الفيلسوف الجديد
Photo
السر المكنون والمفتاح المفقود
«وكأن الرياح تهمس بين الغصون، فأقيس بين صمت الأبد وصوت الحياة. فيسري إليَّ ذكر الخلود وأزمنة انقضت والحاضر الزاهي، فيغمرني البحر الواسع. فيصبح الغرق في هذا المحيط حلاوة». – اللامتناهي، جياكومو ليوباردي.
في العشرين من يوليو، عام ألف وتسعمئة وأربعة وتسعين، وصل إلى جاك دريدا كتاب من موريس بلانشو، فيه يعلن بلانشو: «منذ خمسين عامًا، ذقت سعادة النجاة من الموت بحده». فُجاءة هذا التصريح، يتساءل: لماذا يجد المرء الفرح في التملص من الموت؟ سأعود إلى هذه الرسالة لاحقًا في سياق المقال، حين أستعرض مشكلات الشهادة والسيرة الذاتية، ولكن الآن، أركز على مسألة سعادة بلانشو، التي يمكننا إدراكها من خلال قصيدة ليوباردي «اللامتناهي». هنا، يرى الشاعر نفسه جالسًا على قمة تلة مفضلة، حيث الأفق محجوب بسياج، فيشعر بالأمن خلف هذا السور، ويتخيل المساحة اللامتناهية التي تمتد وراء الأفق، أي، ما يتجاوز إدراكه. يقارن بين خرير السور في الرياح وصوت الصمت اللامتناهي، ويشعر باللذة والخوف من هذه التجربة. ويمكن أن نقارب سعادة بلانشو مع الإحساس بالدوار الذي يعبر عنه الشاعر في «اللامتناهي». يعتقد بلانشو أن الموت هو «أغنى لحظة من المعنى»، ربما لأنه يجيب على السؤال الذي لا نعرفه في الحياة: ماذا يحدث عند الموت؟
في هذا المقال، الذي يتناول حدود الأدب والموت، هناك حديث واسع عن هذا الخوف والإثارة المرتبطة باللامتناهي؛ بما يتضمنه مفهوم اللامتناهي، والحد الذي يجب تجاوزه لدخول اللامتناهي، وهو الموت كحد للحياة. سأركز على «لحظة موتي - The Instant of my Death» لبلانشو و«المسكن - Demeure» لدريدا لأظهر كيف يقدم الموت للأدب لغزًا لا يُمثل؛ السؤال الذي لا يمكن الإجابة عليه، ماذا يحدث في اللحظة التي يتجاوز فيها الإنسان حدود الحياة؟ كما قال فاغنر، الموت «هو لغز لا يزال غير قابل للفهم كما كان عندما جلس الإنسان البدائي بجانب جسد رفيقه الساكن وتفكر في السماء بدهشة».
بدأت هذا المقال بالمقتطف من «اللامتناهي» لليوباردي لأبرز فكرة الاحتمالات اللامتناهية المحيطة بالإجابة على سؤال ما بعد حدود الحياة. ولكن يجب أن يُؤكد أن أي إجابة على هذا السؤال تنتمي إلى عالم الخيال؛ كما سماه بول دي مان، «prosopopoeial» أي «خيال الصوت من وراء القبر». فكرة اللامتناهي يتبناها بلانشو أيضًا في «لحظة موتي»، حيث يصف الراوي لحظة موته كـ «تحرر من الحياة؟ اللامتناهي يفتح؟» وما يثير الاهتمام هو أن الراوي يواجه الموت، لكنه لا يختبر الموت الفعلي، ومع ذلك، تمنحه هذه المواجهة فرصة للتعبير عن رؤية الموت من موقع الحياة.
في «المسكن»، يصف دريدا عنوان بلانشو المختار، «لحظة موتي»، قائلاً إنه «يعدنا بسرد أو شهادة – موقعة من شخص يخبرنا بطرق متعددة وحسب كل الأزمنة الممكنة: أنا ميت، أو سأكون ميتاً في لحظة، أو منذ لحظة كنت سأكون ميتاً».
هنا نقطتان رئيسيتان يجب أن نتناولها؛ أولاً، هل «لحظة موتي» سرد أم شهادة؟ هذا سؤال لا يمكن الجواب عليه بدقة. من جهة، لدينا دليل رسالة كتبها بلانشو إلى دريدا، والتي يؤكد دريدا أنها «لا تنتمي إلى ما نطلق عليه الأدب. إنها شهادة». ومن جهة أخرى، في «لحظة موتي» نُقدم راوياً ينوي، من العنوان، أن يعلن عن موته – وهو، كما ناقشنا سابقاً، ممكن فقط في عوالم الخيال. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: كيف يكتب المرء عن موته إذا نجا منه؟
يلاحظ دريدا أن «نوعاً أساسياً من العمومية» هو أن «المرء يشهد فقط عندما يكون قد عاش طويلاً بعد ما مضى»، وبالنسبة إلى «لحظة موتي»، «ما يجري عبر هذه الشهادة الخيالية هو مفهوم فريد من نوعه لـ'تجربة غير مُختبرة'». الموت هو التجربة التي سيخوضها كل كائن حي، ولكن بما أن المرء لا يستطيع الشهادة على موته لأنه يتجاوز حد الحياة، يصبح الموت بالتالي «تجربة غير مُختبرة» عالمياً. لذا يمكننا فهم سبب اعتقاد بلانشو أن الموت هو «أغنى لحظة من المعنى» – لأن الموت هو ذروة الغموض. لا يمكن للمرء أن يعرف ما يحدث عند موته لأن الموت يعني الانتقال من الحياة، وبالتالي لا يمكن نقل الحالة الحقيقية للميت إلى الأحياء.
ونجد أنفسنا عند حد يمكن للأدب مواجهته فقط من خلال قوى الخيال، بتخيل اللامتناهي الذي يتجاوز إدراكنا – كما هو موضح في قصيدة ليوباردي. وبالتالي، يبقى الموت بعيداً عن أي نص يدعي أنه مصدر الحقيقة، مثل السيرة الذاتية، أو بمعنى آخر، الشهادة، إذ كما يشير دريدا، «في جوهرها، الشهادة دائماً سيرة ذاتية: تخبر، بصيغة المتكلم، السر القابل والمستحيل للمشاركة لما حدث لي، لي، لي وحدي». ولكن لا يمكن أن يكون الأمر أبداً عن ما يحدث لـ«لي وحدي» عند مناقشة موت المرء. في «المسكن» يعلق دريدا على كيف «الموت يعني: أنت ميت بالفعل، في الماضي السحيق، من موت لم يكن لك».
«وكأن الرياح تهمس بين الغصون، فأقيس بين صمت الأبد وصوت الحياة. فيسري إليَّ ذكر الخلود وأزمنة انقضت والحاضر الزاهي، فيغمرني البحر الواسع. فيصبح الغرق في هذا المحيط حلاوة». – اللامتناهي، جياكومو ليوباردي.
في العشرين من يوليو، عام ألف وتسعمئة وأربعة وتسعين، وصل إلى جاك دريدا كتاب من موريس بلانشو، فيه يعلن بلانشو: «منذ خمسين عامًا، ذقت سعادة النجاة من الموت بحده». فُجاءة هذا التصريح، يتساءل: لماذا يجد المرء الفرح في التملص من الموت؟ سأعود إلى هذه الرسالة لاحقًا في سياق المقال، حين أستعرض مشكلات الشهادة والسيرة الذاتية، ولكن الآن، أركز على مسألة سعادة بلانشو، التي يمكننا إدراكها من خلال قصيدة ليوباردي «اللامتناهي». هنا، يرى الشاعر نفسه جالسًا على قمة تلة مفضلة، حيث الأفق محجوب بسياج، فيشعر بالأمن خلف هذا السور، ويتخيل المساحة اللامتناهية التي تمتد وراء الأفق، أي، ما يتجاوز إدراكه. يقارن بين خرير السور في الرياح وصوت الصمت اللامتناهي، ويشعر باللذة والخوف من هذه التجربة. ويمكن أن نقارب سعادة بلانشو مع الإحساس بالدوار الذي يعبر عنه الشاعر في «اللامتناهي». يعتقد بلانشو أن الموت هو «أغنى لحظة من المعنى»، ربما لأنه يجيب على السؤال الذي لا نعرفه في الحياة: ماذا يحدث عند الموت؟
في هذا المقال، الذي يتناول حدود الأدب والموت، هناك حديث واسع عن هذا الخوف والإثارة المرتبطة باللامتناهي؛ بما يتضمنه مفهوم اللامتناهي، والحد الذي يجب تجاوزه لدخول اللامتناهي، وهو الموت كحد للحياة. سأركز على «لحظة موتي - The Instant of my Death» لبلانشو و«المسكن - Demeure» لدريدا لأظهر كيف يقدم الموت للأدب لغزًا لا يُمثل؛ السؤال الذي لا يمكن الإجابة عليه، ماذا يحدث في اللحظة التي يتجاوز فيها الإنسان حدود الحياة؟ كما قال فاغنر، الموت «هو لغز لا يزال غير قابل للفهم كما كان عندما جلس الإنسان البدائي بجانب جسد رفيقه الساكن وتفكر في السماء بدهشة».
بدأت هذا المقال بالمقتطف من «اللامتناهي» لليوباردي لأبرز فكرة الاحتمالات اللامتناهية المحيطة بالإجابة على سؤال ما بعد حدود الحياة. ولكن يجب أن يُؤكد أن أي إجابة على هذا السؤال تنتمي إلى عالم الخيال؛ كما سماه بول دي مان، «prosopopoeial» أي «خيال الصوت من وراء القبر». فكرة اللامتناهي يتبناها بلانشو أيضًا في «لحظة موتي»، حيث يصف الراوي لحظة موته كـ «تحرر من الحياة؟ اللامتناهي يفتح؟» وما يثير الاهتمام هو أن الراوي يواجه الموت، لكنه لا يختبر الموت الفعلي، ومع ذلك، تمنحه هذه المواجهة فرصة للتعبير عن رؤية الموت من موقع الحياة.
في «المسكن»، يصف دريدا عنوان بلانشو المختار، «لحظة موتي»، قائلاً إنه «يعدنا بسرد أو شهادة – موقعة من شخص يخبرنا بطرق متعددة وحسب كل الأزمنة الممكنة: أنا ميت، أو سأكون ميتاً في لحظة، أو منذ لحظة كنت سأكون ميتاً».
هنا نقطتان رئيسيتان يجب أن نتناولها؛ أولاً، هل «لحظة موتي» سرد أم شهادة؟ هذا سؤال لا يمكن الجواب عليه بدقة. من جهة، لدينا دليل رسالة كتبها بلانشو إلى دريدا، والتي يؤكد دريدا أنها «لا تنتمي إلى ما نطلق عليه الأدب. إنها شهادة». ومن جهة أخرى، في «لحظة موتي» نُقدم راوياً ينوي، من العنوان، أن يعلن عن موته – وهو، كما ناقشنا سابقاً، ممكن فقط في عوالم الخيال. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: كيف يكتب المرء عن موته إذا نجا منه؟
يلاحظ دريدا أن «نوعاً أساسياً من العمومية» هو أن «المرء يشهد فقط عندما يكون قد عاش طويلاً بعد ما مضى»، وبالنسبة إلى «لحظة موتي»، «ما يجري عبر هذه الشهادة الخيالية هو مفهوم فريد من نوعه لـ'تجربة غير مُختبرة'». الموت هو التجربة التي سيخوضها كل كائن حي، ولكن بما أن المرء لا يستطيع الشهادة على موته لأنه يتجاوز حد الحياة، يصبح الموت بالتالي «تجربة غير مُختبرة» عالمياً. لذا يمكننا فهم سبب اعتقاد بلانشو أن الموت هو «أغنى لحظة من المعنى» – لأن الموت هو ذروة الغموض. لا يمكن للمرء أن يعرف ما يحدث عند موته لأن الموت يعني الانتقال من الحياة، وبالتالي لا يمكن نقل الحالة الحقيقية للميت إلى الأحياء.
ونجد أنفسنا عند حد يمكن للأدب مواجهته فقط من خلال قوى الخيال، بتخيل اللامتناهي الذي يتجاوز إدراكنا – كما هو موضح في قصيدة ليوباردي. وبالتالي، يبقى الموت بعيداً عن أي نص يدعي أنه مصدر الحقيقة، مثل السيرة الذاتية، أو بمعنى آخر، الشهادة، إذ كما يشير دريدا، «في جوهرها، الشهادة دائماً سيرة ذاتية: تخبر، بصيغة المتكلم، السر القابل والمستحيل للمشاركة لما حدث لي، لي، لي وحدي». ولكن لا يمكن أن يكون الأمر أبداً عن ما يحدث لـ«لي وحدي» عند مناقشة موت المرء. في «المسكن» يعلق دريدا على كيف «الموت يعني: أنت ميت بالفعل، في الماضي السحيق، من موت لم يكن لك».
👍3❤1🤩1
الفيلسوف الجديد
Photo
يمكن مناقشة الموت فقط من حيث التناقض الذي هو في ذات الوقت أكثر التجارب شمولاً، فكلنا نموت، وفي الوقت نفسه، أكثر التجارب الشخصية تماماً لأنه موتنا الخاص، اللحظة التي لا يمكننا ترجمتها. يمكننا أن نكون شهوداً على موت الآخرين، ولكن أن نقول «أنا ميت» فهذا مستحيل.
الموت الذي يعيشه السارد في «لحظة موتي» ليس بموتٍ جسدي، بل هو انقسام داخلي عن الحياة: «كما لو أن الموت الذي يحدق به، قد صار يصطدم بالموت الذي بداخله». كأنما، يقول دريدا، «الموت الذي أقبل عليه […] ينتظر بلانشو […] ما تبقى له من وجود […] هو هذا السباق نحو الموت، كي لا يرى الموت قادمًا». صعبٌ فهم معنى هذا الانقسام وتعليق دريدا عليه، لأن العقل يقول إن وجودنا مؤسس على هذا السباق نحو الموت، رحلة نحو الموت كجزءٍ جوهري من حياة الإنسان. ولكن ما يثير الاهتمام في تجربة السارد مع الموت في قصة بلانشو هو الموت الذي يشعر به من الداخل، والذي قد نرسم له موازنة هنا لفهم هذا الشعور؛ ففي كتابه «ماذا يحدث عندما تموت؟» جمع أوغست فاغنر مجموعة واسعة من آراء نقاد القرن العشرين حول موضوع الموت. فيه، يعلق هيروارد كارينغتون كيف «عندما يُطلق على إنسان رصاصة في رأسه، نقول إنه 'مات'. أما إذا قطفنا وردة، فلا نقول إن الوردة 'ماتت' حتى تذبل وتفنى». في «لحظة موتي» يمكننا أن نقول إن تجربة الموت الداخلي هذه هي بمثابة «قطف الوردة» مجازيًّا؛ يصف السارد الشعور الفوري بلقائه مع الموت بأنه «خفة استثنائية، نوع من النعيم […] ميت – خالِد. ربما نشوة. بل شعور بالتعاطف مع الإنسانية المعذبة، سعادة عدم الخلود أو الأبدية».
لكن هذا الخلود، يقول دريدا، «لا تعني بأي حال من الأحوال الأبدية […] في هذه اللحظة يمكن أن تكون هناك نشوة، خفة في خلود الموت، سعادة في التعاطف، مشاركة في الفناء، صداقة مع الكائنات المحدودة، في سعادة عدم كونك خالدًا – أو أبديًّا». من خلال مواجهته مع الموت، يفهم سارد بلانشو ضرورة الموت كجزء من التجربة الإنسانية، ورغم أن الموت داخلي للذات، «الظلام في الإنسان» كما قال تينييسون، فهو خارجي لأنه شامل للبشرية. مما يعقد هذه الحدود لتمثيل موت المرء نفسه هو أيضًا حدود اللغة في التعبير عن المشاعر الإنسانية القصوى. في مقدمة «حدود السيرة الذاتية». تؤكد لي غيلمور كيف أن «اللغة تفشل في مواجهة الصدمة […] الصدمة تسخر من اللغة وتواجهها بعجزها». وفي «لحظة موتي» يصف السارد كيف:
«بقي، […] الشعور بالخفة الذي لا أستطيع ترجمته: مُتحرر من الحياة؟ الفضاء اللامتناهي ينفتح؟ لا سعادة، ولا بؤس. ولا غياب الخوف وربما الخطوة التي تتجاوز ذلك».
هنا نواجه مجموعة من المشاعر المختلطة؛ خفة، حرية، سعادة، خوف، غياب الخوف. يبدو أن السارد، لعدم قدرته على ترجمة بدقة طبيعة المشاعر التي يختبرها، يكرر شيئًا مشابهًا لما قاله بلانشو في «الأدب وحق الموت»، أن «الأدب إذا تزامن مع لا شيء لبرهة، يصبح فورًا كل شيء، وهذا كل شيء يبدأ في الوجود». لكن - وهنا تكمن المشكلة - بمجرد أن يبدأ هذا كل شيء في الوجود، يجب أن نجد طريقة لتمثيله، لفهمه، لالتقاطه باللغة (ومن ثم الأدب أيضًا، الذي يستند إلى اللغة). ولكن كما هو متأصل في طبيعة اللغة تقويض المعاني الثابتة، ولا يمكن للعقل البشري تصور اللانهاية، التي هي كل شيء ولا شيء في ذات الوقت، فإن استحالة تمثيل الموت أو مواجهة الموت كهيكل أو لحظة واحدة تحدد حدود الأدب باعتباره شيئًا لا يمكنه أبداً استملاك الطبيعة الغامضة للحياة.
فكّر في دانتي، الذي، رغم استخدامه، كما تؤكد لوسيا بولدريني، «ما يقرب من ٢٨٠٠٠ كلمة» من اللغة الإيطالية، ينهي «الكوميديا الإلهية» بالتعليق «كم هي ضعيفة الكلمات وكم هي غير ملائمة لتكوين مفهومي». كان برنامج دانتي «تجاوز الواقع الإدراكي المباشر لقول ما لم يُقال من قبل – للتعبير عن الجديد، الإلهي، غير القابل للوصف». وفي «لحظة موتي» يسعى السارد أيضًا ليقول ما لم يُقال سيرتيةً من قبل، شعور الموت. خفة تجربة الموت الجسدي تقريبًا لكن العودة إلى الحياة في اللحظة الأخيرة، «في تلك اللحظة، عودة مفاجئة إلى العالم […] تحرك الملازم بعيدًا لتقييم الوضع».
يصف السارد في «لحظة موتي» كيف يتذكر "شابًا […] مُنع من الموت نفسه بالموت». ولعل معنى هذا ينطبق على فكرة رولان بارت عن «موت المؤلف». في مقدمتهم لبلانشو، تعقب هاس ولارج على أن «نكتب لكي تبقى كلماتنا بعدنا، حتى نُمنح الخلود في الحضور الأبدي للعمل. لكن هذا 'البقاء بعدنا' له معنى أكثر شناعة وظلامًا. الكلمات تبقى بعدي، لأن وجودي في معناها ليس له قيمة».
في هذا السياق، من خلال فعل الكتابة، يُحكم الكاتب على نفسه بنوع من الموت. هذا يرتبط بفكرة «ولادة القارئ يجب أن تكون على حساب موت المؤلف»، لأن معنى النص الأدبي يتوحد فقط من خلال تفسير القارئ الفرد وفهمه له.
الموت الذي يعيشه السارد في «لحظة موتي» ليس بموتٍ جسدي، بل هو انقسام داخلي عن الحياة: «كما لو أن الموت الذي يحدق به، قد صار يصطدم بالموت الذي بداخله». كأنما، يقول دريدا، «الموت الذي أقبل عليه […] ينتظر بلانشو […] ما تبقى له من وجود […] هو هذا السباق نحو الموت، كي لا يرى الموت قادمًا». صعبٌ فهم معنى هذا الانقسام وتعليق دريدا عليه، لأن العقل يقول إن وجودنا مؤسس على هذا السباق نحو الموت، رحلة نحو الموت كجزءٍ جوهري من حياة الإنسان. ولكن ما يثير الاهتمام في تجربة السارد مع الموت في قصة بلانشو هو الموت الذي يشعر به من الداخل، والذي قد نرسم له موازنة هنا لفهم هذا الشعور؛ ففي كتابه «ماذا يحدث عندما تموت؟» جمع أوغست فاغنر مجموعة واسعة من آراء نقاد القرن العشرين حول موضوع الموت. فيه، يعلق هيروارد كارينغتون كيف «عندما يُطلق على إنسان رصاصة في رأسه، نقول إنه 'مات'. أما إذا قطفنا وردة، فلا نقول إن الوردة 'ماتت' حتى تذبل وتفنى». في «لحظة موتي» يمكننا أن نقول إن تجربة الموت الداخلي هذه هي بمثابة «قطف الوردة» مجازيًّا؛ يصف السارد الشعور الفوري بلقائه مع الموت بأنه «خفة استثنائية، نوع من النعيم […] ميت – خالِد. ربما نشوة. بل شعور بالتعاطف مع الإنسانية المعذبة، سعادة عدم الخلود أو الأبدية».
لكن هذا الخلود، يقول دريدا، «لا تعني بأي حال من الأحوال الأبدية […] في هذه اللحظة يمكن أن تكون هناك نشوة، خفة في خلود الموت، سعادة في التعاطف، مشاركة في الفناء، صداقة مع الكائنات المحدودة، في سعادة عدم كونك خالدًا – أو أبديًّا». من خلال مواجهته مع الموت، يفهم سارد بلانشو ضرورة الموت كجزء من التجربة الإنسانية، ورغم أن الموت داخلي للذات، «الظلام في الإنسان» كما قال تينييسون، فهو خارجي لأنه شامل للبشرية. مما يعقد هذه الحدود لتمثيل موت المرء نفسه هو أيضًا حدود اللغة في التعبير عن المشاعر الإنسانية القصوى. في مقدمة «حدود السيرة الذاتية». تؤكد لي غيلمور كيف أن «اللغة تفشل في مواجهة الصدمة […] الصدمة تسخر من اللغة وتواجهها بعجزها». وفي «لحظة موتي» يصف السارد كيف:
«بقي، […] الشعور بالخفة الذي لا أستطيع ترجمته: مُتحرر من الحياة؟ الفضاء اللامتناهي ينفتح؟ لا سعادة، ولا بؤس. ولا غياب الخوف وربما الخطوة التي تتجاوز ذلك».
هنا نواجه مجموعة من المشاعر المختلطة؛ خفة، حرية، سعادة، خوف، غياب الخوف. يبدو أن السارد، لعدم قدرته على ترجمة بدقة طبيعة المشاعر التي يختبرها، يكرر شيئًا مشابهًا لما قاله بلانشو في «الأدب وحق الموت»، أن «الأدب إذا تزامن مع لا شيء لبرهة، يصبح فورًا كل شيء، وهذا كل شيء يبدأ في الوجود». لكن - وهنا تكمن المشكلة - بمجرد أن يبدأ هذا كل شيء في الوجود، يجب أن نجد طريقة لتمثيله، لفهمه، لالتقاطه باللغة (ومن ثم الأدب أيضًا، الذي يستند إلى اللغة). ولكن كما هو متأصل في طبيعة اللغة تقويض المعاني الثابتة، ولا يمكن للعقل البشري تصور اللانهاية، التي هي كل شيء ولا شيء في ذات الوقت، فإن استحالة تمثيل الموت أو مواجهة الموت كهيكل أو لحظة واحدة تحدد حدود الأدب باعتباره شيئًا لا يمكنه أبداً استملاك الطبيعة الغامضة للحياة.
فكّر في دانتي، الذي، رغم استخدامه، كما تؤكد لوسيا بولدريني، «ما يقرب من ٢٨٠٠٠ كلمة» من اللغة الإيطالية، ينهي «الكوميديا الإلهية» بالتعليق «كم هي ضعيفة الكلمات وكم هي غير ملائمة لتكوين مفهومي». كان برنامج دانتي «تجاوز الواقع الإدراكي المباشر لقول ما لم يُقال من قبل – للتعبير عن الجديد، الإلهي، غير القابل للوصف». وفي «لحظة موتي» يسعى السارد أيضًا ليقول ما لم يُقال سيرتيةً من قبل، شعور الموت. خفة تجربة الموت الجسدي تقريبًا لكن العودة إلى الحياة في اللحظة الأخيرة، «في تلك اللحظة، عودة مفاجئة إلى العالم […] تحرك الملازم بعيدًا لتقييم الوضع».
يصف السارد في «لحظة موتي» كيف يتذكر "شابًا […] مُنع من الموت نفسه بالموت». ولعل معنى هذا ينطبق على فكرة رولان بارت عن «موت المؤلف». في مقدمتهم لبلانشو، تعقب هاس ولارج على أن «نكتب لكي تبقى كلماتنا بعدنا، حتى نُمنح الخلود في الحضور الأبدي للعمل. لكن هذا 'البقاء بعدنا' له معنى أكثر شناعة وظلامًا. الكلمات تبقى بعدي، لأن وجودي في معناها ليس له قيمة».
في هذا السياق، من خلال فعل الكتابة، يُحكم الكاتب على نفسه بنوع من الموت. هذا يرتبط بفكرة «ولادة القارئ يجب أن تكون على حساب موت المؤلف»، لأن معنى النص الأدبي يتوحد فقط من خلال تفسير القارئ الفرد وفهمه له.
👍1
الفيلسوف الجديد
Photo
وهذه حدية الكتابة التي يعلق عليها بلانشو في «كتابة الكارثة»: «أن تكتب (عن) نفسك هو أن تتوقف عن أن تكون، لتثق في ضيف – الآخر، القارئ – موكلًا إليه من الآن فصاعدًا، أن يكون لديه، وفعلاً كحياة، لا شيء سوى عدم وجودك». لكن هذا الانتقال من المؤلف إلى القارئ يبرز أيضًا الجودة اللامتناهية التي يمتاز بها الأدب؛ كما يشير جون بارت، «الأدب لا يمكن أن يُستنفد أبدًا لأنه لا يوجد نص واحد يمكن أن يُستنفد – 'معناه' يكمن في تفاعله مع القراء الفرديين».
ولكن هذه اللامتناهية ليست مرادفة للحدود اللامتناهية - لأننا، القراء، ما زلنا محدودين بفهمنا الخاص للنص، وكما يقول بارت: «إذا أراد [المؤلف] أن يعبّر عن نفسه، فيجب أن يعرف على الأقل أن 'الشيء الداخلي' الذي يظن أنه 'يترجمه' هو نفسه مجرد قاموس جاهز، وكلماته قابلة للتفسير من خلال كلمات أخرى، وهكذا بلا نهاية...».
يمكن القول إذًا، أن الأدب يقدم لنا نفي الموت كالنهاية النهائية، ولكن اعتماد الموت كانتقال إلى مستوى جديد من الفهم. كما يصرح دريدا في «المعضلة - Aporia»: «عبور الحدود دائمًا ما يعلن عن نفسه وفقًا لحركة معينة من الخطوة […] – والخطوة التي تعبر خطًا». أي، خطوة تعبر الخط وتبقى في الوجود، رغم تغييرها، على الجانب الآخر من هذا الخط. وهذا يظهر في قصة بلانشو حيث يعلق السارد أيضًا: «ولا غياب الخوف وربما الخطوة التي تتجاوز ذلك. أعلم، أتخيل أن هذا الشعور غير القابل للتحليل غير ما تبقى له من وجود».
ربما هذا المفهوم لتجاوز الحد، تجاوز حدود الحياة والأدب، يُعرف الحد المطلق للموت. الإنسانية لا تستطيع فهم أنه بعد الحياة لا يوجد شيء مطلق – لأن حتى عند كتابة لا شيء، سيظل الإنسان يتخيل لا شيء كحالة من الوجود، كمسطح، كفراغ. الأسود، الرمادي، الأبيض. صوت الصمت اللامتناهي الذي يتخيله ليوباردي. حد الموت هو أنه توقف عن الحياة، والموت هو «هذه الحركة التي لا أستطيع فيها دفع الموت بعيدًا عني من خلال نسبته إلى 'الجميع'. بل هنا أكون 'الجميع'، أي أفقد نفسي وأختبر كيف 'يموت المرء'». تمامًا كما في إنتاج عمل أدبي، يؤكد بلانشو، «أتنصل من فكرة إنتاج وتشكيل نفسي؛ أتمثل في شيء خارجي وأُسجل نفسي في استمرارية البشرية المجهولة».
الموت هو حد الإنسانية الذي يمكن للكتابة تجاوزه ولكن فقط من خلال فقدان القدرة على قول 'أنا'، أي تمرير العمل إلى نطاق القارئ – الذي هو في ذات الوقت فردي وعالمي. يمكن القول إذًا، أن حد الأدب وحد الموت هو أحد أسرار الوجود التي لا يمكن بلوغها: الفردية. في الأدب، نُمنح وسيلة لتجاوز غياب الذات في الحياة، الأدب يسمح «بعلاقة مع لغز وجودنا الفردي». ولكن، بمجرد أن يصبح هذا اللغز «مطبوعًا» في اللغة، سواء كان حديثًا أو كتابة، فإنه يُفقد؛ هذا ما يعنيه بلانشو عندما يعلق كيف «عندما أتكلم، يتكلم الموت فيّ. [الكلام] موجود بيننا كالمسافة التي تفصلنا، ولكن هذه المسافة هي أيضًا ما يمنعنا من الانفصال، لأنها تحتوي على شرط كل فهم».
كفرد، يمكنني أن أختبر المشاعر الداخلية والأحاسيس حول حدث أو قطعة أدبية، ولكن بمجرد أن تُعبّر هذه التجارب، وتُسمى، فإنها تفقد جودتها الفردية وتدخل في نطاق مجموعة جاهزة من الكلمات، وكلمات عن الكلمات، عن مشاعر التجارب التي هي في ذات الوقت فردية وعالمية.
في «لحظة موتي»، نجد أن السارد يصف تجربته مع الموت على أنها تولد شعورًا بـ«الخفة»، حيث تنفصل الذات للحظة عن الإنسانية، وكأن المرء يقترب من مواجهة موته الشخصي، ولكن من خلال محاولة التعبير عن هذه اللحظة، يقترب السارد من الحد، العتبة الخطرة، حيث يقول: «أنا حي. لا، أنت ميت».
ميت لأنه قد تخلى عن فرديته من خلال التعبير (أي، موت المؤلف)، وميت لأنه في اللحظة التي كاد فيها أن يُقتل بالرصاص، يعلن السارد أنه بالفعل «ميت – خالد». يُعلق دريدا على هذا قائلاً: «إن [السارد] ميت بالفعل، لأنه صدر حكم [...] عندما يموت المرء، لا يحدث ذلك مرتين، لا يوجد موتان حتى لو مات اثنان [...] أنا لست ميتًا وأنا ميت. في تلك اللحظة أنا خالد لأنني ميت: لا يمكن أن يحدث لي الموت مرة أخرى».
لذلك، من لحظة موت السارد، يدرك حتمية الموت، ويعترف بأن «لحظة موتي منذ ذلك الحين دائمًا في تعليق». يعيدنا هذا إلى صورة الوردة التي تم قطفها والتي ناقشتها سابقًا؛ ما ينتظره السارد الآن هو ذبول الحياة من كيانه. يمكن بالتالي رؤية حد الأدب كحد يعجز عن التعبير عن التفرد المطلق إما في التجربة أو المعنى. وحدّ الموت هو أنه نهاية الحياة التي تلغي أيضًا تجربة التفرد. أما الحد الذي يجمع بين الأدب والموت فهو أن الموت لا يمكن التعبير عنه بالكامل في عوالم الشهادة أو الرواية الذاتية. ما يثير الاهتمام في «لحظة موتي» هو كيف أن هذا اللقاء مع الحد، العتبة الخطرة للحياة، والعودة إلى الحياة، يتيح للسارد رؤية للموت يمكن التعبير عنها في الحياة.
ولكن هذه اللامتناهية ليست مرادفة للحدود اللامتناهية - لأننا، القراء، ما زلنا محدودين بفهمنا الخاص للنص، وكما يقول بارت: «إذا أراد [المؤلف] أن يعبّر عن نفسه، فيجب أن يعرف على الأقل أن 'الشيء الداخلي' الذي يظن أنه 'يترجمه' هو نفسه مجرد قاموس جاهز، وكلماته قابلة للتفسير من خلال كلمات أخرى، وهكذا بلا نهاية...».
يمكن القول إذًا، أن الأدب يقدم لنا نفي الموت كالنهاية النهائية، ولكن اعتماد الموت كانتقال إلى مستوى جديد من الفهم. كما يصرح دريدا في «المعضلة - Aporia»: «عبور الحدود دائمًا ما يعلن عن نفسه وفقًا لحركة معينة من الخطوة […] – والخطوة التي تعبر خطًا». أي، خطوة تعبر الخط وتبقى في الوجود، رغم تغييرها، على الجانب الآخر من هذا الخط. وهذا يظهر في قصة بلانشو حيث يعلق السارد أيضًا: «ولا غياب الخوف وربما الخطوة التي تتجاوز ذلك. أعلم، أتخيل أن هذا الشعور غير القابل للتحليل غير ما تبقى له من وجود».
ربما هذا المفهوم لتجاوز الحد، تجاوز حدود الحياة والأدب، يُعرف الحد المطلق للموت. الإنسانية لا تستطيع فهم أنه بعد الحياة لا يوجد شيء مطلق – لأن حتى عند كتابة لا شيء، سيظل الإنسان يتخيل لا شيء كحالة من الوجود، كمسطح، كفراغ. الأسود، الرمادي، الأبيض. صوت الصمت اللامتناهي الذي يتخيله ليوباردي. حد الموت هو أنه توقف عن الحياة، والموت هو «هذه الحركة التي لا أستطيع فيها دفع الموت بعيدًا عني من خلال نسبته إلى 'الجميع'. بل هنا أكون 'الجميع'، أي أفقد نفسي وأختبر كيف 'يموت المرء'». تمامًا كما في إنتاج عمل أدبي، يؤكد بلانشو، «أتنصل من فكرة إنتاج وتشكيل نفسي؛ أتمثل في شيء خارجي وأُسجل نفسي في استمرارية البشرية المجهولة».
الموت هو حد الإنسانية الذي يمكن للكتابة تجاوزه ولكن فقط من خلال فقدان القدرة على قول 'أنا'، أي تمرير العمل إلى نطاق القارئ – الذي هو في ذات الوقت فردي وعالمي. يمكن القول إذًا، أن حد الأدب وحد الموت هو أحد أسرار الوجود التي لا يمكن بلوغها: الفردية. في الأدب، نُمنح وسيلة لتجاوز غياب الذات في الحياة، الأدب يسمح «بعلاقة مع لغز وجودنا الفردي». ولكن، بمجرد أن يصبح هذا اللغز «مطبوعًا» في اللغة، سواء كان حديثًا أو كتابة، فإنه يُفقد؛ هذا ما يعنيه بلانشو عندما يعلق كيف «عندما أتكلم، يتكلم الموت فيّ. [الكلام] موجود بيننا كالمسافة التي تفصلنا، ولكن هذه المسافة هي أيضًا ما يمنعنا من الانفصال، لأنها تحتوي على شرط كل فهم».
كفرد، يمكنني أن أختبر المشاعر الداخلية والأحاسيس حول حدث أو قطعة أدبية، ولكن بمجرد أن تُعبّر هذه التجارب، وتُسمى، فإنها تفقد جودتها الفردية وتدخل في نطاق مجموعة جاهزة من الكلمات، وكلمات عن الكلمات، عن مشاعر التجارب التي هي في ذات الوقت فردية وعالمية.
في «لحظة موتي»، نجد أن السارد يصف تجربته مع الموت على أنها تولد شعورًا بـ«الخفة»، حيث تنفصل الذات للحظة عن الإنسانية، وكأن المرء يقترب من مواجهة موته الشخصي، ولكن من خلال محاولة التعبير عن هذه اللحظة، يقترب السارد من الحد، العتبة الخطرة، حيث يقول: «أنا حي. لا، أنت ميت».
ميت لأنه قد تخلى عن فرديته من خلال التعبير (أي، موت المؤلف)، وميت لأنه في اللحظة التي كاد فيها أن يُقتل بالرصاص، يعلن السارد أنه بالفعل «ميت – خالد». يُعلق دريدا على هذا قائلاً: «إن [السارد] ميت بالفعل، لأنه صدر حكم [...] عندما يموت المرء، لا يحدث ذلك مرتين، لا يوجد موتان حتى لو مات اثنان [...] أنا لست ميتًا وأنا ميت. في تلك اللحظة أنا خالد لأنني ميت: لا يمكن أن يحدث لي الموت مرة أخرى».
لذلك، من لحظة موت السارد، يدرك حتمية الموت، ويعترف بأن «لحظة موتي منذ ذلك الحين دائمًا في تعليق». يعيدنا هذا إلى صورة الوردة التي تم قطفها والتي ناقشتها سابقًا؛ ما ينتظره السارد الآن هو ذبول الحياة من كيانه. يمكن بالتالي رؤية حد الأدب كحد يعجز عن التعبير عن التفرد المطلق إما في التجربة أو المعنى. وحدّ الموت هو أنه نهاية الحياة التي تلغي أيضًا تجربة التفرد. أما الحد الذي يجمع بين الأدب والموت فهو أن الموت لا يمكن التعبير عنه بالكامل في عوالم الشهادة أو الرواية الذاتية. ما يثير الاهتمام في «لحظة موتي» هو كيف أن هذا اللقاء مع الحد، العتبة الخطرة للحياة، والعودة إلى الحياة، يتيح للسارد رؤية للموت يمكن التعبير عنها في الحياة.
❤1👍1👏1
الفيلسوف الجديد
Photo
«الحياة سرٌّ خفيّ، والموت مفتاحه الذي يفتح الباب، ولكن من يدير المفتاح يغيب في السرِّ إلى الأبد». موريس ميترلينك في كتابه «قبل الصمت الكبير».
❤3
مهمةُ الفلسفة
✍️ الفيلسوف جون ديوي
"لو كان هناكَ إجماعٌ بين الناس على دلالة ما نعرفهُ من المُعتقدَات الخاصة بأمور القيم المثالية والعامة، لتميَّزت حياتنا بالتوحيد بدلاً من الانقسام والتنازع على الأهداف والمعايير المتنافِسة. والحاجة إلى الأفعال العملية في المجالات الاجتماعية الحرة الواسعة ستعطي توحيداً لمعرفتنا الخاصة، التي تُعطي بدورها صلابة وثقة للحكم على القيم الموجِّهة لسلوكنا. وبلوغ هذا الإجماع دليلٌ على أن الحياة الحديثة قد بلغت مرحلة النضوج في الكشف عن معناها في الحركة الفكرية. وسيهتدي هذا الإجماع بمصالح الحياة الحديثة ذاتها، وألوان نشاطها، ويتخذ منها مُرشِداً صاحب سلطة في تدبير شؤونها، يبحث عنه عبثاً في الوقت الحاضر، فيجده ضائعاً بين التقاليد البالية وبين الاعتماد على الحوافز الطارئة.
وهذا الموقف يُحدّد الوظيفة الهامة للفلسفة في الوقت الحاضر، إذ يجب عليها أن تبحث عن العوائق وتكشفها، و أن تنتقد العادات الذهنية التي تقف عقبة في الطريق، وأن تُوجِّه الفكر صوب الحاجات المتصلة بالحياة الحاضرة، وأن تُؤوِّل نتائج العلم في ضوء عواقبها على معتقداتنا الخاصة بأغراضنا وقيمنا في جميع مراحل الحياة".
📕 جون ديوي، البحث عن اليقين، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، المركز القومي للترجمة : مصر، ٢٠١٥.
"لو كان هناكَ إجماعٌ بين الناس على دلالة ما نعرفهُ من المُعتقدَات الخاصة بأمور القيم المثالية والعامة، لتميَّزت حياتنا بالتوحيد بدلاً من الانقسام والتنازع على الأهداف والمعايير المتنافِسة. والحاجة إلى الأفعال العملية في المجالات الاجتماعية الحرة الواسعة ستعطي توحيداً لمعرفتنا الخاصة، التي تُعطي بدورها صلابة وثقة للحكم على القيم الموجِّهة لسلوكنا. وبلوغ هذا الإجماع دليلٌ على أن الحياة الحديثة قد بلغت مرحلة النضوج في الكشف عن معناها في الحركة الفكرية. وسيهتدي هذا الإجماع بمصالح الحياة الحديثة ذاتها، وألوان نشاطها، ويتخذ منها مُرشِداً صاحب سلطة في تدبير شؤونها، يبحث عنه عبثاً في الوقت الحاضر، فيجده ضائعاً بين التقاليد البالية وبين الاعتماد على الحوافز الطارئة.
وهذا الموقف يُحدّد الوظيفة الهامة للفلسفة في الوقت الحاضر، إذ يجب عليها أن تبحث عن العوائق وتكشفها، و أن تنتقد العادات الذهنية التي تقف عقبة في الطريق، وأن تُوجِّه الفكر صوب الحاجات المتصلة بالحياة الحاضرة، وأن تُؤوِّل نتائج العلم في ضوء عواقبها على معتقداتنا الخاصة بأغراضنا وقيمنا في جميع مراحل الحياة".
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
❤7👍1
الفيلسوف الجديد
Photo
صِدام الفلسفة والجاز.. عن لقاء جاك دريدا بأورنيت كولمان
مساء الأول من يوليوز/تمّوز 1997، بدعوة من عازف الجاز الأميركيّ أورنيت كولمان (2015-1930)، ظهر الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا (1930-2004) في مسرح قاعة لاَفِيلِتْ بباريس: شيخٌ مُتأنِّقٌ في نهاية عقده السّادس، يكسو البياض شعره، يتقدّم نحو المنضدة وسط ذهول وصمت مطبق. يضع أوراقه ويشرع في قراءة نصّ مكتوب. كان كولمان يحمل الكثير من الاحترام للفلسفة بشكل عام، ويُعير اهتماماً خاصّاً لفيلسوف التّفكيك الذي ذاع صيته في كلّ بقاع الأرض، بل كان قد صار واحداً من نجوم أميركا، ومحطّ إعجاب الأكاديميين والفنانين والمعماريين وحتّى الموسيقيّين هناك.
من جهته، كان دريدا محبّاً للجاز، يُشنّف سمعه بمعزوفات ستان جيتز، لكنّه لم يكن متبحِّراً في هذه الموسيقى، ولا عارفاً بعوالم مُستضيفِه كولمان. يقرأ دريدا من الأوراق الموضوعة على المنضدة: "لا أعرف الحديث عن كولمان، لست مُتخصّصاً في كولمان (بالإنكليزيّة)، وليس في استطاعتي الحديث عنه، لي فقط محاولة التحدث إليه، معه هو، والإصغاء له يعزف أو يتكلّم فحسب...".
كذلك تحقّق اللّقاء بين الرّجلين، قبل السّهرة المعلومة، وأجريا محاورة مُطوّلة، نشرتها جريدة "لي زانكوروبتيل"، فأراد كولمان تتويجها بعرضٍ أدائيّ. يقول دريدا: "عند نهاية هاتين السّاعتين (من المحاورة) اقترحّ عليّ الصّعود إلى الخشبة: "لك أن تقول ما تشاء، يمكنك قراءة نص من انتاجك، قول أيّ شيء، وسأجيبك من خلال الموسيقى. لك كامل الصّلاحيّة، ولك أن تتدخّل متى شئت...". مع كثير من القلق، وافقتُ على المقترح، وفي الوقت نفسه استشعرتُ ضرورة القيام بذلك". للوهلة الأولى، في بداهة حفاوة التّعاون الفنيّ بين فيلسوف وموسيقيّ، يبدو عزمهما مسألة ممتعة وجذّابة، بيد أنّها تنطوي على توتّر داخليّ يُفسّر القلق الذي عبّر عنه دريدا لحظة موافقته على المشاركة في الحفلة، رغم اعتراض زوجته مارغريت...
هكذا، بعد دقائق من ظهوره في المسرح، ومن دون أنْ تُقدّمه اللجنة المُنظّمة أو كولمان نفسه، ارتفعت احتجاجات الجمهور فبلغت حدّ الشتيمة، مُطالبةً "الغريب" بالمغادرة على الفور. فما الذي أثار غضب الحاضرين ليلتها؟ هل تصيّد عنف ضيافة كولمان حماسة دريدا لوضعه أمام حيلة الارتجال وشَرك المفاجأة؟ وكيف للفيلسوف إنقاذ صرامة الفكر أمام مباغتة الفن؟
دوّامة التّكرار والارتجال
لم يُخف جاك دريدا يوماً قدومه إلى الفلسفة صُدفة، من طريق الأدب. ولم يتوانَ منذ بداياته في فتح حوارات مع الشّعراء والفنّانين بغاية ردم الفوارق والتراتبيات المعرفيّة التي عزلت التّفكير الفلسفي خلال القرون السّابقة داخل بنيات ومقولات مُنغلقة على نفسها (الوعي النظري الكانطي) ومنفصلة عن أيّ وجود محسوس (الباثوس الهايدغريّ). في المقابل، لم يتنازل دريدا البتّة عن التقاليد الفلسفيّة الصّارمة التي ورثها عن واحد من أسلافه الألمان، إدموند هوسرل، ودافع عنها باستماتة، رغم أنه قد يكون قايضها في بعض اللحظات... يكتب دريدا في "الصّوت والظّاهرة" (1967): "غالباً ما نعتقد بأنّ الحديث بصوت مرتفع يجعلنا حاضرين بالنّسبة لأنفسنا. لكن هذا الحضور في الواقع دائماً مرجئ، أبداً مُكتمل (...) إنّ الكتابة ليست مُجرّد تكملة للكلمة، بل إنّها تكشف البنية التفاضليّة التي هي أساس أيّ دلالة". هكذا، بالنسبة لدريدا، تصير الكتابة صورة للزّمنيّة، ويصبح من المستحيل – على اعتبار الحضور ثمرة لتصوّر مثاليّ هو التّكرار – التمييز بين التمثيل والتمثل، بين الواقع والخيال...
لنعد إلى واقعة الحفلة، أي إلى الورطة التي وضع الفيلسوف فيها نفسه. حسب شهادة بعض الحاضرين، لم يبق دريدا على خشبة المسرح أكثر من ربع ساعة، قرأ خلالها أجزاء متفرّقة من نصّ بعنوان "اللعب – الاسم" كتبه خصّيصاً لهذا الحدث. تضمّن النصّ ألعاباً شبه ارتجاليّة عن مفارقات الارتجال، عن مدينة فورت وورث (تكساس) حيث ولد كولمان، عن أمّ العازف وعن العنصريّة في أميركا... شيئاً فشيئاً، تزاوج صوت الفيلسوف مع عزف السّاكسوفونيست.
يقول دريدا: "ما الذي يحدث؟ (بالفرنسية) ما الذي يحدث؟ وما الذي سيحدث، يا أورنيت، الآن، حالاً؟ (بالإنكليزية) ما الذي يحدث لي، هنا، الآن، رفقة أورنيت كولمان؟ رُفقتكَ (بالإنكليزية)، من؟" ههنا، يتوقّع دريدا الكارثة قبل حدوثها. بيد أنّه، وفيّاً لأسلوبه الجذّاب والملغوم في آن، يحاول مغازلة جمهور الجاز الحاضر، مُضيفاً: "ها أنتم ترون، بين يديّ ما يشبه قطعة موسيقيّة مكتوبة، وتعتقدون بأنّي لا أرتجلها، وأنتم مخطئون. إنّني أتظاهر بعدم الارتجال، أتظاهر فحسب (بالإنكليزية)، وألعب في القراءة، لكن مُرتجلاً". غادر دريدا بعد تصاعد اللّغط داخل القاعة، من دون أن ينهض كولمان للدّفاع عن ضيفه...
دائماً ما تُسافر الموسيقى أبعدَ وأقربَ من الكلمات.
(ج.دريدا، من رسالة إلى كاثرين مالابو)
مساء الأول من يوليوز/تمّوز 1997، بدعوة من عازف الجاز الأميركيّ أورنيت كولمان (2015-1930)، ظهر الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا (1930-2004) في مسرح قاعة لاَفِيلِتْ بباريس: شيخٌ مُتأنِّقٌ في نهاية عقده السّادس، يكسو البياض شعره، يتقدّم نحو المنضدة وسط ذهول وصمت مطبق. يضع أوراقه ويشرع في قراءة نصّ مكتوب. كان كولمان يحمل الكثير من الاحترام للفلسفة بشكل عام، ويُعير اهتماماً خاصّاً لفيلسوف التّفكيك الذي ذاع صيته في كلّ بقاع الأرض، بل كان قد صار واحداً من نجوم أميركا، ومحطّ إعجاب الأكاديميين والفنانين والمعماريين وحتّى الموسيقيّين هناك.
من جهته، كان دريدا محبّاً للجاز، يُشنّف سمعه بمعزوفات ستان جيتز، لكنّه لم يكن متبحِّراً في هذه الموسيقى، ولا عارفاً بعوالم مُستضيفِه كولمان. يقرأ دريدا من الأوراق الموضوعة على المنضدة: "لا أعرف الحديث عن كولمان، لست مُتخصّصاً في كولمان (بالإنكليزيّة)، وليس في استطاعتي الحديث عنه، لي فقط محاولة التحدث إليه، معه هو، والإصغاء له يعزف أو يتكلّم فحسب...".
كذلك تحقّق اللّقاء بين الرّجلين، قبل السّهرة المعلومة، وأجريا محاورة مُطوّلة، نشرتها جريدة "لي زانكوروبتيل"، فأراد كولمان تتويجها بعرضٍ أدائيّ. يقول دريدا: "عند نهاية هاتين السّاعتين (من المحاورة) اقترحّ عليّ الصّعود إلى الخشبة: "لك أن تقول ما تشاء، يمكنك قراءة نص من انتاجك، قول أيّ شيء، وسأجيبك من خلال الموسيقى. لك كامل الصّلاحيّة، ولك أن تتدخّل متى شئت...". مع كثير من القلق، وافقتُ على المقترح، وفي الوقت نفسه استشعرتُ ضرورة القيام بذلك". للوهلة الأولى، في بداهة حفاوة التّعاون الفنيّ بين فيلسوف وموسيقيّ، يبدو عزمهما مسألة ممتعة وجذّابة، بيد أنّها تنطوي على توتّر داخليّ يُفسّر القلق الذي عبّر عنه دريدا لحظة موافقته على المشاركة في الحفلة، رغم اعتراض زوجته مارغريت...
هكذا، بعد دقائق من ظهوره في المسرح، ومن دون أنْ تُقدّمه اللجنة المُنظّمة أو كولمان نفسه، ارتفعت احتجاجات الجمهور فبلغت حدّ الشتيمة، مُطالبةً "الغريب" بالمغادرة على الفور. فما الذي أثار غضب الحاضرين ليلتها؟ هل تصيّد عنف ضيافة كولمان حماسة دريدا لوضعه أمام حيلة الارتجال وشَرك المفاجأة؟ وكيف للفيلسوف إنقاذ صرامة الفكر أمام مباغتة الفن؟
دوّامة التّكرار والارتجال
لم يُخف جاك دريدا يوماً قدومه إلى الفلسفة صُدفة، من طريق الأدب. ولم يتوانَ منذ بداياته في فتح حوارات مع الشّعراء والفنّانين بغاية ردم الفوارق والتراتبيات المعرفيّة التي عزلت التّفكير الفلسفي خلال القرون السّابقة داخل بنيات ومقولات مُنغلقة على نفسها (الوعي النظري الكانطي) ومنفصلة عن أيّ وجود محسوس (الباثوس الهايدغريّ). في المقابل، لم يتنازل دريدا البتّة عن التقاليد الفلسفيّة الصّارمة التي ورثها عن واحد من أسلافه الألمان، إدموند هوسرل، ودافع عنها باستماتة، رغم أنه قد يكون قايضها في بعض اللحظات... يكتب دريدا في "الصّوت والظّاهرة" (1967): "غالباً ما نعتقد بأنّ الحديث بصوت مرتفع يجعلنا حاضرين بالنّسبة لأنفسنا. لكن هذا الحضور في الواقع دائماً مرجئ، أبداً مُكتمل (...) إنّ الكتابة ليست مُجرّد تكملة للكلمة، بل إنّها تكشف البنية التفاضليّة التي هي أساس أيّ دلالة". هكذا، بالنسبة لدريدا، تصير الكتابة صورة للزّمنيّة، ويصبح من المستحيل – على اعتبار الحضور ثمرة لتصوّر مثاليّ هو التّكرار – التمييز بين التمثيل والتمثل، بين الواقع والخيال...
لنعد إلى واقعة الحفلة، أي إلى الورطة التي وضع الفيلسوف فيها نفسه. حسب شهادة بعض الحاضرين، لم يبق دريدا على خشبة المسرح أكثر من ربع ساعة، قرأ خلالها أجزاء متفرّقة من نصّ بعنوان "اللعب – الاسم" كتبه خصّيصاً لهذا الحدث. تضمّن النصّ ألعاباً شبه ارتجاليّة عن مفارقات الارتجال، عن مدينة فورت وورث (تكساس) حيث ولد كولمان، عن أمّ العازف وعن العنصريّة في أميركا... شيئاً فشيئاً، تزاوج صوت الفيلسوف مع عزف السّاكسوفونيست.
يقول دريدا: "ما الذي يحدث؟ (بالفرنسية) ما الذي يحدث؟ وما الذي سيحدث، يا أورنيت، الآن، حالاً؟ (بالإنكليزية) ما الذي يحدث لي، هنا، الآن، رفقة أورنيت كولمان؟ رُفقتكَ (بالإنكليزية)، من؟" ههنا، يتوقّع دريدا الكارثة قبل حدوثها. بيد أنّه، وفيّاً لأسلوبه الجذّاب والملغوم في آن، يحاول مغازلة جمهور الجاز الحاضر، مُضيفاً: "ها أنتم ترون، بين يديّ ما يشبه قطعة موسيقيّة مكتوبة، وتعتقدون بأنّي لا أرتجلها، وأنتم مخطئون. إنّني أتظاهر بعدم الارتجال، أتظاهر فحسب (بالإنكليزية)، وألعب في القراءة، لكن مُرتجلاً". غادر دريدا بعد تصاعد اللّغط داخل القاعة، من دون أن ينهض كولمان للدّفاع عن ضيفه...
❤4
الفيلسوف الجديد
Photo
الإيمان بارتجال مستحيل
مع كلّ ما أسالته وقتها من مداد، في الصّحافة الفرنسيّة والأميركيّة، لا تختزل واقعة اللّقاء بين دريدا وكولمان مجرّد مادّة إخباريّة عن سوء فهم طارئ بين جمهور عاشق للجاز الحرّ، سليل حركة أيار 1968 الثائرة على سلطة الجامعة والمجتمع، وبين أستاذ يُمثّل سطوة تلك المعرفة القاهرة التي تخلصّوا منها وعادت ليلتها لتحجب من خلال صوت المُعلّم متعة الموسيقى؛ بل إنّ الواقعة تعيد إلى الأذهان شرخاً قديماً بين الخطاب الفلسفيّ المحبوك والتعبيرات الفنيّة المرتجلة، أي بين تاريخ متراصّ للكينونة وتعبيرات عرضيّة للكائن. سيقول دريدا لاحقاً: "أؤمن بالارتجال وأقاتل من أجله، لكن معتقداً دائماً بأنّه مستحيل". وفي قوله هذا ما يُذكّرنا، مع اختلافات وتفصيلات كثيرة، بموقف ثيودور أدورنو (1903-1960) من الجاز. لقد اعتبر أدورنو هذه الموسيقى بمثابة "حداثة زائفة" تحمل في طيّاتها أوهام الحرية وجشع الإنتاج التجاريّ، ورأى في ادعائها التولد عن الارتجال استصغاراً للعقول واختلافاً جوهريّاً مع الفن الذي لا يمكن أن ينبع من غير كدّ الأداء وعرق الحياة.
يكتب أدورنو في "النظرية الجماليّة": "إنّ المقطوعات الموسيقيّة ليست على وجه التقريب أفضل دائماً من الأداءات فحسب، بل إنّها أكثر من مجرّد توجيهات إليها. […] فالتثبيت باستعمال العلامات أو النّوتات ليس خارجيّاً عن الشيء؛ فمنه يكتسب العمل الفنيّ استقلاليّته عن نشأته: ومن هنا تأتي أولويّة النصوص على تأويلاتها". لا يكتفي أدورنو في صِدامه الجذري مع الجاز عند نزع صفة الفن عنه، وإنّما يحشره في دائرة الفاشيّة. فبالنسبة إليه، لا يهتمّ الجاز بالكتابة وبالصّوت وإنّما بالاستعراض، وفي تهريج عازفيه في المسرح من أجل استمالة الحشود، يلتقون مع ساسة الفاشيّة في محاولتهم خداع الناس وايهامهم بأنّ هدماً تحرّرياً ما يحدث حيث لا توجد، في نظره، سوى استمرارية وتكريس الرّاهن. كذلك يمكننا القول إنّ ثقافة البوب، موسيقيّة أو أدبيّة أو بصريّة كانت، ليست ثقافة الشّعب، وإنما هي مستوى متوسط، وسيط وهجين، بالمعنى القدحي للهجانة، بين ذوق المسحوقين وتطلعاتهم الاقتصادية اليائسة. إنها حالة من الوهم التّسويقيّ الذي يجعل من الجماهير سيولة مالية افتراضية تتداولها المنصّات الرقمية، في البنوك والبورصات، وتستعين بها الأنظمة لتخدير الجماهير. الخبز والألعاب.
ولعلّنا نستجلي في ما حدث مع جاك دريدا، قبيل مطلع الألفية الثانية، ملامح ما قد أضحى اليوم تكتيكات حربائيّة لما يُسمّى بالفن المعاصر الذي يدّعي كثير من القائمين عليه، من فنانين وتُجّار ومضاربين في الغاليريهات والبينالات، الاقتراب من قضايا الفكر والمجتمع. بيد أنّهم، في صميم ادعاءاتهم تلك، ينهلون من أدوات ثقافة البوب التي تأسست على تحالف الصّناعة والفولكلور، الإيديولوجيا والانفصام، أي على الاغتراب والانتصار الجماليّ للبشع والمربح، وحيثما تحرّك المال والشهرة تسقط مزاعمهم الانعتاقيّة في انحياز صارخ للشعبوية والشموليّة.
إنّ كولمان "اللطيف للغاية والخجول"، كما وصفه دريدا، وإنْ كان يرتجل جواهر اللّحن، ويستذكر بشجن ممتع تاريخ العبيد ومآسيهم، فإنّه كان قد أصبح بقوّة الواقع جزءًا من آلة إنتاجيّة تُجيّش الحشود وتستلب أموالهم وقناعاتهم السياسيّة، بل وترتجل بأحلامهم وحيواتهم، وبوجودهم حتّى. يكتب دريدا بعد اللقاء: "قلت لنفسي حينها بأنّني لم أكن بالنسبة إليه (كولمان) إلاّ ضرباً من هيئة ظليّة - ولا أعتقد أنه قرأ لي في يوم - ترتسم من أشياء أميركيّة في فضاء أميركيّ".
يحدث أن أستمع لموسيقى الجاز، لكنّي أفضّل عيساوة وشوبان. ثمّ إنّي لن أذهب إلى أميركا قطعاً...
مع كلّ ما أسالته وقتها من مداد، في الصّحافة الفرنسيّة والأميركيّة، لا تختزل واقعة اللّقاء بين دريدا وكولمان مجرّد مادّة إخباريّة عن سوء فهم طارئ بين جمهور عاشق للجاز الحرّ، سليل حركة أيار 1968 الثائرة على سلطة الجامعة والمجتمع، وبين أستاذ يُمثّل سطوة تلك المعرفة القاهرة التي تخلصّوا منها وعادت ليلتها لتحجب من خلال صوت المُعلّم متعة الموسيقى؛ بل إنّ الواقعة تعيد إلى الأذهان شرخاً قديماً بين الخطاب الفلسفيّ المحبوك والتعبيرات الفنيّة المرتجلة، أي بين تاريخ متراصّ للكينونة وتعبيرات عرضيّة للكائن. سيقول دريدا لاحقاً: "أؤمن بالارتجال وأقاتل من أجله، لكن معتقداً دائماً بأنّه مستحيل". وفي قوله هذا ما يُذكّرنا، مع اختلافات وتفصيلات كثيرة، بموقف ثيودور أدورنو (1903-1960) من الجاز. لقد اعتبر أدورنو هذه الموسيقى بمثابة "حداثة زائفة" تحمل في طيّاتها أوهام الحرية وجشع الإنتاج التجاريّ، ورأى في ادعائها التولد عن الارتجال استصغاراً للعقول واختلافاً جوهريّاً مع الفن الذي لا يمكن أن ينبع من غير كدّ الأداء وعرق الحياة.
يكتب أدورنو في "النظرية الجماليّة": "إنّ المقطوعات الموسيقيّة ليست على وجه التقريب أفضل دائماً من الأداءات فحسب، بل إنّها أكثر من مجرّد توجيهات إليها. […] فالتثبيت باستعمال العلامات أو النّوتات ليس خارجيّاً عن الشيء؛ فمنه يكتسب العمل الفنيّ استقلاليّته عن نشأته: ومن هنا تأتي أولويّة النصوص على تأويلاتها". لا يكتفي أدورنو في صِدامه الجذري مع الجاز عند نزع صفة الفن عنه، وإنّما يحشره في دائرة الفاشيّة. فبالنسبة إليه، لا يهتمّ الجاز بالكتابة وبالصّوت وإنّما بالاستعراض، وفي تهريج عازفيه في المسرح من أجل استمالة الحشود، يلتقون مع ساسة الفاشيّة في محاولتهم خداع الناس وايهامهم بأنّ هدماً تحرّرياً ما يحدث حيث لا توجد، في نظره، سوى استمرارية وتكريس الرّاهن. كذلك يمكننا القول إنّ ثقافة البوب، موسيقيّة أو أدبيّة أو بصريّة كانت، ليست ثقافة الشّعب، وإنما هي مستوى متوسط، وسيط وهجين، بالمعنى القدحي للهجانة، بين ذوق المسحوقين وتطلعاتهم الاقتصادية اليائسة. إنها حالة من الوهم التّسويقيّ الذي يجعل من الجماهير سيولة مالية افتراضية تتداولها المنصّات الرقمية، في البنوك والبورصات، وتستعين بها الأنظمة لتخدير الجماهير. الخبز والألعاب.
ولعلّنا نستجلي في ما حدث مع جاك دريدا، قبيل مطلع الألفية الثانية، ملامح ما قد أضحى اليوم تكتيكات حربائيّة لما يُسمّى بالفن المعاصر الذي يدّعي كثير من القائمين عليه، من فنانين وتُجّار ومضاربين في الغاليريهات والبينالات، الاقتراب من قضايا الفكر والمجتمع. بيد أنّهم، في صميم ادعاءاتهم تلك، ينهلون من أدوات ثقافة البوب التي تأسست على تحالف الصّناعة والفولكلور، الإيديولوجيا والانفصام، أي على الاغتراب والانتصار الجماليّ للبشع والمربح، وحيثما تحرّك المال والشهرة تسقط مزاعمهم الانعتاقيّة في انحياز صارخ للشعبوية والشموليّة.
إنّ كولمان "اللطيف للغاية والخجول"، كما وصفه دريدا، وإنْ كان يرتجل جواهر اللّحن، ويستذكر بشجن ممتع تاريخ العبيد ومآسيهم، فإنّه كان قد أصبح بقوّة الواقع جزءًا من آلة إنتاجيّة تُجيّش الحشود وتستلب أموالهم وقناعاتهم السياسيّة، بل وترتجل بأحلامهم وحيواتهم، وبوجودهم حتّى. يكتب دريدا بعد اللقاء: "قلت لنفسي حينها بأنّني لم أكن بالنسبة إليه (كولمان) إلاّ ضرباً من هيئة ظليّة - ولا أعتقد أنه قرأ لي في يوم - ترتسم من أشياء أميركيّة في فضاء أميركيّ".
يحدث أن أستمع لموسيقى الجاز، لكنّي أفضّل عيساوة وشوبان. ثمّ إنّي لن أذهب إلى أميركا قطعاً...
❤5👍3👏2
" إن موت الفلسفة يكمن في تخليها عن وظيفتها النقدية المتمثلة في تحرير الوعي من الأوهام،
ورفض الأوضاع السائدة والإنصياع لها.
إن مهمة الفلسفة هي صون الحقيقة من الضياع،
والإهابة بالعقل بوضعه الواقع الأصيل المقابل للواقع اللا إنساني الزائف. "
- الفيلسوف هربرت ماركيوز
ورفض الأوضاع السائدة والإنصياع لها.
إن مهمة الفلسفة هي صون الحقيقة من الضياع،
والإهابة بالعقل بوضعه الواقع الأصيل المقابل للواقع اللا إنساني الزائف. "
- الفيلسوف هربرت ماركيوز
❤19👍3😇1
مجموعة عظيمة
من القنوات المهمة في عالم تيليغرام. الدخول في هذا المجلد سيغنيك عن مئات القنوات التي لا فائدة منها ..
أحسن إستغلال وقتك فهو أهم ما تملك في حياتك!
رابط المجلد:
https://www.tg-me.com/addlist/6ixcOPPG6WI0Nzgx
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
❤4
▪️ جان بول سارتر روى في "الكلمات" سيرة لئيمة عن طفولته
حياة غارقة في بحور الكتب وكتابة مبكرة لإثارة إعجاب الكبار من الآخرين
🟧 إبراهيم العريس
ملخص
"كنت في البداية طفلاً، كنت ذلك الوحش الذي يصنعه الكبار وهم آسفون كل الأسف". بمثل هذه العبارة يعرف جان بول سارتر نفسه وطفولته في واحد من أطرف كتبه، كتاب "الكلمات" الذي أنجزه ونشره في عام 1994، وهو في قمة مجده، محاولاً فيه أن يكتب نوعاً من السيرة الذاتية، تطاول سنوات طفولته وصباه. لقد قسم سارتر كتابه قسمين أساسيين، عنون أولهما "القراءة" والثاني "الكتابة". ومن يقرأ صفحات هذا الكتاب يدرك السبب في هذين العنوانين. إذ إن سارتر فسر في القسم الأول، كيف أنه منذ طفولته المبكرة وحتى قبل أن يتعلم الكتابة بسنوات وجد نفسه محاطاً بالكتب، يقرأها وقد لا يفهمها، يغوص فيها إنما من دون أن يغرق، لكنه يحفظ منها ما سيكفيه لاحقاً ليشكل بالنسبة إليه مرجعاً ثقافياً أساسياً. ومن هنا نجده يقول في واحدة من فقرات هذا الكتاب، "لقد بدأت حياتي، كما سأنهيها على الأرجح: وسط الكتب، ففي مكتب جدي، كان ثمة كتب في كل زاوية ومكان. وكان من الممنوع على أي كان أن يدنو من المكتب أن ينفض الغبار عنه إلا مرة واحدة في كل عام، قبل العودة للمدارس". ومن هنا كان يمكن لجان بول سارتر الصغير أن يتنزه بين الكتب، هو الذي كان في تلك السنوات، السابقة للحرب العالمية الأولى، يعيش في بيت جده، بعد وفاة أبيه. وهذا الجد كان هو، بالطبع، والد ألبرت شفايتزر، الطبيب الذي قدم لأفريقيا من الخدمات الإنسانية ما استحق عليه جائزة نوبل للسلام، وشفايتزر هو خال سارتر وسيكون مثلاً أعلى له. غير أن هذا لن يمنعه من أن يجعل للكتب مقاماً أولاً في تفكيره، قبل البشر وقبل ألبير شفايتزر. وبصدد علاقته بالكتب يتابع سارتر قائلاً "في ذلك الحين لم أكن بعد، قد تعلمت القراءة، لكنني تعلمت تبجيل الكتب. كنت أراها مثل الحجارة المصقولة المرصوصة، سواء صفت جالسة أم منحنية. مكدسة إلى بعضها بعضاً فوق رفوف المكتبة، أم موضوعة بكل نبل بعيدة من بعضها بعضاً".
طفل ووعي
غير أن علاقة سارتر، المولود في عام 1905، بالكتب، حتى وإن كانت هي الأساس، ليست كل شيء في الكتاب طبعاً. ففي الكتاب حكاية طفل وحكاية وعي. وربما تكون هذه الحكاية لمن سيتعرف عليها، درامية بعض الشيء، لكن الكاتب لا يدنو كثيراً من هذا البعد الدرامي. بل إن السخرية تغلب لديه. فهو على عكس معظم الكبار الذين يكتبون واصفين طفولتهم، لا يبدو متعاطفاً مع الطفل الذي كانه، يبدو ساخراً منه، متواطئاً مع القارئ عليه، إنما بلطف شديد وتفهم. المهم بالنسبة إليه هو ألا يبدو مثل الآخرين تواقاً إلى تعظيم طفولته وإضفاء مسحة نبيلة عليها. كل ما في الأمر أن سارتر يقول لنا، في قسمي الكتاب سواء بسواء، إن تعلم القراءة ثم الكتابة كانا الحدثين الأكبر في حياته، هو الذي كان طفلاً ذا خيال واسع، وكان وحيداً في ذلك البيت الكبير، بين أهل أمه، آل شفايتزر، الذي انتقلت إليه الأم بعد ترملها. لقد مات والد سارتر وهو بعد في العام الأول من عمره فلم تجد الأم، التي كانت صغيرة السن إلى حد مدهش، غير بيت أهلها يحتويها والطفل. وكان سيد البيت مثقفاً عجوزاً، ذا لحية بيضاء يدرس اللغة الفرنسية للأجانب ولا سيما للألمان الذين يعيشون في باريس. كان يحلو لذلك الجد أن يلعب دور سادة الأسرة النبلاء الكبار، لكنه كان في حقيقة أمره مهرجاً. ولما كشف الطفل جان - بول، عن سر الجد لم يتردد هذا من دون إحاطته بحنان كبير. وصار ثمة إعجاب متبادل بينهما إلى درجة أهلت جان - بول لأن يصبح بدوره مهرجاً، لكنه كان أخرق في الوقت نفسه، يحاول أن يلعب دور الولد العاقل فلا يفلح.
حياة غارقة في بحور الكتب وكتابة مبكرة لإثارة إعجاب الكبار من الآخرين
ملخص
على رغم وحدته وعيشه بين الكتب والكلمات، قارئاً وكاتباً، كان جان بول سارتر أكثر احتكاكاً بالحياة الحقيقية منه في أية لحظة لاحقة من لحظات حياته.
"كنت في البداية طفلاً، كنت ذلك الوحش الذي يصنعه الكبار وهم آسفون كل الأسف". بمثل هذه العبارة يعرف جان بول سارتر نفسه وطفولته في واحد من أطرف كتبه، كتاب "الكلمات" الذي أنجزه ونشره في عام 1994، وهو في قمة مجده، محاولاً فيه أن يكتب نوعاً من السيرة الذاتية، تطاول سنوات طفولته وصباه. لقد قسم سارتر كتابه قسمين أساسيين، عنون أولهما "القراءة" والثاني "الكتابة". ومن يقرأ صفحات هذا الكتاب يدرك السبب في هذين العنوانين. إذ إن سارتر فسر في القسم الأول، كيف أنه منذ طفولته المبكرة وحتى قبل أن يتعلم الكتابة بسنوات وجد نفسه محاطاً بالكتب، يقرأها وقد لا يفهمها، يغوص فيها إنما من دون أن يغرق، لكنه يحفظ منها ما سيكفيه لاحقاً ليشكل بالنسبة إليه مرجعاً ثقافياً أساسياً. ومن هنا نجده يقول في واحدة من فقرات هذا الكتاب، "لقد بدأت حياتي، كما سأنهيها على الأرجح: وسط الكتب، ففي مكتب جدي، كان ثمة كتب في كل زاوية ومكان. وكان من الممنوع على أي كان أن يدنو من المكتب أن ينفض الغبار عنه إلا مرة واحدة في كل عام، قبل العودة للمدارس". ومن هنا كان يمكن لجان بول سارتر الصغير أن يتنزه بين الكتب، هو الذي كان في تلك السنوات، السابقة للحرب العالمية الأولى، يعيش في بيت جده، بعد وفاة أبيه. وهذا الجد كان هو، بالطبع، والد ألبرت شفايتزر، الطبيب الذي قدم لأفريقيا من الخدمات الإنسانية ما استحق عليه جائزة نوبل للسلام، وشفايتزر هو خال سارتر وسيكون مثلاً أعلى له. غير أن هذا لن يمنعه من أن يجعل للكتب مقاماً أولاً في تفكيره، قبل البشر وقبل ألبير شفايتزر. وبصدد علاقته بالكتب يتابع سارتر قائلاً "في ذلك الحين لم أكن بعد، قد تعلمت القراءة، لكنني تعلمت تبجيل الكتب. كنت أراها مثل الحجارة المصقولة المرصوصة، سواء صفت جالسة أم منحنية. مكدسة إلى بعضها بعضاً فوق رفوف المكتبة، أم موضوعة بكل نبل بعيدة من بعضها بعضاً".
طفل ووعي
غير أن علاقة سارتر، المولود في عام 1905، بالكتب، حتى وإن كانت هي الأساس، ليست كل شيء في الكتاب طبعاً. ففي الكتاب حكاية طفل وحكاية وعي. وربما تكون هذه الحكاية لمن سيتعرف عليها، درامية بعض الشيء، لكن الكاتب لا يدنو كثيراً من هذا البعد الدرامي. بل إن السخرية تغلب لديه. فهو على عكس معظم الكبار الذين يكتبون واصفين طفولتهم، لا يبدو متعاطفاً مع الطفل الذي كانه، يبدو ساخراً منه، متواطئاً مع القارئ عليه، إنما بلطف شديد وتفهم. المهم بالنسبة إليه هو ألا يبدو مثل الآخرين تواقاً إلى تعظيم طفولته وإضفاء مسحة نبيلة عليها. كل ما في الأمر أن سارتر يقول لنا، في قسمي الكتاب سواء بسواء، إن تعلم القراءة ثم الكتابة كانا الحدثين الأكبر في حياته، هو الذي كان طفلاً ذا خيال واسع، وكان وحيداً في ذلك البيت الكبير، بين أهل أمه، آل شفايتزر، الذي انتقلت إليه الأم بعد ترملها. لقد مات والد سارتر وهو بعد في العام الأول من عمره فلم تجد الأم، التي كانت صغيرة السن إلى حد مدهش، غير بيت أهلها يحتويها والطفل. وكان سيد البيت مثقفاً عجوزاً، ذا لحية بيضاء يدرس اللغة الفرنسية للأجانب ولا سيما للألمان الذين يعيشون في باريس. كان يحلو لذلك الجد أن يلعب دور سادة الأسرة النبلاء الكبار، لكنه كان في حقيقة أمره مهرجاً. ولما كشف الطفل جان - بول، عن سر الجد لم يتردد هذا من دون إحاطته بحنان كبير. وصار ثمة إعجاب متبادل بينهما إلى درجة أهلت جان - بول لأن يصبح بدوره مهرجاً، لكنه كان أخرق في الوقت نفسه، يحاول أن يلعب دور الولد العاقل فلا يفلح.
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
❤24👍7👏5
ديفيد هيوم (1711 - 1776) هو أحد الفلاسفة الأبرز في تاريخ الفلسفة الغربية ومن أبرز ممثلي الفلسفة التجريبية. وهو معروف بنقده الجذري للعديد من المفاهيم التي كانت سائدة في الفكر الفلسفي والديني آنذاك، بما في ذلك فكرة المعرفة المطلقة والعالم الموضوعي الذي يمكن معرفته بشكل قاطع.
1. المعرفة والحس
في فلسفة هيوم، الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة. فهو يرفض أي مصدر آخر للمعرفة، مثل العقل أو الحدس أو أي نوع من التأملات غير المرتبطة بالواقع الحسي. وفقًا له، كل ما نعرفه عن العالم ينبع من تجاربنا الحسية المباشرة — بمعنى آخر، لا يمكن للإنسان أن يعرف شيئًا إلا من خلال الحواس الخمس.
2. النقد للعقلانية والتفسير الديني
هيوم كان ناقدًا للفكر العقلاني الذي يفترض أن الإنسان يستطيع الوصول إلى المعرفة من خلال التفكير المجرد أو التأمل العقلي. كما كان ناقدًا أيضًا للديانات التي تدعي أن هناك مصادر أخرى للمعرفة غير الحواس، مثل الوحي أو التأملات الدينية. في نظره، مثل هذه المفاهيم ليست سوى أوهام لا يمكن التحقق منها بالوسائل الحسية.
3. الفلسفة الذاتية مقابل الموضوعية
هيوم كان مؤمنًا بشدة بالذاتية (Subjectivism)، بمعنى أن المعرفة التي يمتلكها الإنسان عن العالم الخارجي هي معرفة مشوهة وذات طابع شخصي، وليست معرفة حقيقية عن العالم كما هو في ذاته (أي بمعنى الواقعية الموضوعية). وبالتالي، يعتقد هيوم أن معتقدات الإنسان وأفكاره عن العالم ليست انعكاسًا دقيقًا للواقع الخارجي، بل هي بناء ذهني يستند إلى تجاربه الحسية وتفسيراته الشخصية.
4. السببية والتجربة
واحدة من أهم الإسهامات الفلسفية لهيوم كانت في مجال السببية. هو يشكك في القدرة على التأكد من وجود علاقة سببية موضوعية بين الأحداث. وفقًا له، الإنسان لا يستطيع أن يعرف علاقة سببية بين حدثين بشكل مباشر، بل يتخذ هذا الاستنتاج استنادًا إلى تكرار الأحداث التي يحدث فيها شيء معين بعد شيء آخر. لكن هذا التكرار لا يثبت بالضرورة وجود علاقة سببية ثابتة، بل هو مجرد عادة أو ملاحظة متكررة.
5. النظرة الإنسانية إلى المعرفة
هيوم يرى أن "الإنسان" ليس كائنًا قادرًا على إدراك الحقائق الكونية بشكل دقيق، بل هو كائن محدود قادر فقط على إدراك تجاربه الحسية وتفسيرها. هذا الرأي يتناقض مع الفلسفات المثالية التي كانت تروج لفكرة أن العقل البشري يمكنه الوصول إلى أفكار كونية أو حقيقة مطلقة.
6. الانعكاس على العلوم
هيوم كان أيضًا مؤثرًا في مجال الفلسفة العلمية. فقد شكك في فكرة أن العلوم الطبيعية يمكن أن تكشف لنا عن "الحقائق الكونية" بطريقة موضوعية وقطعية. لذلك، اعتبر أن المعرفة العلمية ليست سوى مجموعة من التعميمات التي تعتمد على تكرار الظواهر، وليست حقائق ثابتة يمكن الاعتماد عليها في جميع الأوقات والأماكن.
7. الأخلاق والدين
في مجال الأخلاق، قدم هيوم أطروحة شهيرة تقول إن "العقل لا يحرك العواطف"، بل العواطف هي التي تحدد سلوك الإنسان الأخلاقي. ولذلك، كانت أخلاق الإنسان في نظره نتيجة لمشاعر الرغبة والتعاطف، وليست مجرد استنتاجات عقلية. أما في الدين، فقد تبنى هيوم رؤية نقدية حيث اعتبر أن المعتقدات الدينية تتولد من أوهام عقلية وتفسيرات لا تستند إلى أي دليل حسي أو علمي.
الخلاصة:
فلسفة هيوم تركز على أن المعرفة الحقيقية يجب أن تكون مبنية على التجربة الحسية، وأن كل ما نعرفه عن العالم هو مجرد تفسير شخصي له بناءً على ما مررنا به من تجارب سابقة. هو شكك في قدرة الإنسان على الوصول إلى حقيقة ثابتة خارج هذه التجارب، وقد انتقد بشدة فكرة وجود معرفة غير مرتبطة بالحواس أو في شكل ديني أو عقلاني غير قابل للتفسير الحسي.
1. المعرفة والحس
في فلسفة هيوم، الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة. فهو يرفض أي مصدر آخر للمعرفة، مثل العقل أو الحدس أو أي نوع من التأملات غير المرتبطة بالواقع الحسي. وفقًا له، كل ما نعرفه عن العالم ينبع من تجاربنا الحسية المباشرة — بمعنى آخر، لا يمكن للإنسان أن يعرف شيئًا إلا من خلال الحواس الخمس.
2. النقد للعقلانية والتفسير الديني
هيوم كان ناقدًا للفكر العقلاني الذي يفترض أن الإنسان يستطيع الوصول إلى المعرفة من خلال التفكير المجرد أو التأمل العقلي. كما كان ناقدًا أيضًا للديانات التي تدعي أن هناك مصادر أخرى للمعرفة غير الحواس، مثل الوحي أو التأملات الدينية. في نظره، مثل هذه المفاهيم ليست سوى أوهام لا يمكن التحقق منها بالوسائل الحسية.
3. الفلسفة الذاتية مقابل الموضوعية
هيوم كان مؤمنًا بشدة بالذاتية (Subjectivism)، بمعنى أن المعرفة التي يمتلكها الإنسان عن العالم الخارجي هي معرفة مشوهة وذات طابع شخصي، وليست معرفة حقيقية عن العالم كما هو في ذاته (أي بمعنى الواقعية الموضوعية). وبالتالي، يعتقد هيوم أن معتقدات الإنسان وأفكاره عن العالم ليست انعكاسًا دقيقًا للواقع الخارجي، بل هي بناء ذهني يستند إلى تجاربه الحسية وتفسيراته الشخصية.
4. السببية والتجربة
واحدة من أهم الإسهامات الفلسفية لهيوم كانت في مجال السببية. هو يشكك في القدرة على التأكد من وجود علاقة سببية موضوعية بين الأحداث. وفقًا له، الإنسان لا يستطيع أن يعرف علاقة سببية بين حدثين بشكل مباشر، بل يتخذ هذا الاستنتاج استنادًا إلى تكرار الأحداث التي يحدث فيها شيء معين بعد شيء آخر. لكن هذا التكرار لا يثبت بالضرورة وجود علاقة سببية ثابتة، بل هو مجرد عادة أو ملاحظة متكررة.
5. النظرة الإنسانية إلى المعرفة
هيوم يرى أن "الإنسان" ليس كائنًا قادرًا على إدراك الحقائق الكونية بشكل دقيق، بل هو كائن محدود قادر فقط على إدراك تجاربه الحسية وتفسيرها. هذا الرأي يتناقض مع الفلسفات المثالية التي كانت تروج لفكرة أن العقل البشري يمكنه الوصول إلى أفكار كونية أو حقيقة مطلقة.
6. الانعكاس على العلوم
هيوم كان أيضًا مؤثرًا في مجال الفلسفة العلمية. فقد شكك في فكرة أن العلوم الطبيعية يمكن أن تكشف لنا عن "الحقائق الكونية" بطريقة موضوعية وقطعية. لذلك، اعتبر أن المعرفة العلمية ليست سوى مجموعة من التعميمات التي تعتمد على تكرار الظواهر، وليست حقائق ثابتة يمكن الاعتماد عليها في جميع الأوقات والأماكن.
7. الأخلاق والدين
في مجال الأخلاق، قدم هيوم أطروحة شهيرة تقول إن "العقل لا يحرك العواطف"، بل العواطف هي التي تحدد سلوك الإنسان الأخلاقي. ولذلك، كانت أخلاق الإنسان في نظره نتيجة لمشاعر الرغبة والتعاطف، وليست مجرد استنتاجات عقلية. أما في الدين، فقد تبنى هيوم رؤية نقدية حيث اعتبر أن المعتقدات الدينية تتولد من أوهام عقلية وتفسيرات لا تستند إلى أي دليل حسي أو علمي.
الخلاصة:
فلسفة هيوم تركز على أن المعرفة الحقيقية يجب أن تكون مبنية على التجربة الحسية، وأن كل ما نعرفه عن العالم هو مجرد تفسير شخصي له بناءً على ما مررنا به من تجارب سابقة. هو شكك في قدرة الإنسان على الوصول إلى حقيقة ثابتة خارج هذه التجارب، وقد انتقد بشدة فكرة وجود معرفة غير مرتبطة بالحواس أو في شكل ديني أو عقلاني غير قابل للتفسير الحسي.
❤16👍3
- الصحفي : ما المهارة الخاصة المتوفرة عند الفيلسوف؟
-ميشال سير : توجد رواية لجيل فيرن، أحد شخصياتها، وهو خادم يطوف العالم، يُدعى "عابر-كل-مكان" . الفلسفة هكذا : تعبر كل الأمكنة. إنها مركبة صالحة لجميع أنواع الأراضي. فهي تطوف العالم، وتطوف العلوم، وتطوف الناس. إنه تفردها. وأيضا قوتها في عالم اليوم حيث كل المشاكل متقاطعة.
لنأخذ الطقس على سبيل المثال : فهو يستدعي في نفس الوقت الفيزياء والكمياء والبيولوجيا والكمياء الحيوية والكوسمولوجيا...إذا حاولتَ حلَّ مسألة بيئية من خلال منهج تحليلي فستكون مُتيقنا من الفشل. على سبيل المثال، إنه لأمر غبي وضع مخطط بغرض تعزيز عدد الضفادع إذا كان الطقس، المُخْتَل بدوره، عليه أن يقتل كل الضفادع التي أنجبها مخططك!
إن أحد أكبر المشاكل، اليوم، تخلقه الجامعة بصُنْعها لنوعين من الأغبياء : الأدبيون من ناحية، وهم مثقفون لكن جهلاء، والعلميون من ناحية أخرى، وهم علماء لكن غير مُثقفين. وهنا بالضبط حيث تملك الفلسفة دورا لتلعبه. دورها هو إعادة خياطة ما تم تقطيعه بشكل اصطناعي.
Sciences humains n°25 (ترجمة يوسف اسحيردة)
-ميشال سير : توجد رواية لجيل فيرن، أحد شخصياتها، وهو خادم يطوف العالم، يُدعى "عابر-كل-مكان" . الفلسفة هكذا : تعبر كل الأمكنة. إنها مركبة صالحة لجميع أنواع الأراضي. فهي تطوف العالم، وتطوف العلوم، وتطوف الناس. إنه تفردها. وأيضا قوتها في عالم اليوم حيث كل المشاكل متقاطعة.
لنأخذ الطقس على سبيل المثال : فهو يستدعي في نفس الوقت الفيزياء والكمياء والبيولوجيا والكمياء الحيوية والكوسمولوجيا...إذا حاولتَ حلَّ مسألة بيئية من خلال منهج تحليلي فستكون مُتيقنا من الفشل. على سبيل المثال، إنه لأمر غبي وضع مخطط بغرض تعزيز عدد الضفادع إذا كان الطقس، المُخْتَل بدوره، عليه أن يقتل كل الضفادع التي أنجبها مخططك!
إن أحد أكبر المشاكل، اليوم، تخلقه الجامعة بصُنْعها لنوعين من الأغبياء : الأدبيون من ناحية، وهم مثقفون لكن جهلاء، والعلميون من ناحية أخرى، وهم علماء لكن غير مُثقفين. وهنا بالضبط حيث تملك الفلسفة دورا لتلعبه. دورها هو إعادة خياطة ما تم تقطيعه بشكل اصطناعي.
Sciences humains n°25 (ترجمة يوسف اسحيردة)
👍10
Forwarded from باروخ سبينوزا
في ذكرى ميلاد الفيلسوف التنويري سبينوزا - تشرين الثاني عام 1632
كتب سبينوزا غي كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة :" ( ليس هناك وسيلة أكثر فعالية لحكم الجماهير من الخرافات. السبب الذي يؤدي إلى الخرافات ويحافظ عليها ويشجعها هو الخوف ..إن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، إن العقل هو أساس الإيمان فإن غاب ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل )
يكتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه لحظة أخرى أيضاً :" إن سبينوزا هو رائد الفهم " لا تضحك ،لا تبك ، لا تكره ، عليك أن تفهم " . يؤكد سبينوزا ان الدين يجب أن يخضع للقوانين العامة ، فحرية التفكير والرأي أمر مفيد ، انها شرط لإنهاء النزعات الدينية " لا أحد بامكانه التخلي عن حرية التفكير ، فكل سيد على افكاره " .
وترى ريبيكا غولدشتاين في كتابها خيانة سبينوزا :" يقول سبينوزا " إن الافتراءات الخادعة للذات تنبع من نقطتي الضعف هاتين في طبيعتنا البشرية - وهما التعظيم الذاتي ورهاب الموت ، وكلاهما جوانب من عقلنا المخيف وغير القابل للشفاء - التي تفسر القوة المخيفة لأشكال الدين الخرافية " . كما يلاحظ سبينوزا في مقدمة كتابه ( رسالة في اللاهوت والسياسة ) : " .. إنه الخوف ، إذن ، فهو الذي يلد الخرافة ويحفظها ويعززها " .
ويكتب جاستن شتاينبيرغ في كتابه سبينوزا :" يريد سبينوزا أن يثبت أن الإيمان والعقل ليسا في صراع ، فإن ما يظهره في الواقع هو أن الكتاب المقدس هو مستودع للحكايات والمبادئ الأخلاقية . وبما ان الحقائق الأخلاقية للكتاب المقدس واضحة مباشرة لجميع القراء ، فلا يوجد حاجة لطائفة كهنوتية ضليعة في فنون التأويل لتفسير مزاعم النص للجماهير " .
وفي كتابه سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت يؤكد ستيفن نادلر ان سبينوزا يصر على ان " الذين يقودهم العقل ، لا يرغبون في شيء لانفسهم إلا ويرغبونه لغيرهم ، ولذلك فهم عادلون وحسنو النية ونزهاء " . الانسان الحر ايضا مبتهج ، ولطيف ، ومتسامح .وهو ، في مزاجه ، ليس عرضة للعديد من احوال النفس التي تشكل مصدرا للصراع بين الاشخاص : الكراهية ، والحسد ، والاستهزاء ، والإزدراء ، والغضب ، والانتقام ، وغير ذلك من الانفعالات الضارة .
في روايته مشكلة سبينوزا يكتب عالم النفس الشهير إرفين د. يالوم هذا الحوار : قال سبيتوزا : لو بحثت في العالم كله فلن تجد قوماً أو ديناً لا يؤمن بالخرافات ، فما دام هناك جهل ، فإن البعض سيتمسكون بالخرافات ، إن التخلص من الجهل هو الحل الوحيد .
فاجاب بنتو " أشعر انّها معركة خاسرة ، فالجهل والإيمان بالخرافات ينتشران كالنار في الهشيم ، وأعتقد أنّ رجال الدين يغذون هذه النار ليضمنوا مراكزهم .ولهذا أصبحت على قناعة بأنني يجب أن أكون حراً .وإذا لم تكن تلك الطائفة موجودة ، فعليّ أن أعيش دون طائفة "
يطرح الفيلسوف الفرنسي المعاصر فريدريك لونوار في كتابه المعجزة السبيونزية سؤالا : " كيف يمكن للفرد العادي ، أن يكون سبينوزيا، حتى لو لم يكن مختصا في الدراسات الفلسفية ؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يتسلح برؤية سبينوزا وفلسفته في الحياة ، ويرى في كتابه " المعجزة السبينوزية " ، ان فيلسوفنا يحاول من خلال كتبه أن يقدم لنا " أفضلَ طريق ممكن إلى الخلاص، لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم" . يخبرنا لونوار أن رسالة سبينوزا الفلسفية تبرز من خلال رحلته الحياتية : " فإذا أردنا أن نعرف معنى المعجزة السبينوزية، يكفي أن ندرك أننا أمام شخص له سمات خاصة، شخص ظل وفيا لحب الحقيقة، مفضلا حرية التفكيرِ على طمأنينةِ العائلة والطائفة، وعلى الاِنسياق للفكرِ السائدِ. لقد كانَ ضحية أبشعِ الانتهاكات، تم التنكر له من قبل أَهله وعاشَ تحْت التهديد المتواصل، ولكنه بقي وفيا دائما للخط الموجه لمسيرته. كان عُرضة للكراهية ولكنه لم يكره أبدا. تعرضَ للغدرِ ولكنه لم يغدر أَدا. تَعرضَ للسخريَة ولكنه لم يستخف بأحد قط. تم شتمه ، ولكن رده كان دائما هو الاحترام . عاش دائما باعتدال وكرامة وفي انسجام مع أفكاره" .
وختامنا مع المفكر العربي فؤاد زكريا وكتابه الشهير إسبينوزا حيث يكتب :" الرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة "
كتب سبينوزا غي كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة :" ( ليس هناك وسيلة أكثر فعالية لحكم الجماهير من الخرافات. السبب الذي يؤدي إلى الخرافات ويحافظ عليها ويشجعها هو الخوف ..إن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، إن العقل هو أساس الإيمان فإن غاب ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل )
يكتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه لحظة أخرى أيضاً :" إن سبينوزا هو رائد الفهم " لا تضحك ،لا تبك ، لا تكره ، عليك أن تفهم " . يؤكد سبينوزا ان الدين يجب أن يخضع للقوانين العامة ، فحرية التفكير والرأي أمر مفيد ، انها شرط لإنهاء النزعات الدينية " لا أحد بامكانه التخلي عن حرية التفكير ، فكل سيد على افكاره " .
وترى ريبيكا غولدشتاين في كتابها خيانة سبينوزا :" يقول سبينوزا " إن الافتراءات الخادعة للذات تنبع من نقطتي الضعف هاتين في طبيعتنا البشرية - وهما التعظيم الذاتي ورهاب الموت ، وكلاهما جوانب من عقلنا المخيف وغير القابل للشفاء - التي تفسر القوة المخيفة لأشكال الدين الخرافية " . كما يلاحظ سبينوزا في مقدمة كتابه ( رسالة في اللاهوت والسياسة ) : " .. إنه الخوف ، إذن ، فهو الذي يلد الخرافة ويحفظها ويعززها " .
ويكتب جاستن شتاينبيرغ في كتابه سبينوزا :" يريد سبينوزا أن يثبت أن الإيمان والعقل ليسا في صراع ، فإن ما يظهره في الواقع هو أن الكتاب المقدس هو مستودع للحكايات والمبادئ الأخلاقية . وبما ان الحقائق الأخلاقية للكتاب المقدس واضحة مباشرة لجميع القراء ، فلا يوجد حاجة لطائفة كهنوتية ضليعة في فنون التأويل لتفسير مزاعم النص للجماهير " .
وفي كتابه سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت يؤكد ستيفن نادلر ان سبينوزا يصر على ان " الذين يقودهم العقل ، لا يرغبون في شيء لانفسهم إلا ويرغبونه لغيرهم ، ولذلك فهم عادلون وحسنو النية ونزهاء " . الانسان الحر ايضا مبتهج ، ولطيف ، ومتسامح .وهو ، في مزاجه ، ليس عرضة للعديد من احوال النفس التي تشكل مصدرا للصراع بين الاشخاص : الكراهية ، والحسد ، والاستهزاء ، والإزدراء ، والغضب ، والانتقام ، وغير ذلك من الانفعالات الضارة .
في روايته مشكلة سبينوزا يكتب عالم النفس الشهير إرفين د. يالوم هذا الحوار : قال سبيتوزا : لو بحثت في العالم كله فلن تجد قوماً أو ديناً لا يؤمن بالخرافات ، فما دام هناك جهل ، فإن البعض سيتمسكون بالخرافات ، إن التخلص من الجهل هو الحل الوحيد .
فاجاب بنتو " أشعر انّها معركة خاسرة ، فالجهل والإيمان بالخرافات ينتشران كالنار في الهشيم ، وأعتقد أنّ رجال الدين يغذون هذه النار ليضمنوا مراكزهم .ولهذا أصبحت على قناعة بأنني يجب أن أكون حراً .وإذا لم تكن تلك الطائفة موجودة ، فعليّ أن أعيش دون طائفة "
يطرح الفيلسوف الفرنسي المعاصر فريدريك لونوار في كتابه المعجزة السبيونزية سؤالا : " كيف يمكن للفرد العادي ، أن يكون سبينوزيا، حتى لو لم يكن مختصا في الدراسات الفلسفية ؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يتسلح برؤية سبينوزا وفلسفته في الحياة ، ويرى في كتابه " المعجزة السبينوزية " ، ان فيلسوفنا يحاول من خلال كتبه أن يقدم لنا " أفضلَ طريق ممكن إلى الخلاص، لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم" . يخبرنا لونوار أن رسالة سبينوزا الفلسفية تبرز من خلال رحلته الحياتية : " فإذا أردنا أن نعرف معنى المعجزة السبينوزية، يكفي أن ندرك أننا أمام شخص له سمات خاصة، شخص ظل وفيا لحب الحقيقة، مفضلا حرية التفكيرِ على طمأنينةِ العائلة والطائفة، وعلى الاِنسياق للفكرِ السائدِ. لقد كانَ ضحية أبشعِ الانتهاكات، تم التنكر له من قبل أَهله وعاشَ تحْت التهديد المتواصل، ولكنه بقي وفيا دائما للخط الموجه لمسيرته. كان عُرضة للكراهية ولكنه لم يكره أبدا. تعرضَ للغدرِ ولكنه لم يغدر أَدا. تَعرضَ للسخريَة ولكنه لم يستخف بأحد قط. تم شتمه ، ولكن رده كان دائما هو الاحترام . عاش دائما باعتدال وكرامة وفي انسجام مع أفكاره" .
وختامنا مع المفكر العربي فؤاد زكريا وكتابه الشهير إسبينوزا حيث يكتب :" الرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة "
❤16👍12
معجم مكيافللي(1)
كأي مفكر كبير، لا يمكن قراءة مكيافللي دون ضبطٍ للمفاهيم التي يستخدمها باستمرار وتشكل نواة فلسفته السياسية. في هذا المنشور تجدون معجما كاملا لأهم المصطلحات والمفاهيم التي تؤثث فضاء ميكافللي السياسي.
الطالع (fortuna)
ترتيب غير متوقع وخارج عن السيطرة للأشياء في الزمن، والذي يحدد تصرف الناس والمجتمعات الإنسانية. غالبا ما يشير إليه مكيافللي باستخدام تعبير "متطلبات الزمن"، بمعنى الظروف.
القوة (forza)
فضاء مكيافللي السياسي يتميز بالصراع وغياب الاستقرار، حيث أن القوة، التي تُختصر في القوة العسكرية، تُصبح عاملا أساسيا وحاسما. ومع ذلك فمكيافللي يدعو إلى الاقتصاد في استخدام العنف والقوة وعدم الإفراط في اللجوء إليهما، رغم أنه يفعل ذلك انطلاقا مع اعتبارات سياسية وليست أخلاقية.
الحرية (libertà)
يعني مكيافللي بالحرية ، استقلالية دولة أو جسم سياسي. لكن التبني الكامل بالنسبة له يتعلق بالحرية الفردية، النابع من التقليد الجمهوري. فبحسب هذا المفهوم، الحرية هي وضعية يُخولها التواجد ضمن شكل من الحكومات المختلف عن الإمارة، والذي يسمح بمساواة مادية وقانونية نسبية، وكذلك بمشاركة المواطنين في المؤسسات والجيش.
الضرورة (necessità)
بالنسبة لمكيافللي، الضرورة هي وضعية تُجبر على القيام بتصرف معين. يُمكن أن يتعلق الأمر بظاهرة طبيعية أو مفروضة من طرف قوانين أو أعراف أو مؤسسات. ففي حين يُخفي الطالع الطريق، تُظهر الضرورة وِجهة التصرف الذي يجب القيام به. الشخص الفاضل هو الذي يعرف كيف يتأقلم مع الظروف من أجل أن يخرج منتصرا من هذه الوضعية.
الفرصة (occasione)
هي هدية الطالع التي تُعلي من حظوظ نجاح التحرك. هي تتميز بصعوبة تحديدها وقدرتها على المراوغة والانفلات. استغلال الفرصة يستدعي معرفة تمييز المكان والتوقيت المناسبين للتحرك، وعقد العزم على التصرف بصرامة ودون تردد أو تأخر.
الإمارة الجديدة
الموضوع المركزي في كتاب "الأمير" هو تحليل إنشاء الامارات الجديدة (والمختلطة) والمحافظة عليها، والتي هي المقابل السياسي للإمارات الوراثية والدينية. شرعية الامارة الجديدة تنبع من الأثر النافع القادرة على إحداثه لاحقا.
الإمارة المدنية
فيها تتمركز السلطة أيضا في يد شخص واحد، لكنه شخص تم اختياره من طرف الشعب من أجل الدفاع عن الصالح العام. في هذا النوع من الامارات (الجمهورية)، صعود الأمير إلى سدة الحكم واستمراره فيها يستبعد اللجوء الى القوةوالانحراف. إنه النموذج الذي يروق الكاتب كما نلاحظ ذلك في كتابه "خطاب حول العشرية الأولى لتيت ليف".
الواقعية السياسية (verità affetuale)
يمكن تلخيص الملامح الكبرى للواقعية السياسية عند مكيافللي في :
أولا : التشاؤم الانتروبولوجي الذي يعتبر الأهواء التدميرية عند الانسان بمثابة الثابت الذي يجب على كل فعل سياسي أن ينطلق منه ويأخذه بالحسبان.
ثانيا : اعتبار المجتمع والدولة بمثابة حقل صراعات مستمرة، سواء على المستوى الداخلي او الخاجي.
ثالثا : القبول بالطبيعة التراتبية لعلاقات القوة.
رابعا : في ميدان السياسة يجب القبول بالحقيقة التي مفادها أن لا وجود للقرار المثالي الذي لا تشوبه شائبة، المنزه عن السلبيات والأخطاء، ما يعني في نهاية التحليل القبول بارتكاب أقل الشرور.
اللقاء (riscontro)
هو المواجهة بين البشر والطالع. ونجاحه يتوقف على مدى التوافق بين تصرف الانسان والتصرف الذي تمليه دائما وأبدا الظروف. أمام الحتمية الواضحة لعالم يُغير الطالع معالمه ويهزه هزا في كل مرة، نجد أن مكيافللي لا يستسلم ويدعو إلى المقاومة والتحرك. "اللقاء" هو انسجام الإنسان مع الطابع المتقلب للظروف.
الفضيلة (vertu)
القدرة على تغليب الغايات الإنسانية على الظروف، أي القدرة على القيام بما تضعه الفرصة و ويضعه الطالع بين يدي الإنسان. بخلاف المفاهيم الكلاسيكية والمسيحية، الفضيلة المكيافللي ليست شكلا من السيطرة على الذات أو النية الحسنة أو السلامة الأخلاقية، ولكنها ضرب من المهارة التقنية. يتعلق الأمر بمزيج من الاحتراس والشجاعة، وحتى الشدة.
الجمهورية (reppublica)
هي نظام سياسي يتعارض مع الملكية. يتعلق الأمر، بحسب مكيافللي ،بالنظام السياسي القادر على الدفاع على الصالح العام والحرية. ومع ذلك فمكيافللي ليس جمهوريا مغرقا في المثالية : الجمهورية الأكثر فعالية لا يمكن إلا أن تكون نظاما يجاور فيه العنصر الشعبي العنصر الارستقراطي ويعارضه، والعكس صحيح، وحيث النظام القانوني يسمح بتوزيع للسلطة، وأيضا تواجد نظام للقوى المضادة.
(1) تم الاعتماد هذا المقال على العدد المخصص لمكيافللي في مجلة لوموند (2016)
ترجمة: يوسف إسحيردة
كأي مفكر كبير، لا يمكن قراءة مكيافللي دون ضبطٍ للمفاهيم التي يستخدمها باستمرار وتشكل نواة فلسفته السياسية. في هذا المنشور تجدون معجما كاملا لأهم المصطلحات والمفاهيم التي تؤثث فضاء ميكافللي السياسي.
الطالع (fortuna)
ترتيب غير متوقع وخارج عن السيطرة للأشياء في الزمن، والذي يحدد تصرف الناس والمجتمعات الإنسانية. غالبا ما يشير إليه مكيافللي باستخدام تعبير "متطلبات الزمن"، بمعنى الظروف.
القوة (forza)
فضاء مكيافللي السياسي يتميز بالصراع وغياب الاستقرار، حيث أن القوة، التي تُختصر في القوة العسكرية، تُصبح عاملا أساسيا وحاسما. ومع ذلك فمكيافللي يدعو إلى الاقتصاد في استخدام العنف والقوة وعدم الإفراط في اللجوء إليهما، رغم أنه يفعل ذلك انطلاقا مع اعتبارات سياسية وليست أخلاقية.
الحرية (libertà)
يعني مكيافللي بالحرية ، استقلالية دولة أو جسم سياسي. لكن التبني الكامل بالنسبة له يتعلق بالحرية الفردية، النابع من التقليد الجمهوري. فبحسب هذا المفهوم، الحرية هي وضعية يُخولها التواجد ضمن شكل من الحكومات المختلف عن الإمارة، والذي يسمح بمساواة مادية وقانونية نسبية، وكذلك بمشاركة المواطنين في المؤسسات والجيش.
الضرورة (necessità)
بالنسبة لمكيافللي، الضرورة هي وضعية تُجبر على القيام بتصرف معين. يُمكن أن يتعلق الأمر بظاهرة طبيعية أو مفروضة من طرف قوانين أو أعراف أو مؤسسات. ففي حين يُخفي الطالع الطريق، تُظهر الضرورة وِجهة التصرف الذي يجب القيام به. الشخص الفاضل هو الذي يعرف كيف يتأقلم مع الظروف من أجل أن يخرج منتصرا من هذه الوضعية.
الفرصة (occasione)
هي هدية الطالع التي تُعلي من حظوظ نجاح التحرك. هي تتميز بصعوبة تحديدها وقدرتها على المراوغة والانفلات. استغلال الفرصة يستدعي معرفة تمييز المكان والتوقيت المناسبين للتحرك، وعقد العزم على التصرف بصرامة ودون تردد أو تأخر.
الإمارة الجديدة
الموضوع المركزي في كتاب "الأمير" هو تحليل إنشاء الامارات الجديدة (والمختلطة) والمحافظة عليها، والتي هي المقابل السياسي للإمارات الوراثية والدينية. شرعية الامارة الجديدة تنبع من الأثر النافع القادرة على إحداثه لاحقا.
الإمارة المدنية
فيها تتمركز السلطة أيضا في يد شخص واحد، لكنه شخص تم اختياره من طرف الشعب من أجل الدفاع عن الصالح العام. في هذا النوع من الامارات (الجمهورية)، صعود الأمير إلى سدة الحكم واستمراره فيها يستبعد اللجوء الى القوةوالانحراف. إنه النموذج الذي يروق الكاتب كما نلاحظ ذلك في كتابه "خطاب حول العشرية الأولى لتيت ليف".
الواقعية السياسية (verità affetuale)
يمكن تلخيص الملامح الكبرى للواقعية السياسية عند مكيافللي في :
أولا : التشاؤم الانتروبولوجي الذي يعتبر الأهواء التدميرية عند الانسان بمثابة الثابت الذي يجب على كل فعل سياسي أن ينطلق منه ويأخذه بالحسبان.
ثانيا : اعتبار المجتمع والدولة بمثابة حقل صراعات مستمرة، سواء على المستوى الداخلي او الخاجي.
ثالثا : القبول بالطبيعة التراتبية لعلاقات القوة.
رابعا : في ميدان السياسة يجب القبول بالحقيقة التي مفادها أن لا وجود للقرار المثالي الذي لا تشوبه شائبة، المنزه عن السلبيات والأخطاء، ما يعني في نهاية التحليل القبول بارتكاب أقل الشرور.
اللقاء (riscontro)
هو المواجهة بين البشر والطالع. ونجاحه يتوقف على مدى التوافق بين تصرف الانسان والتصرف الذي تمليه دائما وأبدا الظروف. أمام الحتمية الواضحة لعالم يُغير الطالع معالمه ويهزه هزا في كل مرة، نجد أن مكيافللي لا يستسلم ويدعو إلى المقاومة والتحرك. "اللقاء" هو انسجام الإنسان مع الطابع المتقلب للظروف.
الفضيلة (vertu)
القدرة على تغليب الغايات الإنسانية على الظروف، أي القدرة على القيام بما تضعه الفرصة و ويضعه الطالع بين يدي الإنسان. بخلاف المفاهيم الكلاسيكية والمسيحية، الفضيلة المكيافللي ليست شكلا من السيطرة على الذات أو النية الحسنة أو السلامة الأخلاقية، ولكنها ضرب من المهارة التقنية. يتعلق الأمر بمزيج من الاحتراس والشجاعة، وحتى الشدة.
الجمهورية (reppublica)
هي نظام سياسي يتعارض مع الملكية. يتعلق الأمر، بحسب مكيافللي ،بالنظام السياسي القادر على الدفاع على الصالح العام والحرية. ومع ذلك فمكيافللي ليس جمهوريا مغرقا في المثالية : الجمهورية الأكثر فعالية لا يمكن إلا أن تكون نظاما يجاور فيه العنصر الشعبي العنصر الارستقراطي ويعارضه، والعكس صحيح، وحيث النظام القانوني يسمح بتوزيع للسلطة، وأيضا تواجد نظام للقوى المضادة.
(1) تم الاعتماد هذا المقال على العدد المخصص لمكيافللي في مجلة لوموند (2016)
ترجمة: يوسف إسحيردة
🔥5❤3👍3
▪️ ميتافيزيقا السواد - الجزء الأول
«أدركوا: أنّ ذلك النبض الأحمر، ذلك اللّب المتوهج في داخلكم وحولكم، ليس سوى التافه الهين أمام سواد تلك الحبال والبكرات والرافعات والغرز التي تربط الكون وتشدّه - أنت ودمّاك وكل أولئك التعساء من دمى الحيوانات الجاهلة في الخارج».
– جون بادجيت، «عشرون خطوة بسيطة نحو التكلم الباطني».
بحقٍّ أو بغير حق، يُصرّح الناقد خيسوس بالاثيوس بأن توماس ليغوتي (١٩٥٣) هو «السيّد المطلق لما هو غريب وعجيب في الأدب المعاصر». ويُصنَّف ليغوتي بوصفه حلقة معاصرة ضمن تقاليد طويلة تمتدّ إلى أدب الغرابة وما وراء الطبيعة، والرعب والعجائبية، تبدأ مع إدغار آلان بو، وتكتسب أبعادًا كونية مع لافكرافت، لتبلغ ذروة جديدة في أعمال ليغوتي حيث يتجلى رعب الفراغ العاري. ولا يقوم البناء الأدبي لدى ليغوتي، كما هو الحال في سرديات لافكرافت، على وحوش لا تُوصَف، ولا على كيانات مثل «الشياطين اللاعضوية» التي وصفها الفيلسوف الإيراني رضا نيغارستاني. بل إنه ينسج عوالمه من كيانات وتجريدات وقوى مثل «روح العالم» (Anima Mundi)، و«نيثسكوريال» (Nethescurial)، و«تسالال» (Tsalal)، و«الظلام»، و«المسرح الغروتيسكي».
هذه الكيانات، التي تسبق في وجودها أي إله، تشكّل الخلفية السوداء التي تُلعب عليها فصول التاريخ وأفول الآلهة. ومن هنا، تنبثق المقالة المقترحة: ما يمكن أن يُسمّى بـ«ميتافيزيقا السواد». وصف النقّاد أدب ليغوتي بألقاب مثل «الرعب الفلسفي» و«الرعب الأنطولوجي». بيد أن أدبه العجيب هو في حقيقته أكثر تنوعًا وتداخلًا. ويمكن، بناءً على هذا، اقتراح تنظيم قصص ليغوتي – بشكل مبدئي وقابل للمراجعة – وفق محاور عدة:
أحدها هو «رعب الشركات»، حيث يجعل ليغوتي من العمل المكتبي في ظل الرأسمالية المتأخرة عبثًا وكابوسًا، كما في قصة «مشرفنا المؤقت» وفي المجموعة القصصية «عملي لم ينتهِ بعد». وهنا، تظهر بوضوح بصمة كافكا، ويمكن تحليل هذه الأعمال من منظور نقدي يتناول التنظيمات المؤسسية ومساحات الانضباط ومناطق السيطرة في المجتمعات الغربية المعاصرة. محور آخر يتكرر في أدب ليغوتي هو زيف الذات، وعدم واقعية الهوية الشخصية، وهو غياب وجودي في طبيعته. وقد أشار ليغوتي نفسه إلى أن هذه الإشكالية تتقاطع مع الفلسفة المعاصرة للعقل. وفي قصته «في مدينة أجنبية، في أرض أجنبية» ومقاله «المؤامرة ضد الجنس البشري»، يتناول هشاشة الذات البشرية وتناقضاتها. أما المحور الأخير، وهو موضوع هذا النص، فيتصل بفلسفات الإرادة التي تتخلّل قصص ليغوتي.
«الإرادة» (Wille) ، كما عرفها آرثر شوبنهاور؛ «إرادة الموت» (Wille zum Tode)، كما صاغها فيليب ماينلاندر؛ و«الصيرورة» (Werden)، كما وصفها فريدريك نيتشه، هي المفاهيم التي تلوح، متفرقة، في بعض قصص ليغوتي: «الظل، الظلام» (The Shadow, the Darkness)، و«الليلة المخبولة للتكفير» (Mad Night of Atonement)، و«التسالال» (The Tsalal). في هذا العمل، أُفصّل حضور هذه المفاهيم في هذه القصص، انطلاقًا من التعديل الذي يحدثه دخولها إلى الكون الأدبي ليغوتي، إلى ميتافيزيقا السواد التي يتبناها. في الختام، تتطور تأملات قصيرة حول التشاؤم، ويُظهر كيف أن القصص المدروسة تلتقي في مشكلة واحدة: الهوية بين الغريب والمصير الذي يشكل قَدَرًا هيكليًا في السرد، لكن يمكن التفكير فيه خارج حدود السرد ذاته. إن التماهي بين مفهوم الإرادة وصورة الظلام، قبل أن يظهر في أدب ليغوتي، نجد جذوره في فلسفة شوبنهاور. كما هو معروف، في فكر هذا الفيلسوف الألماني، تشير الإرادة، إذا نظرنا إليها من منظورها الذاتي، إلى:
«إرادتها وما تريده، والذي لا يعدو أن يكون هذا العالم، الحياة كما هي موجودة. ولهذا السبب، نُسمّي العالم الظاهر مرآتها، كينونتها... إذ إن الإرادة هي الكائن في ذاته، المحتوى العميق، جوهر العالم، بينما الحياة هي العالم المرئي، فلا يعدو الظاهر أن يكون مرآة للإرادة. ستظل الحياة مصاحبة للإرادة، بشكل لا يفترق، كما يظل الظل ملاصقًا للجسم الذي يلقيه، وإذا كانت هناك إرادة، فسيكون هناك أيضًا حياة، وعالم».
في جميع مستويات تجليها، من العمليات التي تحدث في الكيانات غير العضوية إلى النوايا البشرية، تفتقر الإرادة إلى غاية نهائية. فإرادتها، التي هي جوهرها، لا تنتهي بتحقيق أهداف معينة، ولا يمكنها التوقف مع إشباع الرغبات، مهما كانت. هي «تسير بمفردها نحو اللامتناهي».
وفي إعادة بناء شوبنهاور التعليمية للجزء الأخير من «العالم إرادة وتمثّلا»، التي أعدها لطلابه في جامعة برلين، تظهر مشكلة الظلام (Dunkelheit) التي تحيط بالحياة الإنسانية.
«قد نهربُ من الرعب، ولكنَّ ملاذنا الوحيد هو قلبه».
– توماس ليغوتي، إلى ميدوسا.
«أدركوا: أنّ ذلك النبض الأحمر، ذلك اللّب المتوهج في داخلكم وحولكم، ليس سوى التافه الهين أمام سواد تلك الحبال والبكرات والرافعات والغرز التي تربط الكون وتشدّه - أنت ودمّاك وكل أولئك التعساء من دمى الحيوانات الجاهلة في الخارج».
– جون بادجيت، «عشرون خطوة بسيطة نحو التكلم الباطني».
بحقٍّ أو بغير حق، يُصرّح الناقد خيسوس بالاثيوس بأن توماس ليغوتي (١٩٥٣) هو «السيّد المطلق لما هو غريب وعجيب في الأدب المعاصر». ويُصنَّف ليغوتي بوصفه حلقة معاصرة ضمن تقاليد طويلة تمتدّ إلى أدب الغرابة وما وراء الطبيعة، والرعب والعجائبية، تبدأ مع إدغار آلان بو، وتكتسب أبعادًا كونية مع لافكرافت، لتبلغ ذروة جديدة في أعمال ليغوتي حيث يتجلى رعب الفراغ العاري. ولا يقوم البناء الأدبي لدى ليغوتي، كما هو الحال في سرديات لافكرافت، على وحوش لا تُوصَف، ولا على كيانات مثل «الشياطين اللاعضوية» التي وصفها الفيلسوف الإيراني رضا نيغارستاني. بل إنه ينسج عوالمه من كيانات وتجريدات وقوى مثل «روح العالم» (Anima Mundi)، و«نيثسكوريال» (Nethescurial)، و«تسالال» (Tsalal)، و«الظلام»، و«المسرح الغروتيسكي».
هذه الكيانات، التي تسبق في وجودها أي إله، تشكّل الخلفية السوداء التي تُلعب عليها فصول التاريخ وأفول الآلهة. ومن هنا، تنبثق المقالة المقترحة: ما يمكن أن يُسمّى بـ«ميتافيزيقا السواد». وصف النقّاد أدب ليغوتي بألقاب مثل «الرعب الفلسفي» و«الرعب الأنطولوجي». بيد أن أدبه العجيب هو في حقيقته أكثر تنوعًا وتداخلًا. ويمكن، بناءً على هذا، اقتراح تنظيم قصص ليغوتي – بشكل مبدئي وقابل للمراجعة – وفق محاور عدة:
أحدها هو «رعب الشركات»، حيث يجعل ليغوتي من العمل المكتبي في ظل الرأسمالية المتأخرة عبثًا وكابوسًا، كما في قصة «مشرفنا المؤقت» وفي المجموعة القصصية «عملي لم ينتهِ بعد». وهنا، تظهر بوضوح بصمة كافكا، ويمكن تحليل هذه الأعمال من منظور نقدي يتناول التنظيمات المؤسسية ومساحات الانضباط ومناطق السيطرة في المجتمعات الغربية المعاصرة. محور آخر يتكرر في أدب ليغوتي هو زيف الذات، وعدم واقعية الهوية الشخصية، وهو غياب وجودي في طبيعته. وقد أشار ليغوتي نفسه إلى أن هذه الإشكالية تتقاطع مع الفلسفة المعاصرة للعقل. وفي قصته «في مدينة أجنبية، في أرض أجنبية» ومقاله «المؤامرة ضد الجنس البشري»، يتناول هشاشة الذات البشرية وتناقضاتها. أما المحور الأخير، وهو موضوع هذا النص، فيتصل بفلسفات الإرادة التي تتخلّل قصص ليغوتي.
«الإرادة» (Wille) ، كما عرفها آرثر شوبنهاور؛ «إرادة الموت» (Wille zum Tode)، كما صاغها فيليب ماينلاندر؛ و«الصيرورة» (Werden)، كما وصفها فريدريك نيتشه، هي المفاهيم التي تلوح، متفرقة، في بعض قصص ليغوتي: «الظل، الظلام» (The Shadow, the Darkness)، و«الليلة المخبولة للتكفير» (Mad Night of Atonement)، و«التسالال» (The Tsalal). في هذا العمل، أُفصّل حضور هذه المفاهيم في هذه القصص، انطلاقًا من التعديل الذي يحدثه دخولها إلى الكون الأدبي ليغوتي، إلى ميتافيزيقا السواد التي يتبناها. في الختام، تتطور تأملات قصيرة حول التشاؤم، ويُظهر كيف أن القصص المدروسة تلتقي في مشكلة واحدة: الهوية بين الغريب والمصير الذي يشكل قَدَرًا هيكليًا في السرد، لكن يمكن التفكير فيه خارج حدود السرد ذاته. إن التماهي بين مفهوم الإرادة وصورة الظلام، قبل أن يظهر في أدب ليغوتي، نجد جذوره في فلسفة شوبنهاور. كما هو معروف، في فكر هذا الفيلسوف الألماني، تشير الإرادة، إذا نظرنا إليها من منظورها الذاتي، إلى:
«إرادتها وما تريده، والذي لا يعدو أن يكون هذا العالم، الحياة كما هي موجودة. ولهذا السبب، نُسمّي العالم الظاهر مرآتها، كينونتها... إذ إن الإرادة هي الكائن في ذاته، المحتوى العميق، جوهر العالم، بينما الحياة هي العالم المرئي، فلا يعدو الظاهر أن يكون مرآة للإرادة. ستظل الحياة مصاحبة للإرادة، بشكل لا يفترق، كما يظل الظل ملاصقًا للجسم الذي يلقيه، وإذا كانت هناك إرادة، فسيكون هناك أيضًا حياة، وعالم».
في جميع مستويات تجليها، من العمليات التي تحدث في الكيانات غير العضوية إلى النوايا البشرية، تفتقر الإرادة إلى غاية نهائية. فإرادتها، التي هي جوهرها، لا تنتهي بتحقيق أهداف معينة، ولا يمكنها التوقف مع إشباع الرغبات، مهما كانت. هي «تسير بمفردها نحو اللامتناهي».
وفي إعادة بناء شوبنهاور التعليمية للجزء الأخير من «العالم إرادة وتمثّلا»، التي أعدها لطلابه في جامعة برلين، تظهر مشكلة الظلام (Dunkelheit) التي تحيط بالحياة الإنسانية.
❤1
وعند السؤال عن كيف يمكن أن تؤكد الإرادة وجودها - في الحياة وتكاثرها - أو كيف يمكن إيقافها - في نفي الرغبة، حيث يُلغى العالم أيضًا - وعما سيكون عليه البشر إذا لم يكونوا إرادة للعيش، يجيب شوبنهاور بأن، في مثل هذه الحالات، «ظلامًا يظللنا» لأن الطبيعة الجوهرية للعالم لا يمكن معرفتها.
«... ذلك الظلام في الحياة لا يمكن محاولة كشفه؛ كأننا نراه معزولين عن ضوء بدائي، أو أن أفقنا محدود بحاجز خارجي، أو أن قوة روحنا لا تكفي لملاقاة عظمة الكائن؛ في مثل هذه التوضيحات، لا يصبح الظلام إلا نسبيًا، موجودًا فقط في علاقتنا بنا وبأسلوب معرفتنا. لكن لا، هو ظلام مطلق وأصلي؛ وهذا أمر سهل الفهم، إذا أخذنا في الاعتبار أن جوهر العالم العميق والأصلي ليس المعرفة، بل هو فقط الإرادة، شيء لا واعٍ. المعرفة عمومًا هي شيء ثانوي، حادث وعرضي؛ لذا، فإن ذلك الظلام ليس مجرد ظل عابر في منطقة النور، بل المعرفة هي النور وسط الظلام الأصلي واللامحدود، الذي تضيع فيه تلك النور. ولذلك، فإن هذه الظلمات تصبح أكثر رعبًا كلما كان هناك ضوء، إذ يكتشف هذا النور المزيد من النقاط في حدود الظلام».
تجربة محاطة بالظلام، تتعلق بمعنى وجود العالم كإرادة، بطبيعته الأعمق، هي الحال التي يعيش فيها البشر ومعرفتهم. التمثيل، كعالم الظواهر المدركة، المُعطى للوعي، الذي ينمو من خلاله العلم، هو النور الذي يكشف، سلبًا، وجود ظلام غامض، مطلق وأصلي. مع شوبنهاور، يُماثل الظلام إلى حد ما الإرادة، لكن أيضًا بما هو أبعد منها، شيء لا يمكن معرفته بالمطلق. وبينما تنبع صورة الظلام في فلسفة شوبنهاور من حدود التمثيل والمعرفة، في أدب ليغوتي، تظهر الكائنات المسمّاة بالظل والظلام كقوة بدائية وعميقة لا تُقهر، تُمثل، مثل الإرادة، ما يُحيي جميع الأجسام العضوية وغير العضوية، وتستخدمها لتنمية نفسها. أما بالنسبة للبشر، فإن هذه الكائنات تحفزهم على أن يكونوا ويقوموا بما لم يكونوا ليقوموا به لو لم تؤثر عليهم تلك القوة الأولية؛ تحثهم على أن يصدقوا أنهم ذوات، وتدفعهم لوضع خطط ونيات تتعلق بوجودات شخصية مفترضة. يظهر وجود هذا الظلام من خلال تجربة المرض والإدراكات الجسدية الأكثر مباشرة. للبدء في توضيح وجود مفهوم الإرادة في قصة «الظل، الظلام»، يمكن الإشارة إلى قرب ليغوتي من فكر شوبنهاور:
«شوبنهاور هو متشائم عظيم، من بين أسباب عديدة، لأنه يكشف عن سمة مميزة للخيال المتشائم. كما أشرنا، فإن أفكاره العميقة ترتبط ببنية فلسفية مركزها الإرادة، أو الإرادة للعيش: قوة عمياء، صمّاء، وصامتة، تُحرك البشر على حسابهم. […] مثل دمى تتحرك بخيط يُعطى لها من قبل قوة ما — سواء كانت الإرادة، القوة الحيوية، anima mundi، العمليات الفسيولوجية أو النفسية، الطبيعة أو أي شيء آخر — يستمر الكائن الحي في العمل كما يُؤمر حتى تنفد الخيوط. في الفلسفات المتشائمة، القوة وحدها هي الحقيقية، وليس الأشياء التي تُفعّل بها. إنها مجرد دمى، وإذا كانت واعية، قد تظن أنها كائنات مستقلة تعمل بمحض إرادتها».
واقع القوة التي تحرك حركات الأجسام غير العضوية وسلوك الأجسام العضوية، التي تجعل هذه الأخيرة دمى معقدة، هو محور قصة «الظل، الظلام». تتدور أحداث القصة حول مجموعة من الفنانين والمثقفين الذين يعيشون فشلًا نسبيًا، والذين يزورون مدينة كرامبتون الميتة، وهي منطقة حضرية رمادية وخاوية، مكانها غير محدد، بهدف حضور «رحلة فيزيائية-ميتافيزيقية» ينظمها الفنان راينر غروسفوغل. وعندما يحين الوقت، يعرض هذا الفنان لهم في منشأة صغيرة وغير مستقرة سلسلة من التماثيل الغريبة والجديدة التي حصل بها على نجاح كبير واعتراف واسع، في الوقت نفسه الذي يروي لهم تجربته مع مرض عضوي خطير عانى منه، وشفائه منه. ومع ذلك، فإن هذا الانهيار الجسدي، الذي سبقته انهيارات نفسية وعاطفية، كشف لغروسفوغل عن وجود كائن يُسميه الظل، الظلام، الذي غيّر بشكل جذري تجربته للعالم. «الشفاء المتحول» هو المصطلح الذي يستخدمه الفنان للإشارة إلى عملية شفاء مرضه، وكذلك إلى تجربة الكشف عن الكائن الذي يغيره بالكامل. يشمل شهادته عن الانهيار، الممتزجة بالتأكيدات الميتافيزيقية، ما يلي:
«ولكن عندما وجدت نفسي منهارًا على أرضية هذهاالمعرض الفني، ولاحقًا في المستشفى، أواجه تلك الآلام البطنية القاسية، غمرني شعور أنني واعٍ تمامًا لعدم وجود عقل أو خيال يمكنني استخدامه، أنه لم يكن هناك شيء يمكنني تسميته روحًا أو ذاتًا... كانت تلك الأشياء كلها بلا معنى وأحلام. أصبحت واعيًا […] أن الشيء الوحيد الذي يمتلك وجودًا هو جسدي هذا […] وأدركت حينها أن هذا الجسد ليس لديه شيء آخر يفعله سوى تجربة الألم الجسدي، وأنه لا يوجد شيء يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه...
«... ذلك الظلام في الحياة لا يمكن محاولة كشفه؛ كأننا نراه معزولين عن ضوء بدائي، أو أن أفقنا محدود بحاجز خارجي، أو أن قوة روحنا لا تكفي لملاقاة عظمة الكائن؛ في مثل هذه التوضيحات، لا يصبح الظلام إلا نسبيًا، موجودًا فقط في علاقتنا بنا وبأسلوب معرفتنا. لكن لا، هو ظلام مطلق وأصلي؛ وهذا أمر سهل الفهم، إذا أخذنا في الاعتبار أن جوهر العالم العميق والأصلي ليس المعرفة، بل هو فقط الإرادة، شيء لا واعٍ. المعرفة عمومًا هي شيء ثانوي، حادث وعرضي؛ لذا، فإن ذلك الظلام ليس مجرد ظل عابر في منطقة النور، بل المعرفة هي النور وسط الظلام الأصلي واللامحدود، الذي تضيع فيه تلك النور. ولذلك، فإن هذه الظلمات تصبح أكثر رعبًا كلما كان هناك ضوء، إذ يكتشف هذا النور المزيد من النقاط في حدود الظلام».
تجربة محاطة بالظلام، تتعلق بمعنى وجود العالم كإرادة، بطبيعته الأعمق، هي الحال التي يعيش فيها البشر ومعرفتهم. التمثيل، كعالم الظواهر المدركة، المُعطى للوعي، الذي ينمو من خلاله العلم، هو النور الذي يكشف، سلبًا، وجود ظلام غامض، مطلق وأصلي. مع شوبنهاور، يُماثل الظلام إلى حد ما الإرادة، لكن أيضًا بما هو أبعد منها، شيء لا يمكن معرفته بالمطلق. وبينما تنبع صورة الظلام في فلسفة شوبنهاور من حدود التمثيل والمعرفة، في أدب ليغوتي، تظهر الكائنات المسمّاة بالظل والظلام كقوة بدائية وعميقة لا تُقهر، تُمثل، مثل الإرادة، ما يُحيي جميع الأجسام العضوية وغير العضوية، وتستخدمها لتنمية نفسها. أما بالنسبة للبشر، فإن هذه الكائنات تحفزهم على أن يكونوا ويقوموا بما لم يكونوا ليقوموا به لو لم تؤثر عليهم تلك القوة الأولية؛ تحثهم على أن يصدقوا أنهم ذوات، وتدفعهم لوضع خطط ونيات تتعلق بوجودات شخصية مفترضة. يظهر وجود هذا الظلام من خلال تجربة المرض والإدراكات الجسدية الأكثر مباشرة. للبدء في توضيح وجود مفهوم الإرادة في قصة «الظل، الظلام»، يمكن الإشارة إلى قرب ليغوتي من فكر شوبنهاور:
«شوبنهاور هو متشائم عظيم، من بين أسباب عديدة، لأنه يكشف عن سمة مميزة للخيال المتشائم. كما أشرنا، فإن أفكاره العميقة ترتبط ببنية فلسفية مركزها الإرادة، أو الإرادة للعيش: قوة عمياء، صمّاء، وصامتة، تُحرك البشر على حسابهم. […] مثل دمى تتحرك بخيط يُعطى لها من قبل قوة ما — سواء كانت الإرادة، القوة الحيوية، anima mundi، العمليات الفسيولوجية أو النفسية، الطبيعة أو أي شيء آخر — يستمر الكائن الحي في العمل كما يُؤمر حتى تنفد الخيوط. في الفلسفات المتشائمة، القوة وحدها هي الحقيقية، وليس الأشياء التي تُفعّل بها. إنها مجرد دمى، وإذا كانت واعية، قد تظن أنها كائنات مستقلة تعمل بمحض إرادتها».
واقع القوة التي تحرك حركات الأجسام غير العضوية وسلوك الأجسام العضوية، التي تجعل هذه الأخيرة دمى معقدة، هو محور قصة «الظل، الظلام». تتدور أحداث القصة حول مجموعة من الفنانين والمثقفين الذين يعيشون فشلًا نسبيًا، والذين يزورون مدينة كرامبتون الميتة، وهي منطقة حضرية رمادية وخاوية، مكانها غير محدد، بهدف حضور «رحلة فيزيائية-ميتافيزيقية» ينظمها الفنان راينر غروسفوغل. وعندما يحين الوقت، يعرض هذا الفنان لهم في منشأة صغيرة وغير مستقرة سلسلة من التماثيل الغريبة والجديدة التي حصل بها على نجاح كبير واعتراف واسع، في الوقت نفسه الذي يروي لهم تجربته مع مرض عضوي خطير عانى منه، وشفائه منه. ومع ذلك، فإن هذا الانهيار الجسدي، الذي سبقته انهيارات نفسية وعاطفية، كشف لغروسفوغل عن وجود كائن يُسميه الظل، الظلام، الذي غيّر بشكل جذري تجربته للعالم. «الشفاء المتحول» هو المصطلح الذي يستخدمه الفنان للإشارة إلى عملية شفاء مرضه، وكذلك إلى تجربة الكشف عن الكائن الذي يغيره بالكامل. يشمل شهادته عن الانهيار، الممتزجة بالتأكيدات الميتافيزيقية، ما يلي:
«ولكن عندما وجدت نفسي منهارًا على أرضية هذهاالمعرض الفني، ولاحقًا في المستشفى، أواجه تلك الآلام البطنية القاسية، غمرني شعور أنني واعٍ تمامًا لعدم وجود عقل أو خيال يمكنني استخدامه، أنه لم يكن هناك شيء يمكنني تسميته روحًا أو ذاتًا... كانت تلك الأشياء كلها بلا معنى وأحلام. أصبحت واعيًا […] أن الشيء الوحيد الذي يمتلك وجودًا هو جسدي هذا […] وأدركت حينها أن هذا الجسد ليس لديه شيء آخر يفعله سوى تجربة الألم الجسدي، وأنه لا يوجد شيء يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه...
❤3👍3
لا فنان ولا مبدع من أي نوع، بل مجرد كتلة من اللحم، وشبكة من الأنسجة والعظام وما إلى ذلك، تعاني من آلام اضطراب في الجهاز الهضمي، وأن أي شيء لا ينبع من هذه الحقائق، خاصة إنتاج الأعمال الفنية، هو غير واقعي وعميقًا وخاطئًا. وفي الوقت نفسه، كنت أيضًا واعيًا بالقوة التي كانت وراء رغبتي القوية في أن أفعل شيئًا وأكون شيئًا، وبالتحديد، رغبتي في خلق أعمال فنية زائفة وغير واقعية. بمعنى آخر، أصبحت واعيًا بما كان في الواقع يُحرك جسدي. […] لقد تحقق هذا الوعي بالقوة التي كانت تُحرك جسدي ورغباته عبر الوسيلة الوحيدة الممكنة: عبر الجسد نفسه وأعضائه الحسية. هذه هي الطريقة الدقيقة التي يعمل بها عالم الأجسام غير البشرية دائمًا، ويفعل ذلك بشكل أفضل بكثير من عالم الأجسام البشرية، الذي دائمًا ما تعترضه كل تلك الخرافات التي نخترعها عن وجود عقول وأرواح وذوات».
فيما بعد، في السرد، يتم اكتشاف أن القوة المحركة، الظلام الذي يعبر كل شيء، هو سبب الإيمان بالذات: حيلة نشأت بالصدفة من جراء أفعال هذه الكائنات التي تستخدم جميع الأجسام لتكثيف نفسها. الإيمان بالذات يعتمد، بدوره، على العمل الفني النهائي الذي تخلقه الظلمة: الكلمات. تماشيًا مع الأطروحة المتشائمة حول واقع القوة المحركة ولامعقولية ما يُفعّل بها، يُعبّر في هذه القصة عن أن الذوات ليست حقائق في العالم، بل هي ستائر وأقنعة وأقنعة للظلام، «الذي هو داخل كل شيء ويغزو الأشياء من أعماقها… ظلام لا يُقهَر بلا جوهر […] الذي يحرك جميع الأشياء في هذا العالم، بما في ذلك تلك الأشياء التي نسميها أجسادنا».
أمام اكتشاف وجود الظلام، الذي يصبح تدريجيًا حاضرًا في مجموعة الفنانين والمثقفين الذين زاروا كرامبتون، يُكرر أحد هؤلاء الشخصيات، مؤلف المعاهدة الغريبة: «تحقيق في المؤامرة ضد النوع البشري» — وهو عنوان وهمي سيستخدمه ليغوتي لتسمية مقاله الشهير— أنه في دراساته، وجد استنتاجات تتفق مع تجارب غروسفوغل. يشرح هذا الشخص قائلاً:
«بسبب وجود الكلمات، نظن أن هناك عقلًا، وأن نوعًا من الروح أو الذات موجود. هذه هي ببساطة واحدة من طبقات التغطية اللانهائية. لا يوجد عقل كان قادرًا على كتابة 'تحقيق في المؤامرة ضد النوع البشري'… لا يوجد عقل يمكنه كتابة مثل هذا الكتاب، ولا عقل يمكنه قراءته. لا يوجد أحد على الإطلاق يمكنه قول أي شيء عن هذه الحقيقة الأساسية للوجود، ولا أحد يمكنه أن يخون هذه الحقيقة. ولا يوجد أحد يمكن التواصل معه».
هنا، نجد تأكيدًا ذا طابع إلغائي يعتمد على وجود الكائن المسمى بالظل، الظلام. يتكون هذا التأكيد من تسليط الضوء على لامعقولية الذات، وإلغاء وجودها، إذ لا يوجد عقل إلا كستار للقوة المحركة التي تتماشى مع مفهوم الإرادة في فلسفة شوبنهاور. إن غياب الذات الأنطولوجي، وهي أطروحة على الأقل متناقضة، والتي يعدها بعض الفلاسفة أمرًا لا يمكن التفكير فيه، تؤدي، في القصة، إلى وجود مستحيل لكتاب، من جهة، قادر على توضيح جوانب أساسية ومرعبة من الواقع، ومن جهة أخرى، لا يمكن أن يكون قد كُتب قط، لأن أحد هذه الجوانب هو أن الذوات التي كان يمكن أن تكتب هذا الكتاب هي مجرد أحلام وتفاهات تفتقر إلى التماسك.
وقد شرح الناقد الثقافي مارك فيشر أن «إحساس الرعب ينشأ إذا كان هناك وجود حيث لا ينبغي أن يكون هناك شيء، أو إذا لم يكن هناك وجود حيث يجب أن يكون هناك شيء». وفي هذا السياق، يظهر وجود الذات كوجود مخيف لأن القوة المحركة، الظلام، هي الوحيدة التي تمكن من ظهورها. لن تكون العقول هناك لو لم يكن النظام الطبيعي قد احتله الظلام. دون فعل هذه الكائنات، لن تظهر الذوات حتى كخرافات، حيث إنها «الظل الذي يغزو كل شيء (ويجعل الأشياء ما لم تكن لتكونه) والظلام الذي يحرك كل شيء (ويجعل الأشياء تفعل ما لم تكن لتفعله)».
بناءً على ما تم تطويره أعلاه، يمكن القول إن الإرادة، المرتبطة بفلسفة شوبنهاور، وكذلك الظلال، الظلام، المرتبطة بأدب ليغوتي، تتطابق للأسباب التالية: كلاً من الإرادة والظلام هما قوى بدائية تفتقر إلى غاية أو هدف يتجاوز تأكيدها البسيط؛ قوة هذه الواقعية هي بحيث لا يوجد جسم أو ظاهرة يمكن أن تقاوم فعلها. علاوة على ذلك، في حالة شوبنهاور، فإن الأجسام نفسها هي موضوعات الإرادة. وهكذا، تعمل الإرادة والظلام على البشر، متمثلة في رغبات لا تُشبع إلا نادرًا، وحتى عندما يتم تلبية هذه الرغبات، لا تنفد القوة التي تحركها. فإذا كان شوبنهاور يرى أن البشر هم دمى لرغباتهم، وبالتالي لإرادتهم؛ فإن ليغوتي، الذي يبالغ في هذه الفكرة، يرى أن الهوية الشخصية وغاياتها هي تمويهات تنتجها الظلمة القوية التي، في النهاية، تُغطى بأغطية ذاتية ضئيلة.
فيما بعد، في السرد، يتم اكتشاف أن القوة المحركة، الظلام الذي يعبر كل شيء، هو سبب الإيمان بالذات: حيلة نشأت بالصدفة من جراء أفعال هذه الكائنات التي تستخدم جميع الأجسام لتكثيف نفسها. الإيمان بالذات يعتمد، بدوره، على العمل الفني النهائي الذي تخلقه الظلمة: الكلمات. تماشيًا مع الأطروحة المتشائمة حول واقع القوة المحركة ولامعقولية ما يُفعّل بها، يُعبّر في هذه القصة عن أن الذوات ليست حقائق في العالم، بل هي ستائر وأقنعة وأقنعة للظلام، «الذي هو داخل كل شيء ويغزو الأشياء من أعماقها… ظلام لا يُقهَر بلا جوهر […] الذي يحرك جميع الأشياء في هذا العالم، بما في ذلك تلك الأشياء التي نسميها أجسادنا».
أمام اكتشاف وجود الظلام، الذي يصبح تدريجيًا حاضرًا في مجموعة الفنانين والمثقفين الذين زاروا كرامبتون، يُكرر أحد هؤلاء الشخصيات، مؤلف المعاهدة الغريبة: «تحقيق في المؤامرة ضد النوع البشري» — وهو عنوان وهمي سيستخدمه ليغوتي لتسمية مقاله الشهير— أنه في دراساته، وجد استنتاجات تتفق مع تجارب غروسفوغل. يشرح هذا الشخص قائلاً:
«بسبب وجود الكلمات، نظن أن هناك عقلًا، وأن نوعًا من الروح أو الذات موجود. هذه هي ببساطة واحدة من طبقات التغطية اللانهائية. لا يوجد عقل كان قادرًا على كتابة 'تحقيق في المؤامرة ضد النوع البشري'… لا يوجد عقل يمكنه كتابة مثل هذا الكتاب، ولا عقل يمكنه قراءته. لا يوجد أحد على الإطلاق يمكنه قول أي شيء عن هذه الحقيقة الأساسية للوجود، ولا أحد يمكنه أن يخون هذه الحقيقة. ولا يوجد أحد يمكن التواصل معه».
هنا، نجد تأكيدًا ذا طابع إلغائي يعتمد على وجود الكائن المسمى بالظل، الظلام. يتكون هذا التأكيد من تسليط الضوء على لامعقولية الذات، وإلغاء وجودها، إذ لا يوجد عقل إلا كستار للقوة المحركة التي تتماشى مع مفهوم الإرادة في فلسفة شوبنهاور. إن غياب الذات الأنطولوجي، وهي أطروحة على الأقل متناقضة، والتي يعدها بعض الفلاسفة أمرًا لا يمكن التفكير فيه، تؤدي، في القصة، إلى وجود مستحيل لكتاب، من جهة، قادر على توضيح جوانب أساسية ومرعبة من الواقع، ومن جهة أخرى، لا يمكن أن يكون قد كُتب قط، لأن أحد هذه الجوانب هو أن الذوات التي كان يمكن أن تكتب هذا الكتاب هي مجرد أحلام وتفاهات تفتقر إلى التماسك.
وقد شرح الناقد الثقافي مارك فيشر أن «إحساس الرعب ينشأ إذا كان هناك وجود حيث لا ينبغي أن يكون هناك شيء، أو إذا لم يكن هناك وجود حيث يجب أن يكون هناك شيء». وفي هذا السياق، يظهر وجود الذات كوجود مخيف لأن القوة المحركة، الظلام، هي الوحيدة التي تمكن من ظهورها. لن تكون العقول هناك لو لم يكن النظام الطبيعي قد احتله الظلام. دون فعل هذه الكائنات، لن تظهر الذوات حتى كخرافات، حيث إنها «الظل الذي يغزو كل شيء (ويجعل الأشياء ما لم تكن لتكونه) والظلام الذي يحرك كل شيء (ويجعل الأشياء تفعل ما لم تكن لتفعله)».
بناءً على ما تم تطويره أعلاه، يمكن القول إن الإرادة، المرتبطة بفلسفة شوبنهاور، وكذلك الظلال، الظلام، المرتبطة بأدب ليغوتي، تتطابق للأسباب التالية: كلاً من الإرادة والظلام هما قوى بدائية تفتقر إلى غاية أو هدف يتجاوز تأكيدها البسيط؛ قوة هذه الواقعية هي بحيث لا يوجد جسم أو ظاهرة يمكن أن تقاوم فعلها. علاوة على ذلك، في حالة شوبنهاور، فإن الأجسام نفسها هي موضوعات الإرادة. وهكذا، تعمل الإرادة والظلام على البشر، متمثلة في رغبات لا تُشبع إلا نادرًا، وحتى عندما يتم تلبية هذه الرغبات، لا تنفد القوة التي تحركها. فإذا كان شوبنهاور يرى أن البشر هم دمى لرغباتهم، وبالتالي لإرادتهم؛ فإن ليغوتي، الذي يبالغ في هذه الفكرة، يرى أن الهوية الشخصية وغاياتها هي تمويهات تنتجها الظلمة القوية التي، في النهاية، تُغطى بأغطية ذاتية ضئيلة.
👍3