••
من أدب المجالس وتمام الذوق، أن تتقن فن الإصغاء دون أن تكثر من الاستدراك والإضافة، جرّب أن تنحي جانباً ذاتيتك، وتُشعر المتكلم بأنه محسن يُضيف إليك، لا خصماً تُنافسه. ففي التخفف من الأنانية يسمو الحديث، وتلتقي الأرواح في حضرة الفكر، و في هذا الصمت النصفي تتحرر النفس من شهوة التفوق في كل حوار.
••

••
غالبًا ما تتشكل مشكلاتنا في زوايا عقولنا، وتبقى هناك متشابكة كخيوط العنكبوت، بينما الحلول تكمن بالقرب منا، في ذات تلك الأفكار التي نسجت العُقد. ومع ذلك تجدنا نظن أن صعوبات الحياة العامة لا تنتهي، وكأننا نسينا أن هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأن ما نمر به ليس سوى صفحات في كتاب لم يُكتب له نهاية هنا.

نحن جميعًا نحمل أثقالًا خفية، كلٌّ منا يخوض معركته الخاصة، لكن هل سألنا أنفسنا يومًا: كيف يمكننا أن نجد الصبر في ثنايا النعم، تلك التي تتسلل إلى حياتنا بهدوء كنسيم الصباح، تضمد جراح الروح، وتضفي على أيامنا طمأنينة وسكينة؟

تأملوا في حياة المدين المثقل، أو الفقير الذي يصارع من أجل الكفاف، أو حتى الغني الذي فقد عافيته وذبلت روحه. انظروا إلى الأرملة والثكلى، والمطلقة التي وجدت نفسها فجأة على حافة هاوية الحياة، واليتيم الذي فقد ملاذه الآمن. هل تظنون أن نعم الله قد غابت عنهم؟ أم أن رحمة الله ما زالت تظللهم بأشكال أخرى؟

إن لم تكن منهم، فاحمد الله من قلبك، واطلب منه السلامة. لا تنتظر حتى يسبقك من يعاني في صمته إلى ميدان الشكر، وأنت معافى سليم الجسد، لا تشكو سوى القليل. فالعافية التي تمتلكها هي نعمة تستحق أن تتوقف عندها، أن تتأملها بعمق، وتدرك أن الشكر ليس واجبًا فحسب، بل هو شعور يتغلغل في الروح، يجلب الرضا والطمأنينة.

بادِر إلى ربك بالشكر في السراء والضراء، فإن لم تبادر، فاعلم أن الله قد بادرك بنعمه ولطفه، وأن في كل منع حكمة خفية، وستفهم أن في حرمان الله لك فرصةً لتقترب منه أكثر، لتكون عبدًا يرى بنور البصيرة، ويستقبل ما يأتي به القدر برضا وشكر.
••

••
( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا)

لم يذكر الله تعالى مكان أصحاب الكهف ولا زمانهم ولا أسماءهم وأوصافهم‚ ولكن ذكر لنا دعاءهم؛ لأن الدعاء أساس التحولات في حياتهم وبه تغيرت سنن الكون ،وحفظهم الله به أكثر من ثلاثة قرون.

اللهم أخرجنا من حولنا إلى حولك، ومن ضعفنا إلى قوّتك، ومن ضيق اختيارنا إلى براح إرادتك.
••

••
إمضاء عائشة!

‏كانت عائشة رضي الله عنها، تكتب في كتبها ورسائلها: "من حبيبة رسول الله، المبرّأة في كتاب الله، عائشة بنت أبي بكر".

‏ينظر (تاريخ الطبري: ٤/ ٤٧٦)

قال ابن عبيد الله: "فيا له من إمضاء، تهتز له النفوس، وتقفّ الشعور، وتتندى الخدود، ويكاد يذوب منه الجلمود".
••

تسدل على ذاتك ستار الخلوة، و تضع حداً بينك وبين العالم، ترسم قوسين تحتمي بهما، لكنهم يجدون طريقهم إليك من بوابة التأويل، يتسللون خلسةً عبر ثغرات المعاني المترامية، يفسرون الصمت بكلمات، في زمن يصبح فيه الحاجز مجرد رمز، والحدود مجرد فكرة، إياك و عبقرية التحليل.

••
يغرق الإنسان في لجة الحياة محاولاً أن يكون كل شيء لكل من حوله، فينسكب كالماء ليملأ كؤوس الآخرين، متناسيًا أن يكون لنفسه قطرةً واحدةً تروي ظمأه الروحي.
••

••
سدود مهدومة

هناك في القاع عند الظلام، تعيش الشهوات، في غور الهاوية حيث الأنفاس مقطوعة، والآمال معدومة، يجد الإنسان نفسه محاصرًا بجدران من ظلمات لا ترى لها نهاية، وفي هذا المكان الموحش، حيث يكون العقل مغيبًا والقلب مهجورًا، تنبعث الغرائز من قيودها كسيول جارفة، تقتلع ما كان يُظن أنه ثابت من معتقدات وقناعات، والذي لا يمكن للسطر وصفه، ولا الحرف رسمه، هو قياس صدى ارتطام الإنسان في قعر تلك الشهوات، التردي سريع و السقوط مدويّ، و التحذير واجب بكل وسيلة، كلاً في مجاله، المعلم في فصله، والمربي بجوار تلميذه، والوالدين مع أبنائهم، و الكاتب بقلمه، و الإعلامي بصوته، والمصلح بجهده.

و الحكمة تقتضي حرمة الإسهاب في الحديث التفصيلي في وصف الأهواء، الناس يعلمون ولا ينقصهم البليغ الذي يصور الحرام، فيزيد جماله في نفوسهم، نحن مطالبين ببناء السد لا بوصف الفتنة وتحديثاتها المعاصرة، و الشهوات كالنار المتأججة؛ تبدأ بشرارة صغيرة قد تبدو بريئة، لكن سرعان ما تتحول إلى لهيب هائل يستطيع أن يلتهم كل شيء في طريقه.
••

••
المشاعر الخاصة

من الحِكَم السيَّارة التي أطلقَها المهلبُ بن أبي صُفرة بعدما أمضى في الحروب عُمرَه وأبقى في التاريخ أثرَه: (الإقدام على الهلكة تغرير، والإحجام عن الفرصة جبن). 
صباحكم عقلٌ وافر وقلبٌ حازم.

لما ساق أبو عبد الرحمن السُّلَمي في كتابه «عيوب النفس» طرفاً من العيوب التي ينبغي للعاقل اجتنابها، ذكر منها ما عبَّر عنه بقوله: (ومن عيوبها: الشفقة على النَّفس، والقيام بتعهُّدها)، ولا يقصد بكلمته هذه اهتمامَ المرء بظاهره وهيئته ولباسه وهندامه، وإنما يعني المبالغة في الاهتمام بـ(المشاعر النفسية الخاصة)!

لذلك أردف هذا الداء بدوائه فقال: (ومداواتها: الإعراض عنها، وقلة الاشتغال بها، ولذلك سمعتُ جدي رحمه الله يقول: من كرُمَت عنده نفسُه هان عليه دينه).

وهذا العيبُ الخفيُّ كثيراً ما يتسلل إلى خبيَّات النفوس فيحطُّ بها رحلَه ويضرب عليها أوتادَه، وإنما كان هذا من عيوب النفس لأن الإنسانَ إذا عظُمَت عنده نفسُه كان كأنما يُسدِل عيها ستاراً من الأثرَة والبُخل، فيرى لها حقَّاً على كل أحد، ويجعل لنفسه قَدراً في كل محل، ثم هو يغمط الناس حقوقهم ويمنعهم مصالحهم.

ومعنىً آخر لطيف، وهو أن المرء إذا أقبل على حوائج نفسِه واهتمَّ بخاصة أمرِه وبالغَ في النظر إلى شأنِه: شغَلَه ذلك عن رفع رأسه إلى غيره وحجبَه ذلك عن الالتفات إلى ما هو سواه، فقلبُه بنفسِه مأهول، وذهنُه بأمره مشغول، ولا يكاد يدير فكرَه إلا فيما يهمُّه من مأكل ومشرب وملبس ومضجع!

وهذا المعنى الأخيرُ هو ما أراده المصنف بسياق كلمة جدِّه (من كرُمَت عنده نفسُه هان عليه دينه)، فإن كل أحدٍ تعظُم عنده معان مثل "عزة النفس وشرف المكانة وسلامة العرض وارتفاع المنزلة... " تجده قليلَ الصبر في ذات الله، ضيق العطن، حاد الخصومة، طويل الجدال، كثير الانتصار للنفس.

وهذا -كما ترى – يخالف كثيراً من الدعوات الصارخة التي يطلقها الناس اليوم باسم: (حافظ على صحة قلبك)، و(اعتنِ بكرامة نفسك)، و(احفظ لفؤادك مقداره)، وإن كان محلها عندهم العلاقات الاجتماعية، بخلاف ما يقصده أبو عبد الرحمن السُّلمي من اعتراض تلك الأمور للواجبات الشرعيَّة.

ولا بد أن يتحقق طالب العلم -بل والمؤمن- من هذا المعنى في نفسِه، فالطريق إلى الله -علماً وعملاً ودعوةً- لا مكانَ فيه للمبالغة في شأن المشاعر النفسية الخاصة، ولا محلَّ فيه لتغليب العواطف الشخصية على الواجبات الشرعيَّة، فإنَّ (من كرُمت عنده نفسُه هان عليه دينه)، وهذا طريقٌ لا يترقى في وعرِه إلا من لبس خوذةً من الإغضاء على القذى، وادَّرع بثوبٍ سابغٍ من الاحتمال والمكابدة والصبر، وهانت عليه نفسه في سبيل الله.


📬 نشرة المحصل
••

✨ نواصل معكم لقاءات نادي التراث التيمي والذي يقدم في لقائه الثامن :
قواعد منهجية في فقه الخلاف
قراءة في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام

يقدمها الأستاذ الدكتور :
سليمان النجران

🗓️ الأربعاء ٢٤ صفر - ٢٨ أغسطس
🕘 ٩:٠٠ مساءً بتوقيت مكة

🔗للانضمام لنادي التراث التيمي : https://www.tg-me.com/ibntaymiiya

••
أولئك الذين تجمعهم رغبة الارتواء من ينابيع المعرفة، هذا أحد الكتب المناسبة للنقاش و الحوار حول مضامينه التربوية.
••

••
جلست مرة مع صديق عزيز، نتحاور في شؤون الأمة وما يربطها من روابط، حتى طرأ على الحديث ذكر الرابطة الإيمانية التي تمتد بين المسلمين من أقصى الأرض شرقًا إلى أقصاها غربًا، تلك الرابطة العجيبة في كنهها، غريبة على المزاج المعاصر الذي ينظر إلى الدين كمسألة هامشية أو كعلاقة فردية محضة بين الإنسان وربه.

وقبل مدة سألت أحدهم عن سبب إسلامه و مالذي جذبه إليه؟ فأجاب بأنه بعد طوافه الطويل في حقول الأديان المختلفة وصولاً إلى الإسلام، لم يجد في تلك المعابد ما وجده في المساجد من روحانية وتعاضد، وقد أدهشته تلك الرابطة الإيمانية التي تجمع المسلمين على اختلاف ألوانهم وأعراقهم، فهي تشهد على عظمة هذا الدين الذي يوحد القلوب على محبة الله وطاعته.
••

••
تُمتهن حكاية الإنسان وتُهدر كرامتها، حينما تُسكب أسرارها في أذن لا تليق، ولا تقدر وقار المعاناة، أيّ عندما يختار الشخص الخطأ، فليست كل الأذان مهيأة لاحتواء أسرار الروح، واختيار الشخص المناسب هو تأمين لخبايا النفوس.
••

••
في خلوات الليلِ نُناجيكَ، لا نملِكُ فقهَ العارفينَ بدقائقِ الرقائِقِ، ندعوكَ بألسنةٍ غيرِ فصيحةٍ، ونخطو على دروبٍ قد لا تكونُ صحيحةً. نحنُ الذينَ تتعثّرُ ألسنتُنا بكلِّ العباراتِ، إلا في صدقِ التضرعِ والنداء: يا ربَّ.
••

••
التنهيدة :
دعاءٌ لا يُرفع صوته ولا يُشرح معناه؛ هي الرسالة التي تهفو مباشرةً إلى الله دون أن تتوسل بالألفاظ، تُرسلها الروح مباشرةً إلى السماء، هي دعاء بلغ من الوضوح مبلغًا لا يحتاج إلى تعبير بالكلمات، كفراشة هرعت للتحليق، طارت قبل أن تتزين بألوانها.
••

••
أذكار الصباح والمساء هي بمثابة السياج السماوي الذي يحتوي العبد بأكمله، مانحةً إياه الأمان من لدغات الشر ووهدات السوء، هذه الأذكار ضمانًا لمعية الله، و محيطةً للإنسان ببركات لا تُعد ولا تُحصى، و إعلان مهيب بالحب المطلق للخالق، والفقر العميق والمسكنة في محراب العبودية.
••