••
القراءة اليومية ليست مجرّد عادةٍ ثقافية، بل هي فعل مقاومةٍ هادئ ضد التسطّح، وضد الانجراف مع تيار التفاهة المعولم، وهي صيانة باطنية للعقل، تحفظ عليه حرارته الفكرية وسط برودة الواقع وبلادة التكرار.
فالعقل الذي لا يُستثار يوميًا بنصٍّ، أو فكرة، أو تساؤل، يذبل كما تذبل الروح حين تُهجر مواطن الذكر، والقراءة ليست ترفًا في جدول مزدحم، بل هي فرض كفايةٍ على كل من أراد ألاّ يُؤخذ من يده دون وعي، ولا يُستدرج إلى القاع باسم الانشغال، وإنّ قطع العهد مع الورق هو قطعٌ تدريجي لصِلتنا بذواتنا كما أرادها الله: متفكّرة، متأملة، موقنة.
••
القراءة اليومية ليست مجرّد عادةٍ ثقافية، بل هي فعل مقاومةٍ هادئ ضد التسطّح، وضد الانجراف مع تيار التفاهة المعولم، وهي صيانة باطنية للعقل، تحفظ عليه حرارته الفكرية وسط برودة الواقع وبلادة التكرار.
فالعقل الذي لا يُستثار يوميًا بنصٍّ، أو فكرة، أو تساؤل، يذبل كما تذبل الروح حين تُهجر مواطن الذكر، والقراءة ليست ترفًا في جدول مزدحم، بل هي فرض كفايةٍ على كل من أراد ألاّ يُؤخذ من يده دون وعي، ولا يُستدرج إلى القاع باسم الانشغال، وإنّ قطع العهد مع الورق هو قطعٌ تدريجي لصِلتنا بذواتنا كما أرادها الله: متفكّرة، متأملة، موقنة.
••
••
في خفاء النفس، حيث تنعجن الأفكار بماء الطبع، تنشأ الميول لا على طاولة الاستدلال فحسب، بل على موائد العاطفة والمزاج والتجربة.
و العقل الإنساني لا يتحرّك في فراغٍ نظيف، بل في تربةٍ مشبعةٍ بالأمزجة والأخلاق والتجارب، فالمرء لا ينظر إلى الحجج والبراهين بعينٍ مجردة، بل بعينٍ طُبعت على لونِ ما تعوّد، وسَمت بحسب ما عاش وذاق، ولذا فإنّ الميول المعرفية ليست في كثيرٍ من الأحيان ثمرة استدلالٍ بحت، بل انعكاسٌ عميق لأخلاقٍ مغروسة، وتجاربَ كامنة، ونفسٍ تجنح لما يُشبهها وتأنفُ مما يُخالف سجاياها.
فالذي طالت صحبته لعلم الكلام، تنفر نفسه من جفاف المتون الفقهية، ويستلذ الاستدلال المجرّد؛ لأنه شبّ على دهاليز المنطق ونقاشات القضايا الكلية، بينما الذي نشأ في حلقات الفقه، تأنس نفسه بالتفريعات وضبط الأقوال، ويستوحش من تجريدات المتكلمين، بل إنّ الأمر يتعدى ذلك إلى الطبع والسلوك، فغليظ الطبع يستعذب النصوص التي فيها بأسٌ وشدّة، ورفيق النفس يميل لما فيه رحمةٌ ومسامحة.
وهذا المعنى العميق لخّلل التلقّي، والتنويع في ألوان الظن، قد نبّه عليه الإمام الغزالي - رحمه الله - فقال: “اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون؛ فمن مارس علم الكلام ناسبَ طبعه أنواعٌ من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه، ولذلك من مارس الوعظ صار مائلًا إلى جنس ذلك الكلام، بل يختلف باختلاف الأخلاق، فمن غلب عليه الغضب مالت نفسُه إلى كلِّ ما فيه شهامةٌ وانتقامٌ، ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة.”
••
في خفاء النفس، حيث تنعجن الأفكار بماء الطبع، تنشأ الميول لا على طاولة الاستدلال فحسب، بل على موائد العاطفة والمزاج والتجربة.
و العقل الإنساني لا يتحرّك في فراغٍ نظيف، بل في تربةٍ مشبعةٍ بالأمزجة والأخلاق والتجارب، فالمرء لا ينظر إلى الحجج والبراهين بعينٍ مجردة، بل بعينٍ طُبعت على لونِ ما تعوّد، وسَمت بحسب ما عاش وذاق، ولذا فإنّ الميول المعرفية ليست في كثيرٍ من الأحيان ثمرة استدلالٍ بحت، بل انعكاسٌ عميق لأخلاقٍ مغروسة، وتجاربَ كامنة، ونفسٍ تجنح لما يُشبهها وتأنفُ مما يُخالف سجاياها.
فالذي طالت صحبته لعلم الكلام، تنفر نفسه من جفاف المتون الفقهية، ويستلذ الاستدلال المجرّد؛ لأنه شبّ على دهاليز المنطق ونقاشات القضايا الكلية، بينما الذي نشأ في حلقات الفقه، تأنس نفسه بالتفريعات وضبط الأقوال، ويستوحش من تجريدات المتكلمين، بل إنّ الأمر يتعدى ذلك إلى الطبع والسلوك، فغليظ الطبع يستعذب النصوص التي فيها بأسٌ وشدّة، ورفيق النفس يميل لما فيه رحمةٌ ومسامحة.
وهذا المعنى العميق لخّلل التلقّي، والتنويع في ألوان الظن، قد نبّه عليه الإمام الغزالي - رحمه الله - فقال: “اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون؛ فمن مارس علم الكلام ناسبَ طبعه أنواعٌ من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه، ولذلك من مارس الوعظ صار مائلًا إلى جنس ذلك الكلام، بل يختلف باختلاف الأخلاق، فمن غلب عليه الغضب مالت نفسُه إلى كلِّ ما فيه شهامةٌ وانتقامٌ، ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة.”
••
••
يا رب، جلالك لا يُحد، ونوالك لا يُعد، وآثار إحسانك في الخلق لا تخفى، وأنا – الغارق في تقصيره، المتقلب في نعمتك – لا أملك إلا قلبًا مدهوشًا من كثرة عطائك، ولسانًا عاجزًا عن بلوغ تمام الثناء عليك، فكيف إذا اجتمع فقر العبد وغناك، وعجزه وقدرتك؟!
اللهم ألهمني شكر نعمتك، واصطنع لي من لطفك ما يُقيم عوج قلبي، ويعلّمني أن الحمد لا يكون بألفاظٍ منمقة، بل بانكسارٍ يتّكئ على بابك، واعترافٍ لا يطلب سواك.
••
يا رب، جلالك لا يُحد، ونوالك لا يُعد، وآثار إحسانك في الخلق لا تخفى، وأنا – الغارق في تقصيره، المتقلب في نعمتك – لا أملك إلا قلبًا مدهوشًا من كثرة عطائك، ولسانًا عاجزًا عن بلوغ تمام الثناء عليك، فكيف إذا اجتمع فقر العبد وغناك، وعجزه وقدرتك؟!
اللهم ألهمني شكر نعمتك، واصطنع لي من لطفك ما يُقيم عوج قلبي، ويعلّمني أن الحمد لا يكون بألفاظٍ منمقة، بل بانكسارٍ يتّكئ على بابك، واعترافٍ لا يطلب سواك.
••
••
•| تآكل الإرادة |•
أول ما يلفت انتباهي في مجالسة بعض الأصحاب ليس ما يقولونه، بل ما لا يفعلونه، تلك الحالة الرمادية التي تسمى “الفراغ”، ولا شيء يُربك البصيرة كمجالسة الفراغ، فهو ليس مساحة خالية من الأفعال، بل هو ساحةٌ خصبة تنبت فيها الأوهام، وتتعشّش على أطرافها خيالاتٌ كاذبة، تستدرج الإنسان إلى شتاتٍ داخليّ يُفقِده المعنى وهو لا يشعر، والفراغ هو غياب للمعنى، وضياع للمقصد، وتآكلٌ خفيّ لعصب الإرادة، حيث يتحول الشاب من مشروع بناءٍ إلى ريشةٍ في مهبّ الملهيات، الشاب الذي يقف عند قارعة الطريق في مطالع العشرين أو حوافّ الثلاثين دون وجهةٍ واضحة، ليس مؤجّلًا فحسب، بل هو مُهدَّد، لأن المجهول لا يُبقي أحدًا على الحياد، والفراغ لا يُبقي القلب خاملاً، بل يملؤه على غير وعيٍ منه.
ومأسوية الفراغ ليست في وقته الضائع، بل في ما يصنعه من شخصية تافهة، تستثقل المعاني، وتستبدل بها الانشغال بالسطحيّات والعلائق المُخاتلة، ومؤسفٌ حين يُسارع بعضهم إلى تبرير هذا السكون بأنه “راحة”، بينما هو في الحقيقة صيغةٌ من الغياب المتقن، الذي لا يُدرك خطورته إلا حين تُستهلك الأيام في انشغالاتٍ لا تُقوّي قلبًا، ولا تبني عقلًا، ولا تزكّي روحًا.
و ليست المصيبة أن يسقط الإنسان دفعةً واحدة، بل أن يتآكل ببطء، يُسلَب منه حب الطاعة، ويتقزّم فيه مشروع العمر، ويصغر قلبه حتى لا يحتمل فكرةً كبيرة، وهذا التآكل يبدأ غالبًا من لحظة فراغٍ تُترك بلا مشروع، ولا تسأل بعدها لماذا الذبول؟
ومن لطيف التأملات: النفس لا تُفرغ من شيء إلا ليمتلئ بغيره، فإن لم تملأها بالحق، تسرّبت إليها السخافات، واكتظّت بشظايا الملهيات، وليس المقصود أن يكون الإنسان موسوعيًا، ولا أن يبلغ رتبة العلماء، بل أن يحفظ ما بقي من عمره بما ينفعه، ويؤنس قلبه، ويقوده بخطى وئيدة إلى مراد الله منه، فإنّ أعظم ما يُملأ به الوقت هو ما يُرضي الله، ويُقوّي صلة العبد به، ويُبقيه في سياق العلم والبصيرة.
ومن عرف سنن الله في النفوس، علم أن النفس لا تُترك، فإما أن تُقاد إلى الحق، أو تُسحب إلى الباطل، وما من شيء أنبل، وأغلى، وأبقى، من أن يُملأ هذا الفراغ بطاعة الله، والإقبال على العلم، وسلوك درب المعرفة، لا بوصفها زينةً ثقافية، أو وعظًا تقليديًا، بل لأنها ما أثبته التاريخ، ونطقت به تجارب الحكماء، وأجمعت عليه عقول المصلحين، منذ أن تنبّه الإنسان إلى معنى وجوده على هذا الكوكب الأزرق.
••
•| تآكل الإرادة |•
أول ما يلفت انتباهي في مجالسة بعض الأصحاب ليس ما يقولونه، بل ما لا يفعلونه، تلك الحالة الرمادية التي تسمى “الفراغ”، ولا شيء يُربك البصيرة كمجالسة الفراغ، فهو ليس مساحة خالية من الأفعال، بل هو ساحةٌ خصبة تنبت فيها الأوهام، وتتعشّش على أطرافها خيالاتٌ كاذبة، تستدرج الإنسان إلى شتاتٍ داخليّ يُفقِده المعنى وهو لا يشعر، والفراغ هو غياب للمعنى، وضياع للمقصد، وتآكلٌ خفيّ لعصب الإرادة، حيث يتحول الشاب من مشروع بناءٍ إلى ريشةٍ في مهبّ الملهيات، الشاب الذي يقف عند قارعة الطريق في مطالع العشرين أو حوافّ الثلاثين دون وجهةٍ واضحة، ليس مؤجّلًا فحسب، بل هو مُهدَّد، لأن المجهول لا يُبقي أحدًا على الحياد، والفراغ لا يُبقي القلب خاملاً، بل يملؤه على غير وعيٍ منه.
ومأسوية الفراغ ليست في وقته الضائع، بل في ما يصنعه من شخصية تافهة، تستثقل المعاني، وتستبدل بها الانشغال بالسطحيّات والعلائق المُخاتلة، ومؤسفٌ حين يُسارع بعضهم إلى تبرير هذا السكون بأنه “راحة”، بينما هو في الحقيقة صيغةٌ من الغياب المتقن، الذي لا يُدرك خطورته إلا حين تُستهلك الأيام في انشغالاتٍ لا تُقوّي قلبًا، ولا تبني عقلًا، ولا تزكّي روحًا.
و ليست المصيبة أن يسقط الإنسان دفعةً واحدة، بل أن يتآكل ببطء، يُسلَب منه حب الطاعة، ويتقزّم فيه مشروع العمر، ويصغر قلبه حتى لا يحتمل فكرةً كبيرة، وهذا التآكل يبدأ غالبًا من لحظة فراغٍ تُترك بلا مشروع، ولا تسأل بعدها لماذا الذبول؟
ومن لطيف التأملات: النفس لا تُفرغ من شيء إلا ليمتلئ بغيره، فإن لم تملأها بالحق، تسرّبت إليها السخافات، واكتظّت بشظايا الملهيات، وليس المقصود أن يكون الإنسان موسوعيًا، ولا أن يبلغ رتبة العلماء، بل أن يحفظ ما بقي من عمره بما ينفعه، ويؤنس قلبه، ويقوده بخطى وئيدة إلى مراد الله منه، فإنّ أعظم ما يُملأ به الوقت هو ما يُرضي الله، ويُقوّي صلة العبد به، ويُبقيه في سياق العلم والبصيرة.
ومن عرف سنن الله في النفوس، علم أن النفس لا تُترك، فإما أن تُقاد إلى الحق، أو تُسحب إلى الباطل، وما من شيء أنبل، وأغلى، وأبقى، من أن يُملأ هذا الفراغ بطاعة الله، والإقبال على العلم، وسلوك درب المعرفة، لا بوصفها زينةً ثقافية، أو وعظًا تقليديًا، بل لأنها ما أثبته التاريخ، ونطقت به تجارب الحكماء، وأجمعت عليه عقول المصلحين، منذ أن تنبّه الإنسان إلى معنى وجوده على هذا الكوكب الأزرق.
••
••
في دروب الحياة المتشعّبة، يُبتلى القلب أحيانًا بانزياح في وجهته، واختلال في بوصلته، فيسير متعثّرًا في صحراء الغفلة، يتلمّس أطراف الطمأنينة فلا يجد لها أثرًا، ويتخيّل أن بينه وبين الله سدودًا من وحشة لا تُخترق، وما علم المسكين أن وراء هذا الانكسار عناية تُهيّئ له عودته قبل أن يطلبها، وتنسج له خيوط الرجوع وهو لا يدري.
لحظة صدقٍ واحدة، فقط لحظة، تنفذ من أعماق القلب في غفلة من الدنيا، فتفتح له أبواب السماء، ويُستدرج إلى مقام الاستغفار استدراجًا رفيقًا، كما يُستدرج المشتاق إلى حنين بيته الأول. هناك، تُغسل أنفاسه من شوائب الذنب، وتُنقّى روحه من علائق الاستطالة، ويشرق في داخله نورٌ كان قد خفت، أو كاد أن ينطفئ.
وحسبك أن الله لم يُسلّمه للمعصية، ولم يُخْلِه للشيطان، بل رعى قلبه ساعة الضعف، وأدار له مفاتيح الأوبة بلطف، وفتح عليه من بركات القرب ما لم يكن في حسابه.
كم من عبدٍ رآه الشيطان صيدًا سهلاً، فإذا به – بعد التوبة – أرسخ إيمانًا، وأصدق عبودية، وأنقى باطنًا! لقد أراده إبليس غريبًا، وأراده الله حبيبًا، وجعل من ذنبه بوابةً إلى مقام لم تبلغه طاعاته.
••
في دروب الحياة المتشعّبة، يُبتلى القلب أحيانًا بانزياح في وجهته، واختلال في بوصلته، فيسير متعثّرًا في صحراء الغفلة، يتلمّس أطراف الطمأنينة فلا يجد لها أثرًا، ويتخيّل أن بينه وبين الله سدودًا من وحشة لا تُخترق، وما علم المسكين أن وراء هذا الانكسار عناية تُهيّئ له عودته قبل أن يطلبها، وتنسج له خيوط الرجوع وهو لا يدري.
لحظة صدقٍ واحدة، فقط لحظة، تنفذ من أعماق القلب في غفلة من الدنيا، فتفتح له أبواب السماء، ويُستدرج إلى مقام الاستغفار استدراجًا رفيقًا، كما يُستدرج المشتاق إلى حنين بيته الأول. هناك، تُغسل أنفاسه من شوائب الذنب، وتُنقّى روحه من علائق الاستطالة، ويشرق في داخله نورٌ كان قد خفت، أو كاد أن ينطفئ.
وحسبك أن الله لم يُسلّمه للمعصية، ولم يُخْلِه للشيطان، بل رعى قلبه ساعة الضعف، وأدار له مفاتيح الأوبة بلطف، وفتح عليه من بركات القرب ما لم يكن في حسابه.
كم من عبدٍ رآه الشيطان صيدًا سهلاً، فإذا به – بعد التوبة – أرسخ إيمانًا، وأصدق عبودية، وأنقى باطنًا! لقد أراده إبليس غريبًا، وأراده الله حبيبًا، وجعل من ذنبه بوابةً إلى مقام لم تبلغه طاعاته.
••
••
القبول بين الخلق ليس شرفًا يُكتسب، ولا رتبةً تُنال بالحيلة، بل هو منحةٌ إلهية يبتلي الله بها بعض عباده ليختبر خفاء سرائرهم، ويزن بها صدق مناجاتهم في الخلوات، وما أكثر ما يُزيّن الثناء ظاهر المرء، وهو من الداخل يئنّ تحت أثقال العجز والتقصير.
فاحذر أن تستبدل يقظة المجاهدة بنعاس الثناء، أو أن تظنّ أن المحبة دليل عافية، فالفتنة قد تكون في الورد أكثر من الشوك، وأسأل الله أن يكون سترك عنده أوسع من مديح الناس لك، فما كل محبوبٍ مأجور، ولا كل محمودٍ مسرور.
••
القبول بين الخلق ليس شرفًا يُكتسب، ولا رتبةً تُنال بالحيلة، بل هو منحةٌ إلهية يبتلي الله بها بعض عباده ليختبر خفاء سرائرهم، ويزن بها صدق مناجاتهم في الخلوات، وما أكثر ما يُزيّن الثناء ظاهر المرء، وهو من الداخل يئنّ تحت أثقال العجز والتقصير.
فاحذر أن تستبدل يقظة المجاهدة بنعاس الثناء، أو أن تظنّ أن المحبة دليل عافية، فالفتنة قد تكون في الورد أكثر من الشوك، وأسأل الله أن يكون سترك عنده أوسع من مديح الناس لك، فما كل محبوبٍ مأجور، ولا كل محمودٍ مسرور.
••
••
الناس – يا صاحبي – كالفصول؛ فيهم ربيع الإقبال وخريف الجفاء، وصيف الحماسة وشتاء الفتور، غير أنّك إن عرفتَ في الحياة وجهًا لا يذبل، وصوتًا لا يُنسى، وقلبًا لا يُغلق بوجهك، فاعلم أنّك قد ظفرت ببستان لا تنقطع عنه الزهور، ولا تعرف أوراقه الخريف، والناس مواسم، لكن بعضهم يُزهر في قلبك طوال العام.
••
الناس – يا صاحبي – كالفصول؛ فيهم ربيع الإقبال وخريف الجفاء، وصيف الحماسة وشتاء الفتور، غير أنّك إن عرفتَ في الحياة وجهًا لا يذبل، وصوتًا لا يُنسى، وقلبًا لا يُغلق بوجهك، فاعلم أنّك قد ظفرت ببستان لا تنقطع عنه الزهور، ولا تعرف أوراقه الخريف، والناس مواسم، لكن بعضهم يُزهر في قلبك طوال العام.
••
••
لا يسمع أنين الأرواح إلا من خالط في صدره وجعًا لا يُترجم، وكمدًا لا يُفصح، فإنك لترى وجهًا ساكنًا لا تكدّره التجاعيد، ولكن خلفه عاصفة صامتة، تتكسّر فيها الأمنيات وتتمزّق على حافّتها الكلمات.
وما كلُّ من أوجز في قوله قد ملّ، ولا كل من اعتذر عن لقاء قد جفَا، بل إنّ منهم من يحمل أثقالًا لو وُزّعت على الجبال لاندكت، فهو يتوارى عنك كي لا يرى خجل حزنه في عينيك، ويقصر في الوصل، لا لأنك هِنت، ولكن لأنه يخشى أن تراه حين تهتزّ داخله الأعمدة.
وإنّ أشدّ الانهيارات لا تُرى، ولا يُسمع لها صوت، بل تمرّ على هيئات لا تُبصرها العينُ الساذجة، في نبرةٍ ذابلة، أو نظرةٍ مطفأة، أو تخلّفٍ عن عادةٍ كانت بالأمس سبب الأنس.
رحم الله من وسّع على الناس بفهمه، وأراح المبتلى بعدم ملامته، وأعان الموجوع أن يتجلّد حتى يعبر، وبعض الغيابِ طلبُ أمانٍ في غير مرأى الناس، فطوبى لمن كان للقلوبِ مأمنًا لا محكمة.
••
لا يسمع أنين الأرواح إلا من خالط في صدره وجعًا لا يُترجم، وكمدًا لا يُفصح، فإنك لترى وجهًا ساكنًا لا تكدّره التجاعيد، ولكن خلفه عاصفة صامتة، تتكسّر فيها الأمنيات وتتمزّق على حافّتها الكلمات.
وما كلُّ من أوجز في قوله قد ملّ، ولا كل من اعتذر عن لقاء قد جفَا، بل إنّ منهم من يحمل أثقالًا لو وُزّعت على الجبال لاندكت، فهو يتوارى عنك كي لا يرى خجل حزنه في عينيك، ويقصر في الوصل، لا لأنك هِنت، ولكن لأنه يخشى أن تراه حين تهتزّ داخله الأعمدة.
وإنّ أشدّ الانهيارات لا تُرى، ولا يُسمع لها صوت، بل تمرّ على هيئات لا تُبصرها العينُ الساذجة، في نبرةٍ ذابلة، أو نظرةٍ مطفأة، أو تخلّفٍ عن عادةٍ كانت بالأمس سبب الأنس.
رحم الله من وسّع على الناس بفهمه، وأراح المبتلى بعدم ملامته، وأعان الموجوع أن يتجلّد حتى يعبر، وبعض الغيابِ طلبُ أمانٍ في غير مرأى الناس، فطوبى لمن كان للقلوبِ مأمنًا لا محكمة.
••
••
كنتُ في مقعدي، والسكون يكسو الطائرة، أتنقّل بين سطور كتابٍ يؤنس وحشة السفر، حين تسرّب إلى أذني حديث شابٍ خلفي يتغنّى بثروة أحدهم وسعة دنياه.
لم ألتفت إليه، لكن كلماته نقرت على جدار الفكر، فأجابتني الآية: ﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض﴾. فليس كل مبسوطٍ في الظاهر مغمورًا بالرضا، ولا كل محرومٍ في العين ضيّق العيش، وهكذا كتبت هذه الحروف لا ردًّا على قوله، بل نجاةً من مقارنته.
ثم تبيّن لي، شيئًا فشيئًا، أن هذا الضيق المكتوم، والتبرّم الصامت، وتلك الغصة التي لا سبب ظاهر لها، وجدتَ أن كثيرًا من النفوس – وإن لم تنطق – تعاني من ألم المقارنة، وتعب المفاضلة، واحتراق الرغبة الخفيّة في أن يكون لها ما في أيدي الآخرين، ومن أعظم ما ينهك القلب ليس قلّة العطاء، بل كثرة الالتفات، وتراكم المقارنات.
وحين يضعف التوحيد في القلب، يُنسى أن الله هو الرازق، وأنه ما من موهبة ظهرت، ولا نعمة نُشرت، ولا رتبة شُهِدت، إلا وقد خرجت من خزائن فضله، لا من كفاءة أصحابها ولا من عبقريتهم. “ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض”، فالتفاوت قدرٌ مقصود، لا خللٌ في القسمة، بل هو ميزان دقيق تُختبر به القلوب، وتُعرف به منازع النفوس.
ومن تأمّل هذا الفضل الإلهي، ووعى أن الله هو الذي يُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، سكنت نفسه، وتوجّه بكليّته إلى ربّه، لا إلى مرآة الموهوبين، ولا إلى جدران الشهرة، وكل فكرة تربوية لا تزرع في النفس هذا الإيمان العميق بعدالة الله، وتُفهمها أن السباق ليس في النتائج، بل في الصدق والاجتهاد، هي تربية تترك الإنسان معذّبًا بالتفاصيل، متورمًا من الداخل، يغضب حين يُمدح غيره، ويتألم من كل تميزٍ لا يُنسب إليه.
كل مقارنة مريرة، كل نظرة حاسدة، كل فتور مفاجئ بعد رؤية إنجازات الآخرين، هي - في أصلها - لحظة نسيان لله، واعتكاف على مرآة الغير بدل الانكفاء على موضع الاجتهاد، وكم تاهت النفوس حين لم تفرّق بين “فضل الله” الذي يُسأل، و”نصيب الناس” الذي يُحفظ لهم دون تحسر أو اعتراض.
ومن أعظم أسباب التوفيق أن يُربى القلب على سؤال الفضل من الله لا من البشر، وعلى الامتنان قبل الطموح، وعلى الرضى بالمنحة قبل مقارنتها، فمن غاب عنه هذا الأصل، طاف في أسواق الدنيا يطلب ما لا يُعطى إلا من السماء.
وهبطت الطائرة، لا كما تهبط الرحلات، بل كأنها أنزلتني على فكرة أن القلب لا يهدأ حتى يقطع تذكرة الرضى نحو السماء، فبعض الأسفار ليست بين المطارات، بل بين غفلة المقارنة، ويقظة التوحيد.
••
كنتُ في مقعدي، والسكون يكسو الطائرة، أتنقّل بين سطور كتابٍ يؤنس وحشة السفر، حين تسرّب إلى أذني حديث شابٍ خلفي يتغنّى بثروة أحدهم وسعة دنياه.
لم ألتفت إليه، لكن كلماته نقرت على جدار الفكر، فأجابتني الآية: ﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض﴾. فليس كل مبسوطٍ في الظاهر مغمورًا بالرضا، ولا كل محرومٍ في العين ضيّق العيش، وهكذا كتبت هذه الحروف لا ردًّا على قوله، بل نجاةً من مقارنته.
ثم تبيّن لي، شيئًا فشيئًا، أن هذا الضيق المكتوم، والتبرّم الصامت، وتلك الغصة التي لا سبب ظاهر لها، وجدتَ أن كثيرًا من النفوس – وإن لم تنطق – تعاني من ألم المقارنة، وتعب المفاضلة، واحتراق الرغبة الخفيّة في أن يكون لها ما في أيدي الآخرين، ومن أعظم ما ينهك القلب ليس قلّة العطاء، بل كثرة الالتفات، وتراكم المقارنات.
وحين يضعف التوحيد في القلب، يُنسى أن الله هو الرازق، وأنه ما من موهبة ظهرت، ولا نعمة نُشرت، ولا رتبة شُهِدت، إلا وقد خرجت من خزائن فضله، لا من كفاءة أصحابها ولا من عبقريتهم. “ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض”، فالتفاوت قدرٌ مقصود، لا خللٌ في القسمة، بل هو ميزان دقيق تُختبر به القلوب، وتُعرف به منازع النفوس.
ومن تأمّل هذا الفضل الإلهي، ووعى أن الله هو الذي يُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، سكنت نفسه، وتوجّه بكليّته إلى ربّه، لا إلى مرآة الموهوبين، ولا إلى جدران الشهرة، وكل فكرة تربوية لا تزرع في النفس هذا الإيمان العميق بعدالة الله، وتُفهمها أن السباق ليس في النتائج، بل في الصدق والاجتهاد، هي تربية تترك الإنسان معذّبًا بالتفاصيل، متورمًا من الداخل، يغضب حين يُمدح غيره، ويتألم من كل تميزٍ لا يُنسب إليه.
كل مقارنة مريرة، كل نظرة حاسدة، كل فتور مفاجئ بعد رؤية إنجازات الآخرين، هي - في أصلها - لحظة نسيان لله، واعتكاف على مرآة الغير بدل الانكفاء على موضع الاجتهاد، وكم تاهت النفوس حين لم تفرّق بين “فضل الله” الذي يُسأل، و”نصيب الناس” الذي يُحفظ لهم دون تحسر أو اعتراض.
ومن أعظم أسباب التوفيق أن يُربى القلب على سؤال الفضل من الله لا من البشر، وعلى الامتنان قبل الطموح، وعلى الرضى بالمنحة قبل مقارنتها، فمن غاب عنه هذا الأصل، طاف في أسواق الدنيا يطلب ما لا يُعطى إلا من السماء.
وهبطت الطائرة، لا كما تهبط الرحلات، بل كأنها أنزلتني على فكرة أن القلب لا يهدأ حتى يقطع تذكرة الرضى نحو السماء، فبعض الأسفار ليست بين المطارات، بل بين غفلة المقارنة، ويقظة التوحيد.
••
••
•| موسمية الولاء |•
من لم يتذكرك في زحمة انشغاله، فلن يُنجدك في ساعة فراغه، فليس الوفاء أن يُصافحك الناس في فسحة الوقت، ولكن أن يُقيموا معك في ضيق المسار؛ إذ الذي لا يستصحبك في لحظة الانشغال، ولا يحمل همّك وهو يترنّح تحت همومه، لا تُعوّل عليه إذا اتسعت موائد الفراغ وتزخرفت المجالس.
ومن لا تراه إلا في أزمنة السَّعة والفراغ، ثم يتلاشى في مواسم الجدّ، لا يُعوّل عليه في البناء ولا النهوض؛ لأن مواقفه – مهما ازدانت بالحديث – محكومةٌ بمزاجه لا بمبدئه.
وهذه القاعدة في الأفراد، تسري على مواقف الناس من أمتهم كذلك؛ فالعاقل لا يُخدع بمن يرفع شعار الأمة حين تعلو، ثم يغيب عنها حين تئنّ، ولا تلوح له قضيتها إلا إذا صارت موضةً ثقافية أو ورقةً رابحة، فالذي لا يبعثه ألم الأمة على شيء من التذكّر والدعاء، ولا يستنفره جرحها لبذل الفكرة أو صوغ مشروع، فليس جديرًا أن يُعوَّل عليه إذا تنفّست الأرض رخاءً، وتزيّنت الأحوال بالطمأنينة.
وهذا من دقائق السنن الربانية؛ فإن الله – جلّ في علاه – امتدح من استجابوا بعد الجراح، فقال: “الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح…”، لأنهم ثبتوا حين كانت دواعي القعود أقوى، وأسباب التخلف أكثر إغراءً، ونسب الفضل لمن أصرّ على الطريق في ظلّ التعب، وهذا هو الفيصل بين من امتلأت روحه بالهمّ الحق، وبين من كانت فكرته مشروطة بالتصفيق والظهور.
وحين تتأمل في سِيَر المصلحين، فإن أعظمهم لم يكونوا أبناء ظرف مريح، بل ثمرات لحظة صعبة فُتحت فيها نوافذ الوعي، لا لمن جلس يراقب، بل لمن نزل إلى الميدان وقدم الفعل على الكلام.
أولئك الذين تُعوّل عليهم الأمة حين تدور الدوائر، وليسوا أولئك الذين يخرجون إذا زال الغبار، ليسألوا: “أين وصلتم؟”
••
•| موسمية الولاء |•
من لم يتذكرك في زحمة انشغاله، فلن يُنجدك في ساعة فراغه، فليس الوفاء أن يُصافحك الناس في فسحة الوقت، ولكن أن يُقيموا معك في ضيق المسار؛ إذ الذي لا يستصحبك في لحظة الانشغال، ولا يحمل همّك وهو يترنّح تحت همومه، لا تُعوّل عليه إذا اتسعت موائد الفراغ وتزخرفت المجالس.
ومن لا تراه إلا في أزمنة السَّعة والفراغ، ثم يتلاشى في مواسم الجدّ، لا يُعوّل عليه في البناء ولا النهوض؛ لأن مواقفه – مهما ازدانت بالحديث – محكومةٌ بمزاجه لا بمبدئه.
وهذه القاعدة في الأفراد، تسري على مواقف الناس من أمتهم كذلك؛ فالعاقل لا يُخدع بمن يرفع شعار الأمة حين تعلو، ثم يغيب عنها حين تئنّ، ولا تلوح له قضيتها إلا إذا صارت موضةً ثقافية أو ورقةً رابحة، فالذي لا يبعثه ألم الأمة على شيء من التذكّر والدعاء، ولا يستنفره جرحها لبذل الفكرة أو صوغ مشروع، فليس جديرًا أن يُعوَّل عليه إذا تنفّست الأرض رخاءً، وتزيّنت الأحوال بالطمأنينة.
وهذا من دقائق السنن الربانية؛ فإن الله – جلّ في علاه – امتدح من استجابوا بعد الجراح، فقال: “الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح…”، لأنهم ثبتوا حين كانت دواعي القعود أقوى، وأسباب التخلف أكثر إغراءً، ونسب الفضل لمن أصرّ على الطريق في ظلّ التعب، وهذا هو الفيصل بين من امتلأت روحه بالهمّ الحق، وبين من كانت فكرته مشروطة بالتصفيق والظهور.
وحين تتأمل في سِيَر المصلحين، فإن أعظمهم لم يكونوا أبناء ظرف مريح، بل ثمرات لحظة صعبة فُتحت فيها نوافذ الوعي، لا لمن جلس يراقب، بل لمن نزل إلى الميدان وقدم الفعل على الكلام.
أولئك الذين تُعوّل عليهم الأمة حين تدور الدوائر، وليسوا أولئك الذين يخرجون إذا زال الغبار، ليسألوا: “أين وصلتم؟”
••
••
ليست كلّ مهارة تُدرَّس، ولا كلّ فضيلة تُصفَّق لها الجماهير، ثمّة أخلاق لا تصرخ في وجهك، بل تهمس في ضميرك؛ لا تُعلَّق على جدران الخطاب، بل تُمارَس في صمت النبلاء.
وفي هذا المناخ المزدحم بالتحليل والتدقيق في حياتنا اليومية، تفقد النفوس بوصلة البساطة، وتذبل روح الرحمة، وتتعثر العلاقات في أوحال الشكوك، وتشتد حدّة الملاحظة، وتكاثرت الأقلام الناقدة، حتى أضحى المرء يُحاسَب على الهمسة، ويُدان على الظنّة، ويُطالَب بالوضوح حتى في لحظات التردّد، ولقد غدت الدقّة فخًّا، والتتبّع مرضًا، والذكاء وقودًا للحرق لا للبناء.
غير أنّ في زوايا العقلاء مسلكًا مغمورًا، لا يلوح في شعارات المتفوقين، ولا يُدرَّس في مقرّرات الذكاء الاجتماعي؛ مسلكٌ لا يعلو صوته في ضجيج التدقيق، لكنه يترك في النفوس أثرًا لا تصنعه ألف محاضرة عن “العلاقات الإيجابية”، وهو مسلك التغافل؛ ذلك الفنّ الرفيع في أن ترى ولا تفضح، وتعلم ولا تُشهِّر، وتُدرك الزلّة ثم تمضي كأنك لم ترَ شيئًا.
هذا الخُلق النبيل لا يصدر إلا عن نفسٍ عظيمة، تعرف قدر نفسها، فلا تُسقطها في وحل الصغائر، ولا تُتعبها في تتبّع الهفوات، بل تترفّع، وتصفح، وتتجاوز.
وما أحكم قول الإمام جعفر الصادق حين قال: "عظّموا أقداركم بالتغافل” ولم يكن يعلّمنا التجاهل، بل كان يُدرّب أرواحنا على اللياقة القلبية، أن تمشي بين الناس بعينٍ تُبصر العثرة، وقلبٍ يُنكرها، ووجه يُمضي كأن شيئًا لم يكن.
••
ليست كلّ مهارة تُدرَّس، ولا كلّ فضيلة تُصفَّق لها الجماهير، ثمّة أخلاق لا تصرخ في وجهك، بل تهمس في ضميرك؛ لا تُعلَّق على جدران الخطاب، بل تُمارَس في صمت النبلاء.
وفي هذا المناخ المزدحم بالتحليل والتدقيق في حياتنا اليومية، تفقد النفوس بوصلة البساطة، وتذبل روح الرحمة، وتتعثر العلاقات في أوحال الشكوك، وتشتد حدّة الملاحظة، وتكاثرت الأقلام الناقدة، حتى أضحى المرء يُحاسَب على الهمسة، ويُدان على الظنّة، ويُطالَب بالوضوح حتى في لحظات التردّد، ولقد غدت الدقّة فخًّا، والتتبّع مرضًا، والذكاء وقودًا للحرق لا للبناء.
غير أنّ في زوايا العقلاء مسلكًا مغمورًا، لا يلوح في شعارات المتفوقين، ولا يُدرَّس في مقرّرات الذكاء الاجتماعي؛ مسلكٌ لا يعلو صوته في ضجيج التدقيق، لكنه يترك في النفوس أثرًا لا تصنعه ألف محاضرة عن “العلاقات الإيجابية”، وهو مسلك التغافل؛ ذلك الفنّ الرفيع في أن ترى ولا تفضح، وتعلم ولا تُشهِّر، وتُدرك الزلّة ثم تمضي كأنك لم ترَ شيئًا.
هذا الخُلق النبيل لا يصدر إلا عن نفسٍ عظيمة، تعرف قدر نفسها، فلا تُسقطها في وحل الصغائر، ولا تُتعبها في تتبّع الهفوات، بل تترفّع، وتصفح، وتتجاوز.
وما أحكم قول الإمام جعفر الصادق حين قال: "عظّموا أقداركم بالتغافل” ولم يكن يعلّمنا التجاهل، بل كان يُدرّب أرواحنا على اللياقة القلبية، أن تمشي بين الناس بعينٍ تُبصر العثرة، وقلبٍ يُنكرها، ووجه يُمضي كأن شيئًا لم يكن.
••
••
العقل لا ينام حين تنام الأجساد، بل يبدأ رحلته في دهاليز السؤال، وتقاطعات الذاكرة، الليل عنده ليس سكونًا، بل استدعاءً مرهقًا لكل ما تهرّبت منه ضوضاء النهار، والليل يعرّي الأفكار من زينتها، ولهذا لم يكن المرقد إلا غرفة استجواب، والوسادة إلا منصّة محاكمة صامتة، من يقنع العقل أن يطفئ أنواره حين تنطفئ المصابيح؟
لكن من رحمة الله، أنه لم يترك العقل يتخبّط في فراغ الليل، بل شرع له أذكار النوم لا لتكون طقسًا روتينيًا، بل لإغلاق ملفات القلق، وتهدئة صخب الفكر، وإعادة ترتيب الداخل على نسق التوحيد. بحيث لا تُقلقه الظنون، ولا تُشوّشه التفاصيل.
••
العقل لا ينام حين تنام الأجساد، بل يبدأ رحلته في دهاليز السؤال، وتقاطعات الذاكرة، الليل عنده ليس سكونًا، بل استدعاءً مرهقًا لكل ما تهرّبت منه ضوضاء النهار، والليل يعرّي الأفكار من زينتها، ولهذا لم يكن المرقد إلا غرفة استجواب، والوسادة إلا منصّة محاكمة صامتة، من يقنع العقل أن يطفئ أنواره حين تنطفئ المصابيح؟
لكن من رحمة الله، أنه لم يترك العقل يتخبّط في فراغ الليل، بل شرع له أذكار النوم لا لتكون طقسًا روتينيًا، بل لإغلاق ملفات القلق، وتهدئة صخب الفكر، وإعادة ترتيب الداخل على نسق التوحيد. بحيث لا تُقلقه الظنون، ولا تُشوّشه التفاصيل.
••
••
https://www.tg-me.com/Deerayah
من القنوات التي تُنير مسالك الفكر، وتفتح نوافذ التأمل في شؤون الإنسان والمعنى؛ فهي جديرة بالمتابعة لمن يُعنون بالعلوم الإنسانية، لاسيما في حقول الاجتماع، والاقتصاد، والإعلام، والتاريخ.
••
https://www.tg-me.com/Deerayah
من القنوات التي تُنير مسالك الفكر، وتفتح نوافذ التأمل في شؤون الإنسان والمعنى؛ فهي جديرة بالمتابعة لمن يُعنون بالعلوم الإنسانية، لاسيما في حقول الاجتماع، والاقتصاد، والإعلام، والتاريخ.
••
Forwarded from عبدالله الوهيبي
YouTube
فضيلة الشيخ سعيد الكملي يُقَدِّم محاضرةً بعنوان: "جمال العِلْم إصلاح العَمَل" في مدينة برمنغهام
فضيلة الشيخ الدكتور سعيد الكملي يُقَدِّم محاضرةً بعنوان: "جمال العِلْم إصلاح العَمَل"، وذلك في مدينة برمنغهام البريطانية، ضمن برنامج "الكُرسي العِلمي" الذي تنظمه كلية برمنغهام للعلوم الإنسانية.
https://birminghamcollege.org
https://birminghamcollege.org
••
•| بركة القرون المفضلة |•
ثمّة سِرٌّ عجيبٌ يسري في دروب الطلب، لا يكتشفه إلا من وطِئت قدماه شعابَ التخصص، واستوت له أدواتُ النظر، واشتدّت في يده عدّة التحرير والتحقيق، فكلما أوغل في تفاصيل الفنّ، وتعمّق في مسالكه، لاح له في الأفق مَعْلمٌ مهيب: الانجذاب الهادئ نحو منازع السلف، لا بدافع العاطفة، بل بقناعةٍ تتراكم مع كل مسألةٍ حرّرها، وكل خلافٍ تلمّسه.
في بدايات الطريق، يُفتَن الطالبُ برحابة الطرح الحداثي، ويُبهره بريق التحليل المنطقي، وتعدد الأقوال، وأناقة التعبير، حتى إذا طال به السبيل، وذاق مشقة التحرير، وباتت المدارسةُ شغله، وضبط الفهم همَّه، انجذب قلبه – بغير تكلّف – إلى هدوء القرون الأولى، وإلى عقلٍ نبت في ظلال النبوة، لا في ردهات الحداثة، وشبّ على نور الوحي، لا على أضواء الجدل.
يُبصر حينها أن تعظيم السلف ليس مجرد تدين تقليدي، بل ضرورةٌ منهجية، ومقياسٌ للسلامة العلمية، وأن ما يراه اليوم من نزاهة مقاصدهم، وعفّة منهجهم، وعمق إدراكهم، لا يُقارن بجهودٍ لاحقة تلوّنت بصراعات العصور وغبش المناهج.
كلما نضجت أدواته، ازداد خجله من تعليلات المتأخرين إذا خالفت ما استقر في عقول الأوائل، وكلما استبانت له طبقات الفهم، رَقّت في عينه المناهج الطارئة، وأدرك بفطرته قبل علمه أن السلف ما قالوا قولًا إلا وفيه من البرهان ما يُستمدّ من النور الأول.
فما من فقيهٍ نضجت ملكته، ولا مفسرٍ تضلع في دقائق التفسير، ولا محدّثٍ تشرّب علل الإسناد، إلا ووقف خاشعًا أمام عقولٍ كانت ترى بنور النبوة، وتتكلم على أثر الهداية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “من كان منكم مستنًّا، فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة”؛ فتأدُّبك في العلم يبدأ عند أبوابهم، لا عند حواشي المتأخرين، ومن أراد السلامة، فليعد إلى الأساس، فإن ما بُني على النور لا تهدمه الأيام.
والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
••
•| بركة القرون المفضلة |•
ثمّة سِرٌّ عجيبٌ يسري في دروب الطلب، لا يكتشفه إلا من وطِئت قدماه شعابَ التخصص، واستوت له أدواتُ النظر، واشتدّت في يده عدّة التحرير والتحقيق، فكلما أوغل في تفاصيل الفنّ، وتعمّق في مسالكه، لاح له في الأفق مَعْلمٌ مهيب: الانجذاب الهادئ نحو منازع السلف، لا بدافع العاطفة، بل بقناعةٍ تتراكم مع كل مسألةٍ حرّرها، وكل خلافٍ تلمّسه.
في بدايات الطريق، يُفتَن الطالبُ برحابة الطرح الحداثي، ويُبهره بريق التحليل المنطقي، وتعدد الأقوال، وأناقة التعبير، حتى إذا طال به السبيل، وذاق مشقة التحرير، وباتت المدارسةُ شغله، وضبط الفهم همَّه، انجذب قلبه – بغير تكلّف – إلى هدوء القرون الأولى، وإلى عقلٍ نبت في ظلال النبوة، لا في ردهات الحداثة، وشبّ على نور الوحي، لا على أضواء الجدل.
يُبصر حينها أن تعظيم السلف ليس مجرد تدين تقليدي، بل ضرورةٌ منهجية، ومقياسٌ للسلامة العلمية، وأن ما يراه اليوم من نزاهة مقاصدهم، وعفّة منهجهم، وعمق إدراكهم، لا يُقارن بجهودٍ لاحقة تلوّنت بصراعات العصور وغبش المناهج.
كلما نضجت أدواته، ازداد خجله من تعليلات المتأخرين إذا خالفت ما استقر في عقول الأوائل، وكلما استبانت له طبقات الفهم، رَقّت في عينه المناهج الطارئة، وأدرك بفطرته قبل علمه أن السلف ما قالوا قولًا إلا وفيه من البرهان ما يُستمدّ من النور الأول.
فما من فقيهٍ نضجت ملكته، ولا مفسرٍ تضلع في دقائق التفسير، ولا محدّثٍ تشرّب علل الإسناد، إلا ووقف خاشعًا أمام عقولٍ كانت ترى بنور النبوة، وتتكلم على أثر الهداية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “من كان منكم مستنًّا، فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة”؛ فتأدُّبك في العلم يبدأ عند أبوابهم، لا عند حواشي المتأخرين، ومن أراد السلامة، فليعد إلى الأساس، فإن ما بُني على النور لا تهدمه الأيام.
والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
••
••
•| تضخم الأنا |•
كنتُ أتأمل في نَزعة “الاستحقاق” حين تتسلّل إلى النفس في ثوبٍ من الحقوق الظاهرة، وهي – في جوهرها – نداء خفيّ للأنانية، مغلفٌ بعبارات التقدير والاحترام والتوازن العاطفي، فالمُستغرق في استحقاقه لا يعيش مع الناس، بل يعيش فوقهم، لا يراهم شركاء في المعنى، بل أدوات في خدمة شعوره المرهف بذاته، يطالبهم دومًا بما لا يطالب به نفسه، ينتظر منهم أن يكونوا على درجةٍ من السموّ الخُلقي، بينما لا ينظر في مرآة ذاته إلا بعين الإعفاء والمغفرة.
هو دائم الترقّب، دائم العتب، كثير الانتظار، قليل البذل، فإن بادر غيره، رفع سقف استحقاقه أكثر، لا ليُقدّر، بل ليؤكّد لنفسه أنه “مركز العلاقات” لا طرفًا فيها، والإنسان الاستحقاقي لا يطلب كرامة النفس، بل يطلب تعظيم الأنا، ولا يبحث عن تزكية الداخل، بل عن توسيع الامتياز الخارجي؛ فهو مشغولٌ بتقويم العالم من حوله على مقياس شعوره هو، لا على معيار الحق والعدل.
وتجده يُطالب الناس بما لا يُطالب به نفسه، يمدح الكرم وهو شحيح، يلهج بالوفاء وهو متقلب، يرفع شعار المبادرة ولا يخطو خطوة، يطلب التقدير، ويستكثر حتى أقل التنازلات. فإذا أُعطي، استزاد، وإذا عومل بفضل، رفع سقف انتظاره، وما ذلك إلا لأنه في حالة سعي هشٍّ لتأكيد ذاته لا أمام الناس فحسب، بل أمام نفسه أولًا؛ فهو لا يهدأ إلا حين يشعر أنه “مركز الكون”، وأنّ كل من حوله في وظيفة واحدة: خدمته العاطفية، والعافية كل العافية في أن يتربى الإنسان على الخروج من ذاته لا الدوران حولها، وعلى أن ينال بالفضل لا بالضغط، وبالصدق لا بالتصدر، فالقلوب لا تُملك بالاستحقاق، وإنما تُكسب بالخلق، ولا تُستعبد بالمطالبة، وإنما تُفتح بالإحسان.
تصبح على خير أيها الإنسانُ الاستحقاقيُّ العظيم، الذي لا يشبهه أحدٌ في هذا العالم، ولا يطاوله بشرٌ في دقّة المطالب، خذ نَفَسًا ليس طويلًا كعُمق العلاقات التي تطلبها، بل قصيرًا كصبر الآخرين عليك.
واعلم أن العالم ليس جمعيةً خيرية لإرضاء شعورك، ولا الناس عبيدُ رغباتك، ارفق بنفسك، واخرج من سجن ذاتك الفخمة قليلًا، فلعلّك تكتشف أن أجمل العلاقات تبدأ حين تنسى نفسك، لا حين تُذكّر بها في كل دقيقة.
نم هانئاً، ولا تنسَ أن تُطالِب القمر بأن يضيء غرفتك أولًا، قبل أن تُدوِّن ملاحظة تقصيره في دفتر استحقاقاتك.
••
•| تضخم الأنا |•
كنتُ أتأمل في نَزعة “الاستحقاق” حين تتسلّل إلى النفس في ثوبٍ من الحقوق الظاهرة، وهي – في جوهرها – نداء خفيّ للأنانية، مغلفٌ بعبارات التقدير والاحترام والتوازن العاطفي، فالمُستغرق في استحقاقه لا يعيش مع الناس، بل يعيش فوقهم، لا يراهم شركاء في المعنى، بل أدوات في خدمة شعوره المرهف بذاته، يطالبهم دومًا بما لا يطالب به نفسه، ينتظر منهم أن يكونوا على درجةٍ من السموّ الخُلقي، بينما لا ينظر في مرآة ذاته إلا بعين الإعفاء والمغفرة.
هو دائم الترقّب، دائم العتب، كثير الانتظار، قليل البذل، فإن بادر غيره، رفع سقف استحقاقه أكثر، لا ليُقدّر، بل ليؤكّد لنفسه أنه “مركز العلاقات” لا طرفًا فيها، والإنسان الاستحقاقي لا يطلب كرامة النفس، بل يطلب تعظيم الأنا، ولا يبحث عن تزكية الداخل، بل عن توسيع الامتياز الخارجي؛ فهو مشغولٌ بتقويم العالم من حوله على مقياس شعوره هو، لا على معيار الحق والعدل.
وتجده يُطالب الناس بما لا يُطالب به نفسه، يمدح الكرم وهو شحيح، يلهج بالوفاء وهو متقلب، يرفع شعار المبادرة ولا يخطو خطوة، يطلب التقدير، ويستكثر حتى أقل التنازلات. فإذا أُعطي، استزاد، وإذا عومل بفضل، رفع سقف انتظاره، وما ذلك إلا لأنه في حالة سعي هشٍّ لتأكيد ذاته لا أمام الناس فحسب، بل أمام نفسه أولًا؛ فهو لا يهدأ إلا حين يشعر أنه “مركز الكون”، وأنّ كل من حوله في وظيفة واحدة: خدمته العاطفية، والعافية كل العافية في أن يتربى الإنسان على الخروج من ذاته لا الدوران حولها، وعلى أن ينال بالفضل لا بالضغط، وبالصدق لا بالتصدر، فالقلوب لا تُملك بالاستحقاق، وإنما تُكسب بالخلق، ولا تُستعبد بالمطالبة، وإنما تُفتح بالإحسان.
تصبح على خير أيها الإنسانُ الاستحقاقيُّ العظيم، الذي لا يشبهه أحدٌ في هذا العالم، ولا يطاوله بشرٌ في دقّة المطالب، خذ نَفَسًا ليس طويلًا كعُمق العلاقات التي تطلبها، بل قصيرًا كصبر الآخرين عليك.
واعلم أن العالم ليس جمعيةً خيرية لإرضاء شعورك، ولا الناس عبيدُ رغباتك، ارفق بنفسك، واخرج من سجن ذاتك الفخمة قليلًا، فلعلّك تكتشف أن أجمل العلاقات تبدأ حين تنسى نفسك، لا حين تُذكّر بها في كل دقيقة.
نم هانئاً، ولا تنسَ أن تُطالِب القمر بأن يضيء غرفتك أولًا، قبل أن تُدوِّن ملاحظة تقصيره في دفتر استحقاقاتك.
••
••
إذا أُعيتِ النفسُ عن مقاومةِ المعصية، لجأت إلى الفتوى الشاردة أو الرأي المخالف، لا تبتغي بهما بَراءة الذمة، بل تسعى إلى تسكين تأنيب الضمير، فتراه يتوشّح رداء “الخلاف”؛ وما هو – في حقيقته – إلا وجعُ المعصية وقد استعان بمنطق الشريعة ليُخدّر به صوت الحق في قلبه.
••
إذا أُعيتِ النفسُ عن مقاومةِ المعصية، لجأت إلى الفتوى الشاردة أو الرأي المخالف، لا تبتغي بهما بَراءة الذمة، بل تسعى إلى تسكين تأنيب الضمير، فتراه يتوشّح رداء “الخلاف”؛ وما هو – في حقيقته – إلا وجعُ المعصية وقد استعان بمنطق الشريعة ليُخدّر به صوت الحق في قلبه.
••
••
كثرة الخيارات | إرهاقٌ بلا صوت
لعلّك الآن تتردّد بين أن تمضي في قراءة هذه الحروف أو أن تطويها بحثًا عن نصٍ أقصر وأيسر، لكن تأملك هذا ـ وإن بدا بسيطًا ـ هو مرآة لحالة نفسية أعمق: عن عقلٍ أضناه تتابع الخيارات، ونفسٍ أرهقها زحام التوجّهات، حتى صار القرار البسيط حقلًا من الأسئلة المتداخلة، نحن في زمنٍ لا يُبتلى الناس فيه بالمنع، بل بالإغراق في التيسير، ولا يُفتنون بضيق المسارات، بل بفائضٍ منها يشتّت الإرادة ويبعثر الوجهة.
وفي مثل هذا المناخ، يغدو الاسترسال مع فكرة واحدة لونًا من ألوان المجاهدة، ومتابعة القراءة نفسها فعلًا مقاومًا للتيه.
كنتُ أتأمل كيف أصبح أحدنا يملك عشرات المسارات أمام كل قرار، من أبسط تفاصيله اليومية إلى قراراته المصيرية، ثم يتوه، لا لأنه لا يملك حرية، بل لأنه غارق في فائض منها، فوضى التطبيقات، تشعب مسارات التعليم، تباين الأنماط التربوية، تضارب الآراء، كثرة التوصيات، كل باب يُفتح على عشرة أبواب، وكل طريق يُفضي إلى عشرين منعطفًا.
النتيجة؟ تعبٌ لا صوت له، توتر داخلي، قلق دائم من فوات الأفضل، وحيرة مزمنة تُفرغ الاختيار من لذّته، وتحوّل القرار من لحظة إرادة إلى عبء ووجل، صرنا نخشى أن نبدأ خشية أن نخطئ، ونخشى أن نلتزم خشية أن نفوّت، ونخشى أن نمضي خشية أن يكون هناك خيار أجود لم نعرفه.
وهذا مظهر عميق من مظاهر التراكم الإدراكي الذي لم يصحبه نضج قلبي، فالحرية بلا وُجهة تتوه، والاختيارات بلا مبدأ تتكاثر حدّ الانفجار. والرغبة في “الأفضل دائمًا” قد تكون خُدعة عقلك حين يفقد اليقين أن البركة لا تأتي من الكثرة، بل من الثبات على ما اختاره الله لك.
ولذلك، فإن هذا العصر لا يحتاج إلى شخصٍ “مُطّلع على كل شيء”، بقدر ما يحتاج إلى من يعرف كيف يغلق الأبواب الزائدة، ويُحسن القناعة بما يكفيه، ويثق أن الوضوح لا يُولد من كثرة الاحتمالات، بل من هدوء البصيرة.
ومن التهذيب النفسي في هذا الزمن: أن تضبط بوصلتك على مبدأ، لا على مزاج اللحظة، أن تؤمن بأن ما لم تصل إليه، لم يُقدّر لك، لا لأنه ناقص، بل لأن الاكتفاء أكرم.
••
كثرة الخيارات | إرهاقٌ بلا صوت
لعلّك الآن تتردّد بين أن تمضي في قراءة هذه الحروف أو أن تطويها بحثًا عن نصٍ أقصر وأيسر، لكن تأملك هذا ـ وإن بدا بسيطًا ـ هو مرآة لحالة نفسية أعمق: عن عقلٍ أضناه تتابع الخيارات، ونفسٍ أرهقها زحام التوجّهات، حتى صار القرار البسيط حقلًا من الأسئلة المتداخلة، نحن في زمنٍ لا يُبتلى الناس فيه بالمنع، بل بالإغراق في التيسير، ولا يُفتنون بضيق المسارات، بل بفائضٍ منها يشتّت الإرادة ويبعثر الوجهة.
وفي مثل هذا المناخ، يغدو الاسترسال مع فكرة واحدة لونًا من ألوان المجاهدة، ومتابعة القراءة نفسها فعلًا مقاومًا للتيه.
كنتُ أتأمل كيف أصبح أحدنا يملك عشرات المسارات أمام كل قرار، من أبسط تفاصيله اليومية إلى قراراته المصيرية، ثم يتوه، لا لأنه لا يملك حرية، بل لأنه غارق في فائض منها، فوضى التطبيقات، تشعب مسارات التعليم، تباين الأنماط التربوية، تضارب الآراء، كثرة التوصيات، كل باب يُفتح على عشرة أبواب، وكل طريق يُفضي إلى عشرين منعطفًا.
النتيجة؟ تعبٌ لا صوت له، توتر داخلي، قلق دائم من فوات الأفضل، وحيرة مزمنة تُفرغ الاختيار من لذّته، وتحوّل القرار من لحظة إرادة إلى عبء ووجل، صرنا نخشى أن نبدأ خشية أن نخطئ، ونخشى أن نلتزم خشية أن نفوّت، ونخشى أن نمضي خشية أن يكون هناك خيار أجود لم نعرفه.
وهذا مظهر عميق من مظاهر التراكم الإدراكي الذي لم يصحبه نضج قلبي، فالحرية بلا وُجهة تتوه، والاختيارات بلا مبدأ تتكاثر حدّ الانفجار. والرغبة في “الأفضل دائمًا” قد تكون خُدعة عقلك حين يفقد اليقين أن البركة لا تأتي من الكثرة، بل من الثبات على ما اختاره الله لك.
ولذلك، فإن هذا العصر لا يحتاج إلى شخصٍ “مُطّلع على كل شيء”، بقدر ما يحتاج إلى من يعرف كيف يغلق الأبواب الزائدة، ويُحسن القناعة بما يكفيه، ويثق أن الوضوح لا يُولد من كثرة الاحتمالات، بل من هدوء البصيرة.
ومن التهذيب النفسي في هذا الزمن: أن تضبط بوصلتك على مبدأ، لا على مزاج اللحظة، أن تؤمن بأن ما لم تصل إليه، لم يُقدّر لك، لا لأنه ناقص، بل لأن الاكتفاء أكرم.
••
••
إذا ضاقَ بك الطريق، وأخذتكَ الظنون من كلّ صوب، فلا تفتّش عن يقينك في تكدّس الأسباب، ولا في تدابير الناس، بل ارجع إلى قلبك واسأله: ما الذي بقي من ثقتك بربك؟
فالقلوب التي تتهدّج من فرط القلق، لا تحتاج إلى خارطة جديدة، بل إلى سكينةٍ تُستمدّ من قوله: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، واليقين ليس أن ترى المخرج، بل أن تمشي إليه وأنت أعمى من كل جهة إلا جهة السماء، هو أن تثبت حين يتهاوى الجميع، لأنك لم تتعلّق بهم أصلًا، بل بمن إذا قال للشيء كن كان.
وما أشدّ غفلة من يتعلّق بأسباب الأرض، ويُراوغ في مواطن الدعاء، كأنه يستدرّ الرزق من غير بابه، ويستعجل النصر من غير ميقاته.
••
إذا ضاقَ بك الطريق، وأخذتكَ الظنون من كلّ صوب، فلا تفتّش عن يقينك في تكدّس الأسباب، ولا في تدابير الناس، بل ارجع إلى قلبك واسأله: ما الذي بقي من ثقتك بربك؟
فالقلوب التي تتهدّج من فرط القلق، لا تحتاج إلى خارطة جديدة، بل إلى سكينةٍ تُستمدّ من قوله: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، واليقين ليس أن ترى المخرج، بل أن تمشي إليه وأنت أعمى من كل جهة إلا جهة السماء، هو أن تثبت حين يتهاوى الجميع، لأنك لم تتعلّق بهم أصلًا، بل بمن إذا قال للشيء كن كان.
وما أشدّ غفلة من يتعلّق بأسباب الأرض، ويُراوغ في مواطن الدعاء، كأنه يستدرّ الرزق من غير بابه، ويستعجل النصر من غير ميقاته.
••
••
•| خذ ودَع |•
من سنن العقلاء أن لا يُؤخذ الإنسان جملة، ولا يُردّ جملة، فلا أحد بعد النبي ﷺ يُسلّم له القول كلّه، ومن لم يُربِّ نفسه على مهارة الفرز، ضلّ بين إفراط التقديس وتفريط الإسقاط، ومن تمام النضج أن تتعلم الانتفاع الجزئي، وأن تُحسن التفكيك لا في الأشخاص فقط، بل في العناصر الكامنة فيهم: أن تفرز الفكرة من صاحبها، خذ من أحدهم دقّة العبارة، ومن آخر حرارة الإيمان، ومن ثالث جمال العرض، لكن لا تسلّم لهم زمامك دفعة واحدة، فإن الحقّ لا يُحتكر، والكمال لا يُجمع في أحد.
وليس هناك كتلةُ خيرٍ خالصةً في بشر، ولا أحد محضُ ضلالةٍ صِرفة؛ بل كل إنسانٍ مركّب من صواب وخطأ، ونور وظلّ، وسبق وتعثر، والوعي لا يعني التبعية، ولا يعني الرفض المطلق، بل أن تمسك النافع من كل عقل، وتدع ما كدّر، وما أكثر من فُتن بصورة فكرية متماسكة، فلما انهار طرفها انهار معها، لأنه لم يفرّق بين “المعرفة” و”الانبهار”.
وهكذا، إذا ظننت أنك لا تنتفع إلا بمن تُجمع عليه القلوب، فلن تبصر إلا النماذج النادرة، وستفوتك الكنوز المتناثرة في مساحات النقص البشري، وإن طلبت الصفاء المطلق في كل من تسمع، فستجد نفسك في عزلةٍ معرفية تترك الذهب لأنه ممزوج بشيء من التراب، والعاقل هو من يقطف المعنى من بين الأشواك، لا من ينتظر ورودًا بلا عيب.
••
•| خذ ودَع |•
من سنن العقلاء أن لا يُؤخذ الإنسان جملة، ولا يُردّ جملة، فلا أحد بعد النبي ﷺ يُسلّم له القول كلّه، ومن لم يُربِّ نفسه على مهارة الفرز، ضلّ بين إفراط التقديس وتفريط الإسقاط، ومن تمام النضج أن تتعلم الانتفاع الجزئي، وأن تُحسن التفكيك لا في الأشخاص فقط، بل في العناصر الكامنة فيهم: أن تفرز الفكرة من صاحبها، خذ من أحدهم دقّة العبارة، ومن آخر حرارة الإيمان، ومن ثالث جمال العرض، لكن لا تسلّم لهم زمامك دفعة واحدة، فإن الحقّ لا يُحتكر، والكمال لا يُجمع في أحد.
وليس هناك كتلةُ خيرٍ خالصةً في بشر، ولا أحد محضُ ضلالةٍ صِرفة؛ بل كل إنسانٍ مركّب من صواب وخطأ، ونور وظلّ، وسبق وتعثر، والوعي لا يعني التبعية، ولا يعني الرفض المطلق، بل أن تمسك النافع من كل عقل، وتدع ما كدّر، وما أكثر من فُتن بصورة فكرية متماسكة، فلما انهار طرفها انهار معها، لأنه لم يفرّق بين “المعرفة” و”الانبهار”.
وهكذا، إذا ظننت أنك لا تنتفع إلا بمن تُجمع عليه القلوب، فلن تبصر إلا النماذج النادرة، وستفوتك الكنوز المتناثرة في مساحات النقص البشري، وإن طلبت الصفاء المطلق في كل من تسمع، فستجد نفسك في عزلةٍ معرفية تترك الذهب لأنه ممزوج بشيء من التراب، والعاقل هو من يقطف المعنى من بين الأشواك، لا من ينتظر ورودًا بلا عيب.
••