سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(21)
[تتمّة: الإنفاق والجود في رمضان]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فتقدمت الإشارة إلى الإنفاق والجود في رمضان، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وبيان أن طلاقة اليد بالإحسان وسلامة القلب من الشّحّ والبخل هي بعض آثار الصيام في تهذيب النفس وتنقيتها من سافل الأخلاق، وحثّها على مكارمها.
والإنفاق في سبيل الله تعالى شعيرة عظيمة حثّ عليها ديننا الحنيف في غير ما آية، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى بعض آثاره الدينيّة والدنيويّة.
ومن الآيات التي حثّ الله تعالى فيها على الإنفاق في سبيل الله قوله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ:39].
وقال تعالى في بيان أجر المنفقين وسعة أجورهم وثوابهم ومضاعفتها: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[سورة البقرة: 261] . وقال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:133-134].
بل إن الله تعالى جعل الإنفاق في سبيله من الجهاد الذي قد يُقدّم أحياناً على الجهاد بالنفس في أكثر من آية فقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15].
وجعل الإنفاق في سبيله استقراضاً يستقرضه الله تعالى من عبده، وهو سبحانه وتعالى واهب المال ومالكه، وهو الغني عن خلقه تعالى فيقول تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }[النور:33] وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: 245].
فيستقرض الله من عبده المال الذي آتاه ويعده أن يضاعفه له أضعافاً كثيرة، ثم يهدده إن قصّر في الاستجابة لأمر الله بأن الله يقبض ويبسط، فالأمر بيده وحده وإليه ترجعون.
كما بيّن تعالى أن الإنفاق والجود والكرم طهرة للنفس وتزكية للقلب، وأماناً للمال وتنمية له فقال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[سورة التوبة: 103].
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنفاق سترٌ من النار، ووقاية من عذاب جهنم كما في الحديث الذي رواه الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)).
وفي الإنفاق أيضا تطهير من السيئات ومحو للذنوب والخطيئات، كما في الخبر: ((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)).
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والصدقة برهان)) قال النووي رحمه الله: "معناه الصدقة حجة على إيمان فاعلها فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه".
في مقابل أن الشحّ والبخل من الأخلاق السافلة وسمات المنافقين، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، وحذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)).
فالصيام والصدقة تزكي النفوس وتطهرها من أدرانها؛ ولذا فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من البخل: (أعوذ بك من الجبن والبخل).
قال حبيش بن مبشر الثقفي: "قعدت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، والناس متوافرون فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلا صالحا بخيلا".
ومن المعلوم أن في المال حقّاً لله تعالى غير الزكاة المفروضة، فقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25]، فقال بعض العلماء هو حقّ سوى الزكاة من الصدقات وأعمال البر غير المحددة، قال ابن عباس: "هو سوى الصدقة؛ يصل بها رحمه، أو يقري بها ضيفا، أو يحمل بها كلًّا أو يُعِين بها محرومًا".
والجود بالمال على تنوّعه، فليس هو الصورة الوحيدة للجود، فهناك جود بغير المال ويعدّ من الصدقات المتطوع بها، وقد تفوق الجود بالمال أحياناً، فعلى المسلم أن يجود على نفسه بها في رمضان وغيره طلباً لمرضاة الله تعالى والدار الآخرة.
يقول ابن رجب رحمه الله: "والصدقة بغير المال نوعان:
أحدهما: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق، فيكون صدقة عليهم، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنه دعاء إلى طاعة الله، وكف عن معاصيه، وذلك خير من النفع بالمال، وكذلك تعليم العلم النافع، وإقراء القرآن، وإزالة الأذى عن الطريق، والسعي في جلب النفع للناس، ودفع الأذى عنهم. وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم. ..كما في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة...
والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعه قاصر على فاعله، كأنواع الذكر: من التكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة".
ولذلك لما شكا فقراء الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا، والنعيم المقيم يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، قال: ((ألا أحدثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين)) قال الراوي:فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثا وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبر أربعا وثلاثين، فرجعت إليه، فقال: ((تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين)).
فمن فضل الله تعالى أن نوّع في أبواب البرّ وأنواع الصدقات ليسهم كل مسلم بما يستطيع من مال أو غيره، وخاصة في هذا الموسم العظيم، موسم المتاجرة مع الله تبارك وتعالى.
اللهم قنا شحّ أنفسنا، وأعنّا على ذكرك وشكرك .
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكّاها.
اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة( 22)
[استقال العشر الأواخر]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
بالأمس القريب كنا نستقبل ونتبادل التّهاني بحلول هذا الشهر المبارك، والآن قد مضى من الشهر الثّلثان ولم يبق منه إلا الثّلث، بل بقي منه أفضله.
فيه ليلة خير من ألف شهر لمن وفّقه الله لقيامها، قال ابن رجب رحمه الله: "لكل زمان فاصل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وكذلك الليل والنهار عموما آخره أفضل من أوله".
وهذه فرصة عظيمة لمن أكرمه الله بإدراك هذا الشهر صحيحاً معافاً، والناس فيه رجلان:
أ- إما محسن فليحمد الله على ذلك، وليجتهد فيما بقي، بل كلما تقدم الشهر فينبغي للمؤمن المزيد من العطاء والاجتهاد، وليحذر أن يكون فتوره في وقت الغنائم، وفي آخر ميدان السباق.
ب- وإما مقصر، فليستغفر الله على تفريطه، وليغتنم الفرصة، فلا زالت سانحة وأبواب الخير مشرعة فالبدار البدار قبل فوات الأوان، والعبرة ليست في تعثر البدايات، وإنما في كمال النهايات، وليحذر من الضعف عن الطاعة، والكسل والفتور عنها؛ فإنها من أمراض القلوب الخطرة.
قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الله جعل شهر رمضان مضمارا للخلق، يستبقون فيه بطاعته لمرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف قوم فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه الفائزون، ويخسر فيه المبطلون".
واجتهاد المسلم في هذه العشر المباركة مع تقصيره في أول الشهر خير من تقصيره في آخره؛ لأن (الأعمال بالخواتيم) كما قال صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أننا الآن مقبلون على زبدة الشهر وخلاصته، وأفضل أيامه ولياليه وهذا يقتضي منا مضاعفة الجهود، والمسابقة إلى كل خير، ومما يعين على ذلك هو الوقوف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة لكل مريد للخير حريص على النجاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخصّ هذه العشر بأكثر مما كان عليه منذ دخول الشهر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت كل حياته من ليل أو نهار هي لله تعالى، وفي الله ومن أجل الله، يعمرها بأنواع العبادات والقربات لله عز وجل، ولكنه يخصّ بعض الأوقات الشريفة بمزيد فضل وعناية وزيادة جدّ واجتهاد وتنوع في العبادات، فكيف كان حاله صلى الله عليه وسلم إذا أقبلت العشر.
تصف لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حاله في العشر الأواخر فتقول:
- كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
- وتقول رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمّر وشدّ المئزر).
- وتقول رضي الله تعالى عنها كما في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله).
وهذا يدلّ على أن لهذه العشر الأواخر فضيلة، ومزية على غيرها، وقد ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر أربع حالات:
1- (شد مئزره) أي اعتزل نساءه مبالغة في إحياء الليل بالقيام والقرآن والذكر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر، والمعكتف ممنوع من النساء مدة اعتكافه، وقيل: كناية عن شدة جدّه واجتهاده في العبادة، فإن العامل المجتهد يشدّ على وسطه بشيء يعينه على الاجتهاد.
2- (أحيا ليله) أي سهره، فأحياه بالطاعة ولم يمته بالمعصية أو الغفلة والنوم، والمعنى أحياه بالقيام والتلاوة والذكر وسائر أنواع التعبد لله عز وجل.
وأما ما ورد عن النهي عن قيام الليل كله فهذا محمول عند أهل العلم على من داوم عليه جميع ليالي السنة.
وتأمل (أحيا ليله) فهذا هو الإحياء الحقيقي للزمن والعمر والليالي والأيام، لا ما يطلق الناس من إحياء الليل بالطرب والغناء ومزامير الشيطان.
3- (أيقظ أهله) أي زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهم، ومن عنده من أهل بيته يوقظهن ليشاركنه العبادة والطاعة، قالت زينب بنت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي من الشهر عشرة أيام لم يذر أحداً من أهل بيته يطيق القيام إلا أقامه).
وفي هذا بيان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العشر الأواخر وإعانته أهله وأحب الناس إليه لاغتنام الغنائم. وفيه مشروعية اهتمام الرجل بأهله وأولاده في حثهم على الطاعة وأنواع العبادة ومنها قيام الليل، وفي ذلك أحاديث كثيرة لا يسع المجال لذكرها، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6].
4- ومن خصائص هذه العشر: سنّة الاعتكاف.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: (كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله عز وجل).
والاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله عز وجال، والتفرغ لمناجاته.
والاعتكاف سنّة متبعة ومشروع باتفاق، وقد ذكره الله تعالى في كتابه العزيز {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[البقرة: 125]
وتركه صلى الله عليه وسلم مرة فقضاه في شوال.
واعتكف مرة في العشر الأُوَل ثم الأوسط، ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر، ثم لما تبيّن أنها في العشر الأخير داوم على اعتكافه حتى لحق ربه عز وجل.
وكان يعتكف عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، كما كان جبريل عليه السلام يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن في كل سنة مرة إلا أنه عرض عليه في السنة التي قبض فيها مرتين.
قال الزهري: "عجبا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل".
وهو من العبادات الضّرورية لصلاح القلب، لأن أكثر ما يفسد القلب الملهيات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل من شهوات المطاعم والمشارب والمناكح وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة وغير ذلك من الصوارف.
فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غفلة تلك الصوارف.. فشرع الصيام درعاً للقلب يقيه مغبّة الصوارف الشهوانية، وشرع الاعتكاف لحمايته من فضول الصحبة والمخالطة والكلام، والاشتغال بالدنيا وملهياتها، ليسلم للعبد قلبه ويبقى أبيضَ ناصعاً نقياً ليسلم صاحبه { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:88-89] .
5- وخامس هذه الخصال هو تحرّي ليلة القدر في كل ليالي العشر لعله أن ينال الفوز الأبدي لمن وفقه الله تعالى لقيامها، وهذه لها شأن آخر لعله يخصص لها حلقة مستقلة بإذن الله.
اللهم اجعلنا ممن صام هذا الشهر وقامه إيماناً واحتساباً، ووفقنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها وخير أيامنا يوم نلقاك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(23)
[القرآن في رمضان]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الصّلة والعلاقة بين القرآن ورمضان وصيامه علاقة وثيقة منذ نزوله؛ فقد اختار الله تعالى أفضل وأشرف كتبه -وهو هذا القرآن- فأنزله في أشرف شهر من شهور السنة {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} وفي أشرف ليلة وهي ليلة القدر{إنا أنزلنا في ليلة مباركة} على أشرف خلقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة أشرف ملائكته {نزل به الروح الأمين} على أشرف أمة وهي أمة الإسلام{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143] وبأشرف لسان {بلسان عربي مبين} وكان ابتداؤه في أشرف بقعة في مكة المكرمة.
فجمع الله له الشرف التام فكمل من كل الوجوه ولهذا قال تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[سورة يوسف: 3].
قال نافع رحمه الله: " إن هذا القرآن العظيم، جاء من عند عظيم، فإذا قرأت فلا تشتغلن بغيره، وانظر من تخاطب، وإياك أن تملّ منه أو تؤثر غيره عليه".
وقد سمّاه الله تعالى روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}[الشورى: 52] لتوقّف الحياة الحقيقية عليه.
وسمّاه نورا{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى:52] لتوقّف الهداية الحقيقية عليه.
وسمّاه شفاءً{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [سورة فصلت: 44] لتوقّف السلامة والعافية الحقيقية عليه.
ولذا فقد أمر الله تعالى نبيه بتلاوته{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}[الكهف:27].
وأثنى الله تعالى على المؤمنين التّالين لكتابه وجعله من أفضل الأعمال وأجل القربات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر:29-30]. وخصّ منهم حفظته الذين يحملونه في صدورهم{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49] فمن خصائص هذه الأمة أنها تحمل قرآنها في صدورها على خلاف الكتب الأخرى. فهو محفوظ في الصدور مسطور في الزبور، يسير على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظاً ومعنى{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17].
أما الصلة والعلاقة بين القرآن وبين شهر القرآن(رمضان) فتتجلى في مظاهر وأمور متعددة منها:
1- أن الله تعالى اختار هذا الشهر الكريم لتنزيل كتابه العزيز -كما تقدم- قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة185].
2- واختار تعالى من هذا الشهر ليلة مباركة لتنزل القرآن فيها {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين}[سورة الدخان: 3]، ومن بركة القرآن جعلها الله تعالى أشرف الليالي وأعلاها قدرا وأعظمها أجرا{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[الفجر:1-5]، وقال صلى الله عليه وسلم: (( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
3- وشرع الله تعالى في هذا الشهر المبارك الصيام {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وذلك -والله تعالى أعلم- لما في الصيام من صفاء للفكر وتزكية للنفس ونقاء للقلب؛ فتسمو بذلك النفس وتكون مهيأة، وقابلة لحسن التعامل مع كتاب ربها تدبرا وتعلما وتلذذاً؛ فتقبل إليه بلهف وشوق لتستقي منه منهج حياتها وسبيل عزها ومجدها وسعادتها وطوق نجاتها.
4- ومن هذه العلاقة بين الصيام والقرآن أنهما يشفعان للعبد يوم القيامة فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنها فشفعني فيه، ويقول القرآن أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفَّعان)).
ولذلك فلا غرو أن نجد النبي صلى الله عليه وسلم يعطي القرآن في رمضان مزيد اهتمام وعناية واستحضار. فنبيّنا صلى الله عليه وسلم مع أنه قد ضمن الله تعالى له حفظ كتابه في صدره فقال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئًا.
وقال عز وجل:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[المزمل:16-17]. مع هذه الضمانات والوعد القاطع من الله تعالى إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) وفي الرواية الأخرى: (لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة).
وفي آخر عام -كما قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها-: (عارضه به في العام مرتين، ولا أراني إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهلي لحوقا بي، ونعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك).
فظاهر الأحاديث أن هذه المدارسة في كل رمضان منذ نزول القرآن، وأن كلّا منهما يعرض على الآخر، ويتدارسانه عليهما السلام. فما أعظمه من لقاء، يلتقي فيه العظيمان، عظيم الملائكة وعظيم الأنبياء والرسل عليهم السلام لمدارسة أعظم الكتب نزولًا إلى أهل الأرض.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يسمعه من غيره وقال لابن مسعود رضي الله عنه:((اقرأ علي)) قلت: آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري)) فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41] قال: «أمسك» فإذا عيناه تذرفان. وعند مسلم: (فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل).
فحريّ بالمسلم أن يقتديَ بنبيّه صلى الله عليه وسلم في الاهتمام بكتاب ربه وخاصة في شهر القرآن، وهو أحوج ما يكون إلى مراجعته ودراسته، وتدبّره وتفهّمه وتثبّت حفظه، والتّقرب إلى الله تعالى بكل حرف يتلوه أو يتعلمه أو يعلمه غيره ويستمع إليه من غيره.
كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)).
كما حثّ صلى الله عليه وسلم على مدارسته، وعمارة بيوت الله تعالى به تلاوةً ومدارسةً فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
وأمر صلى الله عليه وسلم بتعاهده وقال: ((تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها)).
وقد كان هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى الاشتغال بالقرآن في شهر القرآن لا يشغلهم عنه شاغل في أثناء الصيام وأثناء القيام وفي كل الأحوال، يسمعونه ويستمعون إليه ويتدارسونه ويعلمونه ويتلونه حق تلاوته. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله).
نعم؛ قد علم سلفنا الصالح أن وظيفة رمضان الكبرى هي الاعتناء بالقرآن، والقيام بالقرآن والصيام لما له من أثر في تخليه الذهن للقرآن، سئل الزهري رحمه الله تعالى عن العمل في رمضان فقال: "إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام" وقال عبد الرزاق: "كان الثوريُّ إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على تلاوة القرآن". وحكى ابن عبد الحكم عن مالك أنه إذا دخل رمضانُ، يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن، من المصحف.
ولذلك كان للسلف وصالحي الخلف عناية فائقة في الإكثار من ختمات القرآن، حقّ بلغ ببعضهم أنه يختم في اليوم والليلة بختمة أو ختمتين، وقد رخّص بعض العلماء في أن يختم القرآن في أقل من ثلاث لخصوصية هذا الشهر بالقرآن.
فعلينا استثمار هذا الموسم العظيم وفي كل الأوقات بما يطهّر الله به قلوبنا ويمحو ذنوبنا ويزيد إيماننا، ويرفع درجاتنا، فحياة القلوب إنما هي بالصيام والقيام في الليل بالقرآن.
وعلينا أن نحمد الله على ما خصّنا به من النعم التي لا تحصى، فكثير من إخواننا المسلمين يحفظون القرآن ويضبطون تلاوته أكثر من العرب لكنهم لا يفقهون معانيه لأنهم لايعرفون العربية؛ فيلجؤون إلى كتب الترجمات وليست كحال تذوّق وتدبر وفهم المعاني مباشرة من الألفاظ العربية.
فالحمد لله كما ينبغي لجلالك وعظيم سلطانك، والشكر على جميل إحسانه.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سلسلة الدروس الرمضانية
أ.د. عبد الله بن عمر الدميجي
الحلقة(24)
[تحري ليلة القدر]
الحمد لله الذي منّ علينا بمواسم الخيرات، وما تفضل به من جزيل الهبات، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد أفضل البريّات، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسموات وسلّم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
فاستكمالًا للحديث عن خصائص هذه العشر المباركة التي سبق الكلام عليها في الحلقة الماضية. بقي الحديث عن مسك الختام وبدر التّمام، وهو الكلام عن ليلة القدر وما أودع الله تعالى فيها من الهبات والبركات.
والقدْر بمعنى: الشرف والتعظيم، أو بمعنى: التقدير والقضاء، لأنه يقدر الله تعالى فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة، ولذلك قال الله تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [سورة الدخان: 4-5] ولأن للطاعات فيها قدرا عظيماً.
وليلة القدر هي في رمضان؛ لأن الله تعالى أخبرنا أنه أنزل فيها القرآن، وقد أخبرنا تعالى أنه أنزله في رمضان، قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}[القدر:1] وقال عزّ اسمه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]؛ فبهذا تعيّن أن تكون في رمضان، وتبتدئ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر{ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5].
وهي في العشر الأواخر من رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)).
وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((تحروا ليلة القدر في الوتر، من العشر الأواخر من رمضان)).
ويحتمل أن تكون في الأشفاع أيضاً لأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)). وهذه تكون في الأشفاع إذا كان الشهر تامّاً، كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد خصّ الله تعالى هذه الليلة بخصائص وفضائل متعددة، تقتضي ألّا يُفرّط المسلم الحريص على نجاة نفسه، ألّا يفرّط دقيقة واحدة منها ليشرف بما فيها من الفضل العظيم.
ومن هذه الفضائل والخصائص العظيمة:
1- أن الله تعالى أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
2- أن الله تعالى يقدر فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة، كما قال تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[سورة الدخان: 4].
3- أن الله تعالى وصفها بأنها مباركة فقال: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين}[سورة الدخان:3] ومن بركتها إنزال هذا القرآن المبارك فيها وكونها خير من ألف شهر.
4- أنها خير من ألف شهر، فالعمل الصالح فيها خير من عملٍ في ألف شهر، وهو ما يعادل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.
5- أن جبريل عليه السلام والملائكة تتنزل فيها، وهم لا يتنزّلون إلا بالخير والبركة والرحمة، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر:4].
6- أنها سلام، لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله، فكم من عبد قد عافاه الله فيها فخرج من ذنوبه في تلك الليلة كيوم ولدته أمّه.
7- أن الله تعالى أنزل في فضلها سورة تُتلى إلى يوم القيامة.
8- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. ومعنى (إيماناً) أي بالله تعالى وبما أعدّه الله من الثواب للقائمين فيها واحتساباً للأجر وطلب الثواب. وهذا فضل عظيم.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتمس الاعتكاف في الليالي التي هي مظنة ليلة القدر. ولذا اعتكف صلى الله عليه وسلم في العشر الوسط، ثم لازم الاعتكاف في العشر الأواخر لمّا تبيّن له أن ليلة القدر فيها.
9- أن من خصائصها أن الله تعالى قد أخفى علمها على العباد.
وذلك تحفيزاً لهم للإكثار من الطاعات في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء، وسائر أعمال البر والقربات. قال الحافظ بن حجر رحمه الله: " قال العلماء الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، وبخلاف لو عيّنت لها ليلة لاقتصر عليها".
ولا ينبغي للمسلم إشغال نفسه بتتبع الرؤى والمنامات والعلامات الدّالة على تلك الليلة، كيف وقد أُخفيت على النبي صلى الله عليه وسلم وأُنسيها فغيره من باب أولى. والعلامات إنما تظهر لمن ظهرت له بعد انقضاء وقتها، ولم يثبت في الأحاديث الدالة على العلامات إلا حديث طلوع الشمس لا شعاع لها، فقد رواه مسلم. وبقيّتها بين ضعيف وموقوف.
إنما الذي يُشرع في ليلة القدر هو الاجتهاد والحرص على عدم التفريط في شيء من أوقاتها بمختلف أنواع العبادات والقرب، ومن ذلك:
1- القيام. مع الإمام أو منفردا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه)). وذهب بعض أهل العلم إلى أن العمل في ليلة القدر إنما هو القيام فقط، وما يلحقه من أعمال، دون سائر الأعمال الأخرى.
ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
2- الاعتكاف. وتقدم اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر تحرّياً لليلة القدر.
3- الدعاء والتضرع لله تعالى، والاهتمام بالأدعية المأثورة وجوامع الدعاء فهو أنفع وأقرب للقبول. وقد سألت عائشة رضي الله عنها: إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
4- العمل الصالح. قال كثير من المفسرين عند آية: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
فحري بالمسلم الاجتهاد فيها، وقد ورد في الحديث التحذير من التفريط فيها، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم)).
فنسأل الله العليّ العظيم بمنّه وكرمه أن يوفقنا جميعاً لاغتنام هذه الليلة العظيمة، وأن يجعلنا ممن يقومها إيماناً واحتساباً، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين.
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر وقامه إيماناً واحتساباً، وممن وُفّق لقيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا.
اللهم اجعلنا من السابقين للخيرات، الهاربين من المنكرات، الآمنين في الغرفات، مع الذين أنعمت عليهم ووقَيتهم السيئات.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[بشارة نبويّة للصائمين]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فنحن على مشارف نهاية هذا الشهر المبارك، وعلى أعتاب وداع هذا الموسم العظيم. ولعل من المناسب أن نزفّ إليك أخي الصائم الكريم بِشارتين من نبيّك صلى الله عليه وسلم الذي {لا ينطق عن الهوى}؛ بشارتين نبويّتين أعدّهما الله تعالى للصائمين، يفرحون بها في الدنيا وفي الآخرة، {قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}، والصيام من أعظم أركان الإيمان وشعبه العظام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ((للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه)).
والفرح كما يعبّر عنه أهل الاختصاص: "لذة في القلب بإدراك المحبوب".
وفي هذا الحديث بيان ثوابين جليلين، وأجرين عظيمين للصائمين الذين قاموا بحقوق الصيام وواجباته، سواء كان صيام رمضان أو غيره، أحدهما معجّل في الدنيا، والآخر مؤخّر في الآخرة.
أما المعجّل في الدنيا؛ فهو ما نبّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فرحة عند فطره)، وهذا يشمل فطره اليومي.
كما يشمل فطره الشهري بإتمام صيام الشهر المبارك قال تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلم تشكرون}.
وهذا الفرح على نوعين:
1- فرح جبلي طبيعي، فالإنسان يفرح بالشيء يلائمه، وإذا منع من شيء ثم أذن له فيه فإنه يفرح به، خاصة إذا اشتدت الحاجة إليه كالعطش والجوع للصائم عادة فهو يفرح ويلتذ بفطره لأنه جاء على فاقة، ويؤيد ذلك ما ورد في زيادة عند مسلم بزيادة: ((إذا أفطر فرح بفطره)).
2- فرح إيماني تعبدي، وهو الفرح باستكمال أداء عبادة الصيام لذلك اليوم وذلك الشهر بتمامه من غير نقص فيها وسلامة من العوارض المعيقة عن إتمام الصيام يرجو ثواب الله تعالى.
وهذان الفرحان الإيماني والطبيعي يشير إليهما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر (ذهب الظمأ وابتلت العروق) وهذا الفرح الطبيعي و(ثبت الأجر إن شاء الله) هذا الفرح الإيماني.
والفطر عبادة، كما أن الصوم عبادة، والعادات تنقلب إلى عبادات بالنية الصالحة، فالصائم مثاب على فطره، يتقرب إلى الله تعالى بتعجيل إفطاره كما حثّ على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بتناول ما أباح الله تعالى له. ويتعجّل بإفطاره لتحقيق مخالفة أهل الكتاب كما حثّ على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر، إن اليهود والنصارى يؤخرون)).
فالمؤمن يتقلب في مراضي الله تعالى في كل أحواله، فكما يمتنع عن الطعام والشراب والشهوة في نهار رمضان امتثالاً لأمر الله تعالى، فكذلك يتناول ما أباحه الله تعالى بعد غروب الشمس امتثالاً وتقرباً إلى الله تعالى قال أبو العالية رحمه الله: (الصائم في عبادة وإن كان نائماً على فراشه).
والناس في هذه المواقف يفترقون؛ فمنهم من يفرح تخلّصاً من العبادة والطاعة كقول ذلك المخذول: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}[النساء:72]؛ فيحمد الله على أن أبعده عن مشاهد القتال تحت راية خير خلق الله؛ فالتوفيق محض لطف الله سبحانه.
ومنهم من يفرح بمنّة الله تعالى عليه بأداء تلك العبادة وتمامها ورجاء ثوابها.
وعلى كلٍّ فالفرح بنوعيه حاصل للصائم عند فطره، وله من الحلاوة في القلب ما لا يعرفها ولا يجدها إلا من هو صائم حقّاً، والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً بيّناً، فمنهم من يجتمع له الفرحان ومنهم من يقتصر على أحدهما، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقد كانت حفصة رضي الله تعالى عنها تقول: (يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي)
فالصائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره، فهو في نهاره صائم صابر، وفي ليله طاعم شاكر، وفي الحديث عند الترمذي مرفوعاً: ((الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)) وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)).
فهذا حال المؤمن، يتقلب في أنواع النعم فيحمد الله عليها.
أما الفرح المؤخر؛ وهو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (وفرحة عند لقاء ربه).
وهذه أجلّ وأعظم من الفرحة الصغرى المعجّلة { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا][آل عمران:30] قال تعالى: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى }[الأعلى:4] وقال تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [سورة آل عمران: 15].
والمراد بلقاء الله تعالى هنا هو المصير إلى الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وأعلاه ملاقاة الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، ولذا؛ فهذا الفرح على نوعين أيضاً:
1- إما فرح وسرور بلقاء ربه تعالى وخالقه، وهذا أعلى أمانيه، وأفضل نعيم الجنة أن يرى ربه تبارك وتعالى.
وكيف لا يفرح بذلك وهو الذي طالما دعا ربه: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).
وقد وعده ربه تبارك وتعالى بأن (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه).
2- وإما فرح وسرور بقبول صومه، وترتب الجزاء الوافر عليه، فيفرح بثواب الله تعالى له ودخوله الجنة من باب الريان الذي طالما أظمأ نهاره وأحيى ليله ابتغاء ما عند الله تعالى.
وكيف لا يفرح وقد غفر الله له ذنوبه وآثامه، وتقبل عبادته، ورضي عنه{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}[التوبة:72]، أي: أكبر من الجنّة.
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، واختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا.
اللهم أفرحنا بتمام الصيام والقيام، ومحو الذنوب والآثام، ودخول جنتك دار السلام، والنظر إلى وجهك الكريم يا ذا الجلال والإكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[ختام الشهر]
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على خير البريات، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمّهات المؤمنين الطاهرات.
أما بعد:
فكنا بالأمس القريب نستقبل هذا الشهر المبارك، وها نحن نودعه فما أسرع مرور الليالي والأيام، وهكذا يمر العمر وينصرم، والسعيد من اغتنم وقته فيما ينفعه في الدار الآخرة، وفيما يقربه إلى ربه تعالى فإن الحياة الحقيقية إنما هي في الدار الآخرة، وفيما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[سورة العنكبوت: 64].
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97].
هذا الشهر قد قارب رحيله وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعنا فيه من أعمال، فمن أودعه عملا صالحا فليحمد الله، وليسأله المزيد من الصالحات، وليبشر بحسن الثواب وجزيل العطاء فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة:120].
ومن أودعه غير ذلك فليستغفر الله { يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 110]، وليتب إلى الله تعالى توبة نصوحاً، فإن الله يتوب على من تاب{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ }[النساء:27]{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًاعَلِيمًا}[النساء:147].
والمتأمل لأحوال الناس يجد أن الصائمين في ختام رمضان على ثلاثة أصناف:
1- قسم ظالم نفسه، صام في نهار رمضان عن الطعام والشراب والنكاح، ولكن لم يراع حدود الصيام المعنوية، فلم يصم لسانه عن اللغو، والبهتان، والغيبة، ولم يصم سمعه عن سماع اللغو، ولم تصم عيناه عن النظر الحرام، ولا بطنه عن أكل الحرام، فهذا حظه من صومه الجوع والعطش، وإن سقط عنه أداء الشعيرة، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والغطش، ورب قائمٍ حظه من قيامه السهر).
2-قسم مقتصد: صام نفسه عمّا يغضب الله وحفظ صومه من اللغو والباطل، كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، وليكن عليك وقار الصيام، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك).
لكنهم لم يرتقوا في درجات الطاعات ولم يستثمروا ساعات النفحات، وفرّطوا في كثير من فرص رفع الدرجات وهذه مرتبة المقتصدين ودرجة الأبرار.
3- قسم سابق بالخيرات، وتنافسوا في تحصيل الحسنات فنالوا كثيراً من الدرجات فضربوا في كل ميدان خير بسهام من الطاعات، وهذه مرتبة السابقين ودرجة المقربين، نسأل الله من فضله العميم.
فتجدهم في الصيام من المحافظين وفي القيام من المبادرين، وفي تلاوة القرآن من السابقين وفي أفعال الإحسان والبر في كل ميدان خير من المساهمين.
فهؤلاء الثلاثة هم الذين عناهم الله تبارك وتعالى بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[فاطر:32].
هؤلاء كلهم موعودون بدخول الجنة {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر:33].
فالظالم لنفسه: أي من وقع في شي من المعاصي التي هي دون الكفر.
والمقتصد: هو المُقتصر على ما يجب عليه من الواجبات والتارك للمحرمات.
والسابق بالخيرات: أي سابق فيها واجتهد فسبق غيره وهو المؤدي للفرائض والواجبات، المجتنب للمحرمات والمكروهات، المكثر من النوافل والقربات.
فهؤلاء كلهم موعودون بدخول الجنة بما عندهم من الإيمان والتوحيد، وإن تفاوتت مراتبهم وتميزت أحوالهم بحسب أعمالهم، والجنة درجات{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُ}[الحديد:12] ((إن في الجنة مائة درجة)) كما أن النار دركات، أعاذنا الله تعالى منها.
وهذه الآية من أرجى آيات القرآن الكريم لما فيها من وعد إلهي بشمول الأصناف الثلاثة دخول الجنة، وبدأ بالظالم لنفسه وذلك -والله أعلم- حتى لا يقنط من رحمة الله.
فكل منا يفتش في داخلة نفسه وخبايا ضميره وزوايا فؤاده وحقيقة ما في قلبه من أي هذه الأصناف، ونحن في نهاية ختام هذا السباق الموسمي، فمن كان محسناً فليحمد الله تعالى وليحافظ على هذا الفضل الذي وصل إليه، وليستمر في الرقي ورفع الدرجات، ومن علامات القبول الاستمرار على عمل الطاعات.
ومن كان مقصراً فليتب إلى الله تعالى، وليراجع نفسه قبل فوات الأوان وليستكمل جوانب النقص والقصور. ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه)).
وعلينا في وداع رمضان:
1- أن نودعه بمثل ما استقبلناه بالعزم على الاستمرار على الطاعة، والاستمرار على طريق الاستقامة، ولنحذر أن نكون ممن قال اللته تعالى فيهم { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}[النحل:92] ولا من قال الله تعالى عنهم { {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[سورة الحج: 11].
2- المحافظة على الصلوات المفروضة في أوقاتها جماعة في بيوت الله، كما حافظنا واجتهدنا في المحافظة على نافلة التراويح والقيام.
3-كان الصيام لك جُنّة طيلة هذا الشهر تتقي به من عذاب النار، ومن شياطين الجن والإنس، وتتفيأ به من هجير الدنيا، فحافظ على هذه الوقاية، وعلى التحصن بالأذكار وسائر الطاعات ليسلم لك دينك ودنياك.
4-قمت رمضان إيماناً واحتسابًا وقرأت القرآن وختمته فاحذر من هجر هذا الخير وليبق لك من الورد والقيام ما تحافظ به على ما اكتسبته من الخير.
5- زاد الإيمان في قلبك خلال هذه الدورة الإيمانية والمحطّة الروحانية ورقَّ قلبك وتحسّنت أخلاقك فحافظ على هذه المكتسبات المباركة، وتفقد إيمانك وكن ذا صلة بما يزيده ويقوي القلب واحذر من الغفلة وأسبابها فهي العطب { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[سورة الكهف: 28] قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: (وإن من فقه الرجل أن يعلم أيزداد إيمانه أو ينقص..) فهو الطاقة والقوة الدافعة للنجاة من فتن هذه الحياة الدنيا فحافظ على ذلك، وابتعد عن مسببات الغفلة.
- وقبل ذلك وبعده احمد الله تعالى على أن هداك للإسلام، وأمدّ في عمرك لإدراك هذا الشهر، وأعانك على أداء ما تيسر لك فيه من الطاعات فكلها منّة من الله تعالى ورحمة وفضل.
اللهم لولا أنت ما اهتدينا***ولا تصدقنا ولا صلينا.
- كما عليك بتجديد التوبة والاستغفار وهي واجبة على الجميع {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}[النور:31] {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11].
والتوبة من كل ما بدر من المسلم من تقصير في حقه تعالى أو حق عباده وما وقع فيه من الذنوب والخطايا وليستغفر الله يجد الله تواباً رحيماً.
- ومن وسائل استكمال النقص وتطهير الصائم مما قد يكون وقع فيه من أن شرع الله تعالى عنها زكاة الفطر، وهذه زكاة للنفس وليست زكاة للمال ولذا تجب على الجميع على الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والعبد والغني ومتوسط الحال الذي يجد قوت يوم العيد وليلته، وهي يسيرة وغير مكلفة يجب على كل واحد صاعاً من طام من غالب قوت البلد، قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين).
والحكمة منها ظاهرة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين). رواه أبو داود وابن ماجه وحسنه النووي والألباني.
- ويبتدئ الصائم فطره بالتكبير امتثالاً لقول الله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}، وذلك ابتداءً من غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى صلاة العيد.
وصفته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. ويسن جهر الرجال بها في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً بتعظيم الله تعالى وإظهاراً لعبادته وشكره على استكمال عدة أيام رمضان.
-كما شرع الله تعالى صلاة العيد وهي من إقام ذكر الله وشكره على إتمام الفريضة، وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلها أمته رجالا ونساءً قالت أم عطية رضي الله عنها: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق ‌والحيض ‌وذوات ‌الخدور فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين) ويسن للرجل أن يتجمل ويلبس أحسن ثيابه، وأن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة تمرات، قال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم العيد حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً).
ولعل من الحكمة في ذلك لتأكيد الإفطار يوم العيد، لأنه يحرم صومه وينبغي أن يظهر على المسلم الفرح والسرور بإتمام هذه الفريضة وعمل ما تيسر منها من الأعمال الصالحة وإحسان الظن بالله في القبول والعتق من النار.
سائلا المولى عز وجل أن يتقبل صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين المغفور لهم، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أ
أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اغفر لنا، اللهم اصلح لنا ديننا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميّتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
Audio
حدثنا يحيى، حدثنا ابن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثنا محمد هو ابن عقبة، حدثنا الفضيل بن سليمان النميري البصري، حدثنا منصور بن عبد الرحمن ابن شيبة، حدثتني أمي، عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحيض، كيف تغتسل منه؟ قال: «تأخذين فرصة ممسكة فتوضئين بها»، قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «توضئي»، قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «توضئين بها»، قالت عائشة: فعرفت الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجذبتها إلي فعلمتها.
(الاهتمامات العلمية)

الاهتمامات العلمية : توفيقٌ من الله .

ــ فمن طلاب العلم : من يهتم بفهم النصوص(القرآن والسنة) والتفقه فيهما على وفق فهم الأئمة....

ــ ومن طلاب العلم : من يهتم بجمع طبعات الكتب والمقارنة بينها...

ــ ومن طلاب العلم : من يهتم بتتيع الأسانيد وأخذ الإجازات...

ــ ومن طلاب العلم : من يهتم بتحقيق المخطوطات...

ــ ومن طلاب العلم : من يذهب وقته بالحوار حول مسائل معدودة ويكثر من ذلك...

ــ ومن طلاب العلم : من يهتم بالحوار حول بعض القضايا المنهجية في طلب العلم...

ــ ومن طلاب العلم : من يهتم بعلم القراءات والأداء ومخارج الحروف....


ـــ وكل هذه المجالات مفيدة ونافعة «وفي كلٍ خير إن شاء الله» والأمة محتاجة لكل هذه التخصصات. كما أنه قد يجمع البعض بين هذه المجالات أو بعضها.

ـــ لكن....ليست الاهتمامات السابقة على مستوى واحد بلا شك
بل أعلاها وأنفعها الأول، وهو عمل الصحابة والأئمة من بعدهم...ثم تأتي بعده الاهتمامات السابقة كل بحسبه في الأهمية.

والذي أحب أن أقوله لطالب العلم :
إياك أن تشتغل بشيء وأنت تحسن أفضل منه....

يقول الصولي:
« ربما كان الإنسان مهيأ الذهن لحمل العلم، قريبَ الخاطر، متَّقدَ الذكاء؛ فيضيِّع نفسه بإهمالها، ويميت خواطره بترك استعمالها! » أدب الكاتب (ص٢٧)

ويقول ابن الجوزي :
« لينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير. وإن أقواما يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسنا، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل» صيد الخاطر (1/58)

«مَن يُردِ اللَّهُ بهِ خَيرًا يُفقِّهُّ في الدِّينِ»

(قناة د. أحمد بن محمد الخليل العلمية)
2024/04/29 10:35:10
Back to Top
HTML Embed Code: