تتفاوت فراسة المؤمنين في معرفة أهل النفاق بقدر علمهم وهدايتهم، (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) أي: فرقانا بين الحق والباطل. وفي قوله تعالى: (فَما لَكم في المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) وبخ الله بعض الصحابة في مجرد الاختلاف في شأنهم مع ظهور حالهم، والفاء في (فمالكم) قال ابن عاشور: (تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدمت، لأن ما وصف من أحوالهم لا يترك شكا عند المؤمنين في خبث طويتهم وكفرهم، وإذ قد حدث الله عنهم بما وصف من سابق الآي، فلا يحق التردد في سوء نواياهم ونفاقهم.. والاستفهام للتعجيب واللوم). قال ابن القيم: (كاد القرآن أن يكون كله في شأن المنافقين، لكثرتهم على ظهر الأرض).
من القواعد القرآنية في التعامل مع الآخرين، تذكر سابق العهد، ومنة الله عليك ونعمته بنقلك إلى درجة أعلى، فلا تتكبر ولا تشدد، يقول تعالى: (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا)، يقول ابن عاشور: (وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالا كان هو عليها تساوي أحوال من يؤاخذه، كمؤاخذة المعلم التلميذ بسوء إذا لم يقصر في إعمال جهده. وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظفين في معاملة من تحت نظرهم من صغار الموظفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد). وهي قاعدة نافعة للداعية في تذكر سالف أمره ورحمته بالمذنبين.
في قوله تعالى: (لیس ٱلبر أن تولوا وجوهكم قبل ٱلمشرق وٱلمغرب ولـٰكن ٱلبر من ءامن بٱلله وٱلیوم ٱلـٔاخر..)
(من أعظم مهمات العالم: إعادة المراتب إلى وضعها الصحيح، وتصحيح الخلط فيها، وقطع الطريق على شهوة السلطان وهوى النفس.
وكثير من الناس يجعلون مراتب الشرائع حسب أهوائهم؛ فما أحبته النفس وسهل عليها تحقيقه، رفعوه، وما شق عليها، بحثوا عن أسباب تجاهله ووضعه عن مرتبته؛ قال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} قريش تحب سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام؛ لأن لها به جاها، ولأنه يحفظ مكانتها بين الناس، فقدمته وبالغت فيه، وفرطت في توحيد الله وعبادته).
التفسير والبيان لأحكام القرآن: (١٦٦/١).
(وجد أمه به)
قال ﷺ:
(إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به)

من دلائل النبوة التي تبصرها عيون المؤمنين هذه الرحمة الفريدة التي اختص بها إمام الرحماء.
بينما هو يؤم الناس
مستعدا ومتشوفا للقراءة والإطالة والترتيل
مقبلا على قرة عينه الصلاة؛ بينما هو كذلك؛
ينبعث من آخر الصفوف؛
من خلف كل صفوف الرجال؛
صوت طفل يبكي؛
أمثلنا طريقة سيكظم انزعاجه،
ويجاهد ضجره من هذه الأم وطفلها،
ويمضي في قراءته متشاغلا عن هذا الصوت.
وربما لو سما أحدنا في خلُقِه
لقال في نفسه:
إنه طفل لا يميز ولا يعقل.
أما أن تعبر الرحمة كل هذه الجموع،
لا لترحم الطفل فحسب،
فإن الأطفال يبكون لأدنى الأسباب.
لكن لتغشى امرأة جاءت بهذا الطفل،
امرأة لا يدري من هي؛
فيرحمها
ويقول ﷺ مقالته الشجية:
(من شدة وجد أمه به)
ليس من وجدها بل شدة وجدها.
إنها شدة الوجد
التي دعت النبيﷺ ليخفف صلاة كان يحب أن يطيلها
بل قد عزم في نفسه على إطالتها
فيركع بكل المأمومين.
كيف هذا القلب الذي لم تشغله الإمامه وعظم الصلاة وأعباء الحياة وزحام الخلق
عن موجدة أم بعيدة هناك.....
قاعدتان نافعتان:
قال شيخ الإسلام: (..أن يكتم بثه وألمه ولا يشكو إلى غير الله فمتى شكا إلى غير الله نقص صبره). وقال في قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، ( ومن تدبر القرآن: تبين له أن عامة ما يذكره الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل….ولا بد لهم من حركة وإرادة. فلما لم يتحركوا بالحسنات: حركوا بالسيئات عدلا من الله..فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في عمل السيئة. كما قيل: نفسك إن لم تشغلها شغلتك). الفتاوى: (٢٠٨،٣٣٥/١٤).
سيصدر لأخيكم هذا المؤلف قريبا بإذن الله، وهو جمع لما وقفت عليه من تدبرات لهذا العالم الجليل من خلال تفسيره التحرير والتنوير، وذلك من خلال قراءة كاملة لهذا التفسير، وأسأل الله تعالى القبول والإخلاص.
قال تعالى خاتما سورة الشعراء التي ذكر فيها عاقبة المكذبين للأنبياء: (وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) عن عائشة قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر، ويَتَّقي الفاجر، ويُصَدِّق الكاذب: إنِّي استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذلك ظنِّي به ورجائي فيه، وإن يجُر ويُبَدِّل فلا أعلم الغيب، ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾، قال ابن عاشور: (وهذه الآية تحذير من غمص الحقوق وحث عن استقصاء الجهد في النصح للأمة، وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم، ومن الإبهام في قوله: (﴿أي منقلب ينقلبون﴾) إذ ترك تبيينه بعقاب معين لتذهب نفوس الموعودين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب…قال في الكشاف: وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها). التحرير والتنوير
ومن بلاغة القرآن أن هذه الجملة أصبحت مثلا مرسلا على ألسنة الناس، اللهم أرنا في اليهود والرافضة ما تقر به أعين المظلومين!.
في منزلة الغربة: أورد ابن القيم قول النبي ﷺ: (إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة) ثم قال: (فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدا سموا غرباء، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}).
مدارج السالكين: (٧٠/٤).
حذر الله في ثلاث آيات متتابعات في سورة البقرة من المن والأذى، وقرنه بعمل المنافق المرائي، وضرب له مثلا في اضمحلال عملهم وقت طلبهم لثوابه، يقول الواحدي في قوله: (فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَیۡهِ تُرَابࣱ فَأَصَابَهُۥ وَابِلࣱ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدࣰاۖ لَّا یَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَیۡءࣲ مِّمَّا كَسَبُوا۟ۗ) (وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق وعمل المنّان الموذي، يعنى: أن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالًا كما يُرى التُرابُ على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل؛ لأنه لم يكن لله، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب، فلا يقدر أحد من الخلق على ذلك التراب الذي أزاله المطر عن الصفا، كذلك هؤلاء في العمل الذي حبط، إذا قدموا على ربهم لم يجدوا شيئًا).
نقل ابن عاشور عن الزمخشري: (قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث آيات من هذه السورة (الجمعة): افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله ﴿فتمنوا الموت إن كنتم صادقين﴾. وبأنهم أهل الكتاب والعرب أميون لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة).
وفي قوله تعالى: ﴿إنما جُعل السبت على الذين اختلفوا فيه﴾، قال السدي: إنّ الله فرض على اليهود الجمعة، فأبَوا، وقالوا: يا موسى، إنّه لم يَخلُق يوم السبت شيئًا، وفي البخاري عنه ﷺ: (هذا يومُهم الذي فُرض عليهم؛ يوم الجمعة، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تَبَع؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غد).
قال أبو حفص البزار في سيرة شيخ الإسلام: (وأما ذكر دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها وكان لا يهييء شيئا من العلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله على صفة مستحسنة مستعذبة لم اسمعها من غيره…..وكان لا يذكر قط الا ويصلي ويسلم عليه ولا والله ما رأيت أحدا اشد تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا احرص على أتباعه ونصر ما جاء به منه).
الأعلام العلية: ٧٥٠
ما أجمل وصفه لصلاته على النبي ﷺ بقوله: (مستحسنة مستعذبة لم اسمعها من غيره).
في منزلة السر: يقول ابن القيم فيما يجده الناس في الأخفياء من اللطف والظرافة والقبول في قلوبهم: (والظرف في هذه الطائفة أحلى من كل حلو، وأزين من كل زين، فما قرن شيء إلى شيء أحسن من ظرف إلى صدق وإخلاص، وسر مع الله وجمعية عليه…ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب، ويدفع عن صاحبه من الشر، ويسهل له ما توعر على غيره! فليس الثقلاء بخواص الأولياء، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك، وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفا، فيرى الصادق فيها من أحلى الناس وألطفهم وأظرفهم، قد زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع، وصار روحانيا سمائيا بعد أن كان حيوانيا أرضيا، فتراه أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وألطفهم قلبا وروحا). مدارج السالكين: (٤/٤٥).
يقول ابن القيم في قوله تعالى: (وَمَثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِیتࣰا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلࣱ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَیۡنِ فَإِن لَّمۡ یُصِبۡهَا وَابِلࣱ فَطَلࣱّۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرٌ) (هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق، فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص، والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية. إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين. والآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها. هل يفعل أم لا؟
فالآفة الأولى: تزول بابتغاء مرضاة الله. والثانية: تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجعها وتقويتها والأقدام بها على البذل. وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة وهي البستان الكثير الأشجار فهو مجتنّ بها أي:
مستتر ليس قاعا فارغا).
من الاستنباطات البديعة الدالة على أن من الأخلاق ماهو مكتسب بالدربة والمجاهدة، قوله تعالى: (وَمَثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِیتࣰا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ..) يقول ابن عاشور: (والتثبيت: تحقيق الشيء وترسيخه، لكبح النفس عن التشكك والتردد. أي:
أنهم يمنعون أنفسهم من التردد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتركون مجالا لخواطر الشح، فإن إراضة النفس على فعل ما يشق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدنا. وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأن المال ليس أمرا هينا على النفس، وموقع (من) في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلق الفعل..وفي تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أن تكرر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها، وبلا كلفة ولا ضجر). التحرير والتنوير مختصرا: (٥١/٣)
أعظم العون على حفظ العلم: العمل به. قال ابن القيم في أوجه الحرمان من العلم: (السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه. قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به. فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته وترك العمل به إضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل، قال الله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به﴾.
الاقتران بين النظائر في القرآن باب دقيق للتدبر، يقول شيخ الإسلام في قوله تعالى: (وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ هَمَّازٖ مَّشَّآءِۭ بِنَمِيمٖ مَّنَّاعٖ لِّلۡخَيۡرِ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلِّۭ بَعۡدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ) (ذكر أربع آيات كل آيتين جمعت نوعا من الأخلاق الفاسدة وجمع في كل آية بين النوع المتشابه فالحلاف مقرون بالمهين؛ لأن الحلاف هو كثير الحلف؛ وإنما يكثر الرجل ذلك في خبره إذا احتاج أن يصدق ويوثق بخبره، فهو من أذل الناس {حلاف مهين} حلاف في أقواله مهين في أفعاله، وأما الهماز المشاء بنميم: فالهمز أقوى من اللمز وأشد فالهماز المبالغ في العيب نوعا وقدرا، والمشاء بنميم هو من العيب ولكنه عيب في القفا فهو عيب الضعيف العاجز. فذكر العياب بالقوة والعياب بالضعف والعياب في مشهد والعياب في مغيب. وأما {مناع للخير معتد أثيم} فإن الظلم نوعان: ترك الواجب وهو منع الخير وتعد على الغير وهو المعتدي، وأما العتل الزنيم: فهو الجبار الفظ الغليظ الذي قد صار من شدة تجبره وغلظه معروفا بالشر مشهورا به). الفتاوى مختصرا: (٦٦/١٦).
هل في القرآن إشارة إلى افتتاح السنة بيوم الهجرة؟ يقول السهيلي في قوله تعالى: (لَا تَقُمۡ فِیهِ أَبَدࣰاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ) وفي قوله: (من أول يوم) وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها، ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، فيه من الفقه: صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام، والذي أمر فيه النبي وأسس المساجد. فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه من أول يوم أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذى يورخ به الآن، فإن كان أصحاب رسول الله أخذوا هذا من الآية، فهو الظن بأفهامهم، فهم أعلم الناس بكتاب الله وتأويله، وأفهمهم بما في القرآن من إشارات وإفصاح، وإن كان ذلك منهم عن رأي واجتهاد، فقد علم ذلك منهم قبل أن يكونوا وأشار إلى صحته قبل أن يفعل). الروض الأنف. مختصرا: (٢٥٧/٤). ونقل ابن حجر كلام السهيلي، وقال: (المتبادر أن المراد من أول يوم دخل فيه النبي ﷺ وأصحابه المدينة، ووصف ابن المنير قول السهيلي بالتكلف والتعسف، وأنه خروج عن تقدير الآية المشهور بالتأسيس، أي: أول يوم وقع فيه التأسيس للمسجد، وذكروا آثارا في هذا منها قول عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل).
من قواعد التعبير: أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، ومنها التفريق بين اللفظين في قوله تعالى: (لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ) نقل ابن القيم عن السهيلي، قال: ({لها ما كسبت} [يعني: من الحسنات] وعليها ما اكتسبت} يعني: من السيئات، لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى، والحسنة تنال بهبة من الله من غير واسطة شهوة ولا إغواء عدو، فهذا الفرق بينهما على ما قاله السهيلي، وفيه فرق أحسن من هذا، وهو: أن الاكتساب يستدعي التعمل والمحاولة والمعاناة، فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمله. وأما الكسب؛ فيحصل بأدنى ملابسة حتى بالهم بالحسنة فخص الشر بالاكتساب والخير بأعم منه، ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح (إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها) بدائع الفوائد: (٥٠٥/٢).
أثنى علي عبدي

ترى لو بلغك أن صديقا لك أثنى عليك في مجلس أو مجلسين
تأمل! هذه.
في كل يوم تطلع فيه الشمس
يقول الله تعالى عنك
يزكيك:
يقول تعالى:
حمدني عبدي
أثنى علي عبدي
مجدني عبدي
ليس مرة ولا مرتين

سبع عشرة مرة مع كل فاتحة؛
لو اقتصرت على الفرائض.
فلو صليت معها الرواتب والضحى وأدنى الوتر
لذكرك بالثناء ٣٤ مرة في اليوم.
فما ظنك برب يذكرك بالجميل
٣٤ مرة في كل يوم
بل في كل مرة ينوه بك ثلاث مرات
حمدني عبدي
مجدني عبدي
أثنى على عبدي.
تأملها بقلبك
هل من أصفيائك وأحبابك وأخص أوليائك
من يجري اسمك جرياتا فضلا عن الثتاء
مائة مرة في اليوم.
فكيف لو أنك من الذاكرين
فذكرت الله في مجلس مرة أو مرتين
لذكرك الله في الملأ الأعلى
ولو ذكرته في نفسك ذكرك الله في نفسه تعالى
فما حالك وأنت تذكر الله بعد الصلوات
وطرفي النهار
وعند خروجك ودخولك وطعامك ولباسك
وحزنك وفرحك
ثم ماذا لو كنت من أهل القرآن
من طرق العلماء تلمس معاني الكتب السابقة في القرآن، ومن أصرح العبارات في التوراة على رسالة النبي ﷺ قوله: (تجلى الله من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران)، قال ابن قتيبة: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة. قال ابن القيم: (وساعير جبال بالشام منه ظهور نبوة المسيح، وإلى جانبه قرية بيت لحم، القرية التي ولد فيها المسيح، تسمى اليوم ساعير…وقد ذكر الله الأماكن الثلاثة في قوله: ﴿والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين﴾ فالتين والزيتون: هو في الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح، وأنزل عليه فيها الإنجيل، وطور سينين: وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليما، وأقسم بالبلد الأمين: وهو مكة التي أسكن إبراهيم وإسماعيل وأمه فيه، وهو فاران) وأخبر في التوراة بالأنبياء على الترتيب الزماني، وأما في القرآن فبدأ بما يسمى عند البلاغيين بالترقي من الأدنى إلى الأعلى في المرتبة لأنه ورد في سياق القسم والتعظيم.
هداية الحيارى: (١٥٧)
2025/06/28 05:34:50
Back to Top
HTML Embed Code: