هل يمكن النظر إلى فلسفة سبينوزا كتجربة روحية ؟
▪جلال الدين سعيد
كانت علاقة سبينوزا بالكنيسة علاقة مريبة، تتسم باللطف طوراً، وبالجفاء أطواراً، وهو ما يظهر في كتاباته كما في بعض مراحل حياته الشخصية. وقد كان سبينوزا لا يخفي معاداته لرجال الدين واللاهوتيين المُتملِّقين، وكان لا تنطلي عليه حِيَلهم وألاعيبهم، وما يظهرونه من زهد وطهارة وحياة روحية مثالية. وباستثناء ما قد نألفه لدى المسيح، ولدى عدد من الأنبياء والرجال الصالحين، يخلو التاريخ، أو يكاد من تواتر التجارب الروحية الحقيقية، إذ لا توجد في اعتقاد مؤلِّف "الايتيقا" أية تجربة روحية، عدا تجربة العقل المُحقَّقة وحدها لمتعة الفهم، لكن هل هذا يكفي كي ننفي عن مذهب فيلسوفنا كل بعد روحي ؟
لئن لمحنا في فلسفته الطبيعية عموماً، كما في بعض إشاراته المتفرقة نزعة مادية صريحة، فإن هذه النزعة لا تتنافى مع كل تجربة روحية تتجلى سماتها في معرفة الله ومحبته، معرفة ومحبة عقليتين هما سرّ السعادة و مفتاح النجاة. وقد لا نغالي كثيراً إذا ما نحن تحدثنا عن نزعة روحية لدى سبينوزا، باعتباره يُفكِّر في شروط التحاق الإنسان بالمطلق، وانضمامه إلى الذات الإلهية بفضل الضرب الثالث من ضروب المعرفة ( أي المعرفة الحدسية )، وباعتباره أيضاً يفكر في الشروط التي تسمح للناس بتحقيق ذواتهم، وبالتعايش في كنف مجتمع يحكمه العقل، ولا تتسلط فيه الأهواء. إن فلسفة سبينوزا، من دون أن تتناقض مع النزعة المادية، تفتح المجال لنزعة روحية فريدة من نوعها، إذ تقطع - على خلاف النزعات الروحية المألوفة - مع كل ضروب التعالي ومع كل تصور ثنائي للوجود، وتحصر كينونة الإنسان و اكتماله في معرفة ذاته، وفي وعيه لنفسه وللعالم، كما في إدراك اتحاده بالله. وقد يجوز الحديث أيضاً في مقابل ذلك عن نزعة مادية فريدة من نوعها لدى سبينوزا، من جهة كونه لا يختزل وجود الإنسان في مجرد المادة، بل يميزه عن غيره من سائر الكائنات الطبيعية، ويحدده بما هو كائن مفكر، ويفكر في كيانه، و يعي تفكيره هذا بصورة منعكسة لامتناهية، إلى أن يدرك حقيقة الوجود، ومعنى اتحاده برَّبهِ.
إذاً، يبدو من المُجحِف أن نُجرِّد مذهب سبينوزا من كل مسحة روحية، بل يصدع بعضهم بعدم خلو فكر هذا الفيلسوف من الطابع الديني. وإذ يبقى السؤال مطروحاً عن مدى اصطباغ فكره بالفكر الديني، فإنه من حقنا أن نُفكِّر في بعض أوجه التماثل الموجودة، على الأقل، بين غائيته الفلسفية والغائية الدينية عموماً، ولا سيّما إذا اعتبرنا أن فلسفة سبينوزا إنما تتمثل في الكشف عن دروب الفكر الذي يسعى للاتحاد بالله، أي إلى معرفته و محبته محبة عقلية خالصة.
ومن أهم أوجه التماثل بين الغائيتين الفلسفية والدينية ما يتعلق بمسألة الخلاص، باعتباره الغاية التي ينشدها الفيلسوف كما ينشدها المؤمن، غير أن الطريق إلى الخلاص يختلف عند هذا وذاك، فالمؤمن يسعى للخلاص في الآخرة أولاً، سبيله في ذلك التقوى، بينما الفيلسوف يريد الخلاص في الدنيا قبل الآخرة، منهجه في ذلك الفهم والمعرفة وحب الحقيقة. إنهما طريقان مختلفان، قد يجتمعان ويتفقان في الغاية، وقد لا يتفقان إذا اعتبرنا الفرق في معنى الخلاص بما هو الفوز بنعيم الآخرة عند بعضهم، بينما هو السعادة العقلية ومتعة الفهم لدى بعضهم الآخر.
جلال الدين سعيد، سبينوزا والكتاب المقدس، منشورات مؤمنون بلا حدود : بيروت، ٢٠١٧.
▪جلال الدين سعيد
كانت علاقة سبينوزا بالكنيسة علاقة مريبة، تتسم باللطف طوراً، وبالجفاء أطواراً، وهو ما يظهر في كتاباته كما في بعض مراحل حياته الشخصية. وقد كان سبينوزا لا يخفي معاداته لرجال الدين واللاهوتيين المُتملِّقين، وكان لا تنطلي عليه حِيَلهم وألاعيبهم، وما يظهرونه من زهد وطهارة وحياة روحية مثالية. وباستثناء ما قد نألفه لدى المسيح، ولدى عدد من الأنبياء والرجال الصالحين، يخلو التاريخ، أو يكاد من تواتر التجارب الروحية الحقيقية، إذ لا توجد في اعتقاد مؤلِّف "الايتيقا" أية تجربة روحية، عدا تجربة العقل المُحقَّقة وحدها لمتعة الفهم، لكن هل هذا يكفي كي ننفي عن مذهب فيلسوفنا كل بعد روحي ؟
لئن لمحنا في فلسفته الطبيعية عموماً، كما في بعض إشاراته المتفرقة نزعة مادية صريحة، فإن هذه النزعة لا تتنافى مع كل تجربة روحية تتجلى سماتها في معرفة الله ومحبته، معرفة ومحبة عقليتين هما سرّ السعادة و مفتاح النجاة. وقد لا نغالي كثيراً إذا ما نحن تحدثنا عن نزعة روحية لدى سبينوزا، باعتباره يُفكِّر في شروط التحاق الإنسان بالمطلق، وانضمامه إلى الذات الإلهية بفضل الضرب الثالث من ضروب المعرفة ( أي المعرفة الحدسية )، وباعتباره أيضاً يفكر في الشروط التي تسمح للناس بتحقيق ذواتهم، وبالتعايش في كنف مجتمع يحكمه العقل، ولا تتسلط فيه الأهواء. إن فلسفة سبينوزا، من دون أن تتناقض مع النزعة المادية، تفتح المجال لنزعة روحية فريدة من نوعها، إذ تقطع - على خلاف النزعات الروحية المألوفة - مع كل ضروب التعالي ومع كل تصور ثنائي للوجود، وتحصر كينونة الإنسان و اكتماله في معرفة ذاته، وفي وعيه لنفسه وللعالم، كما في إدراك اتحاده بالله. وقد يجوز الحديث أيضاً في مقابل ذلك عن نزعة مادية فريدة من نوعها لدى سبينوزا، من جهة كونه لا يختزل وجود الإنسان في مجرد المادة، بل يميزه عن غيره من سائر الكائنات الطبيعية، ويحدده بما هو كائن مفكر، ويفكر في كيانه، و يعي تفكيره هذا بصورة منعكسة لامتناهية، إلى أن يدرك حقيقة الوجود، ومعنى اتحاده برَّبهِ.
إذاً، يبدو من المُجحِف أن نُجرِّد مذهب سبينوزا من كل مسحة روحية، بل يصدع بعضهم بعدم خلو فكر هذا الفيلسوف من الطابع الديني. وإذ يبقى السؤال مطروحاً عن مدى اصطباغ فكره بالفكر الديني، فإنه من حقنا أن نُفكِّر في بعض أوجه التماثل الموجودة، على الأقل، بين غائيته الفلسفية والغائية الدينية عموماً، ولا سيّما إذا اعتبرنا أن فلسفة سبينوزا إنما تتمثل في الكشف عن دروب الفكر الذي يسعى للاتحاد بالله، أي إلى معرفته و محبته محبة عقلية خالصة.
ومن أهم أوجه التماثل بين الغائيتين الفلسفية والدينية ما يتعلق بمسألة الخلاص، باعتباره الغاية التي ينشدها الفيلسوف كما ينشدها المؤمن، غير أن الطريق إلى الخلاص يختلف عند هذا وذاك، فالمؤمن يسعى للخلاص في الآخرة أولاً، سبيله في ذلك التقوى، بينما الفيلسوف يريد الخلاص في الدنيا قبل الآخرة، منهجه في ذلك الفهم والمعرفة وحب الحقيقة. إنهما طريقان مختلفان، قد يجتمعان ويتفقان في الغاية، وقد لا يتفقان إذا اعتبرنا الفرق في معنى الخلاص بما هو الفوز بنعيم الآخرة عند بعضهم، بينما هو السعادة العقلية ومتعة الفهم لدى بعضهم الآخر.
جلال الدين سعيد، سبينوزا والكتاب المقدس، منشورات مؤمنون بلا حدود : بيروت، ٢٠١٧.
@spinoza_2021
@Newphilosopher
جانب من عبقرية سبينوزا - الفكر والإمتداد
« فرانكو : "فكرتي يا بنتو (سبينوزا) هي أنه إذا كانت الطقوس والشعائر، ونعم، الخرافة أيضاً تتغلغل بعمق في طبيعة البشر ذاتها إذًا ربما كان من الشرعي أن نخلص إلى أننا نحن البشر نحتاج إليها"
سبينوزا: " أنا لا أحتاج إليها. فالأطفال يتطلبون أشياء لا يتطلبها الكبار في السن. وكان الإنسان منذ ألفي سنة يتطلب أشياء لا يتطلبها الإنسان في يومنا هذا. أظن أن سبب الإيمان بالخرافة في جميع هذه الثقافات يكمن في أن الإنسان القديم كان يخاف من نزوات الطبيعة الغامضة وتقلباتها. كان يفتقر إلى المعرفة التي قد تزوده بالشيء الذي يحتاج إليها وهو تفسيرها. وفي تلك الأزمنة القديمة أدرك الإنسان شكلاً واحداً متاحاً من التفسير —العالم الغيبي— وهو الصلاة والصوم وتقديم القرابين إلخ"
"فرانكو :" وما الوظيفة التي يقدمها التفسير ؟"
سبينوزا :" التفاسير تهدئ النفس. تخفف ألم الشك وعدم اليقين. لقد أراد الإنسان القديم أن يستمر في الحياة، كان يخاف من الموت، يقف عاجزاً أمام أشياء كثيرة في بيئته من حوله، ومنحته هذه التفاسير الإحساس، أو على الأقل الوهم بالسيطرة. فقد توصل إلى أنه إذا كان كل ما يحدث ناجماً عن سبب خارق للطبيعة، عندها يمكن إيجاد وسيلة لاسترضاء عالم ما وراء الطبيعة»
____
نص حواري من رواية "مشكلة سبينوزا" للدكتور إرفين د.يالوم
سبينوزا: " أنا لا أحتاج إليها. فالأطفال يتطلبون أشياء لا يتطلبها الكبار في السن. وكان الإنسان منذ ألفي سنة يتطلب أشياء لا يتطلبها الإنسان في يومنا هذا. أظن أن سبب الإيمان بالخرافة في جميع هذه الثقافات يكمن في أن الإنسان القديم كان يخاف من نزوات الطبيعة الغامضة وتقلباتها. كان يفتقر إلى المعرفة التي قد تزوده بالشيء الذي يحتاج إليها وهو تفسيرها. وفي تلك الأزمنة القديمة أدرك الإنسان شكلاً واحداً متاحاً من التفسير —العالم الغيبي— وهو الصلاة والصوم وتقديم القرابين إلخ"
"فرانكو :" وما الوظيفة التي يقدمها التفسير ؟"
سبينوزا :" التفاسير تهدئ النفس. تخفف ألم الشك وعدم اليقين. لقد أراد الإنسان القديم أن يستمر في الحياة، كان يخاف من الموت، يقف عاجزاً أمام أشياء كثيرة في بيئته من حوله، ومنحته هذه التفاسير الإحساس، أو على الأقل الوهم بالسيطرة. فقد توصل إلى أنه إذا كان كل ما يحدث ناجماً عن سبب خارق للطبيعة، عندها يمكن إيجاد وسيلة لاسترضاء عالم ما وراء الطبيعة»
____
نص حواري من رواية "مشكلة سبينوزا" للدكتور إرفين د.يالوم
سبينوزا وشوبنهاور ونيتشه في روايات إرفين يالوم
- مازن الناصر - كاتب سوري
وظّف الروائي الأميركي إرفين يالوم (1931م- ) فنَّ الرواية في تقديم سير ثلاثة أعلام كبار في الفلسفة الحديثة ممّن كان لهم أثرٌ كبيرٌ في الثقافة الأوربية، والفكر الغربي. يعدُّ سبينوزا (1632- 1677م) من أوائل المفكرين الذين بشّروا بالعلمانية، وظهور الدولة السياسية الليبرالية، ومهدوا الطريق إلى التنوير. وقد تركت فلسفة شوبنهاور أثرًا كبيرًا لدى المفكرين والمبدعين الأوربيين في القرن العشرين مثل إميل سيوران (1911 – 1995م) وتوماس برنهارد (1931-1989م) وميلان كونديرا (1929م- ). أما نيتشه (1844- 1900م) فقد أثارت فلسفته جدلًا كبيرًا بين المفكرين المعاصرين حول الحداثة وما بعد الحداثة؛ إذ رأى يورغن هابرماس (1929م) أن فلسفته «تمثل مفترق طرق ما بعد الحداثة»(١) أما جياني فاتيمو (1936م) فقد وضع فلسفته في نهاية الحداثة(٢). شغلت حياة هؤلاء الفلاسفة وسيرهم اهتمام الروائي إرفين يالوم فكتب ثلاث روايات تناولت حياتهم ومواقفهم الفلسفية.
عندما بكى نيتشه
سردَ إرفين يالوم في رواية «عندما بكى نيتشه»، الصادرة سنة 2015م، أحداثًا مهمة من حياة نيتشه، وعرض فيها أفكاره ومواقفه حول القيم الإنسانية والدين والأساطير، وعلاقته بأخته إليزابيث، وحبه للكاتبة والمحللة النفسية لو سالومي (1861 – 1937م) التي عُرِفَت بعلاقاتها مع أبرز مفكري وأدباء القرن التاسع عشر، مثل الشاعر الألماني ريلكه (1875 – 1926م) وفرويد (1856 – 1939م).
عرف نيتشه سالومي عن طريق صديقه بول ري سنة 1882م، وأقام معها علاقة عاطفية ما لبثت أن انتهت بسبب صديقه بول ري، وأخته إليزابيث. وقد استغل الروائي هذه العلاقة ليقدم مادته السردية؛ إذ تبدأ الرواية بحدثٍ متخيّلٍ وهو وصول رسالة من لو سالومي إلى الطبيب جوزيف بروير (1842- 1925م) تطلبُ منه أن تلتقيه لكي تقترح عليه أن يقوم بعلاج نيتشه الذي يعاني اكتئابًا حادًّا. وبعد ذلك، تنشأ علاقة صداقة بين الطبيب ونيتشه تتيح للروائي إمكانية عرض مواقف نيتشه وأفكاره الفلسفية حول الإنسان والحياة والموت والقيم الأخلاقية.
يركّز إرفين يالوم في هذه الرواية على مدة زمنية محددة، وهي الشهور الأخيرة من عام 1882م، ويعود السبب في ذلك إلى أن نيتشه كان في هذه المدة يعاني الاكتئابَ الذي تبدّت آثاره من خلال الرسائل التي أرسلها إلى لو سالومي، ومنها قوله في الرسالة المؤرّخة في كانون الأول 1882م: «سواء أكنتُ أعاني كثيرًا أم لا فهذا أمر غير ذي أهمية مقارنة بالسؤال فيما إذا وجدتِ، عزيزتي لو، أم لم تجدي نفسَكِ مرةً أخرى. فلم أتعامل قط مع شخص مسكين مثلك. جاهلة لكنك سريعة البديهة… لا يُعتمد عليكِ. سيئة السلوك وفظة في أمور الشرف. عقل يدل على شخص فيه روح قطة مفترسة في ثياب حيوان أليف».
علاج شوبنهاور
تناول إرفين يالوم في هذه الرواية الصادرة سنة 2018م حياة الفيلسوف شوبنهاور من خلال مستويين في السرد، تمحور الأول منهما حول أحداث متخيّلة تبدأ بمعرفة الطبيب النفساني جوليوس بإصابته بسرطان في الجلد، ما يعني أن حياته قد اقتربت من نهايتها، وهذا ما يدفعه إلى الاتصال بمريض اسمه سلايت فيليب الذي جاء إليه قبل عشرين سنة ليعالج نفسه من تكريس حياته كلها وطاقته الحيوية لممارسة الجنس. وبعد ثلاث سنوات من بدء العلاج ينقطع فيليب فجأةً عن زيارة الطبيب الذي قرر، بعد معرفة إصابته بالسرطان، أن يتواصل معه مجددًا لكي يعرف إنْ كان قد تخلص من مشكلته أم لا، فيخبره فيليب أنه وجد علاجه في فلسفة شوبنهاور. يوفر هذا الحدث للروائي ذريعة الانتقال إلى المستوى الثاني من السرد الذي يقوم على عرض سيرة الفيلسوف شوبنهاور وحياته منذ ولادته حتى وفاته، مستعرضًا مواقفه، وأفكاره التشاؤمية، محاولًا معرفة مصدر التشاؤم في فلسفته.
مشكلة سبينوزا
يعترف إرفين يالوم في مقدمة هذه الرواية التي صدرت سنة 2019م أنه وجد صعوبة في كتابة قصة تدور حول الفيلسوف الهولندي سبينوزا؛ بسبب قلة المعلومات التي تتحدث عن حياة هذا الفيلسوف، والتي من شأنها أن تساعده في تقديم مادته السردية. ويعود السبب في قلة هذه المعلومات إلى أن رجال الدين اليهودي في هولندا قد أصدروا قرارًا يطردُ سبينوزا من اليهودية، ويفرض على كل اليهود أن ينبذوه، وأن يعرضوا عنه طوال حياته، وألا يكلموه، وألا يقيموا معه علاقة تجارية، وألا يقرؤوا أي كلمة يكتبها؛ لذلك استند الروائي في روايته إلى قصةٍ استمد أحداثها من أفكار سبينوزا وآرائه التي عبر عنها في كتابيه «رسالة في اللاهوت والسياسة» و«الأخلاق»، فضلًا عن الأحداث الواقعية التي وردت في سيرة هذا الفيلسوف، ومنها أن شابين جاءا إلى سبينوزا وتحدثا معه بغية تشجيعه على البوح بأفكاره الهرطقية، ومن ثم ذهبا إلى الحاخام مورتيرا ليقدما وشايتهما.
1
- مازن الناصر - كاتب سوري
وظّف الروائي الأميركي إرفين يالوم (1931م- ) فنَّ الرواية في تقديم سير ثلاثة أعلام كبار في الفلسفة الحديثة ممّن كان لهم أثرٌ كبيرٌ في الثقافة الأوربية، والفكر الغربي. يعدُّ سبينوزا (1632- 1677م) من أوائل المفكرين الذين بشّروا بالعلمانية، وظهور الدولة السياسية الليبرالية، ومهدوا الطريق إلى التنوير. وقد تركت فلسفة شوبنهاور أثرًا كبيرًا لدى المفكرين والمبدعين الأوربيين في القرن العشرين مثل إميل سيوران (1911 – 1995م) وتوماس برنهارد (1931-1989م) وميلان كونديرا (1929م- ). أما نيتشه (1844- 1900م) فقد أثارت فلسفته جدلًا كبيرًا بين المفكرين المعاصرين حول الحداثة وما بعد الحداثة؛ إذ رأى يورغن هابرماس (1929م) أن فلسفته «تمثل مفترق طرق ما بعد الحداثة»(١) أما جياني فاتيمو (1936م) فقد وضع فلسفته في نهاية الحداثة(٢). شغلت حياة هؤلاء الفلاسفة وسيرهم اهتمام الروائي إرفين يالوم فكتب ثلاث روايات تناولت حياتهم ومواقفهم الفلسفية.
عندما بكى نيتشه
سردَ إرفين يالوم في رواية «عندما بكى نيتشه»، الصادرة سنة 2015م، أحداثًا مهمة من حياة نيتشه، وعرض فيها أفكاره ومواقفه حول القيم الإنسانية والدين والأساطير، وعلاقته بأخته إليزابيث، وحبه للكاتبة والمحللة النفسية لو سالومي (1861 – 1937م) التي عُرِفَت بعلاقاتها مع أبرز مفكري وأدباء القرن التاسع عشر، مثل الشاعر الألماني ريلكه (1875 – 1926م) وفرويد (1856 – 1939م).
عرف نيتشه سالومي عن طريق صديقه بول ري سنة 1882م، وأقام معها علاقة عاطفية ما لبثت أن انتهت بسبب صديقه بول ري، وأخته إليزابيث. وقد استغل الروائي هذه العلاقة ليقدم مادته السردية؛ إذ تبدأ الرواية بحدثٍ متخيّلٍ وهو وصول رسالة من لو سالومي إلى الطبيب جوزيف بروير (1842- 1925م) تطلبُ منه أن تلتقيه لكي تقترح عليه أن يقوم بعلاج نيتشه الذي يعاني اكتئابًا حادًّا. وبعد ذلك، تنشأ علاقة صداقة بين الطبيب ونيتشه تتيح للروائي إمكانية عرض مواقف نيتشه وأفكاره الفلسفية حول الإنسان والحياة والموت والقيم الأخلاقية.
يركّز إرفين يالوم في هذه الرواية على مدة زمنية محددة، وهي الشهور الأخيرة من عام 1882م، ويعود السبب في ذلك إلى أن نيتشه كان في هذه المدة يعاني الاكتئابَ الذي تبدّت آثاره من خلال الرسائل التي أرسلها إلى لو سالومي، ومنها قوله في الرسالة المؤرّخة في كانون الأول 1882م: «سواء أكنتُ أعاني كثيرًا أم لا فهذا أمر غير ذي أهمية مقارنة بالسؤال فيما إذا وجدتِ، عزيزتي لو، أم لم تجدي نفسَكِ مرةً أخرى. فلم أتعامل قط مع شخص مسكين مثلك. جاهلة لكنك سريعة البديهة… لا يُعتمد عليكِ. سيئة السلوك وفظة في أمور الشرف. عقل يدل على شخص فيه روح قطة مفترسة في ثياب حيوان أليف».
علاج شوبنهاور
تناول إرفين يالوم في هذه الرواية الصادرة سنة 2018م حياة الفيلسوف شوبنهاور من خلال مستويين في السرد، تمحور الأول منهما حول أحداث متخيّلة تبدأ بمعرفة الطبيب النفساني جوليوس بإصابته بسرطان في الجلد، ما يعني أن حياته قد اقتربت من نهايتها، وهذا ما يدفعه إلى الاتصال بمريض اسمه سلايت فيليب الذي جاء إليه قبل عشرين سنة ليعالج نفسه من تكريس حياته كلها وطاقته الحيوية لممارسة الجنس. وبعد ثلاث سنوات من بدء العلاج ينقطع فيليب فجأةً عن زيارة الطبيب الذي قرر، بعد معرفة إصابته بالسرطان، أن يتواصل معه مجددًا لكي يعرف إنْ كان قد تخلص من مشكلته أم لا، فيخبره فيليب أنه وجد علاجه في فلسفة شوبنهاور. يوفر هذا الحدث للروائي ذريعة الانتقال إلى المستوى الثاني من السرد الذي يقوم على عرض سيرة الفيلسوف شوبنهاور وحياته منذ ولادته حتى وفاته، مستعرضًا مواقفه، وأفكاره التشاؤمية، محاولًا معرفة مصدر التشاؤم في فلسفته.
مشكلة سبينوزا
يعترف إرفين يالوم في مقدمة هذه الرواية التي صدرت سنة 2019م أنه وجد صعوبة في كتابة قصة تدور حول الفيلسوف الهولندي سبينوزا؛ بسبب قلة المعلومات التي تتحدث عن حياة هذا الفيلسوف، والتي من شأنها أن تساعده في تقديم مادته السردية. ويعود السبب في قلة هذه المعلومات إلى أن رجال الدين اليهودي في هولندا قد أصدروا قرارًا يطردُ سبينوزا من اليهودية، ويفرض على كل اليهود أن ينبذوه، وأن يعرضوا عنه طوال حياته، وألا يكلموه، وألا يقيموا معه علاقة تجارية، وألا يقرؤوا أي كلمة يكتبها؛ لذلك استند الروائي في روايته إلى قصةٍ استمد أحداثها من أفكار سبينوزا وآرائه التي عبر عنها في كتابيه «رسالة في اللاهوت والسياسة» و«الأخلاق»، فضلًا عن الأحداث الواقعية التي وردت في سيرة هذا الفيلسوف، ومنها أن شابين جاءا إلى سبينوزا وتحدثا معه بغية تشجيعه على البوح بأفكاره الهرطقية، ومن ثم ذهبا إلى الحاخام مورتيرا ليقدما وشايتهما.
1
وكذلك، استند يالوم إلى تجربته وخبرته في الطب النفسي في بناء قصته، وخصوصًا ما يخص تصوير المشاعر العاطفية لسبينوزا ورد فعله بعد صدور قرار الطرد. ومع ذلك، فإن الروائي لم يكتفِ في روايته بما توافر لديه من وثائق تاريخية، وما اكتسبه من خبرة في مجال الطب النفسي، وما استمده من كتب سبينوزا، وإنما عمد إلى تقديم سيرة ذاتية للمنظر السياسي في الحزب النازي ألفريد روزنبيرغ (1893- 1946م) الذي أُعدمَ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من أن روزنبيرغ لم يعاصر سبينوزا، وأن الأول سياسيٌّ والثاني فيلسوف، فإن يالوم قد وجد في حدث تاريخي ذريعةً للربط بين هاتين الشخصيتين في الرواية؛ إذ أمرَ روزنبيرغ بعد وصول النازيين إلى هولندا بنهب جميع محتويات متحف سبينوزا، ونقلها إلى مكانٍ بعيد. يفسر يالوم هذا الحدث التاريخي بأن روزنبيرغ أراد أن يكتشف مشكلة سبينوزا. وعلى هذا الأساس، قدّم إرفين يالوم في رواية مشكلة سبينوزا سيرتين لشخصيتين متناقضتين بوصفهما تجسيدًا للصراع بين الخير والشر.
تروي هذه الروايات الثلاث سير سبينوزا، وشوبنهاور، ونيتشه، إلا أن ذلك لا يعني أن شخصية الروائي لم تظهر فيما سرده من أحداث ووقائع؛ إذ يمكن لقارئ رواية «عندما بكى نيتشه» أن يستشف تعاطف الراوي مع نيتشه ولا سيما في سياق الحديث عن علاقة الأخير بلو سالومي، وفي رواية علاج شوبنهاور لا بد للقارئ أن يدرك رفض يالوم تشاؤم شوبنهاور، ومواقفه حول الحياة الإنسانية، وهذا ما تجلى في نهاية الرواية من خلال شخصية فيليب، أما في رواية مشكلة سبينوزا فإن إعجاب يالوم بأفكار سبينوزا وفلسفته لا يخفى على قارئها.
إن هذه الروايات من شأنها أن تقدّم مادةً علميةً تمكّن القارئ من معرفة آراء هؤلاء الفلاسفة ومواقفهم وأفكارهم الفلسفية وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية، وأوضاع حياتهم التي أسهمت في تكوين فلسفاتهم، فضلًا عما توفّره من متعةٍ منبثقةٍ من خصوصية الجنس الروائي وتميّزه مِن غيره من الأجناس الأدبية، ولا سيما قدرته على استيعاب ما لا يمكن أن يستوعبه جنسٌ أدبي آخر.
المراجع:
(١) يورغن هابرماس: القول الفلسفي في الحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1995م، ص137.
(٢) جياني فاتيمو: نهاية الحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1998م، ص184.
(٣) إرفين يالوم: عندما بكى نيتشه، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، 2015م.
(٤) إرفين يالوم: علاج شوبنهاور، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، 2018م.
(٥) إرفين يالوم: مشكلة سبينوزا، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، 2019م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مجلة الفيصل - يوليو 2022
2
وعلى الرغم من أن روزنبيرغ لم يعاصر سبينوزا، وأن الأول سياسيٌّ والثاني فيلسوف، فإن يالوم قد وجد في حدث تاريخي ذريعةً للربط بين هاتين الشخصيتين في الرواية؛ إذ أمرَ روزنبيرغ بعد وصول النازيين إلى هولندا بنهب جميع محتويات متحف سبينوزا، ونقلها إلى مكانٍ بعيد. يفسر يالوم هذا الحدث التاريخي بأن روزنبيرغ أراد أن يكتشف مشكلة سبينوزا. وعلى هذا الأساس، قدّم إرفين يالوم في رواية مشكلة سبينوزا سيرتين لشخصيتين متناقضتين بوصفهما تجسيدًا للصراع بين الخير والشر.
تروي هذه الروايات الثلاث سير سبينوزا، وشوبنهاور، ونيتشه، إلا أن ذلك لا يعني أن شخصية الروائي لم تظهر فيما سرده من أحداث ووقائع؛ إذ يمكن لقارئ رواية «عندما بكى نيتشه» أن يستشف تعاطف الراوي مع نيتشه ولا سيما في سياق الحديث عن علاقة الأخير بلو سالومي، وفي رواية علاج شوبنهاور لا بد للقارئ أن يدرك رفض يالوم تشاؤم شوبنهاور، ومواقفه حول الحياة الإنسانية، وهذا ما تجلى في نهاية الرواية من خلال شخصية فيليب، أما في رواية مشكلة سبينوزا فإن إعجاب يالوم بأفكار سبينوزا وفلسفته لا يخفى على قارئها.
إن هذه الروايات من شأنها أن تقدّم مادةً علميةً تمكّن القارئ من معرفة آراء هؤلاء الفلاسفة ومواقفهم وأفكارهم الفلسفية وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية، وأوضاع حياتهم التي أسهمت في تكوين فلسفاتهم، فضلًا عما توفّره من متعةٍ منبثقةٍ من خصوصية الجنس الروائي وتميّزه مِن غيره من الأجناس الأدبية، ولا سيما قدرته على استيعاب ما لا يمكن أن يستوعبه جنسٌ أدبي آخر.
المراجع:
(١) يورغن هابرماس: القول الفلسفي في الحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1995م، ص137.
(٢) جياني فاتيمو: نهاية الحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1998م، ص184.
(٣) إرفين يالوم: عندما بكى نيتشه، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، 2015م.
(٤) إرفين يالوم: علاج شوبنهاور، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، 2018م.
(٥) إرفين يالوم: مشكلة سبينوزا، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، 2019م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مجلة الفيصل - يوليو 2022
2
«ليس للطبيعة أي غاية محددة مسبقاً وكل العلل الغائية لا تعدو أن تكون سوى أوهام بشرية.
فكل ما في الطبيعة إنما يحدث وفق ضرورة أزلية وبغاية الكمال، إذ أن المذهب الغائي يقلب الطبيعة رأساً على عقب، إذ يعتبر معلولاً ما هو في الواقع علة، والعكس بالعكس، ثم إنه يحط بالشيء الرفيع والكامل إلى أدني درجات النقص والعيب»
باروخ اسبينوزا
من كتاب الإتيقا "علم الأخلاق" الباب الأول
تعليق :
يمكن الإشارة إلى نقطتين مهمتين للغاية فيما كتبه سبينوزا هنا :
١) يقول سبينوزا "كل شيء في الطبيعة ينتج عن ضرورة أزلية وكمال تام" ويعني أنه إذا كان الله ، أي الجوهر ، ينتج وفق ضرورة طبيعته الكاملة، فمن الخطأ إدخال قصد أو إرادة أو مشيئة في فعله وفي عملية إنتاج الأشياء. فالضرورة تقصى الغائية
٢) يقول سبينوزا أيضاً "مذهب الغائية يقلب الطبيعة قلباً" لنعطي مثال لتوضيح ما يقصده سبينوزا : أغلب البشر يعتقدون أن أعضاء الجسم تكونت بقصد لنستعملها ، ولكن هذا قلب للطبيعة لأن الحقيقة أننا نقوم بإستعمال الأعضاء التي تشكلت بالفعل ، لأن الطبيعة لم يكن لها غاية في تشكيل أي جسم كائن حي بل نحن نستعمل ما تشكّل بالفعل وبهذا لا نقلب الطبيعة ولا نجعل العلة معلول أو العكس. وهذه النقطة أتفق فيها مع سبينوزا الفيلسوف كارل ماركس ومن قبل سبينوزا الفيلسوف الأبيقوري لوكراتوس
فكل ما في الطبيعة إنما يحدث وفق ضرورة أزلية وبغاية الكمال، إذ أن المذهب الغائي يقلب الطبيعة رأساً على عقب، إذ يعتبر معلولاً ما هو في الواقع علة، والعكس بالعكس، ثم إنه يحط بالشيء الرفيع والكامل إلى أدني درجات النقص والعيب»
باروخ اسبينوزا
من كتاب الإتيقا "علم الأخلاق" الباب الأول
تعليق :
يمكن الإشارة إلى نقطتين مهمتين للغاية فيما كتبه سبينوزا هنا :
١) يقول سبينوزا "كل شيء في الطبيعة ينتج عن ضرورة أزلية وكمال تام" ويعني أنه إذا كان الله ، أي الجوهر ، ينتج وفق ضرورة طبيعته الكاملة، فمن الخطأ إدخال قصد أو إرادة أو مشيئة في فعله وفي عملية إنتاج الأشياء. فالضرورة تقصى الغائية
٢) يقول سبينوزا أيضاً "مذهب الغائية يقلب الطبيعة قلباً" لنعطي مثال لتوضيح ما يقصده سبينوزا : أغلب البشر يعتقدون أن أعضاء الجسم تكونت بقصد لنستعملها ، ولكن هذا قلب للطبيعة لأن الحقيقة أننا نقوم بإستعمال الأعضاء التي تشكلت بالفعل ، لأن الطبيعة لم يكن لها غاية في تشكيل أي جسم كائن حي بل نحن نستعمل ما تشكّل بالفعل وبهذا لا نقلب الطبيعة ولا نجعل العلة معلول أو العكس. وهذه النقطة أتفق فيها مع سبينوزا الفيلسوف كارل ماركس ومن قبل سبينوزا الفيلسوف الأبيقوري لوكراتوس
"كلما عشت حياتك بأسلوبك أكثر سينبذك الأغبياء ويحاربك المجتمع أكثر، لكن في النهاية ستجد أجمل مافي الحياة، ستجد نفسك."
- سبينوزا
- سبينوزا
إن أكثر صروف الدهر تواتراً في حياة الإنسان؛ إنما هي في معظمها تافهة باطلة
_سبينوزا | إصلاح العقل
_سبينوزا | إصلاح العقل
الإنسان العاقل، لا يمارس الخير من أجل ما قد يجلبه من نتائج، لأن مكافأة الفضيلة هي الفضيلة ذاتها.
- سبينوزا
- سبينوزا
" الحرية لا تمثل خطراً على التقوى أو على سلامة الدولة، بل إن القضاء على الحرية يؤدي إلى ضياع التقوى وسلامة الدولة معاً"
_ باروخ سبينوزا
_ باروخ سبينوزا
"الإيمان لا يتطلب عقائد صحيحة، بل عقائد تؤدي بالضرورة إلى الطاعة والخضوع"
—باروخ سبينوزا
كتاب"رسالة في اللاهوت والسياسة"
—باروخ سبينوزا
كتاب"رسالة في اللاهوت والسياسة"