَّ مِن الممكن باستخدام المهارة اللازمة تحطيمَ إرادة أي شخص تقريبًا مهما كانت صلابةُ مَعدِنه، ولكن الأمر الذي تصدق فيه الرواقية بحق هو إدراكها أن الفضيلة من حيث هي خير داخلي، أهمُّ بمعنًى ما من كل ما عداها. فمن الممكن دائمًا أن نُعوِّض بقدرٍ معين ما يضيع من الممتلكات المادية، أما إذا فقد المرء احترامه لذاته، فإنه ينحطُّ إلى ما دون مستوى البشر.
ـــــــــــــــــ
المصدر: كتاب / حكمة الغرب، برتراند راسل، ترجمة فؤاد زكريا.
2
ولكن بغضِّ النظر تمامًا عن الصعوبات المنطقية في النظرية، فيبدو أن هناك أخطاءً واقعية واضحة؛ ذلك لأن من حقنا أن نخشى ألا يكون البؤسُ بوجهٍ عام مؤديًا إلى رفع شأن الفضيلة أو إعلاء الروح، وفضلًا عن ذلك فإن مِن الاكتشافات الباعثة للأسى في هذا العصر التقدمي الذي نعيش فيه أنَّ مِن الممكن باستخدام المهارة اللازمة تحطيمَ إرادة أي شخص تقريبًا مهما كانت صلابةُ مَعدِنه، ولكن الأمر الذي تصدق فيه الرواقية بحق هو إدراكها أن الفضيلة من حيث هي خير داخلي، أهمُّ بمعنًى ما من كل ما عداها. فمن الممكن دائمًا أن نُعوِّض بقدرٍ معين ما يضيع من الممتلكات المادية، أما إذا فقد المرء احترامه لذاته، فإنه ينحطُّ إلى ما دون مستوى البشر.
ـــــــــــــــــ
المصدر: كتاب / حكمة الغرب، برتراند راسل، ترجمة فؤاد زكريا.
2
الفيلسوف الجديد
كيف نقرأ هذا الكتاب ( عزاء الفلسفة - بوئيثيوس - ترجمة: عادل مصطفى) علي حسين.
(حده الإنسان من بوسعه أن يرفع رأسه)
لا تزال الفلسفة تقدم نفسها كطريقة لتحقيق الاستقلال والحرية والانسجام الداخلي ، تلك الحالة التي تعتمد فيها الذات على نفسها ، ونحن نصادف هذه الثيمة عند سقراط وعند الرواقيين الذين يؤمنون بقدرة النفس البشرية على تحرير نفسها من كل شيء غريب عنها .في تاريخ الفلسفة نجد القليل من الفلاسفة الذين وهبوا حياتهم لتأمل الحياة ، يسمون انفسهم فلاسفة . وكان الروماني " بوئثيوس " يرفض ان يسمى فيلسوفا ، فهو على حد تعبير فولتير " طبيب نفوس " . تبدو مهمة الفلسفة عند بوئثيوس في الدعوة إلى الكلام الصريح ، والكشف عما يدور بخاطرك :" إذا اردت ان يفحصك الطبيب ، فعليك ان تُعرب عن جرحك " – عزاء الفلسفة ترجمة عادل مصطفى -
يواجه بوئثيوس الفلسفة وقد حكم عليه بالموت في مشهد يذكرنا بحوار سقراط مع تلامذته قبل تنفيذ حكم الموت عليه .. فهو فقد ثروته وحريته وتزوره الفلسفة مجسدة بهيئة امراة لتطلب منه ان يحتمي بقوته الذاتية وان يتخذ من الفلسفة عزاء للنفس . وتخبره بان عليه ان يسعى لاستخدام اسلحته في مواجهة مصيره :" ألست أنت من أرضعته يوما من لبني وأطعمته من طعامي إلى أن بلغ أشده؟ لقد منحتك أسلحة كفيلة بأن تحميك وتذود عنك ولكنك ألقيت بها بعيدا؟ ألا تعرفني؟ لماذا أنت صامت؟ هل أصمتك الخجل أم أسكتك الذهول؟ كنت أود أن يكون الخجل، ولكن الذهول فيما أرى هو الذي يتملّكك." – عزاء الفلسفة ترجمة عادل مصطفى –
يتساءل أرسطو: ما هي مهمة الفلسفة؟ ولماذا كان بلوغ الحكمة هو غايتنا القصوى؟ ، فياتي الجواب من بوئثيوس : انها الرغبة في الخير الأسمى، والوصول إلى السعادة الخالصة.
تسعى الفلسفة الى طمئتة " بوئثيوس" وهو في زنزانته ، بانها لن تتخلى عنه وستقاسمه عناءه في مواجهة الظلم الذي تعرض له ، وتذكره بانها ساندت سقراط لكي ينتصر على الموت . وعلى مدى تاريخها واجهت قوى الشر التي تهدد الانسان ، ولم تتراجع او ترتعد خوفا ، فهي على استعداد دوما للوقوف ضد قوى الغباء .
تذكر الفلسفة ابنها " بوئثيوس " بان طريق السعادة الحقيقي ، ينبع من التامل لا من الشهرة او الحظ او الرغبات ، فالفلسفة مهمتها ان يمتلك الانسان الارادة الحرة ، وان يتمكن من اتخاذ خيارات اصيلة .. ولهذا فان اي فعل عقلي لن يكتب له النجاح من دون الارادة الحرة .
لكن في عالم تحكمه ارادة الإله هل يملك الانسان القدرة على اتخاذ خياراته بنفسه ؟ وتجيب الفلسفة ان الارادة الحرة تعني الخير ، وان الله يساعدنا على تدبير كل الاشياء بالخير .
كان " بوئثيوس" الذي يُعرف بوصفه اخر الفلاسفة الرومان واول فلاسفة اللاهوت في القرون الوسطى ، فيلسوفا بالغ الاهمية ، بدء دراسته للفلسفة بترجمة اعمال افلاطون وارسطو الى اللاتينية ، وهو ما ساهم في الحفاظ عليها ويعد كتابه " عزاء الفلسفة " من اهم الكتب في العصور الوسطى ، وحظي بشهرة كبيرة حتى ان ملكة بريطانيا اليزابيث الاولى ترجمت الكتاب عام 1593 : " ويزعم انها فعلت ذلك في اربع وعشرين ساعة ويقول بعض الناس : بل سبع وعشرين ساعة " – الفلاسفة الموتى سايمون كريتشلي ترجمة ابراهيم الكلثم –
لكي نفهم كيف امكن للفلسفة أن تكون عزاءً ، فربما يلزمنا النظر الى " بوئثيوس" على انه وريث التصور العريق للفلسفة باعتبارها رياضة روحية ، فهي تسعى لانتشالنا من الظلمات ومن العمى لتكشف النور الحقيقي ، وتعليم النفس ان " ما تباشره في الخارج تملكه سرا في ذاتها " . ولهذا سخر الفلسفة وهي تواجه بوئثيوس ، من الذين يبحثون عن السعادة خارج نفوسهم ، فالسعادة كامنة في كل انسان :" دعني أوجز لك سر السعادة الخالصة: هل هناك ما هو أغلى عندك من نفسك؟ ستقول لا، إذن إذا كنت سيدَ نفسك فأنت تملك شيئا لا تود أن تفقده على الإطلاق، ولا يستطيع الحظ أن يَسلِبك إياه، إن السعادة لا يمكن أن تعتمد على أشياء خاضعة للمصادفة " - عزاء الفلسفة -
ظلت الفلسفة الرواقية فعلا مستمرا ومتوحدا مع الحياة ، التي يجب ان تتجدد كل لحظة ، وكان هدف الفلسفة ان تطوع ارادة الفرد مع العقل وهذا يحتاج الى تامل مكثف ووعي متجدد . وان نعيش في الحاضر ، فهو وحده الذي يحقق السعادة وهو الواقع الوحيد الذي ننتمي اليه .
يأتي عمل بوئثيوس، تتويجا لارواح اساتذته من افلاطون وارسطو ، فقد حاول التوفيق بين قوة روح ارسطو ودقتها ، وبين التأمل والخيال اللذين التسم بهما افلاطون ، وكان الاقرب لوعي الناس وهمومهم ، ومن الصعب ادراك اهمية ان ينقذ مجتمعه من ان تغتصبه الرذيلة والجهالة ، وقد تتبع خلال كتاباته درب الفيلسوف افلاطون في معرفة مثال الخير وصولا الى معرفة مثال الله .
1
لا تزال الفلسفة تقدم نفسها كطريقة لتحقيق الاستقلال والحرية والانسجام الداخلي ، تلك الحالة التي تعتمد فيها الذات على نفسها ، ونحن نصادف هذه الثيمة عند سقراط وعند الرواقيين الذين يؤمنون بقدرة النفس البشرية على تحرير نفسها من كل شيء غريب عنها .في تاريخ الفلسفة نجد القليل من الفلاسفة الذين وهبوا حياتهم لتأمل الحياة ، يسمون انفسهم فلاسفة . وكان الروماني " بوئثيوس " يرفض ان يسمى فيلسوفا ، فهو على حد تعبير فولتير " طبيب نفوس " . تبدو مهمة الفلسفة عند بوئثيوس في الدعوة إلى الكلام الصريح ، والكشف عما يدور بخاطرك :" إذا اردت ان يفحصك الطبيب ، فعليك ان تُعرب عن جرحك " – عزاء الفلسفة ترجمة عادل مصطفى -
يواجه بوئثيوس الفلسفة وقد حكم عليه بالموت في مشهد يذكرنا بحوار سقراط مع تلامذته قبل تنفيذ حكم الموت عليه .. فهو فقد ثروته وحريته وتزوره الفلسفة مجسدة بهيئة امراة لتطلب منه ان يحتمي بقوته الذاتية وان يتخذ من الفلسفة عزاء للنفس . وتخبره بان عليه ان يسعى لاستخدام اسلحته في مواجهة مصيره :" ألست أنت من أرضعته يوما من لبني وأطعمته من طعامي إلى أن بلغ أشده؟ لقد منحتك أسلحة كفيلة بأن تحميك وتذود عنك ولكنك ألقيت بها بعيدا؟ ألا تعرفني؟ لماذا أنت صامت؟ هل أصمتك الخجل أم أسكتك الذهول؟ كنت أود أن يكون الخجل، ولكن الذهول فيما أرى هو الذي يتملّكك." – عزاء الفلسفة ترجمة عادل مصطفى –
يتساءل أرسطو: ما هي مهمة الفلسفة؟ ولماذا كان بلوغ الحكمة هو غايتنا القصوى؟ ، فياتي الجواب من بوئثيوس : انها الرغبة في الخير الأسمى، والوصول إلى السعادة الخالصة.
تسعى الفلسفة الى طمئتة " بوئثيوس" وهو في زنزانته ، بانها لن تتخلى عنه وستقاسمه عناءه في مواجهة الظلم الذي تعرض له ، وتذكره بانها ساندت سقراط لكي ينتصر على الموت . وعلى مدى تاريخها واجهت قوى الشر التي تهدد الانسان ، ولم تتراجع او ترتعد خوفا ، فهي على استعداد دوما للوقوف ضد قوى الغباء .
تذكر الفلسفة ابنها " بوئثيوس " بان طريق السعادة الحقيقي ، ينبع من التامل لا من الشهرة او الحظ او الرغبات ، فالفلسفة مهمتها ان يمتلك الانسان الارادة الحرة ، وان يتمكن من اتخاذ خيارات اصيلة .. ولهذا فان اي فعل عقلي لن يكتب له النجاح من دون الارادة الحرة .
لكن في عالم تحكمه ارادة الإله هل يملك الانسان القدرة على اتخاذ خياراته بنفسه ؟ وتجيب الفلسفة ان الارادة الحرة تعني الخير ، وان الله يساعدنا على تدبير كل الاشياء بالخير .
كان " بوئثيوس" الذي يُعرف بوصفه اخر الفلاسفة الرومان واول فلاسفة اللاهوت في القرون الوسطى ، فيلسوفا بالغ الاهمية ، بدء دراسته للفلسفة بترجمة اعمال افلاطون وارسطو الى اللاتينية ، وهو ما ساهم في الحفاظ عليها ويعد كتابه " عزاء الفلسفة " من اهم الكتب في العصور الوسطى ، وحظي بشهرة كبيرة حتى ان ملكة بريطانيا اليزابيث الاولى ترجمت الكتاب عام 1593 : " ويزعم انها فعلت ذلك في اربع وعشرين ساعة ويقول بعض الناس : بل سبع وعشرين ساعة " – الفلاسفة الموتى سايمون كريتشلي ترجمة ابراهيم الكلثم –
لكي نفهم كيف امكن للفلسفة أن تكون عزاءً ، فربما يلزمنا النظر الى " بوئثيوس" على انه وريث التصور العريق للفلسفة باعتبارها رياضة روحية ، فهي تسعى لانتشالنا من الظلمات ومن العمى لتكشف النور الحقيقي ، وتعليم النفس ان " ما تباشره في الخارج تملكه سرا في ذاتها " . ولهذا سخر الفلسفة وهي تواجه بوئثيوس ، من الذين يبحثون عن السعادة خارج نفوسهم ، فالسعادة كامنة في كل انسان :" دعني أوجز لك سر السعادة الخالصة: هل هناك ما هو أغلى عندك من نفسك؟ ستقول لا، إذن إذا كنت سيدَ نفسك فأنت تملك شيئا لا تود أن تفقده على الإطلاق، ولا يستطيع الحظ أن يَسلِبك إياه، إن السعادة لا يمكن أن تعتمد على أشياء خاضعة للمصادفة " - عزاء الفلسفة -
ظلت الفلسفة الرواقية فعلا مستمرا ومتوحدا مع الحياة ، التي يجب ان تتجدد كل لحظة ، وكان هدف الفلسفة ان تطوع ارادة الفرد مع العقل وهذا يحتاج الى تامل مكثف ووعي متجدد . وان نعيش في الحاضر ، فهو وحده الذي يحقق السعادة وهو الواقع الوحيد الذي ننتمي اليه .
يأتي عمل بوئثيوس، تتويجا لارواح اساتذته من افلاطون وارسطو ، فقد حاول التوفيق بين قوة روح ارسطو ودقتها ، وبين التأمل والخيال اللذين التسم بهما افلاطون ، وكان الاقرب لوعي الناس وهمومهم ، ومن الصعب ادراك اهمية ان ينقذ مجتمعه من ان تغتصبه الرذيلة والجهالة ، وقد تتبع خلال كتاباته درب الفيلسوف افلاطون في معرفة مثال الخير وصولا الى معرفة مثال الله .
1
اذا كان صحيحاً ان بوئثيوس مات وفي ذهنه مسألتان العدل والخير ، كما قال احد تلامذته ، فلا شك انه مات رجلاً حزينا، فقد غدرت الحياة باحلامه ، في انتظار الموت ستخبره الفلسفة انه عندما تعاكس الحياة الانسان ، فهي تخدمه ، لان الحياة تخدعنا حين تعطينا وهم السعادة ، لكن عندما تخلع الحياة قناعها وتكشف لنا عن مدى غدر الزمان ، حينها نكون قد تعلمنا درسا ، إذ تعلمنا ظروف الحياة مدى هشاشة السعادة التي توفرها لنا الثروة ، والشهرة ، وتكشف عن خذلان الاصدقاء ، مما يجعل الفلسفة تنبهه ان لا يخضع لاحكام الحظ :" إنك إذا أسلمت شراعك للريح فستدفع بقاربك إلى حيث تشاء هي لا إلى حيث تشاء أنت، وإذا أنت أودعت بذورك الأرض فسوف توازن ما بين سنوات الرخاء وسنوات القحط، وما دمت الآن قد أسلمت نفسك للحظ فعليك أن تخضع لأحكامه، أتريد حقا أن توقِف دولاب الحظ عن الدوران ؟ ألا تعلم، يا أشد الفانين حمقا، أن الحظ إذا بدأ في التوقف لا يعود حظًّا ؟ " – عزاء الفلسفة -
كان في التاسعة من عمره حين تلقى " أنيسيوس مانليوس توراكواتوس بوئثيوس " المولود في روما عام 480 ميلادية اول امتحان حقيقي في حياته ، فقد توفي والده تاركا له ثروة كبيرة ، كانت اسرته واحدة من اشهر الاسر الاستقراطية اعتنقت المسيحية قبل ميلاده بمئة عام ، عين والده قنصلا في عهد الملك أودويسير ، وعندما توفى تولى تربيته احد اقاربه " كوينتس أوريليوس سيماخوس " الذي عين حاكما لمدينة روما ورئيسا لمجلس الشيوخ، وكان محبا للادب والفلسفة ، وقد سعى لتعليم بوئثيوس اللغة اليونانية ، درس الهندسة والمنطق والرياضيات ، وقد استرعى ذكاءه انتباه الوصي على تربيته، فقدمه الى الملك تيودوريكوس، الذي قربه إليه وعهد إليه ببناء ساعة مائية ومزولة واستعان به في أمور فنية أخرى، وفي عام 501 عين بوئثيوس بمنصب قنصل، وارتقى ليصبح رئيسا للديوان .
يُعد " بوئثيوس " من سلالة الفلاسفة الذين حاولوا ايجاد توازن بين الحياة السياسية والحياة التأملية على الرغم من هذه المناصب السياسية الرفيعة التي حصل عليها إلا ان الشغف بالفلسفة كان يسيطر على حياته ، ونراه يقضي الليل في ترجمة كتب الفلسفة اليونانية :" أود أن أترجم أعمال أرسطو كلها، بقدر ما تتوافر لدي، إلى لغة الرومان، ، كل ما سطره أرسطو في الفن العسير للمنطق، وفي المجال المهم للخبرة الأخلاقية، وفي الفهم الدقيق للموضوعات الطبيعية، سوف أترجمه على النحو الصحيح، وفضلًا عن ذلك فسوف أجعل كل هذا مفهومًا بتزويده بشروحٍ مُفسِّرة، وأود أيضا بالتأكيد أن أترجم كل محاورات أفلاطون، وأشرحها بالمثل، وأعرضها بذلك في صيغة لاتينية، وبعد أن أفرغ من ذلك لن أتردد في إثبات أن أفكار كل من أرسطو وأفلاطون متوافقة في كل النواحي، وأنها ليست متناقضة فيما بينها كما يُفترَض على نطاقٍ واسع، وسوف أبين كذلك أنها تتفق فيما بينها في النقاط الحاسمة فلسفيًّا، هذه هي المهمة التي سأكرس لها نفسي بقدر ما يتيح لي الأجل والفراغ " – عزاء الفلسفة–
تُسير حياة " بوئثيوس " منتظمة ما بين الفلسفة والعمل السياسي ، ونراه في مواقف حادا بانتقاد جشع بعض السياسيين ، وكان يرثي دائما لاحوال سكان الولايات الذين يعانون من الفقر ، واستخدم سلطته في كبح جماح بعض موظفي القصر الذين كانوا يستنزفون ثروات البلاد ، وكان يمتلك الشجاعة في مواجهة كبار رجال الدولة رافضا الغزوات الرومانية التي كانت في نظره تثير جشع قادة الجيش ، وكثيرا ما قدمت شكاوى ضده تتهمه بالاساءة الى سمعة رومانيا وسعى رجال البلاط للتخلص منه ، وجاءت الفرصة عندما وجه الاتهام لاحد اعضاء مجلس الشيخ وكان اسمه " ألبينوس" بانه يسعى للتامر على الحكم ، ولان " بوئثيوس " يعرف اخلاص " ألبينوس" لروما ، وان الاتهام باطل وملفق ، فقد وقف داخل قاعة مجلس الشيوخ ليعلن :" إذا كان ألبينوس مجرما ، فانا واعضاء المجلس نعتبر مذنبين لأننا اقترفنا الذنب نفسه ، واذا كنا بريئين فان من حق ألبينوس ان تحميه القوانين " . وسرعان ما اعتبر بوئثيوس شريكا في المؤامرة ، فتم القاء القبض عليه ، وصدر قرار من مجلس الشيخ بالحكم عليه بالاعدام ، واودع في احدى سجون مدينة بافيا لمدة ستة اشهر تعرض فيها لشتى انواع التعذيب لينفذ به حكم الاعدام في التاسع من ايلول عام 524 ميلادية ، وقد تسلمت عائلته جثمانه حيث دفن في كنيسة سان بييترو
في انتظار تنفيذ حكم الاعدام قام بوئثيوس بكتابة " عزاء الفلسفة " ، ورغم ان الكتاب مليء باستشهادات فلسفية إلا ان ما اثار اعجاب فولتير وهو يعيد قراءته اكثر من مرة ان " عزاء الفلسفة " كتب دون اللجوء الى أية مكتبة ، ورغم ان الكتاب يستند على مقولات لارسطو وافلاطون واشارات الى هوميروس ، فان الفيلسوف الفرنسي باسكال اعتبره وثيقة مهمة للدفاع عن الايمان ، كان بوئثيوس قد كتب العديد من الكتب إلا ان شهرته ظلت مرافقة لكتابه " عزاء الفلسفة " حيث حظي باهتمام فلاسفة القرون الوسطى والنهضة ، وكان من اكثر الكتب قراءة في التراث الفلسفي
2
كان في التاسعة من عمره حين تلقى " أنيسيوس مانليوس توراكواتوس بوئثيوس " المولود في روما عام 480 ميلادية اول امتحان حقيقي في حياته ، فقد توفي والده تاركا له ثروة كبيرة ، كانت اسرته واحدة من اشهر الاسر الاستقراطية اعتنقت المسيحية قبل ميلاده بمئة عام ، عين والده قنصلا في عهد الملك أودويسير ، وعندما توفى تولى تربيته احد اقاربه " كوينتس أوريليوس سيماخوس " الذي عين حاكما لمدينة روما ورئيسا لمجلس الشيوخ، وكان محبا للادب والفلسفة ، وقد سعى لتعليم بوئثيوس اللغة اليونانية ، درس الهندسة والمنطق والرياضيات ، وقد استرعى ذكاءه انتباه الوصي على تربيته، فقدمه الى الملك تيودوريكوس، الذي قربه إليه وعهد إليه ببناء ساعة مائية ومزولة واستعان به في أمور فنية أخرى، وفي عام 501 عين بوئثيوس بمنصب قنصل، وارتقى ليصبح رئيسا للديوان .
يُعد " بوئثيوس " من سلالة الفلاسفة الذين حاولوا ايجاد توازن بين الحياة السياسية والحياة التأملية على الرغم من هذه المناصب السياسية الرفيعة التي حصل عليها إلا ان الشغف بالفلسفة كان يسيطر على حياته ، ونراه يقضي الليل في ترجمة كتب الفلسفة اليونانية :" أود أن أترجم أعمال أرسطو كلها، بقدر ما تتوافر لدي، إلى لغة الرومان، ، كل ما سطره أرسطو في الفن العسير للمنطق، وفي المجال المهم للخبرة الأخلاقية، وفي الفهم الدقيق للموضوعات الطبيعية، سوف أترجمه على النحو الصحيح، وفضلًا عن ذلك فسوف أجعل كل هذا مفهومًا بتزويده بشروحٍ مُفسِّرة، وأود أيضا بالتأكيد أن أترجم كل محاورات أفلاطون، وأشرحها بالمثل، وأعرضها بذلك في صيغة لاتينية، وبعد أن أفرغ من ذلك لن أتردد في إثبات أن أفكار كل من أرسطو وأفلاطون متوافقة في كل النواحي، وأنها ليست متناقضة فيما بينها كما يُفترَض على نطاقٍ واسع، وسوف أبين كذلك أنها تتفق فيما بينها في النقاط الحاسمة فلسفيًّا، هذه هي المهمة التي سأكرس لها نفسي بقدر ما يتيح لي الأجل والفراغ " – عزاء الفلسفة–
تُسير حياة " بوئثيوس " منتظمة ما بين الفلسفة والعمل السياسي ، ونراه في مواقف حادا بانتقاد جشع بعض السياسيين ، وكان يرثي دائما لاحوال سكان الولايات الذين يعانون من الفقر ، واستخدم سلطته في كبح جماح بعض موظفي القصر الذين كانوا يستنزفون ثروات البلاد ، وكان يمتلك الشجاعة في مواجهة كبار رجال الدولة رافضا الغزوات الرومانية التي كانت في نظره تثير جشع قادة الجيش ، وكثيرا ما قدمت شكاوى ضده تتهمه بالاساءة الى سمعة رومانيا وسعى رجال البلاط للتخلص منه ، وجاءت الفرصة عندما وجه الاتهام لاحد اعضاء مجلس الشيخ وكان اسمه " ألبينوس" بانه يسعى للتامر على الحكم ، ولان " بوئثيوس " يعرف اخلاص " ألبينوس" لروما ، وان الاتهام باطل وملفق ، فقد وقف داخل قاعة مجلس الشيوخ ليعلن :" إذا كان ألبينوس مجرما ، فانا واعضاء المجلس نعتبر مذنبين لأننا اقترفنا الذنب نفسه ، واذا كنا بريئين فان من حق ألبينوس ان تحميه القوانين " . وسرعان ما اعتبر بوئثيوس شريكا في المؤامرة ، فتم القاء القبض عليه ، وصدر قرار من مجلس الشيخ بالحكم عليه بالاعدام ، واودع في احدى سجون مدينة بافيا لمدة ستة اشهر تعرض فيها لشتى انواع التعذيب لينفذ به حكم الاعدام في التاسع من ايلول عام 524 ميلادية ، وقد تسلمت عائلته جثمانه حيث دفن في كنيسة سان بييترو
في انتظار تنفيذ حكم الاعدام قام بوئثيوس بكتابة " عزاء الفلسفة " ، ورغم ان الكتاب مليء باستشهادات فلسفية إلا ان ما اثار اعجاب فولتير وهو يعيد قراءته اكثر من مرة ان " عزاء الفلسفة " كتب دون اللجوء الى أية مكتبة ، ورغم ان الكتاب يستند على مقولات لارسطو وافلاطون واشارات الى هوميروس ، فان الفيلسوف الفرنسي باسكال اعتبره وثيقة مهمة للدفاع عن الايمان ، كان بوئثيوس قد كتب العديد من الكتب إلا ان شهرته ظلت مرافقة لكتابه " عزاء الفلسفة " حيث حظي باهتمام فلاسفة القرون الوسطى والنهضة ، وكان من اكثر الكتب قراءة في التراث الفلسفي
2
وسيقوم الفيلسوف الالماني " لايبنتز" بتقديم نسخة ملخصة منه في الالمانية ، ويتعدى تاثيره محيط الفلاسفة ليصل الى دانتي الذي يحيي بوئثيوس في القصيدة العاشرة من الفردوس :
" في مرأى كل خير تتنعم
نفس مقدسة تُري لمن يريد
ان يسمعها ان العالم خادع " – الكوميديا الالهية ترجمة حسن عثمان -
في السجن وجد" بوئثيوس " نفسه في مواجهة الشر دون ان تتمكن معارفه وفلسفته في مساعدته ، فالفلسفة اصبحت بالنسبة اليه منتهية الصلاحية ، لكن الشعر ليس كذلك ، فاستنجد بربات الشعر . كان " بوئثيوس " في الرابعة والاربعين من عمره يواجه اعتى اعصار ، غضب الملك وحكم الاعدام الذي اصدره مجلس الشيوخ ، وتخلي الناس عنه ، الجميع ينظر اليه باعتباره رجلا شريرا وغريبا ، ادعوا ان طامع في السلطة ، وجزموا ان الواجب معاقبته ، وقتله .ووسط كل هذه المحن وجد نفسه مضطرا الى كتابة الشعر الحزين :"
" انظر كيف تُملي عليَّ ربات الشعر المعذَّبات،
وكيف تستدر دموعي بغنائها الباكي
لم تتورع قطُّ عن مرافقتي في محنتي ولم تتخل عني "
وبينما هو يشكو من مصيرة المؤلم ، ووسط مناجاته لنفسه ينتبه لصوت امراة تقاطعه :" امرأةٍ جليلة المظهر تقف أمامي، عيونها وهاجةٌ نافذة بقدر يتجاوز القوة البشرية المعتادة، كانت مثقلة بالسنين بحيث يتعذر أن أتصورها من زمننا، فتارة تبدو في حجم البشر العادي، وطورا تتسامق حتى تطاول عنان السماء برأسها " – عزاء الفلسفة – .يكتب جون غرايش ان المراة في عزاء الفلسفة :" تؤدي دور بياتريس في الكوميديا الالهية عند دانتي وتساعده على صعود كل مراحل الارتقاء الروحي ، سُلم بعد سُلم ، الذي يوفر له العزاء والانعتاق والشفاء " - العيش بالتفلسف ترجمة محمد شوقي الزين -
كانت المراة التي ظهرت له تحمل في يدها اليمنى لفافة مكتوبة من الورق، وفي اليسرى صولجانا يمثل مجدها وسلطانها يوم كانت أم العلوم.
غضبت – المراة ..الفلسفة - ، حين شاهدت احد ابنائها بوئثيوس يستنجد بالشعر ويدير ظهره للفلسفة لتصرخ :" من الذي سمح لهؤلاء البغايا الهستيريات بالاقتراب من فراش هذا المريض؟ فليس لديهن علاج لأوجاعه بل سموم محلاة تزيدها سوءا، فهؤلاء من يطمسن ثمرات العقل بأشواك العاطفة العقيمة، ويوطن عقول الناس على الكرب بدلًا من أن يحررنهم منه، فلو أن من توقعن في حبائلكن، كدأبكن دائمًا، هو رجل من سواد الناس، لما كنت أعبأ بذلك فما كان ليضيرني شيئا، أما هذا الرجل فقد نشأ على دراسة الإيليين والأكاديميين، إنما أنتن سيرينات تهلكن من يقع في غوايتكن، اغربن إذن واتركنه لربات الفلسفة ترعاه وتداويه." – عزاء الفلسفة–
تقرر الفلسفة أن تستبدل هذه الاشعار بافكارها القادرة على معالجة المريض وشفاءه :" عندما وجدتني صامتا ، بل ملبسا غير قادر على النطق ، وضعت يدها برفق على صدري وقالت : لا خطر ، إنه يعاني من النسيان او الوهن " . لقد نسى " بوئثيوس " نفسه واصبح عقله ضالا ، ولكي تبدد ذلك ستخلصه من فقدان الذاكرة ، فبسبب العذاب والسجن لم يعد " بوئثيوس " يعرف من هو بالضبط ، ولهذا تبدأ الفلسفة اولا بتعريف نفسها ، وثانيا بتذكيره بالسلسلة الطويلة من الفلاسفة الذين قتلوا في سبيل الحق ، من سقراط الى سينيكا ، وتنبهه انها خاضت معارك كبيرةٍ ضد قوى الغباء الطائشة، وكافحت وقاومت، وفي كل مرة تبتكر وسائل جديدة للانتصار على الحمقى .تطلب الفلسفة من " بوئثيوس " ان يقوم بتغيير جذري في النظرة الى حياته ، بدلا من ان يرى نفسه ضحية ، عليه ان يعي انه اختار طريفه بحرية . تطلب منه ان يتذكر موطنه الحقيقي :" غير ان في حقيقة الامر لم تنف بعيدا عن وطنك ، بل انت الذب ظللت بعيدا عن نفسك " –عزاء الفلسفة – ، وعندما يندب بوئثيوس حظه من فقدان العدالة في العالم ، حيث غالبا ما يزدهر الاشرار ، ويعاني الاخيار والفاضلون ، ترد الفلسفة بصرامة ان الفاضلين هم من يكافؤون في النهاية لانهم يمتلكون القدرة على الاستحصال على السعادة الاصيلة ، وذلك عبر سعيهم للخير . اما الاشرار فيتراءى لهم انهم منتصرون ، لكنهم في الواقع اصبحوا في درجة دنيا من الانسانية بسبب تخليهم عن عقولهم . يستمع " بوئثيوس " الى مرافعة الفلسفة عن الخير والشر ، ويبدا بالدفاع عن نفسه ، ليخبرها ان انخراطه بالسياسة كان من اجل الرغبة في تفادي " ان تشيخ الفضيلة وهي خاملة الذكر " ، وتعترف الفلسفة بمشروعية الرغبة في المجد والشهرة بما يحققه الانسان من خدمات نبيلة للدولة ، لكنها تقلل من شانها بالاشارة الى هشاشة وتفاهة هذا الحافز .. وياخذ العلاج الذي تقدمه – المراة .. الفلسفة – منحى افلاطونيا " البحث عن السعادة هو البحث عن ان تكون واحدا " ، وتنبهه الى ان الرغبة في الخير الحقيقي هي شيء متأصل في نفوس البشر ، وما يجعلهم يتيهون عن هذا الهدف هو السير في الدروب الضالة سعيا وراء خير زائف ..
3
" في مرأى كل خير تتنعم
نفس مقدسة تُري لمن يريد
ان يسمعها ان العالم خادع " – الكوميديا الالهية ترجمة حسن عثمان -
في السجن وجد" بوئثيوس " نفسه في مواجهة الشر دون ان تتمكن معارفه وفلسفته في مساعدته ، فالفلسفة اصبحت بالنسبة اليه منتهية الصلاحية ، لكن الشعر ليس كذلك ، فاستنجد بربات الشعر . كان " بوئثيوس " في الرابعة والاربعين من عمره يواجه اعتى اعصار ، غضب الملك وحكم الاعدام الذي اصدره مجلس الشيوخ ، وتخلي الناس عنه ، الجميع ينظر اليه باعتباره رجلا شريرا وغريبا ، ادعوا ان طامع في السلطة ، وجزموا ان الواجب معاقبته ، وقتله .ووسط كل هذه المحن وجد نفسه مضطرا الى كتابة الشعر الحزين :"
" انظر كيف تُملي عليَّ ربات الشعر المعذَّبات،
وكيف تستدر دموعي بغنائها الباكي
لم تتورع قطُّ عن مرافقتي في محنتي ولم تتخل عني "
وبينما هو يشكو من مصيرة المؤلم ، ووسط مناجاته لنفسه ينتبه لصوت امراة تقاطعه :" امرأةٍ جليلة المظهر تقف أمامي، عيونها وهاجةٌ نافذة بقدر يتجاوز القوة البشرية المعتادة، كانت مثقلة بالسنين بحيث يتعذر أن أتصورها من زمننا، فتارة تبدو في حجم البشر العادي، وطورا تتسامق حتى تطاول عنان السماء برأسها " – عزاء الفلسفة – .يكتب جون غرايش ان المراة في عزاء الفلسفة :" تؤدي دور بياتريس في الكوميديا الالهية عند دانتي وتساعده على صعود كل مراحل الارتقاء الروحي ، سُلم بعد سُلم ، الذي يوفر له العزاء والانعتاق والشفاء " - العيش بالتفلسف ترجمة محمد شوقي الزين -
كانت المراة التي ظهرت له تحمل في يدها اليمنى لفافة مكتوبة من الورق، وفي اليسرى صولجانا يمثل مجدها وسلطانها يوم كانت أم العلوم.
غضبت – المراة ..الفلسفة - ، حين شاهدت احد ابنائها بوئثيوس يستنجد بالشعر ويدير ظهره للفلسفة لتصرخ :" من الذي سمح لهؤلاء البغايا الهستيريات بالاقتراب من فراش هذا المريض؟ فليس لديهن علاج لأوجاعه بل سموم محلاة تزيدها سوءا، فهؤلاء من يطمسن ثمرات العقل بأشواك العاطفة العقيمة، ويوطن عقول الناس على الكرب بدلًا من أن يحررنهم منه، فلو أن من توقعن في حبائلكن، كدأبكن دائمًا، هو رجل من سواد الناس، لما كنت أعبأ بذلك فما كان ليضيرني شيئا، أما هذا الرجل فقد نشأ على دراسة الإيليين والأكاديميين، إنما أنتن سيرينات تهلكن من يقع في غوايتكن، اغربن إذن واتركنه لربات الفلسفة ترعاه وتداويه." – عزاء الفلسفة–
تقرر الفلسفة أن تستبدل هذه الاشعار بافكارها القادرة على معالجة المريض وشفاءه :" عندما وجدتني صامتا ، بل ملبسا غير قادر على النطق ، وضعت يدها برفق على صدري وقالت : لا خطر ، إنه يعاني من النسيان او الوهن " . لقد نسى " بوئثيوس " نفسه واصبح عقله ضالا ، ولكي تبدد ذلك ستخلصه من فقدان الذاكرة ، فبسبب العذاب والسجن لم يعد " بوئثيوس " يعرف من هو بالضبط ، ولهذا تبدأ الفلسفة اولا بتعريف نفسها ، وثانيا بتذكيره بالسلسلة الطويلة من الفلاسفة الذين قتلوا في سبيل الحق ، من سقراط الى سينيكا ، وتنبهه انها خاضت معارك كبيرةٍ ضد قوى الغباء الطائشة، وكافحت وقاومت، وفي كل مرة تبتكر وسائل جديدة للانتصار على الحمقى .تطلب الفلسفة من " بوئثيوس " ان يقوم بتغيير جذري في النظرة الى حياته ، بدلا من ان يرى نفسه ضحية ، عليه ان يعي انه اختار طريفه بحرية . تطلب منه ان يتذكر موطنه الحقيقي :" غير ان في حقيقة الامر لم تنف بعيدا عن وطنك ، بل انت الذب ظللت بعيدا عن نفسك " –عزاء الفلسفة – ، وعندما يندب بوئثيوس حظه من فقدان العدالة في العالم ، حيث غالبا ما يزدهر الاشرار ، ويعاني الاخيار والفاضلون ، ترد الفلسفة بصرامة ان الفاضلين هم من يكافؤون في النهاية لانهم يمتلكون القدرة على الاستحصال على السعادة الاصيلة ، وذلك عبر سعيهم للخير . اما الاشرار فيتراءى لهم انهم منتصرون ، لكنهم في الواقع اصبحوا في درجة دنيا من الانسانية بسبب تخليهم عن عقولهم . يستمع " بوئثيوس " الى مرافعة الفلسفة عن الخير والشر ، ويبدا بالدفاع عن نفسه ، ليخبرها ان انخراطه بالسياسة كان من اجل الرغبة في تفادي " ان تشيخ الفضيلة وهي خاملة الذكر " ، وتعترف الفلسفة بمشروعية الرغبة في المجد والشهرة بما يحققه الانسان من خدمات نبيلة للدولة ، لكنها تقلل من شانها بالاشارة الى هشاشة وتفاهة هذا الحافز .. وياخذ العلاج الذي تقدمه – المراة .. الفلسفة – منحى افلاطونيا " البحث عن السعادة هو البحث عن ان تكون واحدا " ، وتنبهه الى ان الرغبة في الخير الحقيقي هي شيء متأصل في نفوس البشر ، وما يجعلهم يتيهون عن هذا الهدف هو السير في الدروب الضالة سعيا وراء خير زائف ..
3
وعندما تكتشف الفلسفة ان " بوئثيوس " بدأ يعرف طريق الشفاء واخذ ينخرط في حوار فلسفي فعلي ، تهنئه على التقدم الملحوظ الذي احرزه :" كم انا سعيدة يا بني لانك قبضت على جُمع الحقيقة . بذلك تكون قد انكشفت لك ما كنت تقول منذ قليل انك لا تعرفه " . وهكذا يبدأ بوئثيوس بالاستعداد الآن لقبول برهان العناية الالهية القائل ان الله يدبر الاشياء الموجودة كلها بوازع الخير . وحين يحدثها عن الاشرار الذين غدرو به وان الشر يمضي من دون عقاب تخبره ان الاشرار هم من يستحقون الشفقة اكثر من ضحايتا شرورهم . فهم في حاجة الى شفاء من خبثهم اكثر من غيرهم . تختتم الفلسفة مرافعتها بان تحث ابنها بوئثيوس للسير نحو الفضيلة ، لانه يعيش تحت عين قاضٍ يرى ويعلم كل شيء من موقعه خارج الزمان .. وهكذا تسير رحلة بوئثيوس في دروب الفلسفة ليتوصل في النهاية الى طريق الخير الحقيقي وصولا الى معرفة الله معرفة عقلية وروحية .
استطاع بوئثيوس ان يجمع في كتابه " عزاء الفلسفة " بين الشعر والبلاغة ونفائس الفلاسفة والمنطق . وسيصبح كتابه انجيلا لفلسفة العصور الوسطى حيث وجدت فيها إيمانها، والمبرر الفلسفي لهذا الإيمان..هكذا قدم لنا بوئثيوس في كتابه " عزاء الفلسفة دفاعا شديد الاهمية عن العقل البشري في مواجهة الظلم والشر الذي يحيط بالبشر ، والاهم انه يمنحنا دروسا عن التواضع المعرفي.
4
استطاع بوئثيوس ان يجمع في كتابه " عزاء الفلسفة " بين الشعر والبلاغة ونفائس الفلاسفة والمنطق . وسيصبح كتابه انجيلا لفلسفة العصور الوسطى حيث وجدت فيها إيمانها، والمبرر الفلسفي لهذا الإيمان..هكذا قدم لنا بوئثيوس في كتابه " عزاء الفلسفة دفاعا شديد الاهمية عن العقل البشري في مواجهة الظلم والشر الذي يحيط بالبشر ، والاهم انه يمنحنا دروسا عن التواضع المعرفي.
4
الفيلسوف الجديد
بؤس الفلسفة لكارل ماركس - لماذ أختلف الرفاق؟ علي حسين
تلقى اول صفعة على وحهه عندما كان في العاشرة من عمره . كان الأب يحاول أن يقنع ابنه الدخول الى مدرسة اللاهوت . لكن " بيير جوزيف برودون " لم يكن يفكر سوى بالبؤس الذي تعيش فيه عائلته . الاب يعمل صانعا للبراميل والام طباخة في مطعم صغير ، فيما كان الصبي يعمل راعيا ، وفي اوقات الفراغ يحاول تعلم اللغة اللاتينية لكن من دون الاستعانة بقاموس ، فلم تكن العائلة تملك المال اللازم لشراء كتب لابنها المتفوق في الدراسة .كان ينظر الى وجه أبيه ويتساءل هل الفقر يجعل الانسان قاسيا ؟ . كتب في دفتر يومياته :" اني اعلم ما هو البؤس ، فقد عشت فيه . وانا مدين بكل ما اعلم لليأس " .
الاب الذي ادمن على الخمر ، لا يعرف القراءة والكتابة ، لكنه كان دائم الحضور الى الكنيسة مع زوجته واولاده ، امنيته الوحيده ان يجد ابنه " بيير" ذات يوم واقفا مكان القس يلقي موعظة الاحد ، وكان بالامكان ان تصنع الحياة البائسة من هذا الصبي رجلا ساخطا على الحياة ، لكن شغفه بالقراءة ومتابعة احوال الناس وذكاءه العجيب جعلت منه فيلسوفا مشاغبا ، او كما سيسميه الناقد الفرنسي الشهير سانت بوف بـ" رجل الفكر والنضال والجراة " ، فقد اقسم على ان يكرس حياته لتحرير " اخوته ورفاقه " وهو يكتب في احدى رسائله :" انا ثائر ولست بهدام " . وعندما صار شابا ، قرر ان يثور على " البؤس " . لم يكن والده معنيا بالثورة ، كان يطمح ان يساعده في تحمل مسؤولية العائلة . هكذا فقد هدد ابنه بان يصفعه ان لم يترك هذه الكتب التي لعبت بعقله . وفي المدرسة لم تكن الامور احسن حالا ، فقد اضطر بسبب الحاجة ان يقطع دراسته .
كانت الفترة الاولى من حياة برودون اشبه بالضربات المتتالية ، ومع كل ضربة كان يشعر بحقيقة البؤس والظلم الذي تعيشه الطبقات الفقيرة : لا بد من حل .. انها الثورة :" رأيت من واجبي التذكير . بان هناك احوالا تصبح فيها الثورة حتما وواجبا معا .. انا ادفع للثورة بجميع الوسائل .. بالكلام والكتابة والصحافة والعمل وضرب المثل " .
ولد " بيير جوزيف برودون " في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1809 في بيزانسون الفرنسية القريبة من الحدود السويسرية ، الابن الثالثة لعائلة تتكون من خمسة ابناء ، توفي اثنان منهم في سن مبكرة . لم يتلق برودون أي تعليم عندما كان طفلاً ، لكن والدته تكفلت بتعليمه القراءة في سن الثالثة. عندما بلغ الثانية عشر من عمره دخل المدرسة . كان شغوفا بالتعليم يقضي معظم وقته في مكتبة المدرسة ليستكشف العالم جيدا .عمل في احدى المطابع التي تتولى طباعة الكتب الدينية ، فكان يقضي الساعات في قراءة كتب الفكر المسيحي ، سيخبرنا فيما بعد أن رحلته الدينية بدأت بالبروتستانتية وانتهت بكونه مسيحيا جديدا. يتحول للعمل في الصحافة ، في هذه الفترة يتعرف على المفكر الفرنسي شارل فورييه تدور بينهما حوارات حول مجموعة متنوعة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية الفلسفية.. وقد تركت هذه المناقشات انطباعا قويا عند برودون وأثرت عليه طوال حياته. في هذه الفترة يتفرغ لقراءة اعمال مونتاني وروسو وفولتير وديدرو ، لكن من بين هؤلاء سيغرم بمونتسكيو وكتابه " روح الشرائع " ويتمنى ذات يوم ان يكتب كتابا مثله . عام 1830 يحصل على منحة لاكمال دراسته ، يصدر له اول كتبه " ابحاث حول المقولات القواعدية " . كان في التاسعة والعشرين عندما تقدم للحصول على شهادة البكلوريا . وفي خريف عام 1938 قرر ان يسافر الى باريس لاكمال دراسته الجامعية . في العام 1839 سيلفت الانظار اليه حيث اصدر كتابا " حول الاحتفال بيوم الاحد "، لكنه سيضطر لترك باريس اثر الضجة التي اثارها كتابه " ما هي الملكية ؟ " وهو الكتاب الذي اثار اهتمام ماركس فخصص له صفحات في كتابه العائلة المقدسة :" ان كتاب برودون ما هي الملكية ؟ هو البيان العلمي الناطق باسم البروليتاريا " – العائلة المقدسة ترجمة حنا عبود - .
سيواصل برودون اثارة الضجيج حول اعماله . العام 1841 يصدر عددا من الكتابات اشبه برسائل كانت واحدة منها بعنوان " تحذير الى المالكين " ، يقدم للمحكمة التي ستبرأه . وبسبب مواقفه ورفعه شعار " الملكية = سرقة " تم التضييق عليه ويفصل من عمله ، إلا ان صداقته مع الشاعر تيوفيل غوتيه ستنقذه من وضعه المادي البائس ، حيث وجد له عملا في احدى شركات النقل ، مما اتاح له دخلا شهريا ثابتا ..خلال السنوات الخمسة التي امضاها برودون في هذه الوظيفة نشر كتابين هما " اقامة النظام لدى البشرية " وكتاب " نظام التناقضات الاقتصادية " الذي اشتهر باسمه الثاني " فلسفة البؤس " وهو الكتاب الذي اثار حفيظة كارل ماركس فكتب ردا عنيفا عليه في كتاب بعنوان " فلسفة البؤس " نشر عام 1847 .
1
الاب الذي ادمن على الخمر ، لا يعرف القراءة والكتابة ، لكنه كان دائم الحضور الى الكنيسة مع زوجته واولاده ، امنيته الوحيده ان يجد ابنه " بيير" ذات يوم واقفا مكان القس يلقي موعظة الاحد ، وكان بالامكان ان تصنع الحياة البائسة من هذا الصبي رجلا ساخطا على الحياة ، لكن شغفه بالقراءة ومتابعة احوال الناس وذكاءه العجيب جعلت منه فيلسوفا مشاغبا ، او كما سيسميه الناقد الفرنسي الشهير سانت بوف بـ" رجل الفكر والنضال والجراة " ، فقد اقسم على ان يكرس حياته لتحرير " اخوته ورفاقه " وهو يكتب في احدى رسائله :" انا ثائر ولست بهدام " . وعندما صار شابا ، قرر ان يثور على " البؤس " . لم يكن والده معنيا بالثورة ، كان يطمح ان يساعده في تحمل مسؤولية العائلة . هكذا فقد هدد ابنه بان يصفعه ان لم يترك هذه الكتب التي لعبت بعقله . وفي المدرسة لم تكن الامور احسن حالا ، فقد اضطر بسبب الحاجة ان يقطع دراسته .
كانت الفترة الاولى من حياة برودون اشبه بالضربات المتتالية ، ومع كل ضربة كان يشعر بحقيقة البؤس والظلم الذي تعيشه الطبقات الفقيرة : لا بد من حل .. انها الثورة :" رأيت من واجبي التذكير . بان هناك احوالا تصبح فيها الثورة حتما وواجبا معا .. انا ادفع للثورة بجميع الوسائل .. بالكلام والكتابة والصحافة والعمل وضرب المثل " .
ولد " بيير جوزيف برودون " في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1809 في بيزانسون الفرنسية القريبة من الحدود السويسرية ، الابن الثالثة لعائلة تتكون من خمسة ابناء ، توفي اثنان منهم في سن مبكرة . لم يتلق برودون أي تعليم عندما كان طفلاً ، لكن والدته تكفلت بتعليمه القراءة في سن الثالثة. عندما بلغ الثانية عشر من عمره دخل المدرسة . كان شغوفا بالتعليم يقضي معظم وقته في مكتبة المدرسة ليستكشف العالم جيدا .عمل في احدى المطابع التي تتولى طباعة الكتب الدينية ، فكان يقضي الساعات في قراءة كتب الفكر المسيحي ، سيخبرنا فيما بعد أن رحلته الدينية بدأت بالبروتستانتية وانتهت بكونه مسيحيا جديدا. يتحول للعمل في الصحافة ، في هذه الفترة يتعرف على المفكر الفرنسي شارل فورييه تدور بينهما حوارات حول مجموعة متنوعة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية الفلسفية.. وقد تركت هذه المناقشات انطباعا قويا عند برودون وأثرت عليه طوال حياته. في هذه الفترة يتفرغ لقراءة اعمال مونتاني وروسو وفولتير وديدرو ، لكن من بين هؤلاء سيغرم بمونتسكيو وكتابه " روح الشرائع " ويتمنى ذات يوم ان يكتب كتابا مثله . عام 1830 يحصل على منحة لاكمال دراسته ، يصدر له اول كتبه " ابحاث حول المقولات القواعدية " . كان في التاسعة والعشرين عندما تقدم للحصول على شهادة البكلوريا . وفي خريف عام 1938 قرر ان يسافر الى باريس لاكمال دراسته الجامعية . في العام 1839 سيلفت الانظار اليه حيث اصدر كتابا " حول الاحتفال بيوم الاحد "، لكنه سيضطر لترك باريس اثر الضجة التي اثارها كتابه " ما هي الملكية ؟ " وهو الكتاب الذي اثار اهتمام ماركس فخصص له صفحات في كتابه العائلة المقدسة :" ان كتاب برودون ما هي الملكية ؟ هو البيان العلمي الناطق باسم البروليتاريا " – العائلة المقدسة ترجمة حنا عبود - .
سيواصل برودون اثارة الضجيج حول اعماله . العام 1841 يصدر عددا من الكتابات اشبه برسائل كانت واحدة منها بعنوان " تحذير الى المالكين " ، يقدم للمحكمة التي ستبرأه . وبسبب مواقفه ورفعه شعار " الملكية = سرقة " تم التضييق عليه ويفصل من عمله ، إلا ان صداقته مع الشاعر تيوفيل غوتيه ستنقذه من وضعه المادي البائس ، حيث وجد له عملا في احدى شركات النقل ، مما اتاح له دخلا شهريا ثابتا ..خلال السنوات الخمسة التي امضاها برودون في هذه الوظيفة نشر كتابين هما " اقامة النظام لدى البشرية " وكتاب " نظام التناقضات الاقتصادية " الذي اشتهر باسمه الثاني " فلسفة البؤس " وهو الكتاب الذي اثار حفيظة كارل ماركس فكتب ردا عنيفا عليه في كتاب بعنوان " فلسفة البؤس " نشر عام 1847 .
1
الفيلسوف الجديد
بؤس الفلسفة لكارل ماركس - لماذ أختلف الرفاق؟ علي حسين
يمارس برودون العمل السياسي من خلال صحيفة يومية اطلق عليها اسم " ممثل الشعب " ، ينتخب نائبا في الجمعية الوطنية ، ويعلن داخل الجمعية : " انني في صف العمال ضد راس المال " مؤكدا ان البروليتاريا هي الوحيدة القادرة على انجاز الثورة الاقتصادية .. يواجه هجمة شرسة من اعضاء الجمعية الوطنية حيث يصدر قرار بادانته ، وسيتذكر ماركس في تأبينه لبرودون من :" ان موقفه في الجمعية الوطنية لا يستحق سوى كل اطراء وتقدير .. فلقد كان هذا الموقف يعبر عن شجاعة فائقة " . بعد تنصيب نابليون بونابرت امبراطورا عام 1851 بدأ برودون يخوض مواجهات جديدة ضد الامبراطور، كتب عددا من المقالات هاجم فيها نابليون :" ان الامبر ما هو سوى مغامر سافل ، انتخب في جو من الوهم الشعبي ليهيمن على مقدرات الجمهورية " ، يصدر عليه حكم بالسجن ثلاث سنوات ، يهرب الى بلجيكا .. إلا ان مغامرته بالعودة الى باريس مكنت السلطات من القبض عليه ليقضي سنوات في السجن ، يخرج بعدها ليبدأ مواجهة جديدة وهذه المرة مع الكنيسة بعد ان صدر كتابه الضخم " حول العدالة في الثورة وفي الكنيسة " تمت مصادرة الكتاب ومن جديد يجد نفسه هاربا ليقضي اربع سنوات في بلجيكا يعود منها عام 1862 بعد صدور عفو عنه .. وكانت الامراض قد حاصرته ليتوفي في التاسع عشر من كانون الثاني عام 1865 ويدفي في مقبرة مونبارناس في باريس .
قيل عن برودون بانه واحد من اشد محطمي اصنام القرن التاسع عشر " ، ويضعه البعض الى جانب كارل ماركس باعتباره اقتصادي ومفكر وثائر وسياسي وفيلسوف كبير ، فهو يوصف بانه " جد " النقابية ، والاب الشرعي للاشتراكية العلمية – قالها ماركس قبل ان يشتد الخصام بينهما – ، والاب المغذي للماركسية وواحد من اهم مؤسسي علم الاجتماع . وقد جعلت منه كتاباته رجل الطليعة في الاشتراكية الاوربية .. وفي روسيا مارس تاثيرا كبيرا على دوستويفسكي وتورجنيف وفوضوية باكونين وعلى تولستوي الذي الذي كان يصفه بـ" الرجل القوي جدا " . ظل ماركس حتى عام 1846 يشيد بدور برودون في تنمية اسس الاشتراكية العلمية ونجده يكتب في الاييولوجية الالمانية :" ان اهم ما في كتاب برودون ( في خلق النظام عند البشر ) هو جدله ، ومحاولته ايجاد طريقة تبدل بها الفكرة المستقلة بعملية التفكير " – الايديولوجية الالمانية ترجمة فؤاد ايوب - .
بخبرنا كارل ماركس انه التقى برودون اثناء اقامته في باريس عام 1844 وستدور بينهما حوارات حول هيغل ، وفي واحدة من رسائلة الى انجلز يكتب ماركس :" امضينا مناقشات طوية كثيرا ما كانت تمتد ليلة باكملها ، كنت احقنه حقنا هيغيلية كبيرة " – المراسلات ترجمة فؤاد ايوب –
كان ماركس يحمل تقديرا خاصا لبرودون الذي كان يراه افضل اشتراكي فرنسي ، ويقدر موقفه من الدين ، فقد كان برودون يعتبر الدين عقبة امام التقدم العلمي والاجتماعي ، لكنه لم يطالب بازالته نهائيا ، وايضا كان ماركس معجبا بنقد برودون للاقتصاد السياسي البرجوازي . اثناء اقامته في باريس يجد ماركس عند برودون عناصر عديدة تؤيد تصوراته ، ليس فقط نقده المعمق للملكية الخاصة ، بل ايضا تاكيده ان الاقتصاد السياسي يؤلف قاعدة التاريخ وضبط التطور الاجتماعي .
عام 1844 يطرد ماركس من باريس ، ليستقر في بروكسل مع أسرته، لينضم إليه إنجلز. وقررا وضع خطط لإنشاء لجنة مراسلات شيوعية، و قد طلب من برودون أن يكون مراسلا له في فرنسا ، غير أن هذا الأخير رفض ذلك رفضا قاطعا. كان برودون منزعجا من تأسيس مذهب فلسفي وفي واحدة من رسائله يعلن :" ليس لي مذهب وارفض رفضا صريحا التفكير في المذاهب . لن يعرف للانسانية مذهب إلا نهاية البشرية .. ان الامر الذي اهتم به هو ان اجد للانسانية طريقها او افتح لها الطريق ان استطعت " –برودون مؤبفات مختارة ترجمة عمر شخاشيرو - . ونجده يرد على احدى رسائل ماركس يلبقول :" عزيزي السيد ماركس .إني ارضى عن طيب خاطر ان اصبح طرفا من اطراف مراسللتك التي تبدو لي ذات هدف وتنظيم في غاية الفائدة .
لنبحث معا إذا سمحت عن قوانين المجتمع وعن الصيغة التي تتحقق فيها هذه القوانين وعن مدى التقدم الذي نتوصل بموجبه لاكتشافها . ولكن بالله عليك يجب ان لا نفكر بعد ان دمرنا كل العقائد القبلية بأن نخضع الشعب بدورنا الى عملية تبشير .لنتجنب الوقوع في التناقض الذي وقع فيه مواطنك مارتن لوثر الذي شرع في الحال بعد ان اسقط المذهب الكاثوليكي في تأسيس المذهب البروتستاني مستعينا بالحروم واللعنات . علينا ان لا نجعل من انفسنا ونحن على رأس الحركة رؤساء لتعصب جديد ، وان لا نضع انفسنا موضع الرسل لديانة جديدة ولو كانت هذه الديانة دين المنطق ودين العقل . علينا ان نصغي لجميع الاحتجاجات وان نشجعها . لنندد بكل حرمان وبكل صوفية . علينا ان لا ننظر مطلقا إلى اية مسألة على انها منتهية . بهذا الشرط ادخل مسرورا في شركتك وإلا فلا " .
2
قيل عن برودون بانه واحد من اشد محطمي اصنام القرن التاسع عشر " ، ويضعه البعض الى جانب كارل ماركس باعتباره اقتصادي ومفكر وثائر وسياسي وفيلسوف كبير ، فهو يوصف بانه " جد " النقابية ، والاب الشرعي للاشتراكية العلمية – قالها ماركس قبل ان يشتد الخصام بينهما – ، والاب المغذي للماركسية وواحد من اهم مؤسسي علم الاجتماع . وقد جعلت منه كتاباته رجل الطليعة في الاشتراكية الاوربية .. وفي روسيا مارس تاثيرا كبيرا على دوستويفسكي وتورجنيف وفوضوية باكونين وعلى تولستوي الذي الذي كان يصفه بـ" الرجل القوي جدا " . ظل ماركس حتى عام 1846 يشيد بدور برودون في تنمية اسس الاشتراكية العلمية ونجده يكتب في الاييولوجية الالمانية :" ان اهم ما في كتاب برودون ( في خلق النظام عند البشر ) هو جدله ، ومحاولته ايجاد طريقة تبدل بها الفكرة المستقلة بعملية التفكير " – الايديولوجية الالمانية ترجمة فؤاد ايوب - .
بخبرنا كارل ماركس انه التقى برودون اثناء اقامته في باريس عام 1844 وستدور بينهما حوارات حول هيغل ، وفي واحدة من رسائلة الى انجلز يكتب ماركس :" امضينا مناقشات طوية كثيرا ما كانت تمتد ليلة باكملها ، كنت احقنه حقنا هيغيلية كبيرة " – المراسلات ترجمة فؤاد ايوب –
كان ماركس يحمل تقديرا خاصا لبرودون الذي كان يراه افضل اشتراكي فرنسي ، ويقدر موقفه من الدين ، فقد كان برودون يعتبر الدين عقبة امام التقدم العلمي والاجتماعي ، لكنه لم يطالب بازالته نهائيا ، وايضا كان ماركس معجبا بنقد برودون للاقتصاد السياسي البرجوازي . اثناء اقامته في باريس يجد ماركس عند برودون عناصر عديدة تؤيد تصوراته ، ليس فقط نقده المعمق للملكية الخاصة ، بل ايضا تاكيده ان الاقتصاد السياسي يؤلف قاعدة التاريخ وضبط التطور الاجتماعي .
عام 1844 يطرد ماركس من باريس ، ليستقر في بروكسل مع أسرته، لينضم إليه إنجلز. وقررا وضع خطط لإنشاء لجنة مراسلات شيوعية، و قد طلب من برودون أن يكون مراسلا له في فرنسا ، غير أن هذا الأخير رفض ذلك رفضا قاطعا. كان برودون منزعجا من تأسيس مذهب فلسفي وفي واحدة من رسائله يعلن :" ليس لي مذهب وارفض رفضا صريحا التفكير في المذاهب . لن يعرف للانسانية مذهب إلا نهاية البشرية .. ان الامر الذي اهتم به هو ان اجد للانسانية طريقها او افتح لها الطريق ان استطعت " –برودون مؤبفات مختارة ترجمة عمر شخاشيرو - . ونجده يرد على احدى رسائل ماركس يلبقول :" عزيزي السيد ماركس .إني ارضى عن طيب خاطر ان اصبح طرفا من اطراف مراسللتك التي تبدو لي ذات هدف وتنظيم في غاية الفائدة .
لنبحث معا إذا سمحت عن قوانين المجتمع وعن الصيغة التي تتحقق فيها هذه القوانين وعن مدى التقدم الذي نتوصل بموجبه لاكتشافها . ولكن بالله عليك يجب ان لا نفكر بعد ان دمرنا كل العقائد القبلية بأن نخضع الشعب بدورنا الى عملية تبشير .لنتجنب الوقوع في التناقض الذي وقع فيه مواطنك مارتن لوثر الذي شرع في الحال بعد ان اسقط المذهب الكاثوليكي في تأسيس المذهب البروتستاني مستعينا بالحروم واللعنات . علينا ان لا نجعل من انفسنا ونحن على رأس الحركة رؤساء لتعصب جديد ، وان لا نضع انفسنا موضع الرسل لديانة جديدة ولو كانت هذه الديانة دين المنطق ودين العقل . علينا ان نصغي لجميع الاحتجاجات وان نشجعها . لنندد بكل حرمان وبكل صوفية . علينا ان لا ننظر مطلقا إلى اية مسألة على انها منتهية . بهذا الشرط ادخل مسرورا في شركتك وإلا فلا " .
2
الفيلسوف الجديد
بؤس الفلسفة لكارل ماركس - لماذ أختلف الرفاق؟ علي حسين
صدر كتاب كارل ماركس " بؤس الفلسفة " في صيف عام 1848 . وكان قد تفرغ لكتابته طيلة شتاء عام 1846 اثناء اقامته في بروكسل وقد كتبه بالفرنسية .وفي مراسلاته مع انجلز نعرف ان الكتاب تأخر طبعه بسبب مصاعب الحصول على ناشر له . في الكتاب يحاول ماركس ان يكشف عن تناقضات برودون :" ان طبيعة برودون تدفعه الى الجدل ، لكنه ان لم يفهم الجدل حقا فإنه لم يمض الى ابعد من السفسطة " . ويذهب ماركس ابعد من ذلك حين يصنف برودون بانه برجوازي صغير يريد الاشتراكية لكن بدون الثورة :" انه يريد ان يحلق – كرجل من رجال العلم – فوق البرجوازيين والبروليتاريين ، وهو ليس إلا البرجوازي الصغير ، الذي يتارجح بين راس المال والعمل ، بين الاقتصاد السياسي والشيوعية " – بؤس الفلسفة ترجمة حنا عبود –
كان ماركس قد قرأ كتاب برودون " نظام التناقضات الاقتصادية " او فلسفة البؤس فور صدوره. وقد ادرك ، ان برودون وضع كتابه انطلاقاً من المناقشات والرسائل التي كانت تدور بينهما حول الفلسفة والاقتصاد وقد رأى في كتاب برودون محاولة الي ايجاد دواء مؤقت للمعاناة الاجتماعية التي تعيشها الطبقات المسحوقة ، وان هذه المحاولة جزء من مجتمع برجوازي يحاول ان يحول هذه المعاناة إلى جمعيات خيرية ومنظمات مهنية .. انها الاشتراكية البرجوازية التي تريد ان تكون بديلا عن الاشتراكية الثورية . كان ماركس يرى ان برودون مثل جميع المصلحين ، المدافعين عن مصالح الطبقات الوسطى ، مدفوع بالرغبة في حماية الملكية الصغيرة الخاصة . فبرودون من وجهة نظر ماركس يقف في آن واحد ضد حق الملكية المطلق الذي يعزز الراسمال الكبير وضد الشيوعية التي كان يعتبرها خطرا اكبر بالنسبة للطبقات المتوسطة ما دامت تتعرض لمبدأ الملكية الخاصة .
في كتابه " فلسفة البؤس " يوجه برودون اللوم الى الشيوعية التي تنادي بحق الملكية المطلق لانه يقود الى الاحتكار ، ويدافع عن الملكية الصغيرة التي يعتبرها كفيلة بتامين استقلال الانسان العامل . ولهذا يتهمه ماركس بانه يتخذ موقع وسيط بين الراسمالية والاشتراكية .
يحاول ماركس في كتابه " يؤس الفلسفة " ان يضع تحليلاً علمياً لنمط الإنتاج الرأسمالي، وقواعد لاسس الاقتصاد السياسي الماركسي، فنجده يدرس بعمق الوضع الاقتصادي والدور التاريخي للبروليتاريا في الصراع الطبقي فيكتب : " ان الشرط لانعتاق الطبقة العاملة هو القضاء علي كل طبقة. وفي الوقت نفسه ان التطاحن بين البروليتاريا والبورجوازية هو صراع طبقة ضد طبقة، صراع يكون تعبيره الأقصي ثورة كلية. وفي نظام الأشياء حيث لا توجد طبقات وتطاحنات طبقية اخري، تكف الانتفاضات الاجتماعية عن ان تكون ثورات سياسية. وإلي أن يحين ذلك الوقت، وفي عشية كل تغير للمجتمع، تكون الكلمة الأخيرة دائماً للعلم الاجتماعي " – بؤس الفلسفة - .
ويبدو ان ماركس اراد تصفية حسابه مع برودون ونظريته الاقتصادية وجداله حول هيغل فيكتب : " إن من سوء حظ السيد برودون ان يكون مجهولاً في اوروبا. ففي فرنسا، قد يكون من حقه ان يعتبر اقتصادياً سيئاً، لأنه يمكن ان يعتبر فيلسوفاً ألمانياً. وفي ألمانيا، قد يكون من حقه ان يعتبر فيلسوفاً سيئاً، لأنه يمكن ان يعتبر اقتصادياً فرنسياً قوياً. أما نحن فإننا، بصفتنا ألماناً واقتصاديين في الوقت نفسه، نجد ان من حقنا ان نشجب هذا الخطأ المزدوج " . بالنسبة الي ماركس فإن برودون لا يرى في البؤس سوي البؤس، وقد فاته ان يرى فيه جانبه الثوري الهدام الذي سيتمكن من القضاء علي المجتمعات القديمة . اما برودون فقد كان يرى ان خطيئة ماركس الكبيرة انه يتجاهل ان واقع ان الاقتصاد ليس سوى جزء من علم الاجتماع . فهو يرى ان علم الاجتماع هو الوحيد القادرعلى الكشف عن المعنى الحقيقي لكل التناقضات الاقتصادية عن طريق وضعها ضمن اطرها الاجتماعية. . ولهذا نجده ياخذ على ماركس وجماعة الماديين عدم اهتمامهم بالثنائيات الماثلة في حياتنا: " لا سيما ثنائية الخير والشر." ويسخر ماركس من برودون الذي يجده يستهدي بنظرية هيغل من دون ان يكون قد فهمها جيدا . فهو يكتب تاريخاً للبشرية لا يقسم هذا التاريخ الى مراحل زمنية بل الى مراحل فكرية.
3
كان ماركس قد قرأ كتاب برودون " نظام التناقضات الاقتصادية " او فلسفة البؤس فور صدوره. وقد ادرك ، ان برودون وضع كتابه انطلاقاً من المناقشات والرسائل التي كانت تدور بينهما حول الفلسفة والاقتصاد وقد رأى في كتاب برودون محاولة الي ايجاد دواء مؤقت للمعاناة الاجتماعية التي تعيشها الطبقات المسحوقة ، وان هذه المحاولة جزء من مجتمع برجوازي يحاول ان يحول هذه المعاناة إلى جمعيات خيرية ومنظمات مهنية .. انها الاشتراكية البرجوازية التي تريد ان تكون بديلا عن الاشتراكية الثورية . كان ماركس يرى ان برودون مثل جميع المصلحين ، المدافعين عن مصالح الطبقات الوسطى ، مدفوع بالرغبة في حماية الملكية الصغيرة الخاصة . فبرودون من وجهة نظر ماركس يقف في آن واحد ضد حق الملكية المطلق الذي يعزز الراسمال الكبير وضد الشيوعية التي كان يعتبرها خطرا اكبر بالنسبة للطبقات المتوسطة ما دامت تتعرض لمبدأ الملكية الخاصة .
في كتابه " فلسفة البؤس " يوجه برودون اللوم الى الشيوعية التي تنادي بحق الملكية المطلق لانه يقود الى الاحتكار ، ويدافع عن الملكية الصغيرة التي يعتبرها كفيلة بتامين استقلال الانسان العامل . ولهذا يتهمه ماركس بانه يتخذ موقع وسيط بين الراسمالية والاشتراكية .
يحاول ماركس في كتابه " يؤس الفلسفة " ان يضع تحليلاً علمياً لنمط الإنتاج الرأسمالي، وقواعد لاسس الاقتصاد السياسي الماركسي، فنجده يدرس بعمق الوضع الاقتصادي والدور التاريخي للبروليتاريا في الصراع الطبقي فيكتب : " ان الشرط لانعتاق الطبقة العاملة هو القضاء علي كل طبقة. وفي الوقت نفسه ان التطاحن بين البروليتاريا والبورجوازية هو صراع طبقة ضد طبقة، صراع يكون تعبيره الأقصي ثورة كلية. وفي نظام الأشياء حيث لا توجد طبقات وتطاحنات طبقية اخري، تكف الانتفاضات الاجتماعية عن ان تكون ثورات سياسية. وإلي أن يحين ذلك الوقت، وفي عشية كل تغير للمجتمع، تكون الكلمة الأخيرة دائماً للعلم الاجتماعي " – بؤس الفلسفة - .
ويبدو ان ماركس اراد تصفية حسابه مع برودون ونظريته الاقتصادية وجداله حول هيغل فيكتب : " إن من سوء حظ السيد برودون ان يكون مجهولاً في اوروبا. ففي فرنسا، قد يكون من حقه ان يعتبر اقتصادياً سيئاً، لأنه يمكن ان يعتبر فيلسوفاً ألمانياً. وفي ألمانيا، قد يكون من حقه ان يعتبر فيلسوفاً سيئاً، لأنه يمكن ان يعتبر اقتصادياً فرنسياً قوياً. أما نحن فإننا، بصفتنا ألماناً واقتصاديين في الوقت نفسه، نجد ان من حقنا ان نشجب هذا الخطأ المزدوج " . بالنسبة الي ماركس فإن برودون لا يرى في البؤس سوي البؤس، وقد فاته ان يرى فيه جانبه الثوري الهدام الذي سيتمكن من القضاء علي المجتمعات القديمة . اما برودون فقد كان يرى ان خطيئة ماركس الكبيرة انه يتجاهل ان واقع ان الاقتصاد ليس سوى جزء من علم الاجتماع . فهو يرى ان علم الاجتماع هو الوحيد القادرعلى الكشف عن المعنى الحقيقي لكل التناقضات الاقتصادية عن طريق وضعها ضمن اطرها الاجتماعية. . ولهذا نجده ياخذ على ماركس وجماعة الماديين عدم اهتمامهم بالثنائيات الماثلة في حياتنا: " لا سيما ثنائية الخير والشر." ويسخر ماركس من برودون الذي يجده يستهدي بنظرية هيغل من دون ان يكون قد فهمها جيدا . فهو يكتب تاريخاً للبشرية لا يقسم هذا التاريخ الى مراحل زمنية بل الى مراحل فكرية.
3
الفيلسوف الجديد
بؤس الفلسفة لكارل ماركس - لماذ أختلف الرفاق؟ علي حسين
في رسالته الى ماركس يرفض برودون فكرة الثورة والتي :" ليست سوى اهتزاز .لا ينبغي علينا ان نطرح العمل الثوري كوسيلة للاصلاح الاجتماعي ، لان تلك الوسيلة المزعومة يمكن ان تكون مجرد دعوة للجوء الى القوة والاستبداد .. يجب ان ندخل الى المجتمع ، بواسطة تركيبة اقتصادية اخرى . وانني على يقين من امتلاكي وسيلة حل تلك المعظلة في المدى القصير " .. وكانت الوسيلة هي كتابه " فلسفة البؤس " الذي سيسميه ماركس بدستور البرجوازية الصغيرة :" كان برودون هذا نفسه يعتبر ثوريا متطرفا سواء من جانب رجال الاقتصاد السياسي او الاشتراكيين ، وهذا هو السبب في انني لم اشارك فيما بعد اولئك الذين اطلقوا الصرخات من خيانته للثولرة فليس خطأه انه ، لم يحقق الآمال التي لم يكن لها ما يبررها " .
ظل برودون طوال حياته يؤمن انه مصلح مهمته أن يهدي العالم :" كل مصلح صانع للمعجزات أو يتمنى على الاقل ان يكون كذلك .. اما انا فاستقبح المعجزات كما اكره انواع السيطرة ولا اهدف إلا الى المنطق " .
4
ظل برودون طوال حياته يؤمن انه مصلح مهمته أن يهدي العالم :" كل مصلح صانع للمعجزات أو يتمنى على الاقل ان يكون كذلك .. اما انا فاستقبح المعجزات كما اكره انواع السيطرة ولا اهدف إلا الى المنطق " .
4
" ما هي آثار هذا النوع من التنظيم علي الإنسان؟ إنه يجعل من الإنسان عجلة للآلة تحكمه تواتراتها ومتطلباتها نفسها، ويحوله إلي homo consumens إنسان مستهلك شامل، هدفه الوحيد هو أن يحصل علي أكثر وأن يستخدم أكثر. هذا المجتمع ينتج كثيراً من الأشياء غير النافعة وبنفس المستوي، كثيراً من الناس غير النافعين. والرجل، بوصفه عجلة لآلة الانتاج، يصبح مادة ويكفء عن ان يكون إنسانياً. فهو يقضي وقته في عمل أشياء لا ينتفع بها، ومع أناس لا يهتم بهم، إنه الرضيع الأبدي، مفتوح الفم، ال "مرحب" "بلا جهد ولا نشاط داخلي، بما توهمه به الصناعات الوقائية من الضجر (والتي تنتج الضجر) - من سجائر وكحول وأفلام وتلفزيون ورياضيات وقراءات - لا يحده سوي إمكانياته المالية وحدها. ولكن الصناعة الوقائية من السأم، أي صناعة توزيع المستطرفات (gadgets)، صناعة السيارات، الصناعة السينمائية، صناعة التلفزيون الخ ... لا يمكنها ان تنجح إلا في الحيلولة دون أن يصبح السأم واعياً إن هذه الصناعات تزيد في الواقع السأم، كما يؤخذ المشروب المملح لإرواء العطش فإذا به يزيد في حدته. فمهما كان لا شعورياً، فإن السأم يبقي مع ذلك السأم. لقد تنبأ ماركس بوضوح بالغ بآثار الاستهلاك المتزايد".
إريك فروم
(*) المصدر/ ثورة الأمل،إريك فروم، ترجمة: ذوقان قرقوط، دار الآداب، ص 50.
#اريك_فروم
إريك فروم
(*) المصدر/ ثورة الأمل،إريك فروم، ترجمة: ذوقان قرقوط، دار الآداب، ص 50.
#اريك_فروم
« إن مجرد غياب الجهد من حياة الإنسان يزيل مكوناً رئيسياً من مكونات السعادة منها. فالإنسان الذي يمتلك بسهولة الأشياء التي يشعر ناحيتها برغبة متوسطة يستنتج أن الحصول على الرغبات لا يحقق السعادة. فإذا كان من ذوي الميول الفلسفية فإنه يستنتج أن الحياة الإنسانية هي بالضرورة بائسة، حيث أن الإنسان الذي يحصل على كل ما يحتاجه لا يزال غير سعيد، وينسي أن افتقاد الإنسان لبعض الأشياء التي يحتاجها يُعد جزءًا لا غنى عنه من السعادة»
برتراند راسل من كتاب : الفوز بالسعادة
برتراند راسل من كتاب : الفوز بالسعادة
ماذا نفعل بالفلسفة ؟
علي حسين
( إن الفلسفة ما زالت عندنا موضع ريبة ..وكأن الفيلسوف زنديق ، وكأن التجديد بدعة ، وكأن النقد تشكيك ، وكأن الفكر العلمي دخيل علينا . لقد فرضوا علينا على مر الأجيال قوالب فكرية جامدة قاتلة بلغت ذروتها في سياسة الحفظ دون النقد ، النقل دون التجديد ، الإنحناء أمام ما هو مكتوب بدلاً من البحث العلمي المنزّه ، الترتيل دون التفتح ) .
أنور عبد الملك من كتابه تغيير العالم
لماذا لم تعد الفلسفة اليوم مرغوبة في بلاد العرب ، ولماذا أصرّ القارئ العربي أن يلقي بها خارج اهتماماته ؟ ، حيث واجهت الفلسفة عقوقاً وإهمالاً بمثل ما واجه الملك لير قسوة بناته في مسرحية شكسبير الشهيرة .
في قديم الزمان كان رجال الفكر والأدب في هذه البلدان على استعداد أن يبذلوا أرواحهم في سبيل إعلاء شأن الفلسفة حتى أن المستشرق الروسي " ستكوفيسكي " يكتب :" حين كان يسود الجمود فلسفة أوروبا في القرون الوسطى ، كان الفلاسفة العرب يعالجون كل قضايا العالم وكل شؤون الطبيعة . ولم يبدأ الكلام في أوروبا على قضايا الطبيعة ومعرفة ما هي الطبيعة ، إلا بعد أن تعرفوا على مؤلفات ابن سينا . فمنذ ذلك الحين أخذوا يطرحون الاسئلة عن الحي والجامد " .
آنذاك كان رجل مثل ابن رشد على استعداد آن يخسر حياته في سبيلها ، وقد آثر ابن المقفع أن يموت ، على أن يعيش خائناً لمبادئها ، وخاطر الفارابي أكثر من مرة ليفوز بمنصب معلم ثان ٍفي مدرستها ، وعشقها الكندي وتفلسف بها ، وطاردها ابن طفيل في حكاياته ، وعاش ابن سينا مهموماً من أجل نيل رضاها .. كانت تلك الأيام عصر عظمة الفلسفة العربية ، حين طوت في شجاعة كل معرفة تحت جناحها ، كان الناس يمجدونها ، إذ لم يكن شيء أهم وأسمى من معرفة الحق .
كان الفيلسوف الالماني هيغل قد جعل ظهور الفلسفة على مسرح الحضارة البشرية رهناً بتقدم الإنسان ، وتزايد إحساسه بالحرية ، فذلك لأنه قد فطن الى أن من خصائص الروح الفلسفية هي روح البحث المستمر ، والحرية الفكرية ، والتسامح العقلي ، والرغبة الدائمة في الحوار مع الآخرين . وقد كتب جون لويس في كتابه مدخل الى الفلسفة :" إن الفلسفة لا تبدأ إلا حينما يتهيأ للبشر أن يتنازلوا عن روح العنف والشدة ، لكي يستعيضوا عنها بروح التفاهم والمودة " .
ندرك جيدا ان فهم الحضارة الغربية امر مستحيل دون بدون شيء من المعرفة لتاريخ الفلسفة ، يكتب ميشيل اونفري ان الفلاسفة جميعا مازالوا احياء اليوم ، وما يزال لديهم ما يقولونه لنا حتى ونحن نعيش في عصر الهواتف الذكية . واعمالهم ما زالت تنطق باسم وجهات نظر عالمية تماما في زماننا هذا . وهي تطرح اجوبة حية لنفس الاسئلة التي تضغط على عقولنا وحياتنا في ايامنا هذه ولقوة . ومازلنا قادرين على تمييز روح روسو وكانط وهيغل تخفق حتى في قرننا الحالي . قرن الانجازات العلمية .
وضعت الفلسفة العربية موضع الشك للأسف ، فأنكرها البعض وسَلم بها البعض الآخر ، وكانت موجة الشك فيها طاغية خلال القرن التاسع عشر ، حيث ظن البعض إن الفلسفة تتنافى مع ما جاء به الدين الإسلامي ، فيما أصر العديد من المستشرقين على أن ما يسمى فلسفة عربية ، ليس إلا مجرد محاكاة وتقليد للفلسفة الاغريقية ، وإن كتب ابن رشد وابن سينا والفارابي هي تكرار لما كتبه أفلاطون وأرسطو ، ونجد باحثاً مثل ارنست رينان يكتب ": إن العرب لم يصنعوا شيئاً أكثر من إنهم تلقوا دائرة المعارف اليونانية في صورتها التي كان العالم مسمّى بها في القرنين السابع والثامن " ، إلا أن رينان نفسه وبعد إطلاعه على أعمال ابن رشد ونشره كتاب " ابن رشد والرشدية " يتراجع عن حكمه ويكتب إن ": العرب مثل اللاتينيين ، مع تظاهرهم بشرح أرسطو ، عرفوا كيف يخلقون لأنفسهم فلسفة ملأى بالعناصر الخاصة " .
والآن لنطرح السؤال : هل هناك فلسفة عربية ؟ يؤكد معظم الباحثين إن هناك فلسفة عربية امتازت بموضوعاتها ومشاكلها ، وإنها حاولت أن تقدم إجابات لبعض المسائل الفلسفية المهمة خصوصاً فيما يتعلق بالوجود ، والصلة بين الله ومخلوقاته التي كانت مثار جدل كبير بين فريقين من الفلاسفة ، كما إنها حاولت أن تجد توافقاً بين الحكمة والعقيدة ، وأن تتناول قضايا النفس البشرية . طبعاً هذا لاينفي القول إن الفلسفة العربية تأثرت بالفلسفة اليونانية القديمة ، وإن الفلاسفة العرب أخذوا عن أرسطو وأفلاطون العديد من آرائهم ، وإنهم شغفوا بافلوطين كثيراً ، فالثقافة العربية مثلها مثل معظم الثقافات نفذت إليها تيارات متعددة اجتمعت فيها وتفاعلت ، وفي هذا الإجتماع والتفاعل ما يولّد أفكاراً جديدة ، فمنذ قديم الزمن والفكرة الواحدة يتناولها بالبحث أشخاص عديدون ، ولا تلبث أن تظهر على أيديهم باشكال مختلفة ، وللفيلسوف الحق في أن يأخذ عن آخر بعض آرائه ويطورها ، فنحن نعرف إن سبينوزا تأثر كثيراً بديكارت وأخذ عنه ، لكنه في النهاية أسس لنفسه منهجاً فلسفياً خاصاً به ، وإن هيدغر تأثر كثيراً باستاذه ادموند هوسرل صاحب الفلسفة
1
علي حسين
( إن الفلسفة ما زالت عندنا موضع ريبة ..وكأن الفيلسوف زنديق ، وكأن التجديد بدعة ، وكأن النقد تشكيك ، وكأن الفكر العلمي دخيل علينا . لقد فرضوا علينا على مر الأجيال قوالب فكرية جامدة قاتلة بلغت ذروتها في سياسة الحفظ دون النقد ، النقل دون التجديد ، الإنحناء أمام ما هو مكتوب بدلاً من البحث العلمي المنزّه ، الترتيل دون التفتح ) .
أنور عبد الملك من كتابه تغيير العالم
لماذا لم تعد الفلسفة اليوم مرغوبة في بلاد العرب ، ولماذا أصرّ القارئ العربي أن يلقي بها خارج اهتماماته ؟ ، حيث واجهت الفلسفة عقوقاً وإهمالاً بمثل ما واجه الملك لير قسوة بناته في مسرحية شكسبير الشهيرة .
في قديم الزمان كان رجال الفكر والأدب في هذه البلدان على استعداد أن يبذلوا أرواحهم في سبيل إعلاء شأن الفلسفة حتى أن المستشرق الروسي " ستكوفيسكي " يكتب :" حين كان يسود الجمود فلسفة أوروبا في القرون الوسطى ، كان الفلاسفة العرب يعالجون كل قضايا العالم وكل شؤون الطبيعة . ولم يبدأ الكلام في أوروبا على قضايا الطبيعة ومعرفة ما هي الطبيعة ، إلا بعد أن تعرفوا على مؤلفات ابن سينا . فمنذ ذلك الحين أخذوا يطرحون الاسئلة عن الحي والجامد " .
آنذاك كان رجل مثل ابن رشد على استعداد آن يخسر حياته في سبيلها ، وقد آثر ابن المقفع أن يموت ، على أن يعيش خائناً لمبادئها ، وخاطر الفارابي أكثر من مرة ليفوز بمنصب معلم ثان ٍفي مدرستها ، وعشقها الكندي وتفلسف بها ، وطاردها ابن طفيل في حكاياته ، وعاش ابن سينا مهموماً من أجل نيل رضاها .. كانت تلك الأيام عصر عظمة الفلسفة العربية ، حين طوت في شجاعة كل معرفة تحت جناحها ، كان الناس يمجدونها ، إذ لم يكن شيء أهم وأسمى من معرفة الحق .
كان الفيلسوف الالماني هيغل قد جعل ظهور الفلسفة على مسرح الحضارة البشرية رهناً بتقدم الإنسان ، وتزايد إحساسه بالحرية ، فذلك لأنه قد فطن الى أن من خصائص الروح الفلسفية هي روح البحث المستمر ، والحرية الفكرية ، والتسامح العقلي ، والرغبة الدائمة في الحوار مع الآخرين . وقد كتب جون لويس في كتابه مدخل الى الفلسفة :" إن الفلسفة لا تبدأ إلا حينما يتهيأ للبشر أن يتنازلوا عن روح العنف والشدة ، لكي يستعيضوا عنها بروح التفاهم والمودة " .
ندرك جيدا ان فهم الحضارة الغربية امر مستحيل دون بدون شيء من المعرفة لتاريخ الفلسفة ، يكتب ميشيل اونفري ان الفلاسفة جميعا مازالوا احياء اليوم ، وما يزال لديهم ما يقولونه لنا حتى ونحن نعيش في عصر الهواتف الذكية . واعمالهم ما زالت تنطق باسم وجهات نظر عالمية تماما في زماننا هذا . وهي تطرح اجوبة حية لنفس الاسئلة التي تضغط على عقولنا وحياتنا في ايامنا هذه ولقوة . ومازلنا قادرين على تمييز روح روسو وكانط وهيغل تخفق حتى في قرننا الحالي . قرن الانجازات العلمية .
وضعت الفلسفة العربية موضع الشك للأسف ، فأنكرها البعض وسَلم بها البعض الآخر ، وكانت موجة الشك فيها طاغية خلال القرن التاسع عشر ، حيث ظن البعض إن الفلسفة تتنافى مع ما جاء به الدين الإسلامي ، فيما أصر العديد من المستشرقين على أن ما يسمى فلسفة عربية ، ليس إلا مجرد محاكاة وتقليد للفلسفة الاغريقية ، وإن كتب ابن رشد وابن سينا والفارابي هي تكرار لما كتبه أفلاطون وأرسطو ، ونجد باحثاً مثل ارنست رينان يكتب ": إن العرب لم يصنعوا شيئاً أكثر من إنهم تلقوا دائرة المعارف اليونانية في صورتها التي كان العالم مسمّى بها في القرنين السابع والثامن " ، إلا أن رينان نفسه وبعد إطلاعه على أعمال ابن رشد ونشره كتاب " ابن رشد والرشدية " يتراجع عن حكمه ويكتب إن ": العرب مثل اللاتينيين ، مع تظاهرهم بشرح أرسطو ، عرفوا كيف يخلقون لأنفسهم فلسفة ملأى بالعناصر الخاصة " .
والآن لنطرح السؤال : هل هناك فلسفة عربية ؟ يؤكد معظم الباحثين إن هناك فلسفة عربية امتازت بموضوعاتها ومشاكلها ، وإنها حاولت أن تقدم إجابات لبعض المسائل الفلسفية المهمة خصوصاً فيما يتعلق بالوجود ، والصلة بين الله ومخلوقاته التي كانت مثار جدل كبير بين فريقين من الفلاسفة ، كما إنها حاولت أن تجد توافقاً بين الحكمة والعقيدة ، وأن تتناول قضايا النفس البشرية . طبعاً هذا لاينفي القول إن الفلسفة العربية تأثرت بالفلسفة اليونانية القديمة ، وإن الفلاسفة العرب أخذوا عن أرسطو وأفلاطون العديد من آرائهم ، وإنهم شغفوا بافلوطين كثيراً ، فالثقافة العربية مثلها مثل معظم الثقافات نفذت إليها تيارات متعددة اجتمعت فيها وتفاعلت ، وفي هذا الإجتماع والتفاعل ما يولّد أفكاراً جديدة ، فمنذ قديم الزمن والفكرة الواحدة يتناولها بالبحث أشخاص عديدون ، ولا تلبث أن تظهر على أيديهم باشكال مختلفة ، وللفيلسوف الحق في أن يأخذ عن آخر بعض آرائه ويطورها ، فنحن نعرف إن سبينوزا تأثر كثيراً بديكارت وأخذ عنه ، لكنه في النهاية أسس لنفسه منهجاً فلسفياً خاصاً به ، وإن هيدغر تأثر كثيراً باستاذه ادموند هوسرل صاحب الفلسفة
1