Telegram Web Link
في رسالة كتبها سينيكا يحكي فيها عن معاناته مع المرض ورغبته في التخلص من حياته قال:
" بعد أن أصبحت في حالة من النحول الكامل، وصلتُ إلى مرحلة بات فيها خروج البلغم يقتلني فعلياً وشعرت في كثير من الأحيان برغبة في إنهاء حياتي في لحظتها، ولم توقفني سوى فكرة والدي الذي كان ألطف الآباء في معاملتي، وكان حينها في سن متقدمة. ولأن الذي استحوذ على بالي ليس شجاعتي في إنهاء حياتي، بل كم ستكون قدرته على تحمل خسارتي بعيدة عن الشجاعة، فقد أمرتُ نفسي بأن أعيش.
أحياناً، من الشجاعة حتى أن نعيش.


📖 من كتاب: رسائل من المنفى/ رسالة بعنوان : قدرة العقل على تخفيف المرض
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
"عن معنى الحياة" للفيلسوف الامريكي ويل ديورانت:


ما معنى الحياة لنا؟ ماذا ستكون إجابة الآخرين عن تساؤل كهذا؟ وما معناها لرجل يمضي بقية أيامه بين جدران زنزانة مثلا؟ صحيح أن البحث عن الحقيقة أشبه بالجري خلف السراب،لكن علينا ألا نغفل عنها بينما نواصل حياتنا،وقد تكون لدى البعض فكرة مجردة،أو تجارب حياتية لا تمت للمعرفة النظرية لدى آخرين.
إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا إذا عرف أن لحياته معنى.‏ فنحن لا نتعامل مع الأشياء المختلفة باعتبار ما هي عليه، لكننا نتعامل معها من خلال ما تعنيه بالنسبة إلينا، أي أننا لا نتعامل مع أشياء مجردة .. بل نعرفها و نتعامل معها من خلال ذواتنا. حتى إذا نظرنا إلى جوهر أي خبرة من خبراتنا اليومية، فإن هذا الجوهر سيكون متأثرًا بوجهة نظرنا الإنسانية ؛ فالخشب مثلاً له معنى مرتبط بنا كبشر ، كما أن كلمة حجر لها معنى ففط كعامل من العوامل المؤثرة فى الحياة البشرية.
وكل شخص يحاول أن يأخذ فى الاعتبار الظروف المحيطة باستبعاد المعانى ستصبح عديمة الفائدة لنفسه ولأي شخص آخر ، أي أن هذا الشخص سيصبح "عديم المعنى" ٠‏ لكن علينا أن نذكر أنه لا يوجد إنسان بشري واحد يستطيع أن يهرب من المعانى، فإن تعرفنا على الحقائق المحيطة بنا يتم من خلال المعنى الذى نلصقه بهذه الحقائق ، وليس بما هى عليه فعلاً ولكن بما فهمناهُ منها .
ولهذا فمن الطبيعي أن نستنتج أن المعنى ما هو إلا شىء ناقص وغير مُنْتّهٍ، بل إننا نستطيع أن نقول إن المعنى لا يمكن أن يكون على صواب دائمًا، وعلى هذا فإن مملكة المعانى ما هى إلا مملكة للأخطاء....
الحياة صاخبة ولذلك لا تأخذها بهذه الجدية أبحث
عن الضحكة وابذل قصارى جهدك ولا تقلق بشأن
المستقبل والأجيال القادمة.فكل جيل يحيا رغما عن الجيل الذي سبقه ولن يكون ذلك بفضل الجيل
السابق بطبيعة الحال. أيضا لا تنغمس في البحث عن المعرفة، فكلما بحث أكثر اقتربت من حافة الجنون.
ولا تضع مثالأ أعلى لنفسك تسعى للوصول إليه
فذلك أشبه بالجري خلف سراب وما إن تصل إليه ستكتشف أنه غير موجود. آمن بما تشاء من الأفكار المستقبلية لكن لا ترفع سقف توقعاتك كي لا يخيب أملك.عش حياتك بالطريقة التي تخولك لاجتياز الأزمات والمضي قدما.
لا حدود للمعرفة، والجدية الصارمة ليست الطريق الأمثل دائما، فالحياة جميلة بتنوعها،بسهولها وهضابها، في لحظاتها الحلوة والمرة، وكما تتفاوت لحظات الحياة يتفاوت معنى الحياة.


المصدر: ويل ديورانت، عن معنى الحياة، ترجمة، كنان قرحالي، دار كلمات للنشر والتوزيع، ٢٠١٩.
نحن نبني حياتنا من خلال الخيارات التي نتخذها من بين البدائل المفتوحة لنا.تشبه حياتنا الكتب التي نكتبها،من دون نهايات جاهزة،واحيانا من دون خطة جيدة لما يجب أن يأتي بعد ذلك.لمواصلة كتبنا،نحتاج الى مؤلفين مشاركين قد يعرفون أشياء معينة عنا أفضل مما نعرفه .


سكوت سومز من كتابه " العالم الذي صنعته الفلسفة "
الفيلسوف الجديد - سبينوزا.pdf
279.9 KB
محمد مصمولي - لعنة سبينوزا - مقالة قصيرة - الفيلسوف الجديد
الفيلسوف الجديد
Photo
القراءة بوصفها إبداعاً
الكتابة قراءة للعالم
والقراءة كتابة جديدة
تحن حيوانات قارئة

بينما أفكّر في موضوع "القراءة"، ولماذا القراءة، ولماذا نحن "أمّة اقرأ" - كما يقال- "أمّة لا تقرأ"؟ عادت إلى تفكيري قراءات سابقة في الموضوع. فمن بين آلاف الكتب التي قرأتُ، ولا أذكر كم ألفًا هي بالضبط، ثمّة القليل الذي تحتفظ به الذاكرة، أما الآلاف الأخرى، فقد ذهبت إلى خزانة الذاكرة البعيدة، بعد قراءتها بلحظات أو بأيّام على أكثر تقدير، وبحسب هدف القراءة، فالهدف من القراءة هو ما يحدّد "نوعها"، ومدى الاستمتاع بها والإفادة منها.
ولا شكّ في أنّ نوع الكتاب وطبيعته، ومدى عمقه وأهميّته، تلعب كلّها دوراً في تحديد "نوع" القراءة. وبما أنّني أحبّ القراءة كشيء لا غنى عنه، وعن حيويّته، فإنّني كثيراً ما أقرأ عن "عمليّة" أو عمليّات، أو أنواع القراءة نفسها. أعني القراءة بوصفها إبداعاً، وبوصفها كتابة جديدة لكلّ ما نقرأ، أو نعيد قراءته. وهو ما يستدعي وقفة، ولو سريعة، وإضاءات ولو خاطفة، على "قضيّة" تستحق الكثير من الدراسات. وللأسف فأنا لا أعرف، في عالمنا العربي- وعلى حد علمي المتواضع- مَن وضع كتاباً عن القراءة بوصفها إبداعاً.
كثيراً ما يقال "إذا كان من المهمّ أن تقرأ، ومهمّ أيضاً أن تعرف ما الذي تقرأ، فالأهمّ هو كيف تقرأ؟". وسؤال "كيف نقرأ؟" هذا، مرتبط بسؤال "لماذا تقرأ؟"، أي بـ"الهدف من القراءة"، هل هو المتعة الخالصة، أم العمل، مهما كان نوع العمل، أم إنه الهواية للقضاء على الملل وحسب؟ وعند الحديث عن القراءة؛ وعن هدفها ونوعها ونتائجها، تجدر الإشارة إلى، والتوقف عند، واحد من أهمّ وأبرع من كتبوا في القراءة وتفاصيلها، أعني الكاتب والروائي الأرجنتيني/ الكندي ألبرتو مانغويل (1948)، فهو صاحب مؤلّفات عدة متخصصة في هذا العالم. لكن كتابه "مع بورخيس" يظل من الكتب القليلة التي لا تُنسى. وللمزيد من الاطّلاع، سنعرّج على بعض كتبه، مثل "تاريخ القراءة" و"فنّ القراءة" و"يوميّات القراءة". ولعلّ أهميّة مانغويل هذا ليست في كتاباته فقط، بل أيضًاً في قراءاته واطّلاعه الواسع على عوالم يجعلك مضطراً للبحث عنها، من كتب وأفلام ولوحاتٍ لا تنسى.

القراءة إبداع ... أيضاً
بعد أن يخرج الكتاب من يد مؤلّفه، يصبح ملكاً للقارئ/ القرّاء، وينتهي تمامًا دور ذلك المؤلّف. ولعلّني لست ممّن يأخذون بالنظرية الشهيرة عن "موت المؤلّف"، في أي صورة، فالمؤلّف يعيش في قراءة / قراءات القرّاء لكتابه، وكلّما قرأه عدد أكبر من القرّاء، يعيش مجدّدًا وأعمق في ذاكرة القارئ وفي وعيه. إنّه، أي المؤلّف، صانع وعي ومتعة في آن. وكما كان بورخيس يعتقد أن "القارئ وحده هو من يمنح الحياة والعنوان للعمل الأدبي"، وأن "نظرية الأدبُ إبداعُ المؤلف (هي نظرية) مستحيلة"، فإن من الطبيعي الحديث عن علاقة خاصّة بين القراءة والكتابة. علاقة تجعل من قراءة العمل الأدبيّ كتابة جديدة له، مثلما هي الكتابة عملية قراءة للعالم، ولذا تتعدد القراءات بتعدّد الكتّاب، ويتعدد النص بتعدد قرائه.
القراءة هي، في اعتقادي، صِنو الكتابة الواحدة منهما أخت الثانية وتوأمها، فلا تعيش هذه من دون تلك. وقريباً من هذا المعنى، يكتب مانغويل عن "بوزويل" (جيمس بوزويل، صديق صموئيل جونسون وكاتب سيرته، وأحد الذين كانوا يقرأون الكتب لبورخيس- الأعمى الذي لا يرى) بوصفه "يمتلك ذاكرة واحد من قرّاء العالم العظماء"! لديه إذاً، وفي مقابل، أو إلى جانب "أعظم كاتب" ثمّة أيضاً من يمكن وصفه بأنّه "أعظم قارئ". ولكن عن أيّ قراءة نتحدّث هنا؟ ويوضح فكرته أكثر في القول "يظل الكتاب كائناً في حالة من الغموض، حتى تبادر اليد إلى فتحه والعين إلى مطالعته، وتوقظ الحياة في الكلمات".
في كتاب "فنّ القراءة"، يجتهد مانغويل فيرى أن القراءة، وليس الكلام، هي ما يميّز الكائن البشري عن سواه من الكائنات، فهي كما يرى ويعتقد "ذلك النشاط الإبداعيّ الذي يجعلنا من كلّ الأوجه إنسانيّين. أعتقد أنّنا في الجوهر حيوانات قارئة، وأن فنّ القراءة، في المعنى الأوسع للكلمة، يميّز جنسَنا". وهذا قد ينطبق على مستوياتٍ محدودة من القراءة، قد لا تكون من بينها القراءة الإبداعية، أعني القراءة المؤثّرة في النصّ، أي أنّها التي تنقله من نصّ غامض ومجهول، يرقد فوق رفوف مكتبة ما، إلى نصّ فاعل يتحرّك مثل كائن حيّ بين "القرّاء" الآخرين، أو "قُرّاء آخرين"، ويترك أثره في هؤلاء القرّاء، أي أنّنا حيال قارئ ناقد، متسائل وفاعل، قارئ يعي ما يقرأ ويسائله، وليس مجرّد قارئ مستسلم للنصّ.

فنون القراءة
ونسبة إلى مانغويل، فالقراءة "فنون"، حيث الإنسان قادر على قراءة كلّ ما حوله، وكلّ من حوله، على نحو ما. فنحن نقرأ "في المناظر الطبيعية، في السّماوات، في وجوه الآخرين، وبالطبع في الصّور والكلمات التي يخلقها جنسُنا.
الفيلسوف الجديد
Photo
نحن نقرأ حياتَنا الخاصّة وحياةَ الآخرين، نقرأ المجتمعات التي نعيش فيها، وتلك الواقعة وراء الحدود، نقرأ الصّوَر والأبنية، نقرأ ما يكمن بين غلافَي كتاب... هذه الأخيرة هي بشكل خاصّ جوهرية".
وحين نتحدّث عن قارئ مبدع، فليس بالضرورة أن يكون ناقداً أدبيّاً أو ثقافيّاً، بقدر ما نقصد إلى القارئ القادر على "توظيف" قراءاته، في مجالات شتّى، وليس في مجال اختصاصه وحسب، توظيفاً يجعل من هذه القراءة "إحياءً" للنصّ في جانب من جوانب الحياة والعمل والدراسة، فالقرّاء فئات وشرائح متعدّدة ومختلفة، من الطالب القارئ، حتّى العامل والتقنيّ ورجل الفضاء، وهكذا "فمن خلال ربط الكلمات بالتجارب، والتجارب بالكلمات، نتخيّر- كقرّاء- قصصاً تكون صدى لتجاربنا الخاصّة، أو تُهيّئنا لتجارب جديدة، أو تروي لنا عن تجارب لن نمرّ بها أبداُ... سوى على الورق"، لأن الكتاب، أيّ كتاب "يُعيد تشكيل نفسه في كلّ قراءة".
ولعلّ من بين إبداعات مانغويل في توصيف القراءة، تحويره مقولة هيراقليطس "ليس في إمكانك أن تسبح في الماء- أو النهر- نفسه مرّتين"، جاعلاً المقولة حول الكتاب لا الماء "لا يمكنك أن تغطس في الكتاب نفسه مرّتين". وذلك مفهوم في اتّجاهين؛ في اتّجاه القارئ الذي يتغيّر مع قراءة كلّ كتاب، وفي اتّجاه قراءة الكتاب نفسه الذي يتفتّح، في كلّ قراءة، عن معالم وملامح وعوالم جديدة لم تكن لتظهر أو تمنح نفسها في قراءة أولى، وحتّى "في كلّ مرّة نعيد فيها قراءة كتاب ما، يُمسي كتاباً آخر". أمّا عن فن القراءة وأخلاقيّاتها، فالمسؤولية هي في "كيف نقرأ؟"، لنكتشف معه أن القراءة هي "التزام سياسيّ وشخصيّ معًا في فعل تقليب الصفحات ومتابعة السطور"، و"يمكن لكتاب أن يجعلنا أفضل وأكثر حكمة".

عمر شبانة
حيرتي مع سارتر من الوجود إلى العدم.

علي حسين




في صباي كنتُ اذهب بانتظام الى المكتبة التي يملكها أحد اقاربي ، واعتبر نفسي احد العاملين فيها رغم معارضة صاحب المكتبة الذي كان يخشى أن يؤثر العمل على دراستي ، فاقترح أن اعمل ايام العطلة الصيفية فقط ، لكني اعتدت أن اعتبر المكتبة جزء من دراستي ، فتجدني ما ان انتهي من واجباتي المدرسية حتى تاخذني قدماي إلى حيث عالم الاغلفة الملونة، والكتب التي توزعت على الرفوف والمصاطب . في تلك السنوات كنت احتفظ باعداد من مجلة ملونة اسمها " المعرفة " ، كانت تصل كل اسبوع مزينة بغلاف احمر ، تتوسطه صورة ، احيانا تكون لمجموعة من الكواكب ، أو اثار عالمية ، او لشخصيات لم اكن اعرف عنها شيئا ، كنتُ اقرأ صفحاتها بتمعن وبالكاد افهم السطور التي تنتقل بي بين العلوم والتاريخ والجغرافية والطبيعة والادب ، وسحرٌ آخر عبارة عن صفحة تتناول حياة بعض المشاهير ، وعن طريق هذه المجلة تعرفت على ابو تمام وسمعت باسم نيوتن لأول مرة ، وحيرتني حياة تشارلز ديكنز ، وتألمت لتمزيق جسد امراة يونانية اسمها " هيباتيا " . وجدت نفسي منجذبا إلى تلك الصفحات بسبب غرابة حياة هؤلاء المشاهير والمدن العجيبة التي شهدت حكاياتهم ، وكنت في الخيال اعيش اجواء هذه الحكايات واتجول مع اصحابها ، اتوقف وانا انظر الى صورة فولتير وكيف ازدحمت شوارع باريس بمئات الآلاف لتوديعه عندما توفي . وياخذني الخيال مع المتنبي وهو محاصر في صحراء الكوفة ، وارسم في ذهني صورة لجان جاك روسو يهرب ليلاً بعد مطاردة الشرطة له . صور كثيرة لم تغادر ذهني الصبي كانت واحدة منها لرجل يجلس في المقهى والسيجارة في فمه ، وامامه كتاب يقرأ فيه ، يتوسط الصورة عنوان " جان بول سارتر رائد الوجودية الفرنسية " ، قرأت الموضوع ، لكني لم افهم شيئا : ماذا كان يريد هذا الرجل الغريب الاطوار؟ . بعدها ساعثر على مقال كتبه انيس منصور في مجلة الفكر المعاصر بعنوان " سارتر حياته هي كلماته " وفيه يصفه بانه " غريب في العالم ، وهو غريب عنه ايضا " ، ويخبرني انا القارئ الغشيم للوجودية ان فلسفة سارتر هي محاولة مستمرة لعقد صداقة مع العالم .
كان سارتر أول فيلسوف احاول البحث عن خفايا حياته ، كنت اتباهى في سني مراهقتي بترديد بعض عباراته الغريبة . وربما كان سارتر أكثر فيلسوف شعرت بانه قريب مني ، اقرأ رواياته ومسرحياته ، لكني اخشى الاقتراب من كتبه الفلسفية . فيما بعد سأقتني كتابا ضخما بجلاد اسود سميك بعنوان " الوجود والعدم " ترجمة عبد الرحمن بدوي – صدرت طبعة اخرى بعنوان الكينونة والعدم ترجمة انطوان متيني - ، كنت قد قرأت في مقال انيس منصور ان كتاب سارتر هذا يعتبرونه انجيل الوجودية ، ورغم ذلك لم ينس انيس منصور من ان يحذرني منه فهو " كتاب غامض لم تتمكن سوى قلة من قراءته وفهمه " ، لكن رغم مشاعر فقدان الامل التي تصيب كل من يحاول قراءة الكتاب اول مرة ، إلا ان " الوجود والعدم " لا يزال حتى هذه اللحظة يحظى بسمعة جيدة ، فهو من الكتب القليلة التي كتبت في القرن العشرين ناقشت بجدية الاسئلة المحورية حول الوضع البشري، عبر مفاهيم وتصورات فلسفية معينة ، وقد شعر سارتر ان كتبه " الوجود والعدم " اصبح محصورا بالنخبة ، فنجده يحاول تبسيط فلسفته عبر روايات ومسرحيات .
قررت أن الاحق سارتر من خلال كتبه وما ينشر عنه في المجلات والصحف . كنت قد بدأت بقراءة كتاب " الوجودية فلسفة انسانية " . لكني بعد عدة صفحات توقفت عن القراءة ، ووضعت امامي قائمة بالمصطلحات التي برددها سارتر " الماهية .. الوجود .. الظاهراتية .. القلق .. المسؤولية .. الحرية " .كان الكتاب في الاصل محاضرة القاها سارتر في تشرين الثاني عام 1945 في باريس وفيها اعلن اننا نوجد اولا ثم نحقق ما نريد ان نكونه عبر تصرفاتنا .. ففي خياراتنا نحدد نوع وجودنا . اننا احرار تماما لتجديد ما نرغب في ان نكون عليه ، لكن هذه الحرية تحمل معها عبء المسؤولية .
أنظر الى صور سارتر التي تنشرها الصحف مرة اراه متجهما ، وفي بعض الصور يبدو ساهما ، صور كثيرة تلتقطعها عدسات المصوؤيين الذين كانوا يلاحقون فيلسوف الوجودية وهو يتنقل بين مقاهي باريس . وكنت انا ايضا اطارد سارتر من خلال كتبه ، وكانني اشاركه رحلة التنقل من مكان سكنه الى مقهى الفلور الى شقة والدته .كانت كتبه التي بدأت بقرأتها قد حددت نوع القارئ الذي ساكونه ، مثلما كانت الكتب قد شكلت حياة وتفكير جان بول سارتر منذ أن وجد نفسه يعيش في بيت جده : " في حجرة جدي كانت الكتب في كل مكان ، وكنت لا اعرف القراءة بعد ، ومع ذلك كنت احترمها هذه الحجارة المرفوعة .وسواء كانت قائمة ام مائلة ، متزاحمة كقطع الطوب على ارفف المكتبة ام منفصلة بعضها عن بعض ، فاني كنت اشعر ان ازدهار عائلتي موقوف عليها " – الكلمات ترجمة محمد مندور - انتبه الجد الى ان حفيده مغرم بشيء اسمه القراءة ويسترجع سارتر كيف اجلسه جده امامه وكان في السابعة من عمره ليقول له بكل صرامة :" من المفهوم بالطبع
ان الولد سيصبح كاتبا " ، ثم نبهه الجد الى ان الادب لن يملأ معدته في يوم من الايام
في العشرين من ايلول عام 1939 يلتحق سارتر بالجيش بصفته جندي احتياط ، في مقاطعة الألزاس يعيش هناك في غرفة صغيرة مع اربعة اشخاص يعملون جميعا في وحدة الارصاد الجوية :" الحرب اشتراكية ، فهي تختزل الممتلكات الفردية للشخص في اللشيء ، وتعوضها بالممتلكات الجمعية . لم تعد ثيابي ، مرقدي ، أو أغذيتي ملكا لي ، لم يعد لي مسكن . كل ما استعمله ملك للمجموعة " – سارتر دفاتر الحرب الغربية ترجمة عبد الوهاب الملوح - " . اعتاد سارتر خلال الاشهر الثمانية التي قضاها في هذا المكان أن يقرأ ويكتب بمعدل 11 ساعة في اليوم ، فقد انهى قراءة كتب فرانز كافكا ، وتمتع بقراءة اسرار اندريه جيد كما سطرها في يومياته :" شرعت في قراءة اندريه جيد . كانت قراءة باذخة عموما " – دفاتر الحرب الغريبة - . كانت الكتب ترسلها له سيمون دي بوفوار كل أول شهر ، اضافة الى ذلك كان يواصل الكتابة في روايته سن الرشد ، ويكتب في دفتر صغير ملاحظات فلسفية ستغدو فيما بعد كتابا كبير الحجم بعنوان " الوجود والعدم " ، والذي يدور حول العلاقة مع الاخرين ، وسنجده من ايلول عام 1939 وحتى حزيران عام 1940 يملأ اكثر من خمسة عشر كراس يسطر فيها وجهة نظره عن الحرب :" لقد كنت أخوض حرباً على صورتي، حرباً بورجوازية أنا الذي اخترت السلاح الذي أخوض الحرب به، فبما أنني كنت من أصحاب النزعة السلمية اخترت سلاحاً مسالماً بفضل توصية مكنتني من ذلك. وبما أنني كنت مناضلاً ضد النزعة العسكرية أردت أن أخوض الحرب بوصفي جندياً بسيطاً ، أنا الذي كنت ضد الحرب لكوني مثقفاً. ثم بسبب عدم قدرتي على الحياة الطبيعية لإصابتي بالحول جُنّدت مع القوات الاحتياطية، أي مع الرجال المتزوجين والذين لديهم أطفال. ومن هنا كانت تلك الحرب بالنسبة الينا حرباً غريبة بل مضحكة. كانت حرباً تعكس رغبتنا العميقة في عدم خوض القتال نحن الذين كنا نعرف أن هتلر لن يهاجمنا ، وبالتالي كنا نتطلع الى ترك الحرب نفسها تتعفن مدركين كنه مشاعرنا. بمعنى أنني كنت أرى نفسي معكوساً في تلك الحرب التي كانت هي بدورها تنعكس فيّ وتعيد اليّ صورتي. وكانت النتيجة أنني رحت أول الأمر أكتب عن الحرب لينتهي الأمر بي الى أن أكتب عن ذاتي إذ باتت الحرب بالنسبة الي اشبه بفترة نقاهة " .- دفاتر الحرب الغريبة -
في الحادي والعشرين من حزيران عام 1940 يُعتقل سارتر ، كان قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره ، وسينقل بعد ايام الى معسكر في المانيا باعتباره اسير حرب ، يكتب في رسالة الى سيمون دي بوفوار ، انه سعيد جداً ، يشعر بانه حر ، كان يقرأ هيدغر ، يخبرنا في حوار اجرته مع سيمون دي بوفوار – نشر في كتاب مراسم الوداع ترجمة قاسم المقداد – ان افكار كتاب " الوجود والعدم تكونت انطلاقا من دفتر صغير كتبه خلال الحرب .. وفي الاسر عندما يسأله احد الضباط الالمان عما ينقصه ، يجيب سارتر فورا : هايدغر ، ليحصل بعد اسابيع على نسخة مجلدة من كتاب " هايدغر " الوجود والزمان " ، كان هايدغر الذي نشر كتابه " الوجود والزمن " عام 1927 قد بحث عن الدور افريد الذي يلعبه الانسان في العالم ، فالانسان كما يرى هايدغر هو المخلوق الوحيد القادر على فهم " الوجود " . بمعنى انه قادر على التصرف بوعي ازاء نفسه ، وازاء الواقع الذي يعيش فيه .من هذه النقطة يبدأ سارتر الذي يخبر سيمون دي بوفوار في احدى رسائله من المغتقل في تموز عام 1940 انه بدأ بتحرير كتابه " الوجود والعدم " ،. يؤمن سارتر كما يؤمن عيدفر بان الانسان قادر على التصرف بوعي ازاء " وجوده " ، ويمكنه ان يقرر شيئا ، وان يشكل كينونته ، كما يمكنه ان يقول لا ابضا .
في تشرين الاول من عام 1943 ينشر سارتر كتابه الأهم " الوجود والعدم " ، لم يحقق الكتاب نجاحا عند صدوره ، لكن بعض المشتغلين في الفلسفة ادركوا أن حدثا هاما قد حصل ، فللمرة الاولى وجدوا من يطبق الفلسفة على الحياة اليومية ، ظل سارتر يقول ان مهمة الكاتب ان يتكلم بوضوح وبساطة ، ويقول لالبير كامو في اول لقاء بينهما :" اذا فشلت الكلمات في تأدية واجبها فان وظيفة الكاتب يجب ان تحول هذا الفشل الى نجاح " .في الوجود والعدم الذي سيصبح الركيزة الاساسية للوجودية الفرنسية يوضح سارتر ماذا تعني الحرية للانسان ، انها : " المتأمل ، والمتخيل ، قوة العقل ، قابليتها للحركة ، سلبيتها المعطاة ، قدرتها على النهوض من الاوضاع ، الموصلة ، ان احجار المنزل لاتبني سجنا " ، اما الانسان فهو :" الوجود الذي يطمح ان يكون الهياً " . ذكر اندريه جيد ان سارتر يريدنا ان نقرأ الفلسفة كرواية مثيرة ومشوقة ، فيما يخبرنا سارتر في الوجود والعدم ، ومن ثم في معظم كتبه على اننا نفعل كل شيء للهروب من حريتنا ، فنحن نتحول الى شيء يقول : ليس هذا خطئي ، ولا نقول " هذا ما قررت ان اكون " هذه النية السيئة كما يسميها سارتر احد المبادئ التكنيكية التي يتبناها كل فرد كي يتوقف عن تَحمل حريته .
في اكثر من سبعمئة صفحة يقدم سارتر عرضا للحرية بوصفها سمة من سمات تجربتنا التي تُمكننا من ان نلعب دوراً في هذه الانشطة الانسانية الفريدة مثل القراءة والمناقشة والتفكير والاختيار . التقط كتاب " الوجود والعدم " مزاج الحرب في فرنسا التي انهار فيها كل يقين قديم ، حيث أدت الحرب الى الفوضى في كل شيء ؟ ارد سارتر ان يقدم طريقة جديدة في فهم الوجود . تُمكن الناس أن يختاروا مستقبلهم بكامل حريتهم .يقول سارتر إننا لسنا مسؤولين ببساطة عما نفعله . نحن مسؤولون عن عالمنا .إن كل فرد بعيش " مشروعا " معينا في حياته وبالتالي فإن كل ما يحدث معنا يجب ان يكون مقبولا كجزء من هذا الامر . ويمضي ليقول إنه " ليس هناك من صدفة بالحياة " . يقوم كتاب سارتر على تمييز اساسي بين اشكال الوجود المختلفة . ويثير سارتر الانتباه الى الاختلاف القائم بين الوجود الواعي من جهة والوجود اللاواعي من جهة اخرى ، فيسمي الاول " الوجود لذاته " ، اما الثاني فيدعوه الوجود في ذاته . إن الوجود لذاته هو الوجود الذي يختبره البشر . ويلعب العدم كما يقترح عنوان الكتاب دورا محوريا في عمل سارتر . حيث يعتبر الوعي البشري فجوة في صلب وجودنا ، أي انه عدم ، فالوعي هو دائما وعي شيء ما ، فلا يكون ذاته ابدا .إنه ما يسمح لنا باسقاط انفسنا في المستقبل واعادة تقييم ماضينا . ان العدم يدخل في تركيبة الانسان ، في تركيبة وعيه ، لأن الانسان محكوم عليه بالعمل كل يوم ، وبالتالي هو يتغير باستمرار ، وبالتالي لا يعود كما كان سابقا ، يقول سارتر ان " الانسان هو ما ليس هو ، وهو ليس ما هو " وقد يعتقد البعض ان الجملة لعب من العاب الالفاظ ، لكنها عند سارتر تعني ان الانسان هو ما ليس هو ، يعني ان الانسان لا يُكونه ماضيه ، عليه ان ينسى كل ما كان ، كل ما فعله سابقا ، عليه ان يعدم كل لجظة سابقة للحاضر ، وينتزع نفسه من كل الماضي ، وبالتالي الانسان لا يصبح على الاطلاق وجود بسبب تراكم الماضي ، انه باستمرار يتخلص من الماضي ، وينساه ويصبح قبل كل عمل يقوم به عبارة عن ورقة بيضاء جديدة ، وبالتالي هو ما ليس ، أي ما لم يقم به بعد .
ورغم ان سارتر مدين في عنوان كتابه " الوجود والعدم " الى كتاب هيدغر " الوجود والزمان " إلا ان سارتر اصر ان يؤدي التحية من خلال كتابه الى ديكارت بدلا من هايدغر .
🟨من هنا مر ماركس؟
🟠علي حسين


أصبح أحد أشهر فلاسفة العصر الحديث، ولا تزال كتبه تثير شهية دور النشر، الفرنسي إدغار موران والذي احتفل بعيد ميلاده "الثاني بعد المئة" قبل ما يقارب الشهرين، يرى أن الأزمة التي يمر بها العالم ، أزمة شاملة، بل هو يراها أزمة فكر، ولهذا يطلق صرخته "لنستيقظ"، فنحن نيام وأول شروط اليقظة الاهتمام بالمؤسسات التربوية، وتقوية النقد والنقد الذاتي. وتشذيب مخالب البيروقراطية .
قبل أشهر أصدرت إحدى دور النشر السعودية ، اتمنى ان ينتبه جنابك جيدا ، قلت دار نشر سعودية تنشر لماركس ونيتشه وشوبنهاور وسارتر من دون ان يقتحمها رقيب ، مثلما تفعل اجهزتنا الامنية وهي تقتحم شارع المتنبي بدعوى تقويم اخلاق القراء ، آخر كتب موران بعنوان "مع ماركس وضد ماركس"، وفيه يحاول موران رد الاعتبار للألماني الذي مات معدماً، في هذا الكتاب يقرر موران الخوض في عالم شديد الغرابة والغموض، شديد التعقيد، ويحمل الكثير من المفارقات والسخرية السوداء، في صفحات كثيرة نجد موران لا يزال يحمل مشاعر دافئة تجاه كارل ماركس، يصرح دائماً بأنه كان ماركسياً، قبل أن يعتنق الماركسية، فهو لم يتوقف يوماً من التفكير والحوار مع ماركس الحقيقي، وليس ماركس الذي تريد له الأحزاب السياسية أن يعيش تحت أنقاض الماركسية .. وهو يرى أن تجربة الأنظمة الشمولية، التي فُرضت باسمه، أدت إلى تفاقم الانهيار الذي أصاب الأنظمة الشيوعية.
في بداياتي كنت متلهفاً لقراءة ماركس وكتابه كتاب رأس المال وحين حصلت على نسخة منه بترجمة السوري انطوان حمصي لم أستطع قراءة الجزء الأول وحاولت أن أجد ضالتي في كتاب الفيلسوف البنيوي لوي ألتوسير "قراءة رأس المال" فوجدته، يقول "إن القراءة الحقيقية التي يمكنها أن تكشف عن رأس المال هي القراءة الفلسفية، فقد قُرئ الكتاب من قبل علماء الاقتصاد والمؤرخين، ولكنه لم يُقرأ من قبل فلاسفة، يكشفون عن جوهره الحقيقي" .
يروي لنا الكاتب الراحل خالد القشطيني حادثة طريفة عن عمه المرحوم ناجي القشطيني الذي كان رقيبا في بغداد في بداية الخمسينيات ، فقد أحضر صاحب المكتبة العصرية نسخة من راس المال لإجازته، فقرر الرقيب أن يأخذ نسخة الكتاب معه للبيت ليقرأه ومرت أشهر ولم يحصل صاحب المكتبة على جواب فاضطر إلى أن يراجع الرقيب.
*أستاذ ناجي هذا الكتاب فاتت عليه مدة طويلة، إما توافقون عليه حتى نوزعه وإما تمنعوه حتى نرجعه للناشر في بيروت.
- أي كتاب تقصد؟
*هذا اللي كتبه واحد شيوعي، يقولون عليه رأس المال؟
- تذكرت هذا أخذته للبيت، كل يوم أقرأ منه صفحة صفحتين فلا أفهم شيئاً، هو يعني إذا أنا ما أقدر أفهمه، الناس شلون راح تفتهمه؟ روح أخي، وزِّع هذا كتاب
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
🔘ان كلما يعرفة الانسان .. يمكن قوله في ثلاث كلمات

🔊علي حسين



كان في الخامسة والعشرين من عمره ، يجلس في احدى زوايا حديقة عامة يجادل احد الاصدقاء لكنه وقف فجأة وهو يشير باصبعه ويقول بصوت عال :"هذه شجرة ! أعرف حقيقة أن هذه شجرة! ". سيتحول المشهد الى موقف محرج عندما أدرك الرجلان أن المارة قد توقفوا واخذوا يحدقون بهم . انتبه لودفيغ فيتغنشتاين والتفت إلى المارة قائلاً ، "لا تقلقوا ، لسنا مجانيين ... نحن فقط نمارس الفلسفة ."
حكاية فيتغنشتاين الغريبة مع الشجرة تقترب من حكايتي معه ، في منتصف السبعينيات يقع بيدي كتاب بعنوان " لدفيج فتجنشتين " تاليف عزمي إسلام ، وهو الكتاب رقم " 19 " في سلسلة نوابغ الفكر الغربي التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية آنذاك . كان الاسم غريبا ومثيرا في نفس الوقت ، دفعني الفضول لاقتناء الكتاب ، وعندما وصلت الى البيت كنت متلهفا لمعرفة اسرار المدعو " فتجنشتين " ، في ذلك الوقت أدرجت لنفسي ، نظاما للقراءة كانت كتب الفلسفة جزء من هذا النظام ، اغوص في تاريخ اصحابها ، اتمتع بما يتيسر لي فهمه ، واصارع احيانا كتباً ملغزة بالمصطلحات ، وكنت أجد بعض الاصدقاء لا يقرأون كتب الفلسفة ، لأنها مملة حسب تعبيرهم ، لا يمكن متابعة قراءتها ، وتتعارض لغتها مع متعة القراءة التي يبحثون عنها ، في بعض الاحيان اوافقهم الرأي ، خصوصا عندما اجد نفسي مع كتب محيرة مثل هذا الكتاب الذي يخبرني مؤلفه عزمي إسلام ان صاحبنا " فتجنشتين " من جماعة الفلسفة للفلسفة ، وليس للفضوليين من امثالي ، فقد كان يصر على ان عمل الفيلسوف هو أن يكون فيلسوفا للفيلسوف . كانت هذه الجمل اشبه بالاحجية بالنسبة لي ، بعدها يوصيني مؤلف الكتاب ان اكون حذرا وانا ادخل عالم فيتغنشتاين الغريب الاطوار الذي ترك مدينته بعد ان تأثر عميقا بكتابات تولستوي عن الاخلاق والدين ، فقرر السكن في الريف .
كان فيتغنشتاين يطرح دائما سؤال : ما هي الجدوى من دراسة الفلسفة ؟ ، فهو يرى أن الفلسفة تتحول الى عبء عندما تُمكننا من الحديث :" عن بعض المسائل العويصة " .
في خريف العام 1922 يصدر فيتغنشتاين كتابه " رسالة منطقية فلسفية " ، وقد كان مقتنعا بان النتائج التي وصل اليها كانت صادقة ، وان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها . يكتب في المقدمة :" إن الافكار التي سيقت هنا يستحيل الشك في صدقها ، ولهذا فانني اعتقد ان كل ما هو اساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا " – رسالة منطقية فلسفية ترجمة عزمي إسلام – كان هذا الكتاب هو تجربتي الثانية مع فيتغنشتاين ، ولمدة اسبوعين التزمت نظاما خاصا ، اقرأ صفحات من " رسالة منطقية فلسفية " واذهب للبحث عن فيتغنشتاين في بطون كتب الفلسفة ، كنت اقرأ بتمهل واحيانا بملل حتى اصل الى نهاية الصفحة ، وعندما انتهيت منه اكتشفت انني لم افهم الكتاب جيدا ، وانني فشلت تماما بالاتصال به ، ويبدو ان الكتاب كان اعلى من قدرتي على الفهم آنذاك. بعد سنوات اعود الى كتاب فيتغنشتاين وسادرك انني عندما قرأته للمرة الاولى كنت غير ناضج ، واكتشف في القراءة الثانية انني سوف استمتع بمغامرات فيتغنشتاين الفكرية ، وان تحذبر الفيلسوف زكي نجيب محمود في المقدمة التي كتبها للترجمة العربية كان صائبا ، حيث كتب :" من لا يجد في نفسه الرغبة الاكيدة المؤرقة المقلقة ، في أن يتزود بعلم اوضح وأعمق عن العلاقة بين الفكر من ناحية والاشياء الواقعة من ناحية اخرى ، فليس هذا كتب موجها اليه " ، بينما كان فتغنشتاين ينبهني ان كتابه ليس :" كتابا مدرسيا يريد من خلاله ان يقدم شرحا لافكاره ، انه ليحقق الغاية منه ، لو امتع قارئا واحد قراءه وفهمه " كان فيتغنشتاين بالنسبة لي فيلسوفا اشكاليا ، لكنه مثير للحماس ، جعلني اشعر ان القراءة له وعنه ستكون مغامرة مثيرة ،ولا تزال هذه المغامرة تثير حماسي حتى اليوم ، كل ما عدت الى كتبه .
اعتقد فيتغنشتاين بعد ان اصدر كتابه " رسالة منطقية للفلسفة " ان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها ، ، لكنه بعد سنوات وبالتحديد عام 1929 سيكشف عن خطأ بعض تصوراته وان عليه ان يعيد النظر في موقفه الفلسفي وان يبدأ من جديد وهذا ما فعله ، فقد عاد مرة اخرى الى كمبردج ليمارس عمله الفلسفي من جديد ، وهذه المرة سيكون مزودا بسؤال جديد عن الفلسفة واللغة ، معلنا ان السنوات التي قضاها في تدريس الاطفال منحته تصور جديد للفلسفة ، ولهذا نجده في كتابه " تحقيقات فلسفية " يؤكد ان بعض افكاره في الرسالة المنطقية كانت افكارا خاطئة :" لقد اتيحت لي منذ اربع سنوات مضت ان اعيد قراءة كتابي الاول رسالة منطقية فلسفية لكي اشرح ما فيه من افكار الى شخص ما . وقد بدا لي فجأة انني يجب ان اطبع هذه الافكار القديمة والافكار الجديدة معا ، لأن هذه الافكار الاخيرة لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا إذا تمت المقابلة بينها وبين طريقتي القديمة في التفكير ..
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
فمنذ ان بدأت اعود للاشتغال بالفلسفة مرة ثانية ، اضطررت ان اتبين أخطاء جسيمة فيما كتبته في الكتاب الاول " – لدفيج فتجنشتين تاليف عزمي اسلام –
يعود فتغشتاين ولكن هذه المرة ليطالب الفلاسفة نسيان تاريخ الفلسفة والالتفات الى الاشكال المعقدة لحياتنا من اجل ان يدركو ما هو الانسان ؟.
في تاريخ الفلسفة ، ليس هناك من فيلسوف اختلف حوله الناس مثل فيتغنشتاين ، الذي ظل مجهولا لسنوات طويلة ، ولا يتداول اسمه إلا النخبة من المهتمين بالفلسفة واللغة ، وبقدر ما كان عبقريا في تأسيس فلسفة جديدة بقدر هدمه لنفس الفلسفة التي بدأها، كان فيتغنشتاين يتذكر دوما مقولة نيتشه: "أصل نفسك حربا لا هوادة فيها ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل".
ولد لودفيغ فتغنشتاين في فيينا في السادس والعشرين من نيسان عام 1889 ، كان الاصغر بين تسعة ابناء لكارل فتغنشتاين احد كبار رجال الصناعة ، يملك مصاهر للحديد ، اما امه التي تنحدر من عائلة فلاحية اقطاعية فقد كانت تعشق الموسيقى ، كان بيتهم يضم سبع آلات بيانو ، جميع افراد العائلة يعزفون بمهارة ، ومن اجل شقيقه الاكبر سوف يؤلف الموسيقي الشهير موريس رافيل مقطوعته الشهيرة " بوليرو " ، وكان الموسيقار براهامز صديقا حميما لوالده ، وفي بيتهم يلتقي نخبة من الرسامين والموسيقيين والادباء .ومثل اشقاءه تلقى فتغنشتاين تعليمه الاولي في المنزل ، ولم يرتد المدرسة إلا في الرابعة عشرة من عمره ، لم يكن تلميذا نبيها ، لكنه استطاع ان يحصل على الثانوية . كان آنذاك ماخوذا بالآلات الصناعية، التحق بجامعة برلين التقنية ، بعد ذلك بسنتين يسافر الى مانشستر حيث عمل في مجال صناعة المحركات ومراوح الطائرات ، في هذه الفترة يعثر على كتب شوبنهاور ، بدأت الرياضيات وعلم المنطق يستهويانه ، يعود الى فينا حيث يقوم بزيارة الى منزل عالم الرياضيات والمنطق غوتلوب فريغه الذي كان يحاول في عزلته عن العالم فك لغز قوانين المنطق العامة ، وقد لاحظ فريغه موهبة فتغنشتاين، فنصحة بالسفر الى كامبريدج لمواصلة تحصيله الدراسي ، واوصاه أن ييتلمذ على ابرز اسمين لامعين في مجال الفلسفة آنذاك وهما وايتهد وبرتراند رسل . لكن راسل اعتقد في بداية الامر ان هذا المهندس الشاب الذي ارسله فريغة مجرد ثرثار :" بعد المحاضرة جاءني الماني متهور ليتخاصم معي ..في الواقع النقاش معه ليس إلا مضيعة للوقت " – برتراند راسل سيرة حياة .. آلان وود ترجمة رمسيس عوض – بعد اسابيع سيتغير موقف راسل ليعترف بان فتغنشتاين عبقري معتبرا افكار هذا التلميذ افضل من افكاره هو ، بل ذهب اكثر من ذلك حيث طلب من فتغنشتاين ان يراجع كتابه " مبادئ الرياضيات " أملا في أن يتعلم الكثير من هذا النمساوي الغريب الاطوار والذي يصغره بسبعة عشر عاما . عندما علم الاب أن ابنه ترك الهندسة واتجه للفلسفة غضب غضبا شديدا ، ففد كان يجد في الفلسفة مهنة غير نافعة للعائلة ، الامر الذي زاد من امراض فتغنشتاين النفسية .
في الجامعة يبدأ بكتابة الصفحات الاولى " من رسالة منطقية فلسفية " في دفتر صغير ، كانت غايته من الكتاب هو ايجاد حلاً لمشكلته مع الفلسفة ، التي أصرّ على ان الجوهري فيه هو علاقة اللغة بحل مسائل الفلسفة والمنطق ، فالجمل المجردة من المعنى وحدها تصف وقائع واحداثا تجري في العالم ، لكن على اي شيء يتركز العالم ذاته ، نسيجا وحضورا ، هذا هو ما يبقى التعبير عنه مستحيلا : " اذا كان لابدّ من ان أجيب على سؤال : ما الأخضر الذي يطرحه شخص لا يعرف عن الأخضر شيئا فلا يمكنني إلا ان اقول ، هو هذا وانا أشير الى شيء اخضر ، بامكاننا ان نشير بالبنان الى هذا الواقع الخارج عن اللغة وان نبرهنه لكننا لا نستطيع التعبير عنه " – رسالة منطقية فلسفية ترجمة عزمي اسلام - ، يُسمي فيتغنشتاين هذا الواقع بالمجازي ، والخطأ الأكبر شيوعاً هو ارادة التعبير عن هذا المجازي الذي لا يوصف، لذا يضع مقابل هذا الوهم قاعدة تقول :" ينبغي اخفاء ما لانستطيع قوله" .
اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام 1914 اعطى فتغنشتاين أملاً لتحقيق رغبته في الموت ، تطوع في الجيش على الرغم من وضعه الصحي ، يكتب في دفتر يومياته : " ذهبت الى الحرب على امل أن يحميني الموت في المعارك من فكرة الانتحار " ، شارك في الحرب بكل قواه ، ونراه يمجدها في قصيدة قصيرة ، يكتب الى استاذه برتراند رسل ، رسالة يسخر فيها من دعواته للسلم ، يتم اسره فيتفرغ للانتهاء من كتابه " رسالة منطقية فلسفية " ، بعد اطلاق سراحه عام 1919 يعود الى اسرته في فيينا ، محملا بافكار شوبنهاور المحبطة ، أمضى ست سنوات في وظيفة معلم في احدى القرى ، قطعها عام 1926 بشكل مفاجىء ، ليعود الى فيينا حيث احتفت به " الجمعية الفلسفية في فيينا " ، وكان اعضاء الجمعية ينتظرون حضور فيلسوفهم المحتفى به ، فقد كانت " جماعة فينا" تنادي بتأسيس
فلسفة جديدة للمعرفة اسمها " الوضعية المنطقية " ، التي تؤكد ان اللجوء فقط للوقائع " الوضعية " ، والبرهان الصارم " المنطق" ، وكان كتاب فتغنشتاين بالنسبة لهم بمثابة آلة حربية ضد كل الفلسفات التأملية والخطابات الايديولوجية ، والحشو الفلسفي غير الضروري ، لكن الفيلسوف سيخيّب املهم حيث ذهب ليعمل بستانياً في احد الاديرة قرب فيينا.عام 1929 تقرر جامعة كمبردج اعادته اليها ، هناك استطاع بسهولة ان يؤثر باساتذته من جديد وقد وصف راسل " رسالة منطقية فلسفية " بانها عمل شخص عبقري ، قام بعدها بتكليف بعض طلبته بترجمتها الى الانكليزية لتصدر في كتاب ، كتب المقدمة له راسل شرح فيها فلسفة فتغنشتاين مع تسليط الضوء على المصطلحات التي ضمتها الرسالة. مع حصوله على شهادة الدكتوراه حصل على منحة محاضر ، ظل فتغنشتاين في كمبريدج حتى عام 1936 ثم رحل الى النرويج تفرغ لمدة عام في تاليف كتابه الثاني " بحوث فلسفية " – ترجمه الى العربية عزمي اسلام ، وهناك ترجمة اخرى بعنوان تحقيقات فلسفية ترجمة عبد الرزاق بنور - يعود مرة اخرى الى كمبردج ليخلف الفيلسوف جورج إدوارد مور على كرسي الفلسفة ،ولما نشبت الحرب العالمية الثانية شارك فيها فعمل في احد المعامل الطبية ، استفاد من دراسته للهندسة ليطور آلات مختبرية لقياس ضغط الدم . يعود للتدريس من جديد . عام 1947 يستقر في مزرعة بالريف الايرلندي حيث عاش في وحدة تامة ، وهناك اكمل الجزء الثاني من كتابه تحقيقات فلسفية.
اكتشف عام 1949 اصابته بمرض السرطان ، يعود الى اكسفورد. يُعلن عن وفاته في 29 ايار عام 1951 ، وكان آخر عبارة قالها لممرضته :" قولي لهم انني قد عشت حياة رائعة ".
لماذا العودة الى فيلسوف صعب مثل فتغنشتاين ؟ ونحن نريد من الفلسفة ان تحُسن تفكيرنا في الحياة ، لان الفلسفة نفسها لم تتمكن من تجاوزه برغم صعوبة كتاباته التي لا تزال تطبع وتتلقفها الجامعات ، فقد ساهمت كتاباته في ظهور تخصص جديد اصطلح عليه بالفلسفة التحليلية ، التي اعتبرت اهم مدرسة فلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين . فانطلاقا مما قاله فتغنشتاين ، يتوجب فهم الفلسفة وتحليلها دائما كمشاكل للتعبير اللغوي ، ذلك ان طريقة تَعرف الناس على العالم تتاثر دائما بلغتهم ، فاللغة دائما حمالة أوجه .
ان قصة حياة فتغنشتاين وفلسفته عبارة عن شغف عقلٍ سعى الى البحث عن مكانة في هذا العالم ، وإذ عدنا اليوم للحديث عنه ، فبمقدورنا ان نقول الكثير عن الاهمية التاريخية لهذا الفيلسوف المميز .
" يجب عدم الافصاح عما لايمكننا قوله "، هذه هي الجملة الشهيرة التي اطلقها فتغنشتاين في كتابه " رسالة منطقية فلسفية " ، كانت بمثابة دعوة الى الصمت ، يجب التوقف عن الثرثرة وعن الحديث عن الفراغ . لكن ، ماذا يمكننا قوله ؟ التفلسف هو الاستفسار الوحيد عن اسئلة كثيرة : هل الانسان حر ؟ ، هل للحياة معنى ؟ ، ما هو الخير ؟ اسئلة قد تطول وتطول ، ولاسيما وصف عدد من الخلافات والمجادلات حول هذه الاسئلة ، وبالتالي فان القضية كلها تكمن في مسألة التعبير عن الرأي ، فلكل فيلسوف فلسفته ، لكن عندما نصل الى هذه النتيجة نكتشف اننا لم نحرز أي تقدم ، بمكننا الاعتبار ان ما يجب فعله هو التفاهم حول الكلمات : ماذا يعني حر ، ماذا تعني كلمة معنى ؟ ، مالذي نعنيه بالجميل ؟ هكذا نعود نضغي الى فتغنشتاين الذي يعلمنا ان من الضروري ان تتناسب الكلمات التي نستخدمها مع الاشياء .
يوصينا فتغنشتاين ان نقترب من الفلسفة ليس من اجل ايجاد اجابة للاسئلة التي تشغلنا ، بل من أجل الأسئلة نفسها ، لأن هذه الأسئلة توسع تصورنا لما هو ممكن ، وتثري خيالنا الفكري .لقد انتج فتغنشتاين صرحين فلسفيين بارزين " رسالة منطقية فلسفية " و " تحقيقيات فلسفية " كفلا له ان يدخل نادي كبار الفلاسفة ، الأمر الذي جعل برتراند رسل يقول عنه انه العقلية الاعظم في القرن العشرين .


* فصل من كتاب " لماذا نقرأ الكتب المملة ؟ "
🦢 لتمويل القنوات 🦢... 📱📢
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
سئل الفيلسوف برتراند راسل : ما الفرق بين العلم والفلسفة؟

أجاب راسل: أعتقد أن الفرق الوحيد بين العلم والفلسفة هو أن العلم هو ما تعرفه أكثر أو أقل والفلسفة هي ما لا تعرفه.
- الفلسفة هي ذلك الجزء من العلم الذي يختار الناس في الوقت الحاضر أن يكون لديهم آراء حوله، ولكن ليس لديهم معرفة به. ولذلك فإن كل تقدم في المعرفة يحرم الفلسفة من بعض المشاكل التي كانت تعاني منها في السابق.

وهكذا، إذا كانت هناك أية حقيقة، فسيترتب على ذلك أن عددًا من المشكلات التي كانت تخص الفلسفة لم تعد تنتمي إلى الفلسفة وستصبح تنتمي إلى العلم.»

أي أن الفلسفة هي محاولة فهم الإجابات علي الأسئلة التي لم يجد لها العلم إجابة بعد ، عبر التفكير المنطقي.
بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة
الانسان مقياس الاشياء جميعاً.

علي حسين




( لن يتحقق عندي المعنى من تاريخ الفلسفة إذا اكتفيت بالنظر في المادة الموضوعية اللانهائية التي يقدمها إليَّ التراث، أو اقتصرت على إخضاعه لمعايير معرفية محددة . إن ذلك كله لن يكون إلا عملية ذهنية تتعامل مع موضوعات ميتة، دون أن أشارك فيها بنفسي مشاركة أساسية )
كارل ياسبرز


🔴 يكاد الكثير منا ألا يتفقوا على شيء اتفاقهم على السخرية من الفلسفة وعن عدم جدواها ، البعض يصفها باللغو المضر ، والبعض الاخر يعتقد ان العلم تجاوزها ، ولم يعد لها مكانا في عالمنا ! ودعونا نطرح سؤالا : هل ماتت الفلسفة حقا ؟ هل اصبحت شيئا من الماضي ؟ وهذه الاسئلة وغيرها كثير لم تطرح هذا اليوم فقط والعالم يحتفل بالفلسفة التي خصص لها السابع عشر من تشرين الثاني يوما لتكريمها ، وإنما طرح هذا السؤال منذ ان تاسست الفلسفة اول مرة وكانت تعني " حب الحكمة " ، فكلما تطورت الحياة كان هنالك سؤالا محددا : هل استنفذت الفلسفة اغراضها وماتت ؟ ، وقد اثير هذا السؤال قبل سنوات عندما كتب عالم الفلك الشعير ستيفن هوكنغ في مقدمة كتابه " التصميم العظيم " - ترجمه الى العربية ايمن احمد - أن الفلسفة ماتت ، لأنها لم تتمكن من مواكبة التطور في العلوم الحديثة. فالعلماء الآن وليس الفلاسفة حسب قول المرحوم هوكنغ ، هم من يحملون المشاعل لاستكشاف ما هو مجهول في الكون:" فلم نعد نحتاج لتأملات الفلاسفة للإجابة عن أسئلة من شاكلة: كيف نشأ الكون؟ وهل يحتاج الكون إلى خالق؟ وما إلى غير ذلك، فلدينا الآن من القدرات النظرية الرياضية والمعدات التجريبية لمقاربة هذه الأسئلة المحيرة، ما يغنينا عن التأملات الفلسفية المحضة "
في كتابه الفلسفة انواعها ومشكلاتها – ترجمه الى العربية فؤاد زكريا – يكتب هنتر ميد :" اذا ققال احدهم ان الفلسفة عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة أعصاب "
في كل مرة يحاول البعض ان يقول بان الفلسفة لم يعد لها مكانا في المجتمع الحديث ، فالفيلسوف مجرد رجل سفسطائي ثرثار، أو ينظر الى العالم من برجه العاجي ، يحلق في الخيال ، مثلما وصف ارستوفانيس ، غريمه الفيلسوف سقراط في مسرحيته الشهيرة " السحب " عندما وضعه في " سلة " معلقة بين الأرض والسماء! .
قبل حوالي 2500 عاماً تجول في بلاد اليونان رجل اسمه " بروتاغوراس " ولد عام 490 ق.م في ابديرا احدى جزر اليونان ، وكانت هذه المدينة مقرا لديمقريطس مؤسس المدرسة الذرية ، ويذهب ابيقور الى ان بروتاغوراس نشأ في اسرة فقيرة ، وكان في صباه يعمل في جمع الحطب إلى أن التقى ديمقريطس الذي علمه الفلسفة . في كتابه " مشاهير الفلاسفة " – ترجمة امام عبد الفتاح امام – يذكر ديوجينيس ان بروتاجوراس قرأ اول كتاب في بيت الكاتب المسرحي يوربيديس ، عاش بروتاجوراس يتجول في المدن اليونانية يلقي الدروس مقابل اجور يدفعها الطلبة ، وفي افتتاحية محاورة " بروتاغوراس " لافلاطون – ترجمة عزت قرني – نجد ابوقراط الشاب يخبر سقراط ان بروتاغوراس في اثينا وطلب منه أن يكون وسيطا ليقبله تلميذا في مدرسته ، فقال له سقراط :"اذا دفعت له مالا وصادقته لجعلك حكيما كنفسه " ، يصفه سقراط بانه :" اعلم واحكم اهل العصر بلا منازع " .
اشتهر بروتاغوراس بمقولته:" الإنسان مقياس الاشياء جميعا ، وهو مقياس وجود ما يوجد منها وما لا يوجد " . ويقصد بذلك أن الصح والخطأ، والخير والشر، كلها يجب أن تحدّد حسب حاجات الإنسان. وعندما سُئل ذات يوم هل يؤمن بآلهة الاغريق، أجاب بالقول : " أما فيما يتعلق بالأرباب ، فليست لي أدنى معرفة عما إذا كانوا موجودين أو غير موجودين ، فهناك أمور كثيرة تحول بيني وبين معرفة هذا الأمر ، منها غموض الموضوع ومنها قصر عمر الإنسان " ، وبسبب هذه المقولة تم حرق كتبه في ساحة السوق ، ومطاردة أي شخص يقتنيها .
كان بروتاغوراس قد كون مجموعة فلسفية اطلق عليها " السفسطائيون " سيسخر منها افلاطون في محاورته " السفسطائي " – ترجمة قؤاد جرجي بربارة - حيث يصورهم في هيئة رجال يتاجرون بتعاليم تتعلق باروح الناس ، فهم متموجين ، ويحاول افلاطون ان يدحض ادعاء السفسطائي بالمعرفة ، ورغم أن أفلاطون يظهر احترامه لعض الفلاسفة للسفسطائيين؛ إلا انه يختلف مع معظم معتقداتهم ، ويعارض فكرة دفع مال مقابل تعليم قِيَمٍ وفضائل مثل المواطنة الصالحة والانسان الماهر والفضيلة . ولهذا كان ادِّعاء السفسطائيين تعليم القيم الحياتية هو ما ركَّز عليه أفلاطون هجومه. وفي الحقيقة كان هذا بعيدا كل البُعد عن منهجهم الحقيقي ، وهو تدريس البلاغة، والنقد الأدبي، والموسيقى، والقانون، والدين، والأخلاق، والسياسة، وأصل الإنسان والمجتمع، والرياضيات، وبعض العلوم الطبيعية. فقد سعى السفسطائيين الى احتلال مكانة شعراء القصائد الملحمية مثل هوميروس في نشر الحكمة من خلال دروس يومحاضرات تتخللها احاديث عن التاريخ والشعر والفلسفة .
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
سعى السفسطائيين الى تقديم فلسفة تشمل خبرات الإنسان اليومية، وعلى عكس أفلاطون الذي كان يرى أنّ مهمة الفلسفة هي أن تفتح الطريق إلى ما وراء الطبيعة ، كان السفسطائيون يهدفون إلى إعادة صياغة التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها كوسيلة للوصول إلى الحياة المنشودة. ويذهب ماركري تايلور الى أن الاصل في نشاة الفلسفة السفسطائية هو الموازنة بين التقاليد وصور الحياة اليومية المختلفة ، وان السفسطائية تختلف عن الفلسفة الطبيعية في الموضوع والمنهج والغاية ، فالسفسطائية فلسفة موضوعها الانسان وحضارته التي ابدعها ، وسعي الفيلسوف السفسطائي الى جمع اكبر قدر من المعرفة في كل نواحي الحياة – تايلور الفلسفة اليونانية ترجمة عبد المجيد عبد الرحيم – ، فالوجهة التي وجهها السفسطائيون للفلسفة هدفها اعلاء شأن الحياة الاجتماعية للانسان ، حيث كان بوتاغوراس يؤكد على مقدرة الانسان واستقلاله في المجتمع . وقد دعا السفسطائيون إلى معارضة كل تمييز بين الطبقات والطوائف والشرائح الاجتماعية، وكان يبدو لهم الفخر القومي بأنه " حماقة بلا معنى" ، وأعلن بروتاغوراس أن دولة إلى جانب القومية هي أشياء بلا أهمية، فيما أصرّ الفيلسوف المتمرد ديوجين أن الإنسان هو مصدر لكل الطموحات.
عاش السفسطائيون في أثينا في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وشغلوا مناصب معلمين خصوصيين ومستشاري علاقات عامة ومحاضرين وممثلي مسرح وفلاسفة وخطباء وأطباء في آن واحد، وكانوا يستخدمون الفلسفة لتدريس معظم المعارف للشباب، وفي إحدى محاورات أفلاطون يتوجه سقراط بالسؤال إلى بروتاغوراس عمّا يقترحه من موضوعات لتعليم الطلبة فيجيب بروتاغوراس: أعلمه كيفية الاهتمام بكل أموره الشخصية، لكي يحسن إدارة بيته، وأعلمه كذلك الاهتمام بأمور الدولة لكي يصبح قوّة حقيقية في المدينة كمتكلم ورجل أفعال.
يقول كيركغارد عن " بروتاغوراس " إنه أوّل من تفلسف حول الانسان ، وأن الفلسفة التي انبثقت عنه هي فلسفة للحياة، الحياة الانسانية الحرة ، التي هي الهدف لدى بروتاغوراس .! ، ومثلما كانت غاية كيركغارد -الأب الحقيقي للوجوديّة- هو أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، كان بروتاغوراس يدعو الناس إلى معرفة حدودهم وقدراتهم، ولذلك يرى بعض مؤرخي الفلسفة أن الوجوديّة بدأت مع السفسطائيين واكملت توهجها مع سقراط الذي كان هدفه الاساسي العمل على جعل الفلسفة تتّجه إلى الإنسان نفسه، وليس إلى العالم الخارجي، فسقراط ومعه بروتاغوراس رغم اختلافهم في الافكار كانا اول فلاسفة يقرّرون تحويل الفلسفة من النظر إلى الكون والبحث عمّا وراء الطبيعة، وجعلها تتّجه إلى الإنسان وما يحيط به.
يكتب زكي نجيب محمود في مقدمته لمحاورات افلاطون ان السفسطائي بروتاغوراس استطاع رغم مرور كل هذه الاعوام ان يظل الفيلسوف الذي يرافق الانسان في حاضره ومستقبله.تُصبح الفلسفة مع السوفسطائيين مهمة عملية ، اسلوب في جعل ان يكون للمرء اسلوب في هذا العالم ، فالحديث عن اصل الكون والعالم، حديث لا نفع منه ، دعونا من الغيبيات والحجج المنطقية ، ولننطلق ونسير شؤون الحياة ونتعامل مع الفلسفة باعتبارها كيانا يستفاد منه الانسان ، يصر بروتاغوراس على ان نعتقد بكل ما هو مفيد لنا ، انه يطالبنا بنقل اهتماماتنا من الواقع المطلق الى قضايا المعرفة البشرية . حين صرخ السفسطائيون بكلمة " الانسان "كانت تلك الصرخة بمثابة تجربة لتطوير الفلسفة اليونانية من مجالها الطبيعي الى وجودها الانساني وكانت خطوة لتمجيد الذات الانسانية ، كانت مهمة الفيلسوف السفسطائي ان يعبر عن الروح الجديدة التي تسعى إلى الحرية ، واعلان قوة الانسان والثورة على التفكير الذي يمجد الاساطير والابطال الخارقين ، وسيلخص سوفوكليس الذي ولد قبل بروتاغوراس بست سنوات ، في مسرحيته انتيغون الفكرة التي طرحتها السفسطائية عن الانسان :" الانسان من بين الاشياء القوية اقواها جميعا.لقد علم نفسه الكلام ، والتفكير السريع ، وسكنى المدن " - انتيعون ترجمة علي حافظ – ، قرر السفسطائيون ان ينشروا هذه الافكار ، فالانسان سيد الطبيعة ، وله الحق في الحرية والسلطة ، ولا بد ان يكون قويا لينتزع حقه . انها النزعة النيتشوية في اعلاء شأن ارادة القوة . ان مصلحة الإنسان فوق القوانين التي تقيد حريته
كان نيتشه يرى ان سقراط أوّل من تفلسف حول الحياة، وأن جميع الفلسفات التي انبثقت عنه هي فلسفات للحياة؛ الحياة السعيدة والنزيهة، التي هي الهدف لدى سقراط، ويضيف نيتشه أن الفلسفة السقراطية تُناصب العداء لكل معرفة لا تقترن بالإنسان. ويكتب الفيلسوف الوجوديّ الألماني كارل ياسبرز: " ربما كان أنقى وجه في طريق من جازفوا بأنفسهم ليطيعوا مطلباً مطلقاً هو وجه سقراط، هو من كان يعيش في ضياء عقله، بشمولية عقله ( لا أعرف شيئاً) ، فقد تابع طريقه دون أن تبلبله أو تضلّه عن سبيله الأهواء العنيفة للناس الذين يغتاظون ويكرهون ويريدون بأي ثمن أن يكون الحق معهم، ولم يقدم أي تنازل، ولم ينتهز فرصة الهرب التي كانت متاحة له، ومات في
2025/07/01 01:39:11
Back to Top
HTML Embed Code: