Telegram Web Link
••
📝 زيف الانشغال

تأمل في وجوه كثيرة تمرّ بك كل يوم، وانظر إلى ملامحهم المكدّسة بتعبٍ لا تعلم مصدره، إلى نبراتهم التي تشي بأنهم “مشغولون جدًا”، إلى ألسنتهم التي تردد كمن يُلقّن: “والله ما لحقت”، “مضغوط جدًا”، “ما قدرت أكمل”.. ثم قف لحظةً واسأل: هل هذا الانشغال كلّه في ما يستحق؟ أم هو “تهرّب شرعي” من مواجهة الواجب الحقيقي؟ والإنسان في هذا الزمان قد اخترع “درعًا” يحميه من تبكيت الضمير اسمه: (الانشغال).

فالطالب الذي يؤجل بناء ملكته العلمية، ويغرق في مراجعاتٍ عشوائية ومتابعة بثوثٍ متفرقة، يردد في داخله: “أنا مشغول”، بينما هو في الحقيقة يهرب من الخطوة الأصعب: الانضباط.

والداعية الذي يتنقل بين الفعاليات واللقاءات، ويشعر بالرضا كلما تكرّر اسمه في اللافتات، يردّد لنفسه: “ليس لدي وقت للكتابة”، لكنه لم يصرّح لنفسه بأن الكتابة تحتاج عُزلةً، ومكابدةً، وتجريدًا عن الضجيج، وهو لم يُرد أن يدفع هذا الثمن.

إننا حين نخاف من العمل الحقيقي؛ نلوذ بما يُشبهه، ونُشغل أنفسنا بـ”أعمال جانبية” تمنحنا جرعة مؤقتة من الإنجاز، لكننا نعلم يقينًا في قرارة أنفسنا: هذا ليس هو الطريق، أليس عجيبًا أن ترى أحدهم يمضي يومه بين ملفات ومواعيد، وحين يُسأل: أين مشروعك الأساسي؟ يخفت صوته، وتتوارى الإجابة خلف “أعذار مزخرفة”؟

لقد صار “زيف الانشغال” هو الواجهة الاجتماعية الجديدة للمتحايل على الوقت، لا يريد أن يُتهم بالكسل، لكنه لا يريد أن يدفع ثمن التقدم الحقيقي، وما أكثر ما تغدو “الانشغالات” ذريعة لدفن الأسئلة المؤلمة التي تطرق على أبواب العقل: أين أنا من إصلاح نفسي؟ ما موقعي من قضايا أمتي؟

وهكذا، يبيت العبد وقد ظن أنه مجتهد، فإذا وزن يومه في ميزان الآخرة، لم يجد ما يرجى، فإن العمل الحقيقي ليس ما يتراكم في رزنامات الهاتف، بل ما يتراكم في صحيفة العمل الصالح، وفي عمق الأثر، وفي تجريد القلب لله.

وشتّان بين مشغولٍ بالله، ومشغولٍ عن الله.
••
••
•| حجاب المرأة.. المئذنة المتنقّلة |•


حين تدبّ خُطاك في أروقة المطارات، وتُحطّك رحلتك في مدنٍ متباعدة الأطراف، ثم تقع عينك على امرأة متحجبة تمضي في طريقها بسكينةٍ ووقار، تشعر أن نداء “الله أكبر” قد صدح، ولكن بلا مئذنة.. كأنها – بحجابها – تحمل على رأسها علَمًا يُعلن عن وجود الإسلام في هذا المكان.

ففي الوقت الذي يمكن أن يتخفّى الرجل المسلم خلف بدلة أنيقة أو قميص عصري، تبقى المرأة المسلمة بحجابها راية لا تُخفى، وشعارًا لا يضمحل، هي العلامة البصرية الأوضح لوجود الإسلام في الفضاء العام، ولهذا، لم تكن الحملة الغربية على الحجاب مجرّد صدامٍ ثقافي مع لباسٍ تقليدي، بل كانت – في جوهرها – صراعًا مع الشهادة العلنية على وجود هذا الدين.

لقد أدركوا – بعمقٍ سياسي وثقافي – أن حجاب المرأة ليس مجرد قطعة قماش، بل هو “الشعيرة المتحرّكة”، وأنه بحدّ ذاته إعلانٌ يوميٌ حيّ عن الإسلام في زمنٍ يُراد فيه للدين أن يُحبس في زوايا القلب، ويُمنع من التعبير عن نفسه في الشارع العام.

وفي معمار الحضارة الغربية، كل شيء قابل للذوبان والتفكيك: الأسرة، الدين، اللغة، والهوية. لكنّ الحجاب، ذلك الشعار اليومي العلني، يشقُّ هذا السياق المتحلل، فالمرأة المتحجبة – وهي تمشي بين الناس – تُفسد على خصوم الإسلام وهْم الانتصار، لأن في هيئتها البسيطة استعادةً لحق الإسلام في الوجود، وفي مظهرها الجليل تذكيرٌ صامتٌ بمنهج السماء في حضرة الازدحام الأرضي.

ولهذا؛ لا غرو أن يتواطأ الإعلام، وتُحفّز القوانين، وتُحرّك الحملات، لاقتلاع هذا الرمز من الوعي والسلوك، فخصوم الدين، إذ عجزوا عن النيل من جوهر الرسالة، اتجهوا إلى تمزيق شعائرها الظاهرة، هم لا يطيقون “مَعْلَمًا” يعلن بجلاء: هنا الإسلام، فلما عجزوا عن إسكات الوحي، حاولوا حجب صدى الشعار.

فيا أختاه، لستِ ترتدين ثوبًا فحسب، بل تحملين لواء الرسالة في زمن التمييع، وتُشيرين للمارة أن الإسلام لا يزال نابضًا في هذا العالم، بثباتك، ينهزم المشروع الذي أراد أن يجعل الإسلام متحفًا لا مظهرًا.
••
••
حجاب النفس عن فقه التكبير؛ خللٌ في ميزان النظر، واحتجاب عن أعظم بابٍ للطمأنينة والإيمان، يُناجي فيه العبد ربَّه من مقام التعظيم والإجلال، ويُعيد من خلاله ترتيب الأشياء كما يريد الله، لا كما تهوى النفوس. قال تعالى: ﴿وَقُلِ الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي لَم يَتَّخِذ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَهُ شَريكٌ فِي المُلكِ وَلَم يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرهُ تَكبيرًا﴾ [الإسراء: ١١١]، وهل من عافيةٍ أجلّ من عافية التوحيد الخالص؟ نسأله تعالى أن يرزقنا مقام التكبير، وأن يطهر قلوبنا من تعظيم غيره.
••
••
في أيامٍ تتسابق فيها الجوارح، يلوح للمتأمّل أن من أعظم الميادين في هذه العشر ليست حركة البدن، بل حركة القلب، فأعمال القلوب هي محل نظر الرب، ومصدر تصحيح المسار، ومكمن سرّ القبول.

التوكل، الإخلاص، الخشية، المحبة، الرجاء، الرضا، هذه ليست أحوالاً روحية، بل هي الأوتاد الخفية التي تشدّ بناء العبادة من الداخل، وكلما وُطّن القلب على واحدة منها، استقامت بقية الأعمال تبعًا لها.

فانتخب من هذه الكنوز ما يلامس علّتك، فثمّة قلبٌ غافل يفتقر للخشية، وآخر متكلّ على الأسباب يحتاج للتوكّل، وثالث قد أرهقته الأحزان فدواؤه الرجاء.

اقرأ فيها كثيرًا، واسمع عنها مرارًا، وقل دائمًا: “اللهم أصلح قلبي وعملي”، فكل صلاحٍ بعده يتبعه، واستحضر هذا المعنى في تفاصيل يومك، فإن القلب إذا استقام، لم يعسر عليه عملٌ ولا تقوى.
••
••
غزة و إعادة التعريف.

ما الذي يحدث حين تعلن المستضعفة أن لا مكانَ لها في جدول المقاييس المجرّدة، وأنّ الحسابات التي تتغافل عن (معادلة العقيدة) ناقصة، بل مضلِّلة؟

يحدث أن تنفجر الطاقة المكبوتة في رحم الحصار، وتخترق جدران التحليل الصلد؛ لا بوصفها ردّ فعل سياسيٍّ هش، بل بوصفها لحظة قهرٍ تاريخيّ يَستدعي سُنن الإحياء من بعد الموات، يحدث أن يُحرَج الواقع بنفسه، حين يُفاجَأ أن من ظنّهم موتى، قد كتب الله لهم الحياة مرة أخرى، فبعثوا من تحت الأنقاض إرادةً لا تُقهر، وارتفعوا من أرض الجغرافيا إلى ذروة التاريخ.

غزة في هذه اللحظة ليست “كيانًا مقاومًا” فحسب، بل “حُجّة ربانية” على من تبلدت بصيرتهم، هي الكفّ المجرّدة التي تفضح وهم القبضة الحديدية، واليقين الطفولي الذي يُبطل سحر الاستراتيجية المتعجرفة.

هي التساؤل المُرعب: وماذا لو انتصرت الفكرة رغم اختلال الموازين؟ بل ماذا لو كان اختلال الموازين هو شرطُ انتصارها؟ هي لحظة كشفٍ حاسمة، تُعيد تعريف المصطلحات: فـ”الفاعلية” ليست ما تنتجه القوة، بل ما تصنعه العبودية لله حين تشتد، و”الواقعية” ليست ما تفرضه التوازنات الدولية، بل ما يثبّته الصدق في الميدان.

في غزة، تنكشف حقيقة العالم: أين يقف، وماذا يخشى، وماذا يعني أن تكون مُحاصرًا لا تُقهَر، في غزة، يتجلّى قول الله: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فاللحظة التي يتجلّى فيها صدق العقيدة، تَنفُذ إلى التاريخ أكثر من ألف مؤتمرٍ صحفي.
••
••
•| نحت الوعي المعاصر |•

في طريق عودتي الليلة، والمدينة تتنفس زحامها الشديدة كصدرٍ مكدود، اختلطتْ الوجوه واللغات، وتمازجت اللهجات، حتى غدت الأرصفة لوحةً فوضوية بريشة العولمة، ركبتُ التاكسي كمن يلجأ إلى ظلّ من ضجيج، فإذا بالمذياع يهمس بصوتٍ مخمليٍّ يسترخي على أذنيّ، لا ليفيدني بخبر، بل ليختطفني بنبرة، هناك في المقعد الخلفي، كنت أسمع بعينيّ تلك الحروف تندلق على قلبي لا من فم المذيع، بل من مرجلٍ خفيٍّ خلف الأثير، يُعيد تشكيل الذائقة بهدوء، ويهندس الانفعال بحنكة، ويَسحب النفس برفقٍ مريب إلى مساراتٍ لم تخترها.

في هذا العصر الذي أُشربت فيه العقول فتنة الصورة، وتسللت إلى الروح غواية الضوء والصوت، لم تَعُد الشاشة مجرّد نافذة، بل غدت أداة نَحتٍ للوعي، تُشكّل الإنسان على نحوٍ خفيٍّ، ناعمٍ، ونافذٍ في آنٍ معًا، ما الذي يحدث حين تُفتَح الشاشة؟ يُغدَق عليك زخم بصريّ كثيف: ألوانٌ دافئة، تصاميم تسرّ الناظر، انتقالات مدروسة، وجوهٌ تبتسم بلغة تسويقية صامتة. حتى حين يُغلَق البصر، ويُدار المذياع، تنهمر عليك طبقات صوتية منتقاة: طبقة فرائحية لإشعارك بالحياة، وأخرى مخملية لتُغريك بالاسترسال، وثالثة صارمة تُوحي بالثقة والهيبة، كل هذه أدوات جذب مدروسة بعناية نفسية، الغاية منها: كسر الحذر الفطري، وإخضاعك للإنصات قبل أن تفكر.

تتحوّل الشاشة من نافذة إلى مصهر، ومن وسيلة إلى مِعول يعيد تشكيل الإنسان ذاته: كيف يرى، ماذا يستحسن، أين يضع قلقه، وما معيار القُرب والبعد لديه، وحين يتكرّر التعرّض، تنسحب السلطة من العقل إلى العين، ومن التأمّل إلى الانفعال، ويغدو الإنسان أسيرًا لما أُريد له أن يعشقه، لا لما اختاره بحرّيته.

كما تؤكده دراسات الإعلام المعاصر، وخصوصًا في أطروحات الفيلسوف جان بودريار في “Simulacra and Simulation”، حيث يرى أن الإعلام لا يَنقل الواقع، بل يُعيد تشكيله وصناعته رمزيًا وبصريًا، مُنتجًا ما يُعرف بـ”الواقع الزائف” (Hyperreality) ومع كل مشهدٍ ساحر، وكل تعليقٍ معلّب، تتراجع قدرة الإنسان على أن يسائل، ليتقدّم بدلًا عنها: الإعجاب، ثم التقليد، ثم الامتثال الصامت.

وحين يُفرَغ الإنسان من محتواه الداخلي، يصبح قابلاً للحشو؛ وهنا تتجلّى خطورة الإعلام كـ”مُهندس معنويّ”، لا يعبث بالخبر فقط، بل يعبث بالمعنى ذاته: بـ”نورانية الحياة”، و”وجهتها”، و”محورها” وإذا لم يتحوّط الإنسان، ويُجدد صلته بالوحي كمرجعية كبرى فوق السرديات الإعلامية، فإنه سيغدو نسخةً صوتية بصريّة مما أرادوه له أن يكون: كائنًا رخوًا، يتبع الوميض، ويستهلك ما يُعرض، ثم يتشكّل دون أن يشعر. قال تعالى: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17]، وفي عصر الشاشة، هذا العمى قد لا يكون فقدانًا للبصر، بل انبهارًا به!
••
••
|• ردّ الاعتبار •|

إذا علّقت قلبك بالآخرة، أدركت أن الجنة ليست مأوى الخالدين فحسب، بل مقامُ الإنصاف المؤجَّل، وعرشُ الكرامة المستردَّة، حيث تُجبر كسورُك الخفية، وتُروى ظمأاتُك القديمة، ستُردّ لك الجنةُ اعتبارك عن تلك المرارات التي تجرّعتها في صمت، عن نظراتٍ كظمتَها أدبًا، وأحزانٍ كفنتها في صدرك، عن اللحظات التي كنتَ فيها يوسفَ الصبر، وأيوبَ الاحتمال، وموسى الغريب في قصر لا يُشبهه.

الجنةُ ستجبرُ فيك انحناءةَ الروح التي شاخت قبل أوانها، وتُعيد لوجدانك نضارته التي سرقها الألم، وتَغسل عنك غبار السنين التي مضت وأنت تقاتل بصمتٍ لا يسمعه إلا الله.
••
••
|• خيانة الخلوة |•

في مضمار التربية الإيمانية، ثمّة ابتلاء لا يراه الناس، ولا يُدوَّن في دفتر الجرائم المرئية، ولكنه أخطر مسارات الانهيار الباطني: ذنوب الخلوات، تلك اللحظات التي يختلي فيها المرء بمعصيته بعيدًا عن أعين الخلق، لكنها لا تغيب عن عين “الرقيب”.

إن تكرار الذنب في الخفاء يُنتج ما يُسميه أهل السلوك: سُكر الغفلة؛ حيث تفقد الروح توازنها، ويضعف استنكار القلب، وتبدأ هندسة المبررات في تشييد منطقٍ يُجمّل القبيح ويُؤطّر الزلل كـ”نزوة عابرة”، وهذا الانزلاق الخفي لا يطفئ نور الطاعة فقط، بل يفرّغها من مضمونها، فتصير الصلاة عادةً، والذكر تكرارًا آليًا، والقرآن صوتًا لا يتجاوز الحنجرة.

والمعضلة أن ذنوب الخلوة لا تُعاقَب على الفور، بل يُؤجَّل العقاب في سلسلةٍ من “النزع الهادئ”، حيث تُسلَب لذة المناجاة، ويذبل الحياء من الله، ويتيبّس الخوف، حتى إذا أدمن العبد معصيته في الخفاء، خُتم على قلبه بختم لا يُرى، وابتُلي بـالحرمان الصامت.

في ظاهر الأمر، العبد على حاله، يصلي كما كان، يصوم كما اعتاد، يبتسم كما يُحبّ الناس، لكن في باطنه: تهشّمت مهابة الذنب، وذبلت حرارة الخشية، وذابت صلة السرّ بالله، فما كان سقوطه في لحظة، بل كان نخرًا بطيئًا بدأ يوم استرخص نظر الله، وغلّب لذته على مراقبة “الذي يعلم السر وأخفى”.

ولأجل هذا، كانت وصية النبي ﷺ الصادقة المزلزِلة: “لأعلمنّ أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثورًا… إنهم إذا خَلَوا بمحارم الله انتهكوها”.

فمن رام أن يُبعث بقلبٍ سليم، فليستصحب مراقبة “الذي يراك حين تقوم”، وليجعل بينه وبين الذنب سترًا من الحياء، لا من الناس، بل من رب الناس.
••
••
في دهاليز هذه الحياة، لا يُوزَن المسير بكثرة التحرك ولا يُقاس بالضجيج، بل يُوزن بوجهة القلب: إلى من يتوجه؟ وبماذا يتزود؟ فالغاية التي يُربّي عليها القرآن هي غاية النجاة بتحقيق العبودية، لا التماس الظهور في مشهد الاصطفاف البشري ولا تسلّق سلالم المجد الزائف، وإنما النجاة كل النجاة، أن يُكرمك الله بانكسارٍ دائم له، واستقامة باطنة، ومقام خفيّ بين يديه لا يعلمه إلا هو.

فإن امتدّ لأحدهم الأثر، ورُزق الرسوخ في ضمير الأمة، فذاك اصطفاء ربانيّ، لا يُنال بكدّ الفكر وحده، بل بصدق الانطراح على أعتاب الله، في سرٍّ لا يشهده إلا علام الغيوب، فالمسألة – كما يعبّر أهل السير – ليست مسألة مآثر تُشيَّد، بل منازل تُقطع، ومن نزل في مقام العبودية، بلّغه الله من الفضل ما لم يخطر له على بال.
••
ها قد حططنا رِحالنا في آخر المحطات، نستمطر من الدعاء معانٍ تُغاثُ بها القلوب المنهكة، وتُزهِر بها الأرواح الشاحبة..

نلتقيكم أصدقاءنا الكِرام في آخر لقاءاتنا مع الأستاذ توّاق بعنوان: «عرفة | بين جفاف الروح وغيث الدعاء..»

غدًا الأربعاء في تمام الـ 09:00 مساءً إن شاء الله بتوقيت مكة المكرمة.

كونوا على الموعد..🍃🤍
خسوف النية .pdf
5 MB
العبادة حين يُطفئها جليد العادة.
بين جفاف الروح وغيث الدعاء - تواق
جوامع الكَلِم
عنوان اللقاء | عرفة بين جفاف الروح وغيث الدعاء.
‏..

لماذا كانت (عرفة) خارج حدود الحرم، على عكس (منى ومزدلفة) فهما داخلتان في حدود الحرم؟

‏علَّل بعض أهل العلم هذه المفارقة العجيبة؛ بما جاء عن الخليل بن أحمد قال: سمعتُ سفيان الثوري يقول:
‏(قدمتُ مكة فإذا أنا بجعفر بن محمد قد أناخ بالأبطح، فسألته:
‏لم جُعِلَ الموقف من وراء الحرم، ولم يُصَيَّرْ في المشعر الحرام؟

‏فقال: الكعبة: بيت الله، والحرم: حجابه، والموقف: بابه، فلمَّا قصدوه أوقفهم بالباب يتضرَّعون، فلمَّا أذِن لهم بالدخول، أدناهم من الباب الثاني، وهو المزدلفة، فلمَّا نظر إلى كثرة تضرُّعهم وطول اجتهادهم رحِمَهم ، فلما رحمهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلما قربوا قربانهم، وقضوا تفثهم، وتطهروا من الذنوب، أمرهم بالزيارة لبيته.

‏قال له: فلم كُرِه الصوم أيام التشريق؟
‏قال: لأنهم في ضيافة الله، ولا يجب على الضَّيف أن يصوم عند مَنْ أضافه .


📕تاريخ الإسلام | للذهبي - ٩٢/٩
..
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
اللهم أمدَّ قلوبَنا بمدَد تُطلق به ألسنتَنا لحُسن مسألتِك.
‎⁨العيد ⁩.pdf
3.1 MB
العيد | بين الفرح المُهذّب والابتهاج المُنفلت
••
بتوقيت هذه اللحظة، جلست على صخرةٍ تقابل شلّال Štrbački buk، حيث يسرد الماء قصصه دون انقطاع، وهنا كتبت هذه الحروف، لا لأنّ الوقت كان مناسبًا، بل لأنّ الجمال كان كافيًا لاستدعاء كل من أحببنا، وجمال المشهد كان عذرًا جديدًا لاستحضار الغائبين كأنهم هنا.

ثمّة مواسم تعيد تشكيل وعينا بطريقة لا يلتفت لها كثير من الناس، والعيد أحدها؛ لا يطرق أبوابنا محمّلًا بالفرح وحده، بل يأتي ومعه فرصة رمزية لإعادة ترتيب العلاقات، ومراجعة ما مضى على مهل، كأنما يمنحنا إذنًا مؤقتًا للتوقف عن الركض، والنظر إلى ذواتنا من الخارج.

يمنحنا العيد فسحةً لنعيد النظر، لا لأنّ ملامح الأحبة تغيّرت، بل لأنّ أعيننا صارت ترى بصفاءٍ أعمق؛ وحين نرى القريب أقرب، والصديق أدفأ، ندرك أن الزمن قد ربّى فينا نوعًا من الفهم، ذلك الذي يُسمّى نُضجًا.

الطقوس التي تتكرّر كل عام — اللقاءات العائلية، القهوة المنسية، وصال مُنتظر، تبادل التهاني — هي تمارين وجدانية تُعيد إلينا يقينًا بسيطًا: أننا لا نحيا فرادى، وأن للفرح نكهة لا تكتمل إلا حين يُعاش بتآلف الأرواح، لا بعزلة المشاعر.

وفي كل عيد، تتجدد الوظائف الشعورية للعلاقات: من يدعو لنا دون أن نطلب، من يكتب اسمنا في قلبه قبل تهنئته، من يرمّم بصمته ما تصدّع من ودّ، فالعيد لا يُعيد الزمن إلى الوراء، لكنه يُعيد ترتيب الوجوه في خارطة القلب، يُبرز من كان في الأطراف، ويُنير من ظلّ في العتمة طويلًا.

ونحن نعيش لحظاته، نستعيد أنفسنا على هيئةٍ أوضح؛ تتداخل البهجة مع الوقار، ويغدو الناس أنفسهم زينة العيد، ويصبح اللقاء صادقًا أكثر من الكلمات، والبساطة أغلى من الهدايا، والنوايا الطيّبة أثمن من الأعذار المتأخرة المقبولة.

وبين ازدحام التهاني، وتعدّد الأمنيات، نُبصر نحن وحدنا موضعًا لا ينافسنا فيه أحد؛ لنا من الذكرى دفؤها، ومن الأمكنة بريقها، ومن العيد معناه الأصفى.

فأنتم جمال العيد، ونبض ذكراه، وكل عام وقلوبكم بخير، فالعيد زينة الوقت، لكن الأحبة هم زينة الوجدان، وجمال المكان لا يطوي وجوههم، فجمال اللحظة في حضورها، وجمال الأرواح في أثرها، وجمال المكان في قدرته على أن يُحيي الوجوه الغائبة كما لو أنها لم تغب يومًا.
••
••
•| المسافة تروي العلاقة |•

ليس القرب هو الغاية العليا في العلاقات، بل حسن التقدير، وما المسافة — في جوهرها — إلا ضربٌ رفيع من الذوق، ومقامٌ لا يبلغه إلا من عرف قدر نفسه، وقدر الآخرين، فبعض النفوس لا تتألّف إلا إذا أُعطيت فسحة، ولا تزدهر إلا إذا نُزِعت عنها أعباء التوقّع، وكُفّت عنها مطالب الحضور الدائم والشرح المتكرّر.

المسافة ليست برودًا كما يظنّ العاطفيون، ولا مكرًا كما يتوهم المتوجّسون؛ بل هي لغة الراشدين في إدارة المودّة، هي ما يجعل العلاقة تحتفظ ببهائها، حين لا تُهدر أسرارها في الازدحام، ولا تتآكل معانيها تحت ضغط الحضور الثقيل.

وليست العلاقة السوية تلك التي تُحيطك بالأسئلة ليل نهار، ولا تلك التي تراقب أنفاسك كي تُفسّرها، بل العلاقة التي تمنحك مجالًا لأن تكون، دون أن تفقد يقينك بأنها باقية.

إن الذين يبالغون في الحضور، ولو بحسن نية، يرهقون الأرواح من حيث لا يشعرون؛ تمامًا كما تفقد الزهرة بريقها إن تُركت تحت وهج الشمس بلا ظلّ، فالقلوب لا تحتاج إلى مَن يُرهقها بالعناية، بل إلى من يفهم متى يتراجع خطوة ليمنحها حريّتها، ومتى يتقدّم بخفة ليجعلها تبتسم.

وما أجمل أولئك الذين يُحسنون الحضور برفق، ويُجيدون الغياب بذوق، ويعرفون أن المودّة لا تُقاس بالكثرة، بل بالخِفّة والكرامة.
••
••
الإحسان ليس سلوكًا هامشيًا في منظومة التدين، بل هو ذروة المقامات، وتاج الرحلة إلى المعبود، لا يبلغه العبد إلا إذا تحرر من قيد المعاوضة، وتخفّف من ثقل الترقب، واستشعر أن أعظم العطاء ما كان خالصًا لله، مجردًا من انتظار الصدى، هو تربيةٌ للروح على الرفق حين يقسو العالم، وتكريم للآخر لا لذاته، بل لأنك ترى في كل فعل إحساني صورة من صور “العبودية الممتدة” التي تتجاوز الشعائر إلى الحياة.

وما أرقى أن يكون عطاؤك سرًّا بينك وبين الله، لا يطوف به ريب، ولا تشوبه شوائب الرياء، بل يُكتب في صحيفة الذاكرين بصمت، ويُغرس في سجل المُحسنين بلا شهرة ولا ضجيج، فالإحسان أن تعيش بمبدأ: ﴿إنما نطعمكم لوجه الله﴾، لا تترقب جزاءً ولا كلمة ثناء، بل يكفيك أن يعلم الله أنك فعلت، وله وحده أعددت.
••
Please open Telegram to view this post
VIEW IN TELEGRAM
2025/06/30 17:35:52
Back to Top
HTML Embed Code: