Telegram Web Link
في حوار له مع الفيلسوف الإسباني «فرناندو سافاتر – F. Savater»، قال «سيوران» في لحظة من اللحظات: «ربّما كنت سأصبح قاتلاً، لو لم أكتب». الكتابة، عنده مسألة حياة أو موت. الوجود الإنساني، في جوهره، كرب ويأس لانهاية لهما، والكتابة قد تجعل الإنسان يطيق ذلك بشكل أكبر. «الكتابة انتحار مؤجل»، يقول «سيوران».

كتب «سيوران» لينقذ نفسه من الموت مراراً وتكراراً. ألَّف كتابه الأوّل «على قمم اليأس» (1934)، وهو في الثالثة والعشرين، في غضون أسابيع قليلة، وهو يعاني من نوبة أرق مروِّعة. وقد شكَّل هذا الكتاب – والذي يعتبر واحداً من أجمل ما كتبه باللُّغتَيْن؛ الرومانية، والفرنسية – بداية الارتباط القوي والحميم في حياته ما بين الكتابة والأرق: «لم أتمكَّن يوماً من الكتابة إلّا في أتون الاكتئاب الذي أدخلتني فيه ليالي الأرق. ظللت سبع سنوات لا أكاد أنام. أحتاج لهذا الاكتئاب، ولا زلت، إلى اليوم، أستمع، قبل أن أشرع في الكتابة، إلى موسيقى الغجر [الحزينة] من المجر».

وكون «سيوران» مفكِّراً غير منهجيّ، لا يعني أن عمله يفتقر إلى الانسجام، بل -على العكس من ذلك- إنه يجعله منسجماً؛ ليس من خلال أسلوبه الفريد في الكتابة وطريقة تفكيره، فحسب، بل من خلال مجموعة متميّزة من المواضيع الفلسفية، والمواضيع العامّة والخاصيّات، أيضاً. ويحتلّ الفشل، بين هذه المواضيع، مكانة بارزة. كان «سيوران» مهووساً بالفشل: شبحه يخيِّم على أعماله، بدءاً من كتابه الأوَّل باللّغة الرومانية، ثم لم يحِد، بعد ذلك، عن جادّة الفشل طوال حياته: لقد درسه من زوايا متنوّعة، وفي لحظات مختلفة، كما يفعل الخبراء الحقيقيّون، وبحث عنه في الأماكن التي لا نتوقّع وجوده فيها، أبداً. اعتقد «سيوران» أن الفشل قد لا يكون مآل الأفراد، فحسب، بل هو مآل المجتمعات، والشعوب والدول، أيضاً. إنه مآل الدول؛ على الخصوص. […].

يصيب الفشل كلّ شيء. قد تصبح الأفكار العظيمة موصومة بالفشل، وكذلك الكتب، والفلسفات، والمؤسَّسات، والأنظمة السياسية. حتى الوضع الإنساني نفسه، يراه «سيوران» مشروعاً فاشلاً. «لم أعد أرغب في أن أكون رجلاً»، كتب في «معضلة الميلاد» (1973). إنه «يحلم بشكل آخر من الفشل». الكون عبارة عن فشل كبير، وكذلك هي الحياة نفسها. وهو يقول: «الحياة، وقبل أن تكون خطأً جوهرياً، فشل في الذوق، لا ينجح الموت، ولا حتى الشعر في تصحيحه». […].

لأنه كان يعرفه عن كثب، كان بمقدور «سيوران» أن يتحدَّث عن الفشل جيِّداً؛ فقد شارك، في شبابه، في مشاريع سياسية كارثية (وهو أمر ندم عليه طول حياته)، وغيَّر بلدان إقامته ولغاته، واضطرَّ إلى إعادة بناء كلّ شيء من الصفر. كان منفيّاً على الدوام، وعاش حياة هامشية، ولم يحصل على عمل إلّا في حالات نادرة، فعاش على عتبة الفقر. من المؤكَّد أنه قد ألِفَ الفشل ألفةً كبيرة، بل أصبح يميل إليه. كان يعرف كيف يقدّر الحالة الجديرة بالفشل، وكيف يراقب تطوُّرها، ويتذوَّق تعقيدها؛ فالفشل فريد من نوعه: الناجحون يبدون، دائماً، متشابهين. أمّا الفاشلون فيختلفون في طرق فشلهم. كلّ حالة من حالات الفشل تتَّسم بملامح وجمال خاصَّيْن، ويتطلَّب الأمر خبيراً بارعاً مثل «سيوران»، ليميّز ما بين فشل يبدو عادياً، لكنه في الواقع كبير، وبين فشل صاخب، لكنه عاديّ.

2
كان أوَّل لقاء له مع الفشل، في وطنه، بين مواطنيه الرومانيّين. ولد «سيوران» ونشأ في «ترانسيلفانيا»، وهي إقليم كان، لفترة طويلة، جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وفي عام (1918)، أصبح جزءاً من المملكة الرومانية. وإلى حدود اليوم لا يزال سكّان «ترانسيلفانيا» يظهرون أخلاقيّات عمل قويّة، ويقدِّرون الجدِّيّة، والانضباط وضبط النفس غاية التقدير. وعندما التحق «سيوران» بالجامعة في «بوخارست»، العاصمة الجنوبية للبلاد، ولج عالماً ثقافياً جديداً عليه، تماماً. هناك، كانت المهارات التي يتطلّبها الفوز مختلفة: فن عدم القيام بأيّ شيء، والسفسطة (من المرح قليلاً إلى السخرية الصريحة) التي تفوق الاستقامة الفكرية، واتِّخاذ التسويف مهنة، واشتغال الطالب بإضاعة حياته. ولمّا كان «سيوران» طالباً جامعياً في شعبة الفلسفة، احتكَّ ببعض أفضل المشتغلين بالفلسفة في «بوخارست»، وقد نال المزيج من التألُّق الفكري، والشعور اللافت بالفشل الشخصي الذي يظهره بعضهم، وإعجابه الدائم وغير المشروط بهم: «التقيت في «بوخارست» بالعديد من الأشخاص، العديد من الأشخاص المهمِّين، والخاسرين، وعلى الخصوص، الذين كانوا يحضرون إلى المقهى ويتحدَّثون بشكل مطوَّل جدّاً، ولا يفعلون أي شيء. يجب أن أقول إن هؤلاء كانوا، بالنسبة إليّ، أكثر الناس المهمِّين هناك. أشخاص لم يفعلوا أي شي طوال حياتهم، لكنهم كانوا متألِّقين».

ظلّ «سيوران» بقيَّة حياته مديناً- سرّاً- لأرض الفشل تلك التي كانت هي بلاده؛ وحقَّ له أن يظلّ كذلك. فالرومانيون تربطهم علاقة فريدة من نوعها بالفشل؛ وكما يمتلك الإسكيمو عدداً لا يحصى من الكلمات الدالّة على الثلج، يبدو أن اللغة الرومانية لها القدر نفسه من الكلمات المرتبطة بالفشل. وإحدى العبارات الشائع استخدامها، في اللغة الرومانية، يعتزّ بها «سيوران»، هي (n-a fost sǎ fie) (تعني: «لم يكن الأمر ليكون»، وتكتسي مسحة جبريّة قويّة). هذا البلد منجم ذهب، بحقّ.

كان «سيوران» معروفاً بكرهه للبشر، وإن كان هناك نوع بشري واحد يتفهَّمه ويتعاطف معه، فهو نوع الإنسان الفاشل. في عام (1941)، وكان وقتها مقيماً في «باريس»، اعترف لصديق روماني قائلاً: «أودّ أن أكتب كتاباً أسمّيه «فلسفة الفشل»، وأضع له عنواناً فرعياً هو: يُستخدَم – حصرياً- من طرف الشعب الروماني، ولكن لا أظنّ أنني سأستطيع فعل ذلك». كلّما تذكَّر «سيوران» أيّام شبابه، تذكَّر، بمزيج من الانجذاب والحنان والإعجاب، الخاسرين الكبار، ومشهد الفشل اللامتناهي الذي قابله في «بوخارست». لا شكّ في أن المشهد الأدبي للبلاد، قد اجتذبه حين كان كاتباً ناشئاً، ولكن ليس بقدر ما اجتذبه مشهد الفشل: «لم يكن أعز أصدقائي، في رومانيا، من الكتّاب، بل من الفاشلين».

3
كان أستاذ الفلسفة، في جامعة «بوخارست»، «ناي يونيسكو» (1890 – 1940)، والذي كان له التأثير الحاسم على «سيوران» الشابّ، فاشلاً فشلاً ذريعاً وفق المعايير المعتادة. لم ينشر أيّ كتاب، وغالباً ما كان ينتحل محاضراته أو يرتجلها، على الفور، يتغيَّب، أحياناً، عن الفصول الدراسية لأنه «لم يكن لديه ما يقوله». كان كسله أسطورة. وبغضّ النظر عن هذا، كان «يونيسكو» أحد أكثر نوابغ جيله – كان «عبقريّاً»، بحسب قول العديد من الذين عايشوه، بشكل مباشر، بل إنه طوَّر نظرية صغيرة عن الفشل (فَضَّلَ- وهو أمر صائب- عدم نشرها).

ومع ذلك، لم يكتفِ «سيوران» بمراقبة الفشل عن بعد، فقد شرع في ممارسته في وقت مبكِّر، وفعل ذلك بأسلوب أنيق. في عام (1933)، بعد تخرُّجه في الجامعة، مباشرةً حصل على منحة الدراسات العليا (طالب زائر من جامعة «فريدريش فيلهلم» في «برلين». وما إن وصل إلى ألمانيا، حتى وقع في حبّ النظام النازي الحديث النشأة. في نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام، كتب إلى صديقه «ميرسيا إلياد»: «أنا مفتون تماماً بالنظام السياسي الذي أقاموه هنا». وجد «سيوران»، في (ألمانيا هتلر)، كلّ ما لم يجده في «رومانيا» التي كانت لا تزال دولة ديموقراطية، نسبيّاً. كانت «ألمانيا» تعيش حالة من الهستيريا السياسية، والتعبئة الجماهيرية، وقد اعتقد «سيوران» أن ذلك أمر جيّد؛ لقد أعطى النظام النازي، للألمان، إحساساً بـأن لهم «رسالة تاريخية»، وهو شيء لن تقوم ديموقراطية «رومانيا»، أبداً، بتقديمه لشعبها. وبينما كان آخرون يرون مقدّمات حدوث كارثة ذات أبعاد تاريخية في «ألمانيا»، في ذلك الوقت، لم يرَ «سيوران» سوى وعد، وعظمة تاريخية. وما الذي جعل «هتلر»- بالتحديد- عظيماً؟ أجاب «سيوران» بأنها قدرته على إثارة «الدوافع اللاعقلانية» للشعب الألماني، محاولاً أن يبدو كأنه مراقب موضوعي. وما كاد يبلغ الثانية والعشرين من العمر حتى كان يمارس الفشل، بكلّ جدية.

4
بحلول خريف عام (1933)، كان «سيوران»، بالفعل، نجماً صاعداً بسرعة في الأدب الروماني، فقد ساهم، وهو، بعدُ، طالبٌ جامعي، بعدد قليل من المقالات الأصيلة اللافتة للنظر في بعض المنابر الأدبية، في بلاده، وأصبحت الدوريات تريد المزيد من مقالاته. أرادوا منه، بشكل خاصّ، تغطية المشهد السياسي الألماني. في رسالة أرسلها إلى جريدة «ﭬريميا» الأسبوعية في (ديسمبر، 1933) كتب «سيوران»، بكلّ جرأة: «إذا أحببت شيئاً عن الهتلريّة فهو عبادة اللاعقلاني، والابتهاج بالقدرة الخالصة على الحياة، والتعبير الرجولي عن القوّة، دون أيّ روح نقدية، أو كبت، أو تحكُّم». وبإفراطه في استخدام كليشيهات يحبها أعداء الديموقراطية الليبرالية في كلّ مكان، يبدي «سيوران»، هنا، شفقته على أوروبا […] مقابل ألمانيا «الرجولية»، بكلّ فخر، التي تعجّ بالعضلات، والضوضاء، والغضب. «هتلر»، هو الرجل الذي يشغل منصب المسؤولية بشكل بارز، و«سيوران» معجب به. بعد عدّة أشهر (يوليو، 1934)، وفي رسالة أخرى إلى الدورية نفسها، لم يخجل، على الإطلاق، من التعبير عن إعجابه الشديد بذلك الرجل الشجاع: «من بين كلّ السياسيّين، اليوم، «هتلر» هو الذي يحظى بحبّي وإعجابي أكثر». ولكن الأسوأ لم يأتِ بعد.

5
[…] يبدو أن فكرة غريبة قد تفتَّقت في ذهن «سيوران»؛ مفادها أنه لا يمكنه فصل قيمته الشخصية عن المزايا التاريخية للمجتمع القومي الذي ينتمي إليه. ثم، عند قياس قيمة هذا المجتمع، وجدها دون المستوى، وبشكل كبير. يعتقد «سيوران» أن «رومانيا» «أمّة فاشلة» تاريخياً، وفشلها هذا سينسحب -ولا شكّ- على جميع الرومانيين. الحقيقة هي (وكأن هذا لم يكن سيِّئاً بما فيه الكفاية) أن الانسحاب ليس خياراً جيّداً، ما دام «انفصال المرء عن أمّته يؤدّي إلى الفشل»، فهو يفشل داخل الأمّة، ولكنه يفشل أكثر خارجها. هكذا، تمكِّن «سيوران»، في سنّ مبكِّرة، نسبيّاً، من حشر نفسه في مأزق وجودي جدِّي. وكونه هو من تسبَّب في هذه الدراما، إلى حدٍّ كبير، فهذا لا يجعلها أَقلّ إيلاماً؛ بل- على العكس من ذلك- هذا الشيء سيجرحه، ويؤثِّر في عمله بشكل كبير. قد تكون ممارسة الفشل عملاً دمويّاً.

هذه الدراما – «دراما التفاهة» كما سيسمِّيها «سيوران»، لاحقاً -هي التي تكمن وراء الكتاب الذي نشره بعد فترة وجيزة من عودته من ألمانيا: «تغيير وجه رومانيا» (1936). […] لكن «سيوران» شديد التناقض مع نفسه، ففي مكان آخر من الكتاب، نجده «يحبّ ماضي رومانيا بكراهيّة شديدة»، وهو يحلم بأن يكون لها مستقبل زاهر. إنه يحلم بأن تكون «رومانيا تضاهي الصين من حيث عدد السكّان، ويكون قدَرُها كقدَر فرنسا». البلد جميل – وكلّ ما يحتاجه، فقط، هو دفعة، هنا، ودفعة هناك؛ وما يحتاجه في المقام الأوَّل هو «دفعة» نحو التاريخ. لا يقول لنا «سيوران» ما يعنيه هذا، بالضبط، لكنه يلمِّح، عندما يؤكِّد أن كلّ ما يستطيع فَعَله هو أن «يحبّ رومانيا وهو في حالة هذيان». ولتحقيق مثل هذه الغايات السامية، تصبح كلّ الوسائل مشروعة، أليس كذلك؟ و«سيوران» نفسه يقول: «كلّ الوسائل مشروعة لشعب يفتح أمام نفسه طريقاً في هذا العالم.[…].

في غضون بضع سنوات، عندما تمكَّنت الحركة الفاشية، في «رومانيا»، الحارسة الحديدية العنيفة لمعاداة الساميّة، من الوصول إلى السلطة التي مكثت فيها بضعة أشهر في أواخر عام (1940)، أيَّدها «سيوران»، وإن كان قد فعل ذلك بطريقته الغامضة. «رومانيا في حالة هذيان»، التي كان يحلم بها، بدأت تتشكَّل أخيراً، وقد كان منظرها قبيحاً: تَمَّ تعقُّب اليهود الرومانيين، وقَتْلهم بدم بارد، وتمَّ نهب ممتلكاتهم وحرق بيوتهم، بينما تعرَّض غير اليهود من السكّان، لغسيل دماغ وحشي، قوامه الأصولية الدينية. في ذلك الوقت، كان «سيوران» قد استقرَّ في «فرنسا»، حيث أعاد اكتشاف نفسه من خلال لغة أخرى، في أثناء عودته في رحلة قصيرة إلى الوطن ألقى كلمة مساهمةً منه في إحياء ذكرى الزعيم المؤسِّس للحركة «كورنيليو زيليا كودريانو -Corneliu Zelea Codreanu»- (المسمّى «الكابتن»: 1899 – 1938) […]. كان هذا «القبطان» يتميَّز، من بين أمور أخرى، بمعاداة مسعورة للساميّة. فقد دعا، علانيةً، إلى الاغتيال السياسي، وكان هو نفسه قاتلاً سياسيّاً. على خلفية ثقافة ديموقراطية هشّة، في رومانيا، ما بين الحربَيْن العالميَّتَيْن، دفع «كودريانو» البلاد، بشكل منفرد، مدعوماً بكاريزما شخصية وانعدام الوازع الأخلاقي، إلى الفوضى في ثلاثينيّات القرن الماضي. وها نحن نرى «سيوران» يمدحه!.

6
في مجال الفشل لا يمكن لأي مفكِّر – حتى ولو كان معروفاً بكونه غير مسؤول مثل «سيوران» الشابّ – أن ينحدر ​​إلى أدنى من هذا المستوى. هل تتساءلون عمّا أصابه، مثلما تساءل أصدقاؤه الديموقراطيون في ذلك الوقت؟ في السنوات التي تلت ذلك، أصبح ذلك السؤال يطرح نفسه على «سيوران»، بإلحاح يصيبه بالإحباط. عندما وُوجه، لأوَّل مرّة، بفظاعة موقفه السياسي المؤيِّد للفاشيّة، بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب، كاد ألّا يتعرَّف إلى نفسه من خلال كتابه «تغيير وجه رومانيا»، وكتاباته الصحافية السياسية. لقد أيقظته، فجأةً، أهوال الحرب، وفظاعة الهولوكوست، الذي هلك فيه بعض أصدقائه اليهود؛ لا شكّ في أن تلك النصوص قد بدت له، حينها، كالكوابيس، ثم فعل فيه الزمن فعله، فجعله يرى الأشياء بشكل أكثر وضوحاً. في عام (1973) كتب في رسالة إلى أخيه: «أحياناً، أسأل نفسي عمّا إذا كنت حقّاً أنا مَنْ كَتَب هذا الهذيان الذي يقتبسونه. الحماس شكل من أشكال الهذيان. لقد أُصبنا بهذا المرض ذات مرّة، لكن لا أحد يريد أن يصدق أننا قد شفينا منه». في نصّ صغير صدر بعد وفاته، تحت عنوان «بلادي» (1996)، يشير «سيوران» إلى محتويات كتاب «تغيير وجه رومانيا» بأنها «هذيان مجنون متوحِّش». هذه (ونقوله ذلك بشكل عابر) هي نتيجة الممارسة المكثَّفة للفشل: تجلب شخصاً آخر إلى العالم قبل أن تدرك ذلك. تبحث عن نفسك أمام المرآة، ذات يوم، فتكتشف هناك شخصاً آخر يحدِّق فيك.

ليس من السهل، أبداً، تحديد مجال اشتغال «سيوران»، وعندما يتعلَّق الأمر بماضيه السياسي يكون الأمر شبه مستحيل. وممّا لا يساعدنا على ذلك، بعيداً عن الإشارات الغامضة إلى «الهذيان» و«حماس» الشباب، رَفْضُ «سيوران»، في مرحلة ما بعد الشباب، أن يتطرَّق إلى «تلك السنوات». وهو يفعل ذلك لسبب وجيه؛ فهو يدرك جيّداً ما تنطوي عليه. فالفشل يكره السفر بمفرده: وهو عادةً ما يفضل أن يرافقه العار. في رسالة أخرى إلى شقيقه، يقول «سيوران»: «الكاتب الذي ارتكب بعض الحماقات في شبابه، في بداياته، يكون أشبه بامرأة لها ماض مشين. لا يُغفَر له ذلك أبداً، ولا يتمّ نسيانه أبداً». وقد ظلّ انخراطه السياسي في «رومانيا»، ما بين الحربَيْن العالميَّتَيْن، أكبر عار، وأخطر فشل مدمّر، يلاحقه إلى آخر أيّامه. وقد فشلت كلّ الأمور الأخرى بالمقارنة مع ذلك.

لنلْقِ لمحة أخرى على طريقة «سيوران» الغريبة في التفكير السياسي، في رسالة أرسلها إلى «ميرسيا إلياد» في عام (1935) يقول فيها: «صيغتي لكلّ الأشياء السياسية هي كالآتي: قاتلْ بكلّ تفانٍ من أجل الأشياء التي لا تؤمن بها». لا يعني هذا أن مثل هذا الاعتراف يسلِّط الكثير من الضوء على انخراط «سيوران»، بل يضع «هذيانه» ضمن منظور نفسي معيَّن. لقد تميَّز «سيوران»، لاحقاً، بهذا الانقسام في الشخصية، وإنه لمن المنطقي، بالنسبة إلى الفيلسوف الذي يرى العالم على أنه فشل كبير الأبعاد، أن يسخر من النظام الكوني (ومن نفسه في إطار هذه العملية) من خلال الادِّعاء بأن هناك معنى حيث لا يوجد أيّ معنى.[…].

7
عندما عاد «سيوران» من «ألمانيا» عام (1936)، قضى فترة قصيرة يُدَرِّس الفلسفة في مدرسة ثانوية في «براشوف»، وسط رومانيا. كان هذا، أيضاً، فشلاً ذريعاً، وهي آخر محاولة قام بها للاحتفاظ بوظيفة قارّة. في أثناء درس المنطق، مثلاً، كان «سيوران» يقول لطلاب المستوى الثانوي إن كلّ شيء في الكون مريض مرضاً لا يرجى له علاج، بما في ذلك مبدأ الهويّة. عندما سأله أحد التلاميذ، ذات مرّة: «ما الأخلاق، يا أستاذ؟» أجابه «سيوران» بأن طلب منه ألّا يقلق، لأنه لا يوجد شيء اسمه الأخلاق. كان تلاميذ الأقسام التي يدرِّسها في حالة فوضى دائمة، وكان التلاميذ في حيرة من أمر هذا الأستاذ البغيض، مثلهم في ذلك مثل زملائه.

في عام (1937)، قرَّر مغادرة «رومانيا» مرّة أخرى، وقد اعتبر هذا القرار «أذكى قرار» اتَّخذه في حياته. كان أوَّل بلد اختاره هو «إسبانيا»، حيث تقدَّم بطلب للحصول على زمالة في السفارة الإسبانية في «بوخارست»، شهرين، فقط، قبيل اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يتوصَّل بأيّ جواب قطّ. ثم قرَّر أن «باريس» هي المكان المناسب لشخص في مستوى تطلُّعاته: «قبل الحرب، كانت باريس هي المكان المثالي لأن يحيا المرء حياة فاشلة، وكان الرومانيون، على وجه الخصوص، معروفين بذلك».

قطع «سيوران» أواصره مع «رومانيا»، وتبنّى وجوداً جديداً، كما أنه أطلق على نفسه اسماً جديداً: «إي إم سيوران»». في وقت ما، أخذ يكتب ويتحدَّث، طول الوقت، تقريباً، باللّغة الفرنسية (كان يستخدم اللغة الرومانية للشتم فقط، وهو يعتبر أن ما يوجد في الفرنسية من عبارات الشتم لا يشفي الغليل). جاء «سيوران» إلى «باريس» بعد حصوله على منحة للدراسات العليا؛ وكان من المفترض أن يحضُر دروساً في جامعة السوربون، وينجز أطروحة دكتوراه حول موضوع فلسفي. وقد كان يعلم جيّداً، عندما تقدَّم بطلب الحصول على المنحة، أنه لن يكتب تلك الأطروحة أبداً. لقد تحقَّق له، أخيراً، ما كان يسعى إليه: أن يعيش كطفيلي! كلّ ما احتاجه ليعيش بأمان، في فرنسا، هو بطاقة الطالب، والتي كانت تمكِّنه من دخول مقاهي الجامعة الرخيصة. كان بوسعه أن يعيش على ذلك النحو، إلى الأبد. وهذا ما فعله لبعض الوقت، على الأَقلّ: «في الأربعين من عمري، كنت لا أزال مسجّلاً في جامعة السوربون، كنت أتناول الطعام في كافتيريا الطلاب، وكنت آمل أن يستمرّ هذا حتى آخر أيّامي. ثم صدر قانون يمنع الطلّاب الذين يتحاوزون السابعة والعشرين عاماً من التسجيل في الجامعة، فتمَّ إخراجي من ذلك النعيم».

8
بعد إخراجه من نعيم الطفيليّات، كان عليه ممارسة بعض المهن الغريبة. وكان بعض أصدقائه الرومانيِّين الميسورين، (مثل «يونيسكو») يساعدونه، أحياناً، وفي أحيان أخرى، كان يعوّل على لطف الغرباء. وقد أثبت أنه مرن إلى حدٍّ كبير، مبقياً كرهه للبشر تحت السيطرة؛ وهكذا، يصادق أيّ شخص يعرض عليه إمكانية تناول العشاء مجّاناً. وهذا هو ما جعله يتعرَّف، جيّداً، إلى عجائز «باريس». كان التكوين الصارم الذي تلقّاه في الفلسفة مفيداً له؛ إنه يُمْتِعُ من يدعوه للعشاء بمحادثته الرائعة، ويغنّي له. ثم كانت هناك الكنيسة في «باريس»: كلّما سنحت له الفرصة، كان يزور، بكلّ سرور، الكنيسة الأرثوذكسية الرومانية، ويتحيَّن الفرص لتناول الطعام مجّاناً.

قد يقوم «سيوران» بأيّ شيء ما عدا تولّي وظيفة؛ فتولِّيه الوظيفة سيكون أكبر فشل في حياته. يتذكَّر «سيوران»، وقد تقدَّم به العمر، فيقول: « كان الشيء الرئيسي، بالنسبة إليّ، هو حماية حرِّيّتي. ولو قبلت، يوماً، أن أصبح موظّفاً في مكتب، لكسب لقمة العيش، لفشلت». ولكي لا يفشل، اختار مساراً قد يعتبره أغلب الناس هو الفشل بعينه، لكنه كان يعلم أن الفشل يكون أمراً معقَّداً، على الدوام: «لقد تجنَّبت، بأيّ ثمن، ما ينتج عن الوظيفة من إذلال […] فضَّلت أن أعيش كطفيلي [بدل] أن أدمِّر نفسي بالعمل موظَّفاً». وكما يعلم جميع الكسالى الكبار، ففي التقاعس كمال: لم يكن «سيوران» على وعي بذلك، فحسب، بل قام، أيضاً، برعايته طوال حياته. عندما سأله أحد محاوريه عن عمله الروتيني، أجابه: «في معظم الأوقات، لا أفعل أيّ شيء. أنا أَشدّ الناس كسلاً في باريس […].

فلا عجب أن يكون «سيوران»، بصفته شخصاً أقام مثل هذه العلاقة الحميمة مع الفشل، يشكّ في النجاح. يقول: «هناك جانب من الدجال في أيّ شخص ينتصر في أيّ مجال، كيفما كان». وقد رفض كلّ الجوائز التي منحتها له المؤسَّسة الأدبية الفرنسية، ما عدا جائزة «ريـفارول – Rivarol». وعندما حالفه النجاح العامّ، في الأخير، أجرى عدداً قليلاً من المقابلات، ولكنه ظلّ، دائماً، بعيداً عن الأنظار. «أنا عدوّ المجد»؛ تلك كانت عقيدته. وقد قال، ذات مرّة، عن «بورخيس»: «لقد أصابه سوء حظّ الاعتراف به. إنه يستحقّ أفضل من ذلك». في «معضلة الميلاد»، يتحدَّث «سيوران» عن «وجود يتغيَّر باستمرار، بفعل الفشل»، كمشروع حياة يحسد المرء عليه. ومثل هذا الوجود سيكون الصفاء بعينه، والحكمة مُجَسَّدة: عبارة عن «بذخ، وهدوء […].

9
كان الفشل، إذاً، رفيق «سيوران» المقرَّب، وملهمه المخْلِص، بل مصدره الرئيسي للإلهام. إنه ينظر إلى العالم – إلى الناس والأحداث والمواقف – بعيون الفشل التي لا تُحْجِم. يمكنه، على سبيل المثال، قياس عمق الحياة الداخلية لشخص ما، من خلال طريقة تعامل هذا الشخص مع الفشل: «هذه هي الطريقة التي نتعرَّف بها إلى الرجل الذي لديه ميول نحو استكشاف دواخله: إنه يضع الفشل فوق أيّ نجاح». كيف ذلك؟ لأن الفشل -كما يعتقد «سيوران»- «أساسيّ على الدوام، يكشف حقيقتنا لأنفسنا، ويسمح لنا برؤية أنفسنا […]، بينما النجاح يبعدنا عمّا هو جوهريّ في داخلنا، وفي كلّ شيء في الحقيقة». أَرِني كيف تتعامل مع الفشل، وسأخبرك بالشيء الكثير عن نفسك. «يمكنك معرفة المرء عند فشله، أو تعرُّضه لكارثة كبيرة»، فقط.

مهما يكن النجاح الذي يحقّقه «سيوران»، فإنه ينظر إليه من زاوية «مشروع الفشل» في حياته، وقد طوَّر عادة (رؤية النجاح في الفشل، ورؤية الفشل في النجاح). وأفضل النجاحات التي حقّقها لم تكن هي كتبه، التي تمَّ الاحتفاء بها، وترجمتها في جميع أنحاء العالم، لاحقاً، ولا تأثيره المتزايد بين الأشخاص الميَّالين إلى الفلسفة، ولا حتى وضعه، بصفته متقناً للُّغة الفرنسية. يقول: «النجاح الكبير، في حياتي، هو كوني تمكَّنت من العيش دون أن يكون لي عمل. لقد عشت حياتي بشكل جيّد، في نهاية المطاف. تظاهرت بأنها كانت فاشلة، لكنها لم تكن كذلك». […].

الكون «ساقط»، بالنسبة إلى «سيوران»، وكذلك العالَم الاجتماعي، والعالم السياسي. والحقيقة هي أنه لا شيء ينجو من الفشل بالنسبة إلى غنوصي القرن العشرين هذا. في محاولة منه لتجاوز ما تعرَّض له من إخفاقات سياسية، إبّان شبابه، سعى إلى فهم معانيها العميقة، ودَمْج هذا الفهم في نسيج تفكيره الناضج، وقد كانت نتيجة ذلك فلسفة أكثر دقّةً، ومفكّراً أكثر إنسانيّةً: لقد عملت تجارب «سيوران» الفاشلة على تقريبه من فئة إنسانية، لم يكن ليدخلها لو لم يعشها؛ ألا وهي فئة الخجولين والمتواضعين. إننا نصادف في كتبه المكتوبة بالفرنسية، فقرات عن الفشل، صادرة عن حكيم ملهَم: «في ذروة الفشل، في اللحظة التي يوشك فيها العار على إلحاق الضرر بنا، تجرفنا بعيداً، فجأةً، نوبةُ فخر لا تدوم سوى فترة تكفي لاستنزافنا، وتتركنا بدون طاقة، وتخفض بقوانا حدّة عارنا».

إن ممارسة الفشل مدى الحياة، إلى جانب التفكير فيه بهَوَس، قد غيَّرا «سيوران» في نهاية المطاف، فمع تقدُّمه في السنّ أصبح أكثر تسامحاً وتقبُّلاً لحماقات الآخرين وسلوكهم الغريب. بيد أن ذلك لا يعني أن «سيوران» الفرنسي قد أصبح، بين عشيّة وضحاها، مفكّراً «ديموقراطيّاً». فلم يكن هذا ليحدث أبداً؛ وسيظلّ، حتى النهاية، نَذِير «انحلال الغرب»، وصاحب الأفكار السوداء والمروِّعة. في كتابه «التاريخ والمدينة الفاضلة» (1960)، على سبيل المثال ، يلاحظ: كلّما زرت مدينة، كيفما كان حجمها، أتعجَّب من كون أعمال الشغب لا تندلع كلّ يوم: مذابح، مجازر، وفوضى تفوق الوصف. كيف لهذا العدد الكبير من البشر أن يتعايشوا في مكان ضيِّق للغاية، دون أن يدمِّر بعضهم البعض، دون أن يكره بعضهم البعض كراهيةً شديدة؟ إنهم، في الحقيقة متباغضون، يكره بعضهم بعضاً، لكنهم لا يترجمون تلك الكراهية إلى أفعال. وهذا الضعف وهذا العجز هما ما ينقذ المجتمع، ويضمن استمراره واستقراره.

10
لا. لم يصبح «سيوران» بطلاً ينافح عن الديموقراطية الليبرالية، ولكنه تعلم- ولا شكّ، بطريقة من الطرق- كيف يستمتع بلمهاة العالم – أي أن يشارك، مبتهجاً، في تشويه الفشل الكوني. يُظهِر تفكير «سيوران» اللاحق ميزة غريبة له، يمكن أن نسمّيها، في غياب مصطلح أفضل، اليأس البهيج (يعتبر «سيوران» نفسَه متشائماً بهيجاً). إنه النمط نفسه يتكرَّر مراراً: لقد تبيَّن أن هناك شيئاً فظيعاً، وشنيعاً، غير أنه، في تلك الشناعة، تكمن بذرة خلاصه، بطريقة ما. يمكن أن تكون الحياة شيئاً لا يطاق، أن يكون الأرق قاتلاً، وتستنزفك الأفكار السوداوية ببطء، بيد أن هذا شيء يمكنك معالجته من خلال الكتابة. يقول «سيوران»: «كلّ ما يتمّ التعبير عنه يصبح مطاقاً أكثر». الكتابة عمل سحري رائع يؤثِّر في ممارسيه، ويجعلهم يطيقون حياتهم أكثر. السلبي لا يأتي خالصاً، أبداً، بل هناك دائماً شيء يشوبه؛ فالكارثة تحمل، في طيّاتها، خلاصَها، في حدود ما يمكن التعبير عنه.

أحد أكثر الأشياء إثارةً للاهتمام، في كتابات «سيوران» المتأخِّرة، هو صوته بصفته ناقداً سياسيّاً. في كتابه «التاريخ والمدينة الفاضلة»، فَصْل بعنوان «رسالة إلى صديق بعيد»، وقد صيغ النصّ، في الواقع، على شكل رسالة، ونُشِر، في الأصل، في المجلّة الفرنسية الجديدة عام (1957). كان ذلك «الصديق البعيد»، الذي يعيش خلف الستار الحديدي، هو الفيلسوف الروماني «كونستانتين نويكا». لقد وجَّه «سيوران»، في رسالته، بشكل لا يدعو للاستغراب، طعنة للنظام السياسي الذي أقامته روسيا السوفياتية في أوروبا الشرقية؛ لكونها سخرت من فكرة فلسفية مهمّة. كتب يقول: «اللوم الكبير الذي يمكن أن نوجِّهه إلى نظامكم، هو كونه دمَّر المدينة الفاضلة؛ مبدأ التجديد لدى المؤسَّسات والشعوب». […].

والأهمّ من ذلك هو كون «سيوران»، في الرسالة نفسها، يوجِّه للغرب نقداً، بالقسوة نفسها، تقريباً، فقد كتب يقول: «نجد أنفسنا نتعامل مع نوعَيْن من المجتمع، كلاهما لا يطاق، وأسوأ ما في الأمر هو كون الإساءات التي تحدث في مجتمعكم تجعل المجتمع الآخر يواظب على إساءاته، ويقدِّم الفظاعات التي يرتكبها لتوازن تلك التي ترعونها في مجتمعكم». لا ينبغي للغرب أن يهنِّئ نفسه على «إنقاذ» الحضارة. فالحضارة قد بلغت درجة متقدِّمة من الانحطاط، يعتقد «سيوران»، بحيث لم يعد من الممكن إنقاذ أيّ شيء بعد الآن، باستثناء المظاهر، ربّما. ليس هناك اختلاف كبير بين «نوعَي المجتمع» هذين، ففي التحليل النهائي نجد أنها مسألة فارق بسيط، فقط. […].

وعلى الرغم من كلّ مزاياها التحليلية، والأسلوبية، اتَّضح أن رسالة «سيوران» زلّة سياسية. فالمرسل إليه، «كونستانتين نويكا»، الذي كان يحاول الابتعاد عن الأضواء في الريف الروماني، كان من عادته أخذ المراسلات على محمل الجدّ، وقد دفعه نصّ «سيوران» للردّ عليه بمقال فلسفي لاذع. كان «نويكا»، أيضاً، رجلاً ساذجاً للغاية. بعد انتهائه من كتابة المقال، وجَّهه إلى صديقه في «باريس»، واضعاً الظرف، كما يجب، في صندوق بريدي في الشارع. وقد تمكَّنت الشرطة السرِّية، من وضع يدها على ذلك الردّ. وبما أن الذوق لتلك الشرطة، كان مختلفاً قليلاً عن ذوق «نويكا»، فقد دفع ثمن مراسلته لـ«سيوران» بقضاء عدّة سنوات سجيناً سياسيّاً. ولا شكّ في أن «سيوران» قد اندهش، عندما علم بنبأ اعتقال صديقه، وسجنه، من كون الفشل لا حدود له. لا يفتأ المرء يفشل، بغضّ النظر عمّا يفعله.

11
توفّي «إي إم سيوران» في 20 يونيو/ حزيران (1995)، لكنه كان قد غادر، بالفعل، قبل وفاته؛ فقد عانى، طيلة السنوات الأخيرة من عمره، من مرض «الزهايمر»، وتَمّ إيداعه مستشفى «بروكا» في باريس. وبما أنه كان يخشى أن يعيش مثل هذه النهاية، فقد وضع خطّة للانتحار. لقد قرَّر، هو وشريكته التي عاشرته فترة طويلة، «سيمون بوي»، أن ينتحرا معاً مثل «أرثر كوستلر»، وزوجته. لكن المرض كان أسرع، ففشلت خطَّته، وكان عليه أن يموت بطريقة مذلّة، للغاية، ميتة استغرقت عدّة سنوات، قبل أن تبلغ منتهاها. في البداية، ظهرت عليه بعض العلامات المزعجة، فقط: ذات يوم لم يعرف طريق العودة من المدينة إلى المنزل! طريق كان يعرفها (هو المشَّاء الماهر) حقّ المعرفة، ثم بدأ يفقد جزءاً من الذاكرة. أحياناً، يبدو كأنه لا يعرف جيّداً من يكون. ويبدو أن آخر شيء فقده هو حسّ الفكاهة الرائع لديه. ذات يوم، سأله أحد المارّة في الشارع: «هل أنت هو «سيوران»؟» فأجابه: «كنت». لكن علامات الخرف أصبحت كثيرة جدّاً، وخطيرة: بدأ «سيوران» ينسى بمعدَّل ينذر بالخطر، فأصبح من اللازم إيداعه المستشفى. في النهاية خانته الكلمات: لم يعد «سيوران»، وهو أحد أفضل كتّاب عصره، قادراً على تسمية الأشياء الأساسية، ثم جاء الدور على العقل. في النهاية، نسي من يكون، تماماً.

في مرحلة من مراحل معاناته الطويلة والنهائية، في لحظة وجيزة من الصفاء الذهني، همس «سيوران» لنفسه: «إنها الاستقالة الشاملة!». لقد كان ذلك هو الفشل النهائي الكبير، وهو لم يفشل في إدراكه على حقيقته.


ترجم المقال: محمد الناجي
كوستيكا براداتان (Costica Bradatan)، فيلسوف أميركي روماني المولد، يعمل أستاذاً للعلوم الإنسانية في «جامعة تكساس»، وأستاذاً باحث شرفيّاً باحثاً في الفلسفة، في جامعة «كونس لاند» في أستراليا. أصدر أكثر من عشرة كتب، من بينها «الموت من أجل الأفكار: حياة الفلاسفة الخطيرة» و»في مديح الفشل» (الذي تضمَّن هذا المقال المترجم هنا). ويشرف على مراجعة الدراسات الدينية والدراسات المقارنة في «مؤسَّسة لوس أنجلوس لمراجعة الكتب. lareviewofbooks.org».

12
وإذا كنّا نرى في الحبّ إيثارًا ومحاولة للقضاء على الأثرة، فما ذلك إلّا من فعل الطّبيعة التي تريد أن تضحّي بالفرد في سبيل النّوع، فتزوّر له الحبّ وكأنّه أثرة وفائدة شخصيّة، بينما هو في الواقع تضحيّة وإيثار قُصد به النّوع، فيُخيّل إليه أنّه يسعى نحو غاية فرديّة، وهو لا يسعى في الحقيقة إلّا إلى غاية نوعيّة. وهذا الوهم هو الغريزة الجنسيّة بما يصاحبها من متعة عظمى. وكلّ شيء موجّه في الحب نحو تحقيق هذه الغاية، أعني الولد الذي به يستمرّ النوع. فالجمال الفاتن الذي يخلب لبّ الرّجل إنّما يحدّثه عن النوع كما ينبغي أن يستمرّ، وحرص الرّجل على اختيار المرأة التي توافق ميوله ورغباته لا يصدر إلا عن حرص على إيجاد النسل الكامل كما يراه أو بالأحرى تراه غريزته في شيء من اللّاشعور. وما فُطرت عليه المرأة من ثباتٍ في الحبّ، بعكس الرجل الذي يميل إلى التنويع والتّقلّب، يدلّ على أنّها هنا إنّما تصدر عن وحي من الطّبيعة التي تريد منها أن تقتصر على رفيقها حتّى يكون في وسعها العناية بالولد.

- عبد الرحمن بدوي من كتاب: «#شوبنهاور »
ما من دفاع ممكن ضدّ المدّاح. لا نستطيع أن نوافقه من دون أن نصبح مثار استهزاء، ولا يسعنا أيضا أن ننهره ونعرض عنه. نتصرّف وكأنّه يقول صوابا. نستسلم إلى المديح لجهلنا كيف نردّ الفعل. يعتقد هو أنّك مخدوع، أنّه يهيمن عليك، ويستمتع بتفوّقه دون أن تستطيع تسفيهه. في أغلب الأحيان هو عدوّ قادم سيثأر من اضطراره إلى الانبطاح أمامك، معتدٍ متنكّر يخطّط لضرباته فيما هو يغدق عليك مبالغاته.

إميل #سيوران / اعترافات ولعنات
ترجمة آدم فتحي
إميل #سيوران يكتب عن صامويل بيكيت: يا لها من لقاءات.

مذ عرفت بيكيت، كم من مرة تساءلت (كمن يستجوب نفسه بهوس وحماقة) عن علاقته بشخصياته، ما المشتركات التي تربطهم؟ من يمكنه ان يفهم هذا القدر من التفاوت الجوهري؟ أحقٌ أن وجود هذه الشخصيات غارق مع وجوده في ذلك "الضوء الرمادي" الموصوف في "مالون يموت"؟ تبدو لي اكثر صفحاته كنوع من المونولوج الذي يلي نهاية حقبة كونية... احساس الدخول الى عالم ما بعد الموت لتجد طبيعة جغرافية لحلم شيطان ما تنبعث من كل شيء، حتى من كلمات لعنته.
« ثمتَ لحظات لا نستطيع فيها أن نتصور مخاطباً غير الله مهما كانت درجة بُعدِنا عن كل إيمان. في مثل تلك اللحظات يبدو لنا التوجه إلى مخاطب آخر مُحالاً أو جنوناً. الوحدة في درجتها القصوى تقتضي محادثة قصوى هي أيضاً»

إميل #سيوران
أُغلق الستائر و أنتظر، في الواقع أنا لا أنتظر شيئاً، أنا أغيب فحسب. أتطهّر لبعض دقائق من الشوائب التي تلوّث العقل وتُزحمه، مُرتقياً إلى وعيٍ أُخليَ من الأنا، وهكذا إذن أنا هادئٌ وكأنّي خارج أستريح خارج الكون.!

إميل #سيوران
جاء في كتابٍ غنوصيٍ من القرن الثاني : ( صلاةُ الإنسان الحزين لن تملك أبداً القدرة على الوصول إلى الله )!

...لمّا كنّا لا نُصلّي إلاّ عند الوهن ، فإنّ في وسعنا أن نستنتج أن لا صلاة بلغت غايتها على الإطلاق!

إميل #سيوران
« ينظر الإنسان الناضج، أو بالأحرى من أنضجته التجارب إلى مجريات الحياة كما هي على أرض الواقع وكما هي على طبيعتها. أما المراهق فيحولها تحت تأثير الوهم المعجون في احلام المنام وأحلام اليقظة إلى متوالية من الأحكام الجاهزة والنزوات العجيبة التي تحجب عنه الوجه المشبوه والحقيقي لهذا العالم والوجه الآخر لهذه الحياة.
وبالتالي فإن التحرر من الأوهام والتهيؤات والمفاهيم الخاطئة المكتسبة في سنوات الشباب هو أول درس يتوجب على الإنسان استخلاصه من تجارب حياته. وهذه هي أفضل وأجود تربية على الإطلاق يمكن تلقينها للشباب حتى يعيشوا حياتهم بأقل الخسائر الممكنة حتى ولو بدت تربية سالبة أكثر مما هي موجبة، غير أنها مهمة جادة وليست بالهينة»

آرثر #شوبنهاور
من كتاب : فن العيش الحكيم
الأثر الأدبي لا يتحقق إلا إذا تمّ إعداده إلا في الخفاء، بتلك العناية وذلك الاحتراس الذين يُبديهما القاتل وهو يُخطّط لضربته. في الحالتين تكون الغلبة لإرادة الضرب.!

إميل #سيوران
أكبر خدمة يُمكن أن نسديها إلى كاتب، أن نمنعهُ من العمل لمدة معينة. نحتاج في ذلك إلى دكتاتوريات قصيرة المدى، تعمل على إيقاف كلّ نشاط ذهني. حرّيّة التعبير من دون أيّ انقطاع، تُعرّض أصحاب المواهب إلى خطرٍ قاتل. تضطرّهم إلى جهدٍ يستنفد مواردهم ويمنعهم من تخزين الأحاسيس و التجارب.

إميل #سيوران
2025/07/05 22:42:25
Back to Top
HTML Embed Code: