••
التوكل هو أن تمضي في الحياة خفيفًا، لا يثقلك فقدُ شيء، ولا يُربكك تأخُّر رجاء، هو أن تعمل ما بوسعك، ثم تُلقي بقلبك في بحر اليقين، حيث لا قلقٌ يزعج، ولا خوفٌ ينهش، ولا انتظارٌ يُرهق الروح، أن تثق أن الأبواب لا تغلق إلا لِتُفتح أبوابٌ أعظم، وأن ما يرحل ليس إلا ليُفسح الطريق لما هو أحقُّ بالبقاء.
فالتوكل ليس مجرد لفظٍ يُتلى، ولا شعور يُدّعى، بل هو حقيقةٌ راسخةٌ تستقر في القلب، وتنعكس على الجوارح، فالقلب الموحد يعلم أن الأسباب ما هي إلا ستورٌ يُجري الله من خلالها أقداره، وأن تدبيره سبحانه لا يحدّه نظر العبد القاصر، فمتى امتلأ القلب بهذه الحقيقة، زالت عنه وحشة التعلق، واستراح في سكينة التسليم، فلا يفرح بالسبب إذا جاء، ولا يضطرب إذا ذهب، ولو أنه أيقن أن المدبّر هو الله، لاستراح من عناء التقلبات، وسكن قلبه حيث أراد له خالقه أن يكون.
••
التوكل هو أن تمضي في الحياة خفيفًا، لا يثقلك فقدُ شيء، ولا يُربكك تأخُّر رجاء، هو أن تعمل ما بوسعك، ثم تُلقي بقلبك في بحر اليقين، حيث لا قلقٌ يزعج، ولا خوفٌ ينهش، ولا انتظارٌ يُرهق الروح، أن تثق أن الأبواب لا تغلق إلا لِتُفتح أبوابٌ أعظم، وأن ما يرحل ليس إلا ليُفسح الطريق لما هو أحقُّ بالبقاء.
فالتوكل ليس مجرد لفظٍ يُتلى، ولا شعور يُدّعى، بل هو حقيقةٌ راسخةٌ تستقر في القلب، وتنعكس على الجوارح، فالقلب الموحد يعلم أن الأسباب ما هي إلا ستورٌ يُجري الله من خلالها أقداره، وأن تدبيره سبحانه لا يحدّه نظر العبد القاصر، فمتى امتلأ القلب بهذه الحقيقة، زالت عنه وحشة التعلق، واستراح في سكينة التسليم، فلا يفرح بالسبب إذا جاء، ولا يضطرب إذا ذهب، ولو أنه أيقن أن المدبّر هو الله، لاستراح من عناء التقلبات، وسكن قلبه حيث أراد له خالقه أن يكون.
••
••
على أعتابِ رمضانَ، دعني أقولُ: يا كريمَ القلب، إنَّ هذا الشهرَ ليس مجردَ موسم يتكرَّر، بل هو ميقاتٌ إلهيّ تُبعث فيه القلوبُ من سباتها، وتتنفس الأرواحُ الصعداءَ بعد عامٍ من الغفلةِ والتثاقل.
وأيُّ استقبالٍ أكرمُ وأجلُّ من أن يُطرقَ بابُه بتوبةٍ صادقة، تُعيدُ للنفسِ صفاءَها، وللروحِ طُهرَها، وللقلبِ معناه؟ التوبةُ ليست طقسًا يُؤدَّى، بل تحوُّلٌ عميقٌ في مسار الحياة، وانعتاقٌ من أسر الذنوبِ إلى سعة العبودية، وإعلانٌ صريحٌ أن القلبَ لم يُخلقْ ليظلَّ مُثقلًا بأوزاره.
فمن أراد أن يذوقَ حلاوةَ هذا الشهر، فليلقِ عن كاهلهِ أثقالَ المعصية، وليدخلْ على اللهِ بقلبٍ صادق، قد غسلته دموعُ الأوبة، وزيَّنته رغبةُ اللقاء.
••
على أعتابِ رمضانَ، دعني أقولُ: يا كريمَ القلب، إنَّ هذا الشهرَ ليس مجردَ موسم يتكرَّر، بل هو ميقاتٌ إلهيّ تُبعث فيه القلوبُ من سباتها، وتتنفس الأرواحُ الصعداءَ بعد عامٍ من الغفلةِ والتثاقل.
وأيُّ استقبالٍ أكرمُ وأجلُّ من أن يُطرقَ بابُه بتوبةٍ صادقة، تُعيدُ للنفسِ صفاءَها، وللروحِ طُهرَها، وللقلبِ معناه؟ التوبةُ ليست طقسًا يُؤدَّى، بل تحوُّلٌ عميقٌ في مسار الحياة، وانعتاقٌ من أسر الذنوبِ إلى سعة العبودية، وإعلانٌ صريحٌ أن القلبَ لم يُخلقْ ليظلَّ مُثقلًا بأوزاره.
فمن أراد أن يذوقَ حلاوةَ هذا الشهر، فليلقِ عن كاهلهِ أثقالَ المعصية، وليدخلْ على اللهِ بقلبٍ صادق، قد غسلته دموعُ الأوبة، وزيَّنته رغبةُ اللقاء.
••
••
إشكالية عصرنا ليست في قلّة المعارف، بل في غثاثتها؛ في فيضٍ متدفقٍ من المرويات، والأخبار، والتحليلات، حتى صار العقل محاصرًا بين شتات المعلومة وكثرة القائلين.
نحن في زمنٍ ازدحم فيه الصوت وضاع فيه المعنى، فكأنما الكلمات تتناسل بلا روح، والأفكار تتكدس بلا ميزان، والحقيقة تتوارى خلف ستارٍ كثيفٍ من الضجيج، فلا تكاد تظفر بفكرةٍ نقيّة حتى تغمرها أمواج التأويلات، ولا تلمح حقيقةً راسخة إلا وطمرتها ركام الاستنتاجات المبتسرة.
لم تعد المعضلة في تحصيل العلم، بل في استجلاء صفوه من كدره، وانتقاء الجوهر من بين ركام الحشو والتشويش، فكم من معلومةٍ في ظاهرها زاد، وهي في حقيقتها وَهْمٌ يورث الجهل المركب، وكم من قولٍ ظُنّ أنه حق، فإذا به زخرفٌ يستهلك الأعمار بلا أثر.
وفي خضمّ هذا الفيضان، لا تكون النجاة بكثرة الأخذ، وإنما بحسن الانتقاء، فإن من لم يحسن الفرز، تكدّرت بصيرته، وتاهت في الزحام فكرته، فلا هو بلغ المنشود، ولا هو تحرر من القيود.
••
إشكالية عصرنا ليست في قلّة المعارف، بل في غثاثتها؛ في فيضٍ متدفقٍ من المرويات، والأخبار، والتحليلات، حتى صار العقل محاصرًا بين شتات المعلومة وكثرة القائلين.
نحن في زمنٍ ازدحم فيه الصوت وضاع فيه المعنى، فكأنما الكلمات تتناسل بلا روح، والأفكار تتكدس بلا ميزان، والحقيقة تتوارى خلف ستارٍ كثيفٍ من الضجيج، فلا تكاد تظفر بفكرةٍ نقيّة حتى تغمرها أمواج التأويلات، ولا تلمح حقيقةً راسخة إلا وطمرتها ركام الاستنتاجات المبتسرة.
لم تعد المعضلة في تحصيل العلم، بل في استجلاء صفوه من كدره، وانتقاء الجوهر من بين ركام الحشو والتشويش، فكم من معلومةٍ في ظاهرها زاد، وهي في حقيقتها وَهْمٌ يورث الجهل المركب، وكم من قولٍ ظُنّ أنه حق، فإذا به زخرفٌ يستهلك الأعمار بلا أثر.
وفي خضمّ هذا الفيضان، لا تكون النجاة بكثرة الأخذ، وإنما بحسن الانتقاء، فإن من لم يحسن الفرز، تكدّرت بصيرته، وتاهت في الزحام فكرته، فلا هو بلغ المنشود، ولا هو تحرر من القيود.
••
••
ليس الألمعي من يحسن الرد فحسب، ولا الحكيم من يملأ المجلس حديثًا، بل من يملأه نباهةً وحضورًا، فإذا لمح وجهًا احتقن، أو لسانًا تعثر، أو عينًا اضطربت، ألقى طوق النجاة بذكاء، لا يُشعر صاحبه أنه كان غريقًا، بل يسنده برفقٍ حتى يظن أنه لم يتعثر قطّ.
يبادر بحيلة لبقة، فيُلبس الموقف لباس الطرافة، أو ينساب بالحديث إلى وادٍ غير الذي همّ القوم بالخوض فيه، لا يقطع الكلام، بل يحرفه، ولا يحرج المخطئ، بل يستره، وكأنما يمسك بخيوط المجلس بيدٍ خفية، ينسج بها سترًا لصاحبه دون أن يدري أحد، فهكذا يكون الفضل، لا في الانتصار على الناس، بل في إنقاذهم من أنفسهم، وصون هيبتهم حتى عن أعينهم.
••
ليس الألمعي من يحسن الرد فحسب، ولا الحكيم من يملأ المجلس حديثًا، بل من يملأه نباهةً وحضورًا، فإذا لمح وجهًا احتقن، أو لسانًا تعثر، أو عينًا اضطربت، ألقى طوق النجاة بذكاء، لا يُشعر صاحبه أنه كان غريقًا، بل يسنده برفقٍ حتى يظن أنه لم يتعثر قطّ.
يبادر بحيلة لبقة، فيُلبس الموقف لباس الطرافة، أو ينساب بالحديث إلى وادٍ غير الذي همّ القوم بالخوض فيه، لا يقطع الكلام، بل يحرفه، ولا يحرج المخطئ، بل يستره، وكأنما يمسك بخيوط المجلس بيدٍ خفية، ينسج بها سترًا لصاحبه دون أن يدري أحد، فهكذا يكون الفضل، لا في الانتصار على الناس، بل في إنقاذهم من أنفسهم، وصون هيبتهم حتى عن أعينهم.
••
••
الدعاء عند كثيرين لا يُستحضر إلا في الملمات، وكأن اللجوء إلى الله طوق نجاة للأزمات فحسب، لكن العبودية الحقّة لا تعرف الموسمية، بل هي صلة دائمة، لا يختلف فيها زمن الرخاء عن زمن البلاء.
فالموفق يدرك أن فقره إلى الله ليس طارئًا، بل هو حالٌ مقيم، يستوي فيه الطلب عند العافية كما يستوي عند الكرب، فكما أن النفس لا تستغني عن الهواء، فإن القلب لا يحيا بلا دعاء.
ومن أدرك هذه الحقيقة، لم يكن دعاؤه مجرد وسيلة للخلاص، بل نافذة مفتوحة على السماء، حيث لا ينطفئ الرجاء، ولا ينقطع الوصل.
••
الدعاء عند كثيرين لا يُستحضر إلا في الملمات، وكأن اللجوء إلى الله طوق نجاة للأزمات فحسب، لكن العبودية الحقّة لا تعرف الموسمية، بل هي صلة دائمة، لا يختلف فيها زمن الرخاء عن زمن البلاء.
فالموفق يدرك أن فقره إلى الله ليس طارئًا، بل هو حالٌ مقيم، يستوي فيه الطلب عند العافية كما يستوي عند الكرب، فكما أن النفس لا تستغني عن الهواء، فإن القلب لا يحيا بلا دعاء.
ومن أدرك هذه الحقيقة، لم يكن دعاؤه مجرد وسيلة للخلاص، بل نافذة مفتوحة على السماء، حيث لا ينطفئ الرجاء، ولا ينقطع الوصل.
••
••
أعظمُ ما يُبتلى به العبدُ نقصانُ الهمّة وتشتُّتُ العزيمة، فإن القلبَ إذا ضعفَت إرادتُه، صار مُستسلِمًا للأهواء، مُتثاقِلًا عن الطاعات، يَعرف الخيرَ ولا يسير إليه، ويرى الباطلَ ولا ينأى عنه، وما أُصيب امرؤٌ بالخذلان مثل أن يصبح عاجزًا عن دفع نفسه إلى معالي الأمور.
فيا ربّ، كما زوّدتَ الجوارح بالقوة، زوّد القلبَ بالعزيمة، وكما جعلتَ للأجساد غذاءً يُقيمها، فاجعل للنفوس وقودًا يُحييها، وألهمنا من الهمم أعلاها، ومن العزائم أمضاها، حتى لا نرضى بسُفلِ المقام، ولا نرضخَ لوهنِ الطريق.
••
أعظمُ ما يُبتلى به العبدُ نقصانُ الهمّة وتشتُّتُ العزيمة، فإن القلبَ إذا ضعفَت إرادتُه، صار مُستسلِمًا للأهواء، مُتثاقِلًا عن الطاعات، يَعرف الخيرَ ولا يسير إليه، ويرى الباطلَ ولا ينأى عنه، وما أُصيب امرؤٌ بالخذلان مثل أن يصبح عاجزًا عن دفع نفسه إلى معالي الأمور.
فيا ربّ، كما زوّدتَ الجوارح بالقوة، زوّد القلبَ بالعزيمة، وكما جعلتَ للأجساد غذاءً يُقيمها، فاجعل للنفوس وقودًا يُحييها، وألهمنا من الهمم أعلاها، ومن العزائم أمضاها، حتى لا نرضى بسُفلِ المقام، ولا نرضخَ لوهنِ الطريق.
••
••
لباس الفقيه
قال ابن رجب: (كان كثير من الصادقين من السلف يجتنب لباس الثياب التي يُظن بأصحابها الخير، إبعاداً لهذا الظن من أنفسهم).
صباحكم نفوسٌ زكيَّة وأفئدةٌ تقيَّة.
ذكر ابنُ خلكان في ترجمته للقاضي أبي يوسف رحمه الله أنه أول من استحدث للعلماء والفقهاء لباساً خاصاً وشعاراً مميزا، وكان ملبوس الناس كافةً قبل ذلك شيئاً واحدا، لا يتميز أحد عن أحد بلباسه.
وهذا الذي ذكره ابن خلكان يسوقُنا إلى المسألة المشهورة في حكم اختصاص العلماء بلباس يميزهم عن العامة، خاصةً مع ما نشهده اليوم من اختصاص طائفة من أهل العلم بنسَقٍ من العمائم، وآخرين من أهل العلم بنسَقٍ من الأردية، وطائفة ثالثة من العلماء يخالفون العامة في ثيابهم، وهذا أمر مشهود.
ونحن إذا نظرنا إلى الصحاح والسنن والمسانيد وكتب السير والمغازي لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتكلفون في لباسهم على وجهٍ يميزهم عن غيرهم، كما قال ابن القيم رحمه الله: (والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغَّب فيها وداوم عليها، وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما يتيسر من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة....)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصحابة لما فتحوا الأمصار كان كلٌّ منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها، ولو كان هذا الثاني أفضل في حقهم لكانوا أولى باختيار الأفضل)، ويذكر ابن خلدون في مقدمته (أن علياً رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة، ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص).
ولا ريب أن قدراً من كلام العلماء في هذا الباب كانوا يستحضرون فيه حال المتصوفة والمتزهدة الذين يقصدون إلى المرقع من الثياب والمهلهل من اللباس، ويرون ذلك شعاراً للزهد وعلامةً على العبودية، كما يقول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (واللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً... فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك، وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك، بل كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وثبوت الشهرة).
ولا شك أن طائفة من متأخري الفقهاء استحبوا ذلك كما يذكره شيخ الإسلام، ولهم في استحباب هذا عللٌ مثل أن يُعرف العلماء فيُستَفتوا، وأنهم إذا أَمروا أُطيعوا، وإذا نصَحوا استُجيب لهم، ولا يلزم عندهم أن يكون محفوظاً عن السلف، وقد قال ابن السبكي: (وما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم من سعة الأكمام وكبر العمة ولبس الطيالس حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزاً لهم يُعرَفون به، ويُلتَفت به إلى فتاويهم وأقوالهم).
ومن تأمل الخلاف بين العلماء في أصل هذه المسألة وجده قريباً ورأى الاختلاف فيه سائغاً، ولم يجعل أحد القولين غلطاً بيناً أو بدعةً محضة، وهو بابٌ تحكمه المصالحُ والمفاسد، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأوضاع والأحوال.
لكن هناك صورةً لهذه المسألة لا يكاد يختلف العلماءُ في النهي عنها والمنع منها، وهي إجماعٌ عندهم أو كالإجماع، وذلك فيمن يتزيَّا بزي العلماء والفقهاء على وجه السُّمعة والرياء وهو غيرُ متأهل، ثم يتقحم باب الفتيا ويتجرأ على الكلام في الأحكام ويتصدَّر بين يدي الناس، فهذا مذموم محرم باتفاق العلماء، ووجودُ مثل هذا جعل طائفةً من حذاق العلماء يغلقون الباب بالكلية، ويمنعون الفقيه أن يتميز بلباس خاص، لأن الخروج من درجة العوام إلى درجة الفقهاء تكون بوضعٍ ثوب أو عمامة، وهذا سبيلٌ إلى فساد الأديان وغياب العلماء.
ويستنكر العلامة ابن الحاج المالكي في كتاب المدخل ظاهرة ربط الفقه والعلوم الشرعية باللباس والمظهر الخارجي بدلًا من التحصيل العلمي والفهم الصحيح. ويبين أن ارتداء بعض الملابس الخاصة أصبح معيارًا لتمييز الفقيه عن العامة، حتى لو لم يكن لديه من العلم ما يؤهله لذلك. ويشير إلى أن هذا يؤدي إلى أن يتصدر الجهال للإفتاء، إذ يمنعهم مظهرهم من الاعتراف بجهلهم خشية سقوطهم من أعين الناس، فيفتي أحدهم بغير علم، فيضل ويضل غيره. ويؤكد ابن الحاج أن هذه المفسدة العظمى نشأت بسبب مخالفة السنة في اللباس، محذرًا من خطورة استبدال المظهر بالعلم الحقيقي، ومؤكدًا أن ترك السنة في أي أمر يؤدي إلى فقدان الخير.
📑 نشرة المحصل
••
لباس الفقيه
قال ابن رجب: (كان كثير من الصادقين من السلف يجتنب لباس الثياب التي يُظن بأصحابها الخير، إبعاداً لهذا الظن من أنفسهم).
صباحكم نفوسٌ زكيَّة وأفئدةٌ تقيَّة.
ذكر ابنُ خلكان في ترجمته للقاضي أبي يوسف رحمه الله أنه أول من استحدث للعلماء والفقهاء لباساً خاصاً وشعاراً مميزا، وكان ملبوس الناس كافةً قبل ذلك شيئاً واحدا، لا يتميز أحد عن أحد بلباسه.
وهذا الذي ذكره ابن خلكان يسوقُنا إلى المسألة المشهورة في حكم اختصاص العلماء بلباس يميزهم عن العامة، خاصةً مع ما نشهده اليوم من اختصاص طائفة من أهل العلم بنسَقٍ من العمائم، وآخرين من أهل العلم بنسَقٍ من الأردية، وطائفة ثالثة من العلماء يخالفون العامة في ثيابهم، وهذا أمر مشهود.
ونحن إذا نظرنا إلى الصحاح والسنن والمسانيد وكتب السير والمغازي لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتكلفون في لباسهم على وجهٍ يميزهم عن غيرهم، كما قال ابن القيم رحمه الله: (والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغَّب فيها وداوم عليها، وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما يتيسر من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة....)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصحابة لما فتحوا الأمصار كان كلٌّ منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها، ولو كان هذا الثاني أفضل في حقهم لكانوا أولى باختيار الأفضل)، ويذكر ابن خلدون في مقدمته (أن علياً رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة، ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص).
ولا ريب أن قدراً من كلام العلماء في هذا الباب كانوا يستحضرون فيه حال المتصوفة والمتزهدة الذين يقصدون إلى المرقع من الثياب والمهلهل من اللباس، ويرون ذلك شعاراً للزهد وعلامةً على العبودية، كما يقول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (واللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً... فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك، وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك، بل كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وثبوت الشهرة).
ولا شك أن طائفة من متأخري الفقهاء استحبوا ذلك كما يذكره شيخ الإسلام، ولهم في استحباب هذا عللٌ مثل أن يُعرف العلماء فيُستَفتوا، وأنهم إذا أَمروا أُطيعوا، وإذا نصَحوا استُجيب لهم، ولا يلزم عندهم أن يكون محفوظاً عن السلف، وقد قال ابن السبكي: (وما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم من سعة الأكمام وكبر العمة ولبس الطيالس حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزاً لهم يُعرَفون به، ويُلتَفت به إلى فتاويهم وأقوالهم).
ومن تأمل الخلاف بين العلماء في أصل هذه المسألة وجده قريباً ورأى الاختلاف فيه سائغاً، ولم يجعل أحد القولين غلطاً بيناً أو بدعةً محضة، وهو بابٌ تحكمه المصالحُ والمفاسد، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأوضاع والأحوال.
لكن هناك صورةً لهذه المسألة لا يكاد يختلف العلماءُ في النهي عنها والمنع منها، وهي إجماعٌ عندهم أو كالإجماع، وذلك فيمن يتزيَّا بزي العلماء والفقهاء على وجه السُّمعة والرياء وهو غيرُ متأهل، ثم يتقحم باب الفتيا ويتجرأ على الكلام في الأحكام ويتصدَّر بين يدي الناس، فهذا مذموم محرم باتفاق العلماء، ووجودُ مثل هذا جعل طائفةً من حذاق العلماء يغلقون الباب بالكلية، ويمنعون الفقيه أن يتميز بلباس خاص، لأن الخروج من درجة العوام إلى درجة الفقهاء تكون بوضعٍ ثوب أو عمامة، وهذا سبيلٌ إلى فساد الأديان وغياب العلماء.
ويستنكر العلامة ابن الحاج المالكي في كتاب المدخل ظاهرة ربط الفقه والعلوم الشرعية باللباس والمظهر الخارجي بدلًا من التحصيل العلمي والفهم الصحيح. ويبين أن ارتداء بعض الملابس الخاصة أصبح معيارًا لتمييز الفقيه عن العامة، حتى لو لم يكن لديه من العلم ما يؤهله لذلك. ويشير إلى أن هذا يؤدي إلى أن يتصدر الجهال للإفتاء، إذ يمنعهم مظهرهم من الاعتراف بجهلهم خشية سقوطهم من أعين الناس، فيفتي أحدهم بغير علم، فيضل ويضل غيره. ويؤكد ابن الحاج أن هذه المفسدة العظمى نشأت بسبب مخالفة السنة في اللباس، محذرًا من خطورة استبدال المظهر بالعلم الحقيقي، ومؤكدًا أن ترك السنة في أي أمر يؤدي إلى فقدان الخير.
📑 نشرة المحصل
••
••
الذين يستهينون بالتمايز العقدي، ويسرفون في تمييع الفواصل بين الإسلام وغيره، إنما يعبثون بحدود الله من غير بصيرة، فإنّ عظمة الدين ليست في قابليته للذوبان في ثقافات الآخرين، بل في صلابته وثباته، ومن سنن الله أن الذائبَ في غيره لا يُذكر إلا على هامش التاريخ.
••
الذين يستهينون بالتمايز العقدي، ويسرفون في تمييع الفواصل بين الإسلام وغيره، إنما يعبثون بحدود الله من غير بصيرة، فإنّ عظمة الدين ليست في قابليته للذوبان في ثقافات الآخرين، بل في صلابته وثباته، ومن سنن الله أن الذائبَ في غيره لا يُذكر إلا على هامش التاريخ.
••
لذة العبادة - خالد روشه.pdf
14.1 MB
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
••
•| مزاجية المبادئ |•
في زمنٍ مضى، كانت القيم كالنقش في الصخر، لا تمحوها أهواء، أمّا اليوم، باتت كالرسم على الرمل، تنتظر الموج القادم ليعيد تشكيلها كيفما شاء، ولم تعد الأخلاق مبادئ ثابتة تُحكم بها النفوس، بل أضحت كقطع الشطرنج، يحركها اللاعب الأقوى وفق ما تقتضيه مصلحته، وما يستميل به الجماهير.
صار الناس يرفعون راية الفضيلة إذا ناسبت هواهم، ثم يطوونها متى ما ضاقت بهم، الكذبُ يُسمّى "ذكاءً اجتماعيًا"، والخيانةُ تُغلف باسم "الحرية الشخصية"، وفي لحظة زمنية ما، تكون الأمانة موضع إجلال، فإذا تغيّر المزاج العام، أصبحت الأمانة “عائقًا” في وجه النجاح الشخصي، وفي عصرٍ سابق، كان الوفاء يُعَدُّ تاج الأخلاق، فإذا بنا اليوم نجد من يُفاخر بمهارته في التخلي السريع والتملص من العهود، ولم يعد الصدق تلك الفضيلة التي يُثنى على صاحبها، بل غدا في أحيان كثيرة موضع انتقاد تحت مسمى “السذاجة”.
لم يعد الأمر متعلّقًا بالصواب والخطأ، بل بمن يملك المنصة، ومن يصنع الخطاب، كما أشار علي عزت بيغوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب: "المجتمعات التي تفقد اتصالها بالإيمان والضمير الروحي، تتحول إلى كيانات سطحية، لا معيار فيها للخير والشر سوى ما تحدده المصلحة الآنية."
والمجتمع الذي يجعل القيم خادمةً للأهواء هو مجتمعٌ يفقد ذاكرته الأخلاقية، ومن أعظم مظاهر العصر أنّ المبادئ قد تحوّلت من كونها معالم ثابتة، تُستنبط من مشكاة الوحي وتُبنى على الفطرة السليمة، إلى مواد هلامية تتشكل وفق المزاج المجتمعي، وباتت اليوم المبادئ أسيرة الترندات، وهذا العصر، بقدر ما أطلق العنان للعقول، فقد قيّد الضمائر بحبالٍ غير مرئية، حتى صار الحق مسألة رأي، والباطل وجهة نظر.
هذا التحوّل الخطير لا يتوقف عند حد التغير الأخلاقي، بل يتغلغل إلى مفهوم الحقيقة ذاتها، فما كان صوابًا بالأمس، قد يُعاد تعريفه اليوم كـ"قمع للحرية"، وما كان رذيلةً يُنبذ صاحبها، صار رمزًا للانفتاح والتقدّم.
هذه السيولة في القيم ليست أمرًا عفويًا، بل هي نتاج منظومات فكرية وقوى ثقافية تعيد تشكيل وجدان الناس وتُبدّل معاييرهم، والنتيجة أن القيم التي كانت تضبط سلوك الفرد وتمنحه معيارًا واضحًا، أصبحت مرتهنة لرغبات الجماهير وأهواء السوق، فلا الثابت بقي ثابتًا، ولا المتغير توقف عن التغير.
وفي هذا المشهد، تنكشف أهمية العودة إلى المعايير الإلهية، ففي عالمٍ صار الحق فيه مرهونًا بشهرةٍ إعلامية، والباطل يُروج له باسم التنوير، يحتاج الإنسان إلى مصدر يُعيد له البوصلة، ويثبّت له القيم، فلا تذوب في تيارات العصر، ولا تفقد معناها في زحام التغيرات المتلاحقة.
••
•| مزاجية المبادئ |•
في زمنٍ مضى، كانت القيم كالنقش في الصخر، لا تمحوها أهواء، أمّا اليوم، باتت كالرسم على الرمل، تنتظر الموج القادم ليعيد تشكيلها كيفما شاء، ولم تعد الأخلاق مبادئ ثابتة تُحكم بها النفوس، بل أضحت كقطع الشطرنج، يحركها اللاعب الأقوى وفق ما تقتضيه مصلحته، وما يستميل به الجماهير.
صار الناس يرفعون راية الفضيلة إذا ناسبت هواهم، ثم يطوونها متى ما ضاقت بهم، الكذبُ يُسمّى "ذكاءً اجتماعيًا"، والخيانةُ تُغلف باسم "الحرية الشخصية"، وفي لحظة زمنية ما، تكون الأمانة موضع إجلال، فإذا تغيّر المزاج العام، أصبحت الأمانة “عائقًا” في وجه النجاح الشخصي، وفي عصرٍ سابق، كان الوفاء يُعَدُّ تاج الأخلاق، فإذا بنا اليوم نجد من يُفاخر بمهارته في التخلي السريع والتملص من العهود، ولم يعد الصدق تلك الفضيلة التي يُثنى على صاحبها، بل غدا في أحيان كثيرة موضع انتقاد تحت مسمى “السذاجة”.
لم يعد الأمر متعلّقًا بالصواب والخطأ، بل بمن يملك المنصة، ومن يصنع الخطاب، كما أشار علي عزت بيغوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب: "المجتمعات التي تفقد اتصالها بالإيمان والضمير الروحي، تتحول إلى كيانات سطحية، لا معيار فيها للخير والشر سوى ما تحدده المصلحة الآنية."
والمجتمع الذي يجعل القيم خادمةً للأهواء هو مجتمعٌ يفقد ذاكرته الأخلاقية، ومن أعظم مظاهر العصر أنّ المبادئ قد تحوّلت من كونها معالم ثابتة، تُستنبط من مشكاة الوحي وتُبنى على الفطرة السليمة، إلى مواد هلامية تتشكل وفق المزاج المجتمعي، وباتت اليوم المبادئ أسيرة الترندات، وهذا العصر، بقدر ما أطلق العنان للعقول، فقد قيّد الضمائر بحبالٍ غير مرئية، حتى صار الحق مسألة رأي، والباطل وجهة نظر.
هذا التحوّل الخطير لا يتوقف عند حد التغير الأخلاقي، بل يتغلغل إلى مفهوم الحقيقة ذاتها، فما كان صوابًا بالأمس، قد يُعاد تعريفه اليوم كـ"قمع للحرية"، وما كان رذيلةً يُنبذ صاحبها، صار رمزًا للانفتاح والتقدّم.
هذه السيولة في القيم ليست أمرًا عفويًا، بل هي نتاج منظومات فكرية وقوى ثقافية تعيد تشكيل وجدان الناس وتُبدّل معاييرهم، والنتيجة أن القيم التي كانت تضبط سلوك الفرد وتمنحه معيارًا واضحًا، أصبحت مرتهنة لرغبات الجماهير وأهواء السوق، فلا الثابت بقي ثابتًا، ولا المتغير توقف عن التغير.
وفي هذا المشهد، تنكشف أهمية العودة إلى المعايير الإلهية، ففي عالمٍ صار الحق فيه مرهونًا بشهرةٍ إعلامية، والباطل يُروج له باسم التنوير، يحتاج الإنسان إلى مصدر يُعيد له البوصلة، ويثبّت له القيم، فلا تذوب في تيارات العصر، ولا تفقد معناها في زحام التغيرات المتلاحقة.
••
••
الحمد لله حمدًا يليق بجلاله، ويملأ ما وسع ملكوته، حمدًا على نعمائه التي لا تحصى، وخيره الذي لا ينقطع، الحمد لله على عافية تدب في الأوصال، وعلى عقلٍ يهتدي بنوره، وعلى رزقٍ يساق بلطفه، وعلى سترٍ يغمرنا بعفوه.
الحمد لله على البشائر التي تأتينا من حيث لا نحتسب، وعلى المنع الذي هو عين العطاء، وعلى كل ما كان وما سيكون من خيره وفضله، نحمده في السراء والضراء، في البسط والقبض، في كل حال هو مولاه وسيده، وبه النجاة وإليه المصير.
••
الحمد لله حمدًا يليق بجلاله، ويملأ ما وسع ملكوته، حمدًا على نعمائه التي لا تحصى، وخيره الذي لا ينقطع، الحمد لله على عافية تدب في الأوصال، وعلى عقلٍ يهتدي بنوره، وعلى رزقٍ يساق بلطفه، وعلى سترٍ يغمرنا بعفوه.
الحمد لله على البشائر التي تأتينا من حيث لا نحتسب، وعلى المنع الذي هو عين العطاء، وعلى كل ما كان وما سيكون من خيره وفضله، نحمده في السراء والضراء، في البسط والقبض، في كل حال هو مولاه وسيده، وبه النجاة وإليه المصير.
••
••
القناعة ليست أن تترك السعي، ولا أن ترضى بالدون، بل أن ترى الجمال فيما لديك، دون أن تعميك الرغبة عمّا بين يديك، فمن لم يعرف الغنى في قلبه، لن يعرفه في خزائنه.
••
القناعة ليست أن تترك السعي، ولا أن ترضى بالدون، بل أن ترى الجمال فيما لديك، دون أن تعميك الرغبة عمّا بين يديك، فمن لم يعرف الغنى في قلبه، لن يعرفه في خزائنه.
••
••
حين يبحث المرء عن أكثر السبل أثرًا في هداية القلوب، يجدها تتباين بين ناصحٍ يستميل بالقصص، ومذكرٍ يوقظ بالمخاوف، وزاجرٍ يعلو صوته بالتحذير، غير أن أعلى درجات التذكير وأرفعها مقامًا هو ما كان بنور الوحي، ذاك الخطاب الذي لا يطرقه التكلّف، ولا يتزين له الأسلوب، بل ينفذ إلى القلب فيبث فيه اليقين، ويوقظ فيه الفطرة الأولى.
ولهذا، لم يكلّف الله نبيه ﷺ بأساليب الخطابة المؤثرة، ولا بالمجادلات المنطقية، بل جاءه التكليف الإلهي في أوج بساطته وعمقه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾. فليس في الكون كلمةٌ أبلغ من كلام الله، ولا حجة أقطع من حجته، ولا إنذار أنفذ إلى القلوب من كتابه، فهو النور الذي ينكشف به الغطاء، وهو الميزان الذي تُوزن به الحقائق، وهو الصوت الذي يُسمع رغم صخب الدنيا، فتخضع له النفوس، إما طوعًا أو رهبة.
••
حين يبحث المرء عن أكثر السبل أثرًا في هداية القلوب، يجدها تتباين بين ناصحٍ يستميل بالقصص، ومذكرٍ يوقظ بالمخاوف، وزاجرٍ يعلو صوته بالتحذير، غير أن أعلى درجات التذكير وأرفعها مقامًا هو ما كان بنور الوحي، ذاك الخطاب الذي لا يطرقه التكلّف، ولا يتزين له الأسلوب، بل ينفذ إلى القلب فيبث فيه اليقين، ويوقظ فيه الفطرة الأولى.
ولهذا، لم يكلّف الله نبيه ﷺ بأساليب الخطابة المؤثرة، ولا بالمجادلات المنطقية، بل جاءه التكليف الإلهي في أوج بساطته وعمقه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾. فليس في الكون كلمةٌ أبلغ من كلام الله، ولا حجة أقطع من حجته، ولا إنذار أنفذ إلى القلوب من كتابه، فهو النور الذي ينكشف به الغطاء، وهو الميزان الذي تُوزن به الحقائق، وهو الصوت الذي يُسمع رغم صخب الدنيا، فتخضع له النفوس، إما طوعًا أو رهبة.
••
••
الشخصية التحليلية ترهق ذاتها، تعيش في حالة استنفار دائم، تقلب الاحتمالات، وتوازن بين المعطيات، كأنها مسؤولة عن ترتيب فوضى العالم، يجلس صاحبها وسط ركامٍ من الافتراضات، يمعن النظر في المسارات، يزن العواقب، يقلب وجوه الأمور، ويحسب لكل طارئ حسابه، حتى يصبح عقله طاحونة لا تهدأ، ترهق النفس قبل أن تبلغ اليقين، وتستنطق الأحداث قبل أن تقع، وكأنما تعيش أعمارًا من القلق في لحظة واحدة.
ثم تمضي الأيام، فلا يتحقق إلا النزر اليسير مما استنزف فيه فكره وتأمله، وحين يلتفت إلى الوراء، يدرك أنه أرهق روحه في ظنون لم تكن، وأضاع سكينته في قلق لم يكن له داعٍ، وكأن عقله يصوغ قيوده بيديه، ثم يشكو مرارة الأسر!
لكن القلب لا يبرأ إلا بحسن التوكل على الله، وتسليم النفس لجميل أقداره، فكم من همٍّ بدده اليقين، وكم من خوفٍ زال حين استودعت النفس تدبير ربها، فمضت في درب الحياة مطمئنةً، تؤمن أن ما اختاره الله خيرٌ مما سعى إليه العقل وتوقعه، وكيف لا؟ وقد قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: ٥١).
••
الشخصية التحليلية ترهق ذاتها، تعيش في حالة استنفار دائم، تقلب الاحتمالات، وتوازن بين المعطيات، كأنها مسؤولة عن ترتيب فوضى العالم، يجلس صاحبها وسط ركامٍ من الافتراضات، يمعن النظر في المسارات، يزن العواقب، يقلب وجوه الأمور، ويحسب لكل طارئ حسابه، حتى يصبح عقله طاحونة لا تهدأ، ترهق النفس قبل أن تبلغ اليقين، وتستنطق الأحداث قبل أن تقع، وكأنما تعيش أعمارًا من القلق في لحظة واحدة.
ثم تمضي الأيام، فلا يتحقق إلا النزر اليسير مما استنزف فيه فكره وتأمله، وحين يلتفت إلى الوراء، يدرك أنه أرهق روحه في ظنون لم تكن، وأضاع سكينته في قلق لم يكن له داعٍ، وكأن عقله يصوغ قيوده بيديه، ثم يشكو مرارة الأسر!
لكن القلب لا يبرأ إلا بحسن التوكل على الله، وتسليم النفس لجميل أقداره، فكم من همٍّ بدده اليقين، وكم من خوفٍ زال حين استودعت النفس تدبير ربها، فمضت في درب الحياة مطمئنةً، تؤمن أن ما اختاره الله خيرٌ مما سعى إليه العقل وتوقعه، وكيف لا؟ وقد قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: ٥١).
••
قناة | توّاق
•• الشخصية التحليلية ترهق ذاتها، تعيش في حالة استنفار دائم، تقلب الاحتمالات، وتوازن بين المعطيات، كأنها مسؤولة عن ترتيب فوضى العالم، يجلس صاحبها وسط ركامٍ من الافتراضات، يمعن النظر في المسارات، يزن العواقب، يقلب وجوه الأمور، ويحسب لكل طارئ حسابه، حتى يصبح…
مناسبة سعيدة؟ حسنًا، يبدو أن ربع المتابعين شخصيات تحليلية🤓 … يعني قبل ما يفرحون، لازم يحسبون نسبة السعادة، يقارنونها بالإحصائيات السابقة، ويطلعون لنا بمخطط بياني يثبت أن الفرح منطقي! يا لطيف😅
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
مساحة حرة
آنس فيها بأجوبتكم لدقائق معدودة.
لكن، لماذا هذا الإفراط في التحليل؟ أهو بحث عن يقين مفقود أم قلقٌ يطارد الوضوح؟ هل هو سبرٌ للمعاني، أم أنه متاهةٌ لا نهاية لها؟
آنس فيها بأجوبتكم لدقائق معدودة.
لكن، لماذا هذا الإفراط في التحليل؟ أهو بحث عن يقين مفقود أم قلقٌ يطارد الوضوح؟ هل هو سبرٌ للمعاني، أم أنه متاهةٌ لا نهاية لها؟
••
صراحة، المرء ليجد في نفسه حرجًا من إغلاق نافذة التعليقات، بعدما رأى حسن بيانكم، ورقي طرحكم، وسمو معانيكم، فالأدب يزيد الفكرة بهاء.
ستبقى مشرعةً ما دامت ميدانًا للحوار الرصين، وإثراءً للجمع الكريم، وفضاءً تتلاقى فيه العقول، ما لم تنقلب إلى شريط إعلانات يفسد رونقها، أو يجنح بها الحديث عما ينافي الآداب، أو يخرجها عن جادة الصواب.
••
صراحة، المرء ليجد في نفسه حرجًا من إغلاق نافذة التعليقات، بعدما رأى حسن بيانكم، ورقي طرحكم، وسمو معانيكم، فالأدب يزيد الفكرة بهاء.
ستبقى مشرعةً ما دامت ميدانًا للحوار الرصين، وإثراءً للجمع الكريم، وفضاءً تتلاقى فيه العقول، ما لم تنقلب إلى شريط إعلانات يفسد رونقها، أو يجنح بها الحديث عما ينافي الآداب، أو يخرجها عن جادة الصواب.
••
•
أشدّ المعارف وقعًا على النفس وأعمقها أثرًا هي تلك التي تأتي بعد طول تيهٍ وحيرة، فمن ذاق مرارة التخبّط بين الأفكار عرف لذة الاستقامة، ومن خبر ضياع العمر في الفوضى أدرك بركة الوقت حين يُستثمر في الطاعة.
والمرء ما دام في سعة من العيش قد يجهل نعمة التوجيه، لكن ما إن تبتليه الحياة حتى يدرك أن أعظم المنن ليست في كثرة الأسباب، بل في وضوح الطريق، فاللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وألهمنا رشدنا قبل أن توهننا التجارب.
••
أشدّ المعارف وقعًا على النفس وأعمقها أثرًا هي تلك التي تأتي بعد طول تيهٍ وحيرة، فمن ذاق مرارة التخبّط بين الأفكار عرف لذة الاستقامة، ومن خبر ضياع العمر في الفوضى أدرك بركة الوقت حين يُستثمر في الطاعة.
والمرء ما دام في سعة من العيش قد يجهل نعمة التوجيه، لكن ما إن تبتليه الحياة حتى يدرك أن أعظم المنن ليست في كثرة الأسباب، بل في وضوح الطريق، فاللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وألهمنا رشدنا قبل أن توهننا التجارب.
••
••
الذي أتصوره أن الشخصية الجادة، لا تُسرف في الوعود، ولا تفرط في الحوارات المطولة، بل تسلك سبيل الفعل لعلمها ببيانه، لا تُغريها الأضواء، ولا تستهويها المجادلات، فدليلها في كل موقف هو العمل الصامت الذي يترك أثره بلا صخب.
هذه العقول تدرك أن الكلمات وإن زخرفت، فلن تغني عن خطوة تُخطى، ولن تعوّض عن جهد يُبذل، فحيثما رأيت صرحًا مشيدًا بلا دعاية، وإنجازًا بارزًا بلا استعراض، فاعلم أن وراءه جادًا كره أن يطيل القول ويقصر الفعل، لإيمانه أن قيمة الإنسان بما يبنيه، لا بما يذيعه، والعاقل يصطّف في معسكر الفعل لا في ميدان الشعارات.
••
الذي أتصوره أن الشخصية الجادة، لا تُسرف في الوعود، ولا تفرط في الحوارات المطولة، بل تسلك سبيل الفعل لعلمها ببيانه، لا تُغريها الأضواء، ولا تستهويها المجادلات، فدليلها في كل موقف هو العمل الصامت الذي يترك أثره بلا صخب.
هذه العقول تدرك أن الكلمات وإن زخرفت، فلن تغني عن خطوة تُخطى، ولن تعوّض عن جهد يُبذل، فحيثما رأيت صرحًا مشيدًا بلا دعاية، وإنجازًا بارزًا بلا استعراض، فاعلم أن وراءه جادًا كره أن يطيل القول ويقصر الفعل، لإيمانه أن قيمة الإنسان بما يبنيه، لا بما يذيعه، والعاقل يصطّف في معسكر الفعل لا في ميدان الشعارات.
••