من نظر لرزقه بعينٍ ضيقة أغلق على نفسه أبواب الخير، ومن نظر إلى سعة ما أنعم الله به عليه أصبح أغني الناس وإن كان أعدمهم، وأقسم بالله أنك لن تبيت معدوم الخير، فمهما رأي الناس قليل رزقك فأنت تراه بعينك أكثره، فرزق ربك لعباده ما أوفره.

ستسعد النفس بعد حزنها، لو أنك تركت فضول اللذات الفانية من الدنيا، وستتحرر بعد حبسها عن هواها، لو أنك تعصيها فيما تشتهيه، وعكس ذلك أنك ستحزن إذا فرحت بالدنيا، وستُحبَس إذا أطعت هواك، والعاقل يُصبِّر نفسه على هذه المجاهدة، وما أسرع أن تنقضي الأيام، وليس الفاني كالباقي، فاصبر.

متى ما تخلص العبد من هواه، وجعله تبعاً لشرع الله، فليستبشر بما يزحزح عنه هم دنياه، بل إن السرور يلحق به هنا وهناك في منتهاه، فلنعم عبد يسعى في طريق العلم ويعرفه، ولنعم من سلك سبيل ربه، ولنعم عبد يسمع النصح ويقبل الهدى ويتهيأ للتغيير.

فصل: في معرفة النفس:

أفي صلاةٍ أنت ودعاءٍ أم ماذا! أفي محاسبة نفسك أم في تفاهة! أفي إصلاحٍ بين الناس أم في سفاهة! أفي صلاح نفسك أم تريد فسادا! أفي عمار وتثبيت ونجاح أم في خرابا! أفي ذكرك الموت أم قد ضمنت صحة وفراغا! أفي كلام خيرٍ أم أن لهو الكلام أصبح لك خطابا! إذا لم يكن الآن فمتي؟! إذا لم تكن الجنة فماذا؟!

هيئ نفسك للصلاح دوماً، وانتهز أيام العمر، ففي مجاهدة نفسك في سبيل الله كل خير، وكن من السابقين، نافس على عطايا ربك، وضع نصب عينيك تقوى الله ورضاه، وليس لك أهداف سواه، وليس لك من الدنيا ما يطمع هواك، وحتى إن أصبت منه فهو زائل، ولا يبقي إلا ما كسبت من عمل، ولا تركن إلى الخمول والتقصير والكسل، حاسب نفسك على كل صغيرة وكبيرة، لعل المحاسبة تقودك إلى مسارك الصحيح وتحصد الفائدة بذاك، فلا شئ عبث ولا شئ دون قيمة.

كن نقياً سهلاً ليناً عند حاجة الناس ما دام في وسعك، طهر قلبك من الشوائب، لا تنتقم، اعفو عمن أساء، اسمع موعظة واتبع سنة وابتعد عن بدعة، أحب الإسلام، وابحث عن درجات الإيمان، جاور العلماء وأهل الدين، ولا تجلس في مواضع السوء والريبة، لا تكن متناقضاً، اُمر بمعرف وانهي عن منكر وهذا بعلم، جمع مكارم الأخلاق يثقل ميزان أعمالك، كن طيباً ولا تكن غير ذا.

تفقد أمرك، وابحث عن الخلل، خاطب نفسك ومرادها، أتريد مالاً؟! أتريد صحةً وعيالاً؟! أتريد منصباً وجاهاً؟! أتريد سيطرةً ونفوذاً؟! أتريد شهرةً وعلواً؟! أتريد أن تكون دنيوياً؟! ما هذا!! لو هذا فقط دون ضبط كانت الهلكة، يا عبد الله! ألك في ما يرضيك! اشتغل بطاعة الله ومرضاته، واكتف رضاءاً بما أعطاك دون سخط، ولا تقارن بعينك أحداً، ولا تغفل، واكسب قوتاً حلالاً طيباً، واجتهد في دينك ودنياك لله لا لشيء إلا لمرضاته، اسعي للارتقاء في كل درجات الخير، كن لنفسك لأجل الآخرة.

كيف أنت؟ كيف وقتك؟ كيف عمرك؟ كيف أهدافك؟ أتسير إلى الله مسرعاً أم أبطأ بك المسير! أتعلم وجهتك أم أخطأت السبيل! أسعيد أنت أم بك عناء السنين! أوصلت لهدفك أم تائهٌ في ضلال مبين! أراضٍ عن نفسك أم في ضيقٍ أليم! صاحبي ضع الله نصب عينك، اتق الله وخافه، أصلح نفسك من العيوب، واجعل ما بينك وبين الله خالياً من الثقوب، فإذا أتممت ما يصلحك في طريق الله فابحث عن باقي الحقوق، والعباد فعاملهم بصدق وأمانة، وليروا فيك كل قدوة، والأقرب فالأقرب فود، وشغلك في دنياك فاجعل فيه نية رضا الله، وما غير ذلك فهو زائل لا يشغلك عن هدفك الأسمى، عمرك بيديك أنت وحدك، اختر ما يحقق رضا الله ولا تعجز، فإن الوقت قليل، فحافظ على وقتك ولا تضعه، واملأ كل وقتك بما ينفع، حتى لا تندم إذا انتهى، اسعي فيما يرضي الله ويرضيك، ولا تتأخر فإن الفناء لابد آتيك.

أَحِطْ نفسك بالكلمات الطيبة، فما عرفته بذئياً فأعْرِضْ عنه، والْزَمْ النفوس الطيبة، فمن عرفته غير ذلك فاجتنبه، لا تُحمِّل نفسك مآسٍ لأجل أي شيء، وإن لنفسك عليك حقاً فارعها، إنك بحاجة لقوى نفسيةٍ مطمئنة، وعقل راجحٍ موزون، وقلبٍ صادقٍ غير مهموم، فإن تعرَّضتْ نفسك أو عقلك أو قلبك لشوائب فأزلها، لأنه إن كان في العمر بقية فأنت بحاجة إلى سلام يدوم مع أنفاس عمرك كي تواصل مسيرك.
يقول الله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].