Telegram Web Link
••
في ساحة البلاء، لا ينكشف صدق العزائم فقط، بل تتجلى أخطر ملامح الانكسار العقدي: سوء الظن بالله، ليس الأمر عثرة في الخاطر، بل انحراف في البوصلة، يُنقل العبد من ساحة العبودية إلى هوّة الاعتراض المستتر.

وقد توعّد الله هذا الصنف بأشدّ ما يُتوعد به عبدٌ في كتابه، فقال جلّ في علاه: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]

خمس عقوبات متتالية: دائرة السوء، وغضب الله، ولعنته، ثم جهنم، ثم سوء المصير، كلّها نزلت بمن انحرف ظنّه عن عدل الله، وحكمته، ووعده الصادق، قال ابن القيم: “لم يتوعد الله أحدًا بالعقاب أعظم ممن ظنّ به ظنّ السوء.”

وغزة – في ظاهرها مأساة – لكنها في باطنها ميزان، يُوزن به يقين الأمة، وتتمايز فيه القلوب، ومن انكسر يقينه وقت الأزمة، أو تسرّب إلى قلبه الشك في حكمة الله، فقد جنى على توحيده، وإن بقي لسانه يردد الأدعية.
••
••
أن يُزَجَّ بك في صباح جديد، فذلك إذنٌ رباني بالبقاء في ميدان الطاعة، وتأجيلٌ إلهيّ للحساب، كي تتدارك ما فات وتستزيد مما بقي، فليس النهار مجرّد انبلاج نور، بل هو منحةٌ رحمانيّة تُسلِّمك إلى أبواب التوبة، وتفتح لك دفتر العمل من جديد، كم من عبدٍ طُوِي صحيفته البارحة، وأنت ما زلت تُمنح الحبر والوقت والأنفاس.
••
لا قلمي كقلمه،
ولا حرفي كحرفه،
إنما هو تآلفُ الأرواح؛ ألقى على الحروف ملامحَ التشابه!
قناة | توّاق
لا قلمي كقلمه، ولا حرفي كحرفه، إنما هو تآلفُ الأرواح؛ ألقى على الحروف ملامحَ التشابه!
ما ظنّوه تطابقًا في الحبر، هو في الحقيقة تمازجٌ في الأرواح، وتجاورٌ في دوحة الفهم، ولو علموا أني أتشرّف بخطئهم، لما صحّحته، فإن كان انتسابي إلى الشيخ فيصل بن تركي وهمًا، فنعْم الوهم الذي يرفع قدري، وما تداخلت الأسماء إلا حين تقاربت النفوس، وإلا فـ”تواق” تلميذُ المعنى، و”فيصل” سيّده.
••
في قولك “آسف” نبضٌ من التواضع يُرمم ما صدّعته لحظات الغضب، وهي وإن خفّت حروفها، ثقلت في ميزان الأدب والمروءة، وهي الكلمة التي تُذيب جليد الخصام، وتُقرّب ما نأى، وتُسكن ما اضطرب، إذا خرجت من القلب لا من اللسان.

“آسف” ليست ضعفًا، بل قوّةُ من عرف موطن الخطأ فأقرّ به، وامتلك شجاعة الاعتذار، وكم من قلوبٍ لانت بها بعد جفاء، وصدورٍ انشرحت لها بعد انقباض، آسف” تعني توبةُ شعور، ومراجعةُ ضمير، وإقرارٌ بأن صفاء العلاقة أثمن من كِبر اللحظة، هي الكلمة التي تسقط بها حجج التبرير، وتقوم بها براهين المحبة، وتُعيد للحوار نبضه الأول: الصدق.
••
يتكرر كثيرًا أن تجد شخصًا لا تعرفه، يذكر أنه انتفع بك انتفاعًا عظيمًا، أو أن يُحدّثك شخصٌ لم تبدِ له اهتمامًا فتتفاجأ بحجم انتفاعه، وربما يفوق مَن أوليته عناية خاصة.
وقد تقول كلمةً لم تلقِ لها بالًا، فينتفع بها ناسٌ كثر، أو تنشر مقطعًا عفويًا فيُكتب له انتشار، على خلاف مقطع أعددت له واستعددت، فلم يُكتب له ما كُتب لذاك.
وعند المعلمين قصص كثيرة من هذا، أنهم تفاجأوا بنبوغ شخصٍ وانتفاعه لم يكونوا يتوقعون منه ذلك الأمر.

وتفسير ذلك -والله أعلم- هو الإخلاص.

وذلك أن الاهتمام بنجاح أمر ما ربما أخل بالإخلاص؛ لأنك ناظر إلى النتيجة، مهتم بها، مشغول بصداها، أما ذاك المقطع العفوي، أو الكلمة التي لم تلقِ لها بالًا: يكون الإخلاص فيها أكبر، والعين فيها على الله أقرب، فتثمر.

أقول: فكيف بمن فقِه هذا فتقدم خطوة إلى الأمام، كيف ذلك؟
بأن يصب اهتمامه على قلبه، يعالج نيّته، ويتبرأ من حوله وقوته، ويدمن الاستعانة بالله، ويكثر اللهج، أي شيء يكون له من الله الكريم؟
••
•| نعمة البدء القرآني |•

كنت أتأمل نعمة الله على من نشأ في كنف القرآن منذ بواكير العمر، فخطر لي أن ذلك ليس فضلًا عارض في سيرة العبد، بل هو اصطفاء ربانيّ يغيّر مسار العمر من جذره، ويجعل نقطة البداية هي عين النجاة، لا محطة التصحيح.

فكثير من الناس يُبصرون نور القرآن بعد أن أضرّ بهم التيه، وتصدّعت فيهم دوائر المعنى، فإذا هم يعودون إليه طلبًا للترميم، لا تأسيسًا للبناء، أما من استُفتح له بسكينة القرآن من أول الطريق، فقد أُعفي من كثير من الانكسارات المؤلمة.

وليس هذا التوفيق مجرّد مسألة “زمنية”، أن تصل مبكرًا أو متأخرًا، بل هو مسألة تكوين جوهريّ، فمن شبّ على تلاوة الوحي، كانت مفاهيمه وأذواقه وعلاقته بالكون تتشكّل تحت إشرافٍ مباشر من الله.

وهذه النشأة المبكّرة، لا تمنحك فقط أسبقية في السباق، بل تمنحك مناعةً من الداخل، ورسوخًا في الفهم، وحصانةً من الالتواءات التي يتعثر بها غيرك حين يلجأ للقرآن متأخرًا.

ولذلك، فإن من أعظم ما يُستصحب في باب الشكر: أن تفقه أن بدايتك مع القرآن ليست صدفة، ولا اجتهاد بيئة فقط، بل هي إذنٌ سماويّ بالهداية المبكّرة، ولبنةٌ أولى في بناءٍ أراد الله له أن يكتمل على عين منه، وهنا يتبدّى الفارق الجوهري بين أن يكون القرآن ملاذًا من السقوط، أو يكون مانعًا من السقوط أصلًا، فالأول يتعافى، والثاني ينمو.

ومن أعظم الألطاف التي يُخفيها الله في ثنايا النشأة، أن يُورثك القرآن في سنين الفطرة، قبل أن تنقضّ عليك الدنيا بسعارها، فذاك بكور الهداية، وذاك هو التفضيل الذي لا تُكتَب نعمتُه على الجباه، بل تُكتَب في خاتمة المصير.
••
••
•| شيخ الشباب |•

حين أطالع تراجم الأئمة في سير الذهبي، وطبقات السبكي، ووفيات ابن خلّكان، أوقن أن الأثر لا يُصنع بصوتٍ مرتفع، بل بخطى ثابتة على درب الحق، ولم تكن العظمة في فصاحة اللسان، بل في عمق الفكرة، وسكينة المقصد، ومتانة البناء الخفيّ، وفي هذا السياق، خطر لي لقبٌ اجتهدتُ في تسميته: “شيخ الشباب”، لا على جهة الترف، بل على جهة التمييز بين الحماسة العابرة والبصيرة الراسخة.

هو من يَجمع حرارة الجيل بوعي التأسيس، ويصوغ وعيًا لا يذوب عند أول اصطدام، ذلك مقامٌ لا يُوهب بكثرة الكلام، بل يُمنح لمن نهض بتكاليفه في زمنٍ كثرت فيه الألقاب وقلّت فيه الأثقال.

وهو ليس وصفًا طارئًا يُعلّق على الأكتاف، ولا لقبًا يُنتزع من زحمة الأضواء، بل مقامٌ تولّده الموازنة الدقيقة بين حرارة التغيير وسكون التمكُّن، بين توثُّب البدايات ورسوخ النهايات، هو ذلك النموذج النادر الذي إذا تحدّث إلى الشباب لم يتكلف النزول إليهم، لأنه لم يغادرهم أصلًا، وإذا جالس الشيوخ لم يداور لغتهم، لأنه يحمل من سكينتهم ما يليق بالمقام.

شيخُ الشباب هو من جمع الله له في قلبه حدّة النظر وبُعد الخُطى، فإذا فكرَ، ربط بين السنن لا بين الشعارات، وإذا قرر، مدّ بصره إلى العواقب لا إلى فتنة التأثير. لا يستخفّه التصفيق، ولا تجرّه المجازفة، لأنه يزن الأشياء بميزانٍ أدق من الضجيج، وأثقل من وهج اللحظة.

هو من يَفهم أن الميدان لا يُدار بردّات الفعل، ولا يُبنى بصخب الحشود، بل بمن امتلك وعيًا مركّبًا: يُبصر هشاشة الواقع، لكنه لا يسقط في اليأس، ويؤمن بسنن الإصلاح، لكنه لا يُسرع على جسرٍ لم يُشدَّ بعد.

شيخُ الشباب ليس ابنًا للمرحلة، بل هو ناظمٌ لاتّزانها، يَعرف مداخل الانهيار، ويُحسن صناعة المفاتيح، فيكون دعامةً فكرية حين تميل الموازين، وصمام توازن حين يشتدّ التيار.

شيخ الشباب هو الذي إن مشى مع الجيل الصاعد لم يتصاغر، بل شبّ هو بهم، وإن جلس إلى الشيوخ لم يتكلّف، بل تلبّس سمتهم وكأنه أحدهم، يحمل مشروعًا يتنفّس، لا فكرةً تتردّد، ويعرف أن التغيير لا يكون بانفجار العاطفة، بل بانضباط الشعور وامتداد النظر.

هو من إذا تكلّم مع الشيوخ فهموه، وإذا نادى الشباب تبعوه، لأنه لا يتكلّف لسان أحد، بل يجمع لغتين: لغة الجيل القادم، ولسان الخبرة المتراكمة، فتستقيم له المعادلة التي تُخفق فيها المؤسسات وتُرهق بها المشاريع.

وإذا أردت أن تراه، فلا تبحث عنه في أعمار الرجال، بل التفت إلى من يحمل في صدره جذوةً لا تحرق، وبصيرةً لا تتكاسل، وعزيمةً لا تنكسر، فذاك هو شيخ الشباب، وإن لم تبيّض لحيته بعد.
••
••
العبودية لله هي الحرية الحقة، وما عداها رقٌ مستتر في ثوبٍ زائف من الاستقلال.
••
تجربة يسيرة ..

‏لي تجربةٌ يسيرةٌ في تدريسِ بعضِ العلومِ الشَّرعية، وخرجت ببعضِ الخُلاصات التي أزعمُ أنها تزيد من فائدةِ التعليم، وأحبُّ أن أكتبَ بعضها في نُقاطٍ مرتَّبةٍ، فربَّ معلِّمٍ يقرؤها وينتفع بها مع طلبته، وربَّما كنتُ مقصِّرًا في امتثالِها أو امتثالِ بعضِها:

‏- حضِّر مادَّتَك العلمية: مهما كانت المسائل واضحةً وبيِّنة وفي غايةِ الظهور، للتحضير الجيِّد فوائد جمّة؛ فأولًا التحضير يزيدك فهمًا وعمقًا في أغوارِ مادَّتِك العلمية، فالفهم ليس درجةً واحدةً وإنما هو يتراكم ويتجذَّرُ شيئًا فشيئًا بطولِ النظر، وثانيًا التحضير يعينك على حسن الترتيب وجمالِ العرض، وثالثًا التحضير يدفع كثيرًا من الأوهام العلمية المترسِّبة دون وعي في قاعِ الذهن، فالقراءة المتجددة في المادَّة العلمية تشبه الدِّينمو الذي يولِّد الطاقة اللازمة للتشغيل، والمجلس النافع هو الذي لا ينقسم الحضور فيه إلى مُلقي ومستفيدين، وإنما يستفيد منه الملقي والمستمع معًا.

‏- اشرح من البداية: كل فكرةٍ أو مفهوم تريد شرحَه فلا تفترض أن الذي أمامَك يعرف مقدِّماته فتنتقل فورًا للنتائج، وإنما مهما كان مستوى مَن أمامَك؛ فاشرح المفهوم من بدايَتِه، وانتقل شيئًا فشيئًا من المفهوم المستقرّ إلى المفهوم الذي يراد شرحُه، وكثير من المفاهيم التي تفترضها مستقرةً هي في أحسن أحوالها كأنها جمرة فوقها رماد، وإذا تيقَّنتَ أن الطرف المقابِل يعرف المقدِّمات والمفاهيم الأولية، فهذا لا يعفيك من ذكرها -ولو بشكلٍ مختصر- ثم تبني فوقها ما أردتّ، فالانتقالات المفاجئة تربِك الذهن. وهذه الطريقة ترتِّب الأذهان، وتدفع الأوهام، وتجعل الحاضرين في تحليقٍ واحد وبمستوى متقاربٍ، فعلى سبيل المثال: إذا أردتَّ شرح مفهومٍ مبنيٍّ على مفهومٍ في بابٍ آخر سبق ذِكره، فمرَّ على الأول سريعًا، ثم اشرح الآخَر المتفرِّع عنه.

‏- بيِّن منهجك العلمي في أوَّل الشرح: المنهج العلمي هو الشرط اللازم بين المعلِّم والحاضرين، وهو الذي يرسم خارطة الدرس، وبه تُعلم نهايته الزمنية تقريبًا، وتُدرك مدى المحصِّلة المعرفيَّة النهائية منه، وبه يُحفظ المجلس من طفرات النمو المفاجئة، ويُصان من ظاهرتي المدّ والجزر المزاجي.

‏- أكثر من ضرب الأمثلة: أحسن المدرسين أثرًا أقدرُهم على ضرب الأمثلة المناسبة، وهي أحسن ما يعين على الفهم ابتداءً، وربَّما غاب المفهوم عن ذهن الطالب مع مرور الزمن ثم استدعاه ذهنه باستذكار المثال، يقول أبو حامد: (أحسن علاج الأفهام الضعيفة؛ الاستدراج والاستجرار إلى الحق بعكازة الأمثلة)، والأمثلة أنفع ما يكون في التعلُّمِ للأفهام الضعيفة والقوية معًا.

‏- لا تجب عن هذه الأسئلة: يحسن بالمعلِّم أن يستمع إلى الأسئلة ويجيب عن الإشكالات، لكن هناك أنواع من الأسئلة لا يحسن به سماعُها ولا الإجابة عنها، وهي أسئلة الخواطر العابرة، وقد كان الشيخ عبدالله بن غديان رحمه الله يسميها: (سؤال الخاطر)، والمراد بها وريثة اليقظة المفاجئة من السَّرَحان، أو تلك الناشئة عن الانتباه المفاجئ من الهواجس، أو كانت بسبب كون المفهوم جديدًا لم يستقر بعد، ولم يتميَّز عن أشباهه تميزًا تامًا، فالأفضل هو تأجيل الأسئلة لآخر المجلس لهذه الأسباب وغيرها، والقاعدة عندي: كلُّ إشكالٍ لم يبقَ مدةً طويلةً فليسَ بإشكالٍ.

‏- اقتدِ بأضعفهم: أكثر المعلِّمين إنما يحرص على الطلبة النابهين في حلقته، فَرَحًا بهم وتأميلا فيهم أن سيكون لهم شأنٌ في العلم، فيوليهم اهتمامًا مضاعفًا أكثرَ من غيرهم، وهذه نظر حسنٌ لا بأسَ به، وبعض المعلِّمين ينظر لزاوية أخرى، فيحرص على الطالبِ ذي الملكات الضعيفة ويمنحه اهتمامًا خاصًّا، فقد جاء في ترجمة الإسنوي صاحب كتاب المهمَّات بأنه كان: (يحرص على إيصال الفائدة للبليد، وكان ربَّما ذكر عنده المبتدئ الفائدة المطروقة؛ فيصغي إليه كأن لم يسمعها جبرًا لخاطره).

‏والحقيقة أن مراعاة المستويات المتفاوتة تفاوتًا كبيرًا في المجلس الواحد من العسر بمكانٍ، ولذلك إذا رأيت من لا يستفيد منك لكون فهمه فاضلا أو قاصرًا فوجِّهْه لغيرك.


ثمة أمور أخرى؛ إن أتيحت فرصة نشرتها بإذن الله.
••
في سرديات الحياة، تتكاثر الأوصاف وتتباين العقول، فبعضهم يصوغها فردوسًا مترفًا، وبعضهم يَنسجها جحيمًا لا يُطاق، وبين هذين الوصفين تيهٌ لا يُستهان به.

الانغماس المستمر في عمق كلّ مشهد ليس دائمًا فضيلة؛ فثمة أشياء لا عمق فيها أصلًا، ونحن من ينسج لها قاعًا وهميًّا ثم يغرق في ملوحة المعنى الخاطئ، نحن -أحيانًا- ضحايا الحاجة إلى العمق، لا ضحايا العمق نفسه.

والعقل المسلم حين يُنير بصيرته بالوحي يدرك أن (الحياة الدنيا) ليست محل التقييم الأخير، بل هي موضع الاختبار والعبور، يدرك أنّ فقه العبور أولى من فلسفة الإقامة، ولا تستقيم رؤيتك للدنيا، حتى تعاينها من شرفة الآخرة.
••
••
العبدُ إذا أكرمه الله بحياةٍ كريمة، وانشغل بعمارة دنياه وآخرته، ضاق وقته عن التفرّغ لصغائر الناس، وارتفعت همّته عن مكائد التوافه ومناكفات السخفاء، فلا يجد في قلبه فراغًا يُتيح لمكائد الحسد أو غوايات الخصام أن تتسرّب إليه؛ إذ هو مشغولٌ بعمارٍ داخلي، ومرابطٌ على ثغور نفسه، مستكفٌّ بحاله عن الناس.

وأما من أُفرغت حياته من المعنى، وتجردت أيامه من البذل الصادق، فإنه لا يجد ذاته إلا في التطفّل على حيوات الآخرين؛ فتارةً يتصيّد الزلات، وتارةً يفتعل المناكفات، وتارةً يفتش عن الخصومة لينتزع بها شعور الوجود، ويهوّن عليه أن يُؤذي غيره، ما دام لا يملك ما ينفع به نفسه.

والفقيه في معارج السلوك يعلم أن مدار الكرامة لا يكون في ردّ الأذى، بل في كفّه، ولا في التشظي، بل في الترفّع، فالعاقل لا يلوّث مروءته بمستنقعات السفه، ولا يُقايض كرامته بردود لا تزيده إلا ضياعًا.

وهؤلاء – في طبائعهم – لا تحدّهم خرائط، ولا يُقيدهم زمن، فهم في كل عصر، وتحت كل سقف، فسل الله العافية، وجانب أهل الفراغ، تُصن لك المروءة، ويصفو لك العمر.
••
••
في السفر تنكشف الطبائع، ويُغربل الداخل من شوائب التكرار، وتصفو النفس لتلقّي ما لم تكن تبصره تحت سقف الاعتياد، هو مدرسة تربوية بلا جدران، يُلقى فيها العبد على صحراء السؤال: من أنا خارج دوائري المألوفة؟

كثيرون يسافرون ويعودون كما ذهبوا، لأنهم غفلوا عن حمل أعظم زاد: دفتر يُقيّد وميض الفكرة، فالأثر لا تتركه الخطى، بل يتركه السطر حين يُكتب بصدق اللحظة وحرارة الانكشاف، والغنيمة الكبرى في الطريق، ليست ما تراه العين، بل ما يُبصره القلب حين يتخفف من كل ما سوى الله.
••
Forwarded from *سوانح الخواطر* (منال العتيبي)
أبرز_النماذج_اللغوية_في_الذكاء_الاصطناعي.pdf
249 KB
هذه أبرز النماذج اللغوية في الذكاء الاصطناعي
إعداد المصمم: د. ماجد الروقي
بارك الله في جهده ونفع به
لمن لم يدخل بعدُ في أجواء العشر فهذا لقاء (خير الأيام: يوتيوب | ساوند كلاود | تيليجرام) حول اغتنام العشر من ذي الحجة، وكان جزءًا من أنشطة سقيا العشر فيما سبق، وهذان لقاءان حول تفسير بعض الآيات المتعلقة بالحج ضمن أنشطة سقيا العشر فيما سبق كذلك (اللقاء الأول | اللقاء الثاني).

وهذا لقاء (مشاعر المشاعر) الذي كان من جملة النفثات، حول قصد القلب إلى بيت الرب سبحانه وبعض محطات سيره، وأضع كذلك حلقة ملخصة حول ذلك كانت ضمن برنامج (معارج الإيمان)

تقبل الله منا، وأعاننا جميعًا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، وكل عام وأنتم بخير وعافية وسلامة!
بسم الله الرحمن الرحيم

نعلن عن إطلاق مبادرة حفظ الدعاء الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (جوامع الكلم) خلال هذه العشر المباركة؛ عشر ذي الحجة


-سنحفظ خلال هذه الرحلة ما يقارب ٦٠ دعاءً صحيحًا واردًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مقسّمًا على ثمانية أيام، بمعدل ٧-٨ أدعية يوميًا، ثم اليوم التاسع يوم عرفة للمراجعة والتفرغ للدعاء ..

-سيرسل الورد اليومي المحدد كل يوم ابتداءً من ١ ذو الحجة، مع روابط للشرح أسفل كل حديث، مع التعليق على ما يلزم؛ تدبرًا وتأمّلًا وتثويرًا ودفعًا للاستشكالات، بالإضافة إلى إقامة لقاءات تفاعلية مثرية مع قامات علمية متمكنة تعمق علاقتنا مع الدعاء

-أحثكم جميعًا على المشاركة والانضمام، ثم نشر هذه الرسالة ومحاولة إيصالها لأكبر عدد ممكن، حتى تعم الفائدة ويعم الأجر

بارك الله فينا وفيكم، وجعلنا وإياكم من العاملين العابدين.
•| الفُلكلور التعبدي |•

ثمّة مشهد تعبّدي شعبيّ يتكرر كل عام مع قدوم رمضان، حيث يمتزج الإيماني بالاحتفالي، والشرعيّ بالموروث، فيُفتح للناس باب الإقبال لا من محراب النصوص فقط، بل من نوافذ الطقوس الجمعية: فانوس يُضاء، ومدفعٌ رمزيّ يصمت بعد أن كان يومًا يدوّي، ومائدة رمضانية تُعدّ وكأنها تُفطّر عامًا بأكمله، ومسحراتيّ يطوف الأزقّة، لا ليستحثّ النيام فحسب، بل ليوقظ فيهم ذاكرة الطفولة، وصدى الشهر المبارك.

وفي ظل هذا الزخم الجمعيّ، تنشط العزائم، وتتيسر العبادات، فيصوم الناس ويقومون، وكأن الجماعة تُسند الفرد، والجوّ يُلزم القلب. لكنّ تأمل الحال يوقفنا عند مفارقة لافتة: إذا كانت العشر الأواخر من رمضان تُشتعل فيها الأنوار، فإن العشر الأُول من ذي الحجة – وهي الأيام التي شهد لها النصّ بأنها “خير أيام الدنيا” – لا تحظى بذات التوهّج في الوجدان العام، ولا بذات التفاعل الشعائري. والسبب؟ أنّ عباداتها فردية، لا يواكبها صخبٌ جماعيّ، ولا تُرفع لها الرايات، بل تستبطن حضورًا خافتًا، لا يسمعه إلا من أنصت لنفسه.

وهنا يكمن السرّ: فالعشر الأُول من ذي الحجة ليست موسم استعراض، بل موسم استئنافٍ للعهد، تجديد للميثاق المنقوض في ليالي رمضان، وتصحيح للوجهة بعد أن تخثّر النبض خلف زخارف الطقوس.

إنها عشر البصيرة لا البهرجة، فيها تصوم النفس في وَضح النهار، وتُبصر حقيقة الدنيا من خلال مشهدٍ أخرويٍّ مُعجّل يُختصر في عرفات: خلوة جماعية في صعيدٍ واحد، تحت شمس واحدة، يتسابق الناس فيه إلى الله وكأنهم تجرّدوا من كل ما سواهم، وهذا هو الحج الأكبر لمن أبصر.

في هذه العشر، لا نطوف بأجسادنا، بل تطوف أفئدتنا بكعبة القرب، ونرتدي لا إحرام القطن بل إحرام النيّة والصدق، ونسعى بين صفا القرار ومروة التوبة، نبحث عن زمزم يروي ظمأ عامٍ كامل من التقصير والغفلة والركض بلا جهة.

وإذا كان ختام السنة الهجرية هو هذه العشر، فإنها المسك الذي تُعطر به الأيام، والغسل الأخير من أدران عامين، والمقام الذي سئل فيه النبي ﷺ عن صيام يومه الأعظم، فقال: يكفّر السنة الماضية والباقية، أي عبورٌ هذا الذي يغسل ما لم يقع بعد؟ وأي رحمة تلك التي تمحو الذنوب قبل أن تُكتَب؟

اللهم جدّد في قلوبنا الإيمان، كما يُجدد المطر الحياة في الأرض المقفرة، واجعل لنا من هذه العشر مقامًا إلى عرفات القلب، ووضوحًا في البصيرة، وثباتًا في الاستعانة، ونجاة من فتن الغرور والاكتفاء، وهب لنا توبةً تهدينا إليك، وتحرسنا من التيه في شعاب الهوى.

اللهم آمين.
2025/07/01 00:35:24
Back to Top
HTML Embed Code: