الميزان
كارثة درنة أمام كوارث لا حصر لها!! [الإعلام بالنازلة الليبية وما تستلزمه من أحكام] بسم الله الرحمن الرحيم "الحمد لله الذي أوضح لنا معالم الدين، ومنّ علينا بالكتاب المبين، وشرع لنا من الأحكام، وفصل لنا من الحلال والحرام ماجعله على الدنيا…
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..

وبعد فمع التقدير البالغ، والاعتزاز الكبير بهذه المؤتمرات السلفية العلمية الدعوية التي عقدت في بلادنا مؤخرا، كالمؤتمرات التي تنظمها كلية الشريعة بجامعة طرابلس، والمؤتمرات التي تنظمها هيئة الأوقاف في الغرب الليبي مع معهد بن زياد الطرابلسي، إلا أن هذه البلاد في هذه المرحلة الحساسة جدا من تاريخها، والتي يتدافع فيها الخير والشر أشد ما يكون التدافع، وبما تمر به من محن وفتن عظيمة على الدين والدنيا؛ لهي بأمس الحاجة إلى عقد مثل هذه المؤتمرات العلمية، ولكن لتتناول قضية هذه البلاد المحورية التي جعلتها على مفترق طرق خطير، إما أن تسير منه نحو إقامة دولة تعتز بدينها وتتحاكم إليه، ويتعاون أهلها على ما يحبه الله ويرضاه، وإما أن تستمر في السير في مستنقع المخططات الغربية وبعثتها، وما تدسه هذه البعثة من مكائد ودسائس، لن تصل بنا في نهاية المطاف إلا إلى تمزيق البلاد وتفريقها، وإثارة النعرات الجهوية والعرقية، لتتمكن الدول الكافرة من السيطرة على قرارها واقتصادها وأمنها، بل وحتى على عقائد أهلها وأخلاقهم.

فتدرس هذه المؤتمرات ما توجبه الشريعة في مثل هذه الظروف الاستثنائية الحساسة، وتبحث في "من هم أهل الحل والعقد" في هذه البلاد، وما هي الآليات التطبيقية العملية التي يجب سلوكها لإقامة الحل الشرعي لإشكالية فراغ منصب الولاية الكبرى، بعيدا عن الأمم المتحدة وبعثتها، وبعيدا عن الأفكار الديمقراطية ودعاتها وأتباعها .. وهذه الآليات ليست بالأمر الصعب، بل الأمر أقرب مما يتصوره كثير منا، إذا وجد رجال صادقون يتبنون هذا الواجب الشرعي العظيم، الذي هو فرض الوقت على كثير من أبناء الدعوة السلفية في هذه البلاد لو كانوا يتذكرون.

وإن عقد مثل هذه المؤتمرات سيحقق واجب الدعوة إلى دين الله وشرعه في هذه المسألة الخطيرة، لتقابل هذه الدعوة تلك الدعوات الديمقراطية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتفضح كذلك من يتظاهر بالدعوة إلى دين الله والغيرة عليه، من أتباع أحزاب ما يسمى بالإسلام السياسي على اختلاف فرقهم وتوجهاتهم.

كما أن هذه المؤتمرات ستذكر المسلمين في هذا البلد، بأن الحل لأزماتهم هو في امتثالهم لأحكام هذه الشريعة الإلهية الكاملة الصالحة المصلحة، وتطلب الهداية منها، وأن ما هو نازل بهم من هذه المحن والشدائد ما هو إلا أثر من آثار مخالفتهم لها.

بيد أن أهم ما يجب أن تحققه هذه المؤتمرات هو الوصول إلى الآليات العملية التي تحقق هذا الأمر الشرعي - وهي متاحة بفضل الله - ، والتي يجب أن تراعي خصوصية هذا البلد، وخصوصية الظرف الذي تمر به، فتوازن بين الواقع والمأمول للوصول إلى خطة رشد تجتمع فيها كلمة هذه البلد بأقاليمه الثلاثة، ويحفظ بها دينه وسيادته وأمنه واستقراره وجميع مقدراته، وتكون كلمة الله فيها هي العليا.
شراء الإسمنت الحكومي والدولار الحكومي وبيوع القذافي القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن من أهم خصائص عقد البيع هو اللزوم، كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فبمجرد انعقاد البيع بين طرفين يلزم كل منهما الوفاء بمقتضيات هذا العقد، ولا يجوز لهما الإخلال بذلك، وأذا أخل أحدهما بما يقتضيه العقد، أُلزم بذلك قضاء، أما تعذر الوفاء لأي سبب من الأسباب فهو استثناء له أحكام وأحوال مختلفة تخصه.

وانعقاد البيع لا يقف إلا على الإيجاب والقبول فقط، إذا تم التفرق على ذلك. صحيح أنه إذا وقع الإيجاب والقبول على صفة غير جائزة شرعا، فإنه يقع فاسدا، ولا يترتب عليه أثره، على خلاف من الأحناف في ذلك، حيث يصححون ما يمكن تصحيحه من العقود الفاسدة، ويفرقون بين الفاسد والباطل منها؛ إلا أن هذا النقض للعقد كان بحكم شرعي، فلا يؤثر على كون الانعقاد إنما يتم بالإيجاب والقبول فقط.

وإذا أدركنا أن صفة البيوع هي اللزوم، أفادنا ذلك كثيرا في النظر في المعاملات التي تجري أو جرت في واقعنا المعاصر(١)، لا سيما تلك التي لا تظهر فيها صيغة الإيجاب والقبول بشكل صريح مزيل للبس، وغالب ما يكون من تلك المعاملات، تكون الحكومة وأجهزتها هي أحد طرفي العقد؛ فمن ذلك ما هو قائم الآن عندنا من بيع الإسمنت من قبل الحكومة على الأفراد، حيث يستشكل بعض الناس هذه المعاملة، للجهالة الكبيرة فيها، حيث لا تحدد الدولة السعر الذي ستبيع به، ولا الكمية، ولا الأجل، وإنما يتم كل ذلك لاحقا عند الإنتهاء من إجراءات هذه المعاملة.

فمثل هذه الجهالة إذا وقعت في عقد بيع، فإنها تفسده، ولكننا إذا نظرنا في صفة اللزوم في هذه المعاملة، وجدنا أنه لا يوجد ما يدل على الإلزام لا من جهة الحكومة للمشتري من المواطنين، ومن باب أولى أن لا يوجد هذا الإلزام من المواطن للحكومة، وهذا يدل أن هذه المعاملة ليست بيعا أصلا، وإنما هي مجرد حصر وتسجيل للراغبين في الشراء، وربما حصل بعد الحصر ترشيح واختيار، إما عن طريق القرعة، أو بغيرها من الطرق، وبعد أن يقع الاختيار للعدد المستهدف للحكومة تتم إجراءات البيع هنالك، وهذا يبين أن الإجراء الأول لم يكن عقد بيع أصلا، لا صحيح ولا فاسد، ومن أراد النظر في صحة هذه المعاملة من حيث البيع الصحيح من عدمه، فلينظر إليها بعد إتمام هذه الإجراءات.

وعليه فلا يظهر أن هناك حرج في هذا التسجيل المبدئي - والله تعالى أعلم - مع ملاحظة أن لا يُلزم المواطن بدفع أي قسط من الثمن في الإجراء الأول، وهو الظاهر لي من خلال ما يتداول من الكلام عن هذه المعاملة، أي أن المطلوب في الإجراء الأول هو مجرد وثائق ونماذج لإتمام عملية التسجيل فقط، ولا يطلب من المواطن دفع أي قيمة مالية.

فإن كان الواقع بخلاف ذلك، بأن يطلب من المواطن دفع قيمة مالية مهما كانت صغيرة، فإن هذا الدفع يعكر على هذه المعاملة، ويثبت صفة اللزوم فيها، مما يدل على أنها عقد بيع، وهو عقد غير صحيح للجهالة التي فيه، إلا إذا كان ما يطلب من المال، هي من الضرائب والمكوس التي ابتلينا بها في هذا العصر، فهذه لها حكم مثيلاتها من الضرائب، وهو مقرر في مظانه، والله تعالى أعلم.

أما جواز الإقدام على هذه المعاملة لغرض التجارة بهذا الإسمنت، وبيعه في السوق، فهذا يسأل عنه أهل الاختصاص من الأجهزة الحكومية، فإن أذنوا بذلك جاز، وإلا فإن المؤمنين على شروطهم، ويستثنى من ذلك من اشترك في هذه المعاملة بنية الاستعمال الشخصي، ثم لما تم البيع له، طرأ عليه ما منعه من استعماله، ففي هذه الحال يجوز له بيعه، لأنه دخل في ملكه، ولا سلطان لأحد عليه فيه.

وإذا قارنا هذه المعاملة المتعلقة بشراء الإسمنت، بمعاملة شراء الدولار ظهر لنا أنهما متطابقتان في الواقع، ومختلفتان تماما في الحكم، فمن حيث الواقع كلا المعاملتين عبارة عن حصر وتسجيل للراغبين في الشراء فقط، وليستا عقد بيع، ولكن لما تعلقت معاملة الدولار بسلعة ربوية اختلف الحكم فيها عن الحكم في الأولى، فهذا التسجيل بهذه الصورة عبارة عن مواعدة بالصرف، وهي لا تجوز عند مالك، وهو الظاهر لشبهة الربا الكبيرة فيها، وقد سبق بيان هذا في مقال سابق خلف هذا الرابط: https://www.tg-me.com/alkouneni/2534

وإذا تقرر أن هذه المعاملة تتخرج على أصل المواعدة بالصرف، والأظهر فيها المنع، لا سيما بالطريقة التي تجري الآن في المصارف، لم نحتج لمناقشة ما تفرع عن هذه المعاملة من مسائل، كمسألة بيع الرقم الوطني، أو بيع البطاقة فارغة بعد استصدارها، أو حتى ما قيل من جواز تركيب عقد شراكة أو مضاربة على هذه المواعدة، فكل هذه الفروع لها حكم أصل المعاملة، لا سيما إذا استحضرنا ما لا يغيب عن ذهني أبدا، ألا وهو عدم جواز التفاضل بين الدولار والدينار الورقيين، وهو الحق الذي لا مرية فيه، رضي من رضي، وعاند من عاند، وليظهرنه الله عز وجل، بعز عزيز وذل ذليل، ولله عاقبة الأمور.
ولاستكمال عرض هذه المسألة المتعلقة بصفة اللزوم في البيوع، وأهميتها في النظر في واقع المعاملات المعاصرة، ومدى إمكان تصحيح ما يمكن تصحيحه منها، بناء على أن الأصل هو صحة تصرف المكلف؛ فإن من المفيد في ذلك مقارنة الصورتين السابقتين ببعض البيوع التي كانت تجري في النظام السابق، كالتقديم لشراء السيارات التي تقوم الحكومة باستيرادها، حيث أن هذه المعاملة تتشابه كثيرا مع معاملة الإسمنت، لولا الفارق الجوهري فيها، وهو ما نحن بصدده من الكشف عن صفة اللزوم من عدمها في هذه المعاملات، ففي معاملة شراء السيارات كان المواطن يُلزم بدفع قسط من الثمن الذي لا يعرف قدره أصلا، وهذا الدفع المبدئي يدل دلالة قاطعة على وجود صفة اللزوم، وهو يثبت أن هذه المعاملة كانت عبارة عن عقد بيع لا مجرد تسجيل وحصر فقط، وهو عقد بيع فاسد، للجهالة العظيمة التي تكتنفه من جميع جوانبه، جهالة في الثمن، وجهالة في الأجل، وجهالة مطلقة في صفة المبيع، حيث كانت الحكومة لا تحدد أي شيء من مواصفات السيارة ولا حتى نوعها، وفئتها، حتى أننا سمعنا بمن قام بحرق السيارة التي سلمت له من شدة الحنق والغيظ، لأنه صدم بالنوع الذي سلم له، ولم يكن يتوقعه.

فهذا أصل جيد، يفيد - إن شاء الله تعالى - في النظر في مثل هذه المعاملات، واستخراج الأحكام المناسبة لها، وإن كان ينبغي على طلبة العلم والجهات الشرعية الرسمية في الدولة؛ حث الأجهزة الحكومية التي تتعامل مع الجمهور على الحرص والاهتمام بركن البيع الأعظم، وهو صيغة العقد من الإيجاب والقبول، ومما يعين على ذلك تحديد مجلس البيع، فالاهتمام بذلك مما يرفع اللبس، ويثبت الحقوق، ويمنع التنازع، وهو من العدل والقسط والميزان الذي أمر الله به.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين.


-------------------‐-------------------------------------------

١- ومما يفيده هذا الأصل؛ بيان بطلان تلك الحيلة التي تستخدمها المصارف التي تسمى إسلامية، وهي ما يسمونه بالوعد الملزم!!. وهي حيلة ساقطة من جنس حيل اليهود لا أكثر. فهم أرادوا التخلص من شروط البيع الشرعية التي تحفظ الحقوق، وتمنع التظالم، فأوجدوا عقد بيع لا يلزمهم فيه التقيد بتلك الشروط والضوابط الشرعية، ولكنهم سموه وعدا لا عقدا، من باب تسمية الخمر بغير اسمها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
شراء الإسمنت الحكومي والدولار الحكومي وبيوع القذافي القديمة: (تتمة وتعليق عليها).




بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فاستكمالا لما سبق، وتتميما للفائدة، وبناء على قولنا أنه ينبغي على الجهات الشرعية الحكومية حث أجهزة الدولة التي تتعامل مع الجمهور، على الحرص والاهتمام بصيغة العقد، وما يتبع ذلك من تحديد مجلس العقد؛ فإن المعاملة السابقة المتعلقة بشراء الإسمنت، كان بالإمكان منع اللبس الحاصل فيها، بإدراج كلمة واحدة في الإعلان الرسمي الخاص بها، مفاد هذه الكلمة: أن البيع سيتم بعد إتمام إجراءات التسجيل، وذلك في المكان كذا، في شباك كذا، وعلى المواطن حينئذ إحضار القيمة المالية ثمن المخصص له من الإسمنت، والتي سيتم تحديدها له لاحقا.

فلو وجدت مثل هذه العبارة، لكانت رافعة للبس تماما، وقد علمت بعد نشر المقال الأول أن هذا هو الواقع فعلا في هذه المعاملة، وإن لم يُصرح به؛ حيث أن المصنع بعد أن يتسلم طلبات الشراء من المواطنين، يقوم بفرزها وإعدادها في قوائم، يرسل هذه القوائم تباعا على صفحته الإلكترونية، ويطلب من الأسماء الواردة في هذه الكشوفات الحضور إلى المكان المعين لهم، مصحوبين بإثبات الهوية، والمبلغ الذي حُدد لهم، ثم إذا جاء الموعد، وذهب المواطن إلى المكان المحدد، وبعد التثبت من الهوية، ومطابقتها بالكشوفات، يقوم المواطن بدفع الثمن، بينما يُعطَى إيصالا للإستلام به لاحقا. وهذا الإجراء هو عقد البيع الخاص بهذه المعاملة، وليس الإجراء الأول، وهو بيع صحيح حتى لو لم يتسلم المشتري إيصالا بالخصوص.

ولابد أنهم يحددون في هذا الإيصال الكمية التي سيتم تسلمها، وكذلك عنوان التسليم، ولا أدري هل يحدد فيه تاريخ الإستلام أم لا، فإن حُدد؛ فهذا أمر طيب، وإن لم يحدد فلا يضر إن شاء الله، لأن الأشبه بهذا البيع أنه بيع حال، وليس مؤجلا، ولا يضر تأخر التسليم في البيوع الحالة إذا لم تكن مما يشترط فيه التقابض كالبيوع الربوية. والتسليم في هذه المعاملة مبني على حركة خروج الشاحنات تباعا من المصنع، فهو أشبه بالانتظار في طوابير الشراء، وهذا الانتظار لا يعد جهالة مفسدة في الأجل - والله تعالى أعلم - وإن كان الأزكى أن يقوم المصنع بتحديد تاريخ للإستلام في هذا الإيصال، وإن كان تاريخا تقريبيا فقط.

وهكذا إذا غادر المواطن الشباك بعد إتمام هذه الإجراءات، يكون قد أتم عقد البيع، وما عليه إلا أن ينتظر خروج الشاحنة المخصصة له، وتوجهها إلى العنوان المحدد في الإيصال، وإذا استلم المواطن البضاعة كان عليه أن يسلم سائق الشاحنة الإيصال الذي معه، كإثبات على تسلمه للمشترى. وهذا - كما ترى - عقد بيع صحيح إن شاء الله تعالى.

وبما أن غرضنا من هذه التتمة، هو التعليق عليها بيان بعض المسائل النظرية، إثراء للموضوع أكثر منه بحثا في هذه المعاملة المعينة، فسنبتعد عن هذه المعاملة وواقعها، وسنفترض أن تلك القوائم التي ترسل على صفحة المصنع الإلكترونية كانت تتضمن ما تثبت صفة اللزوم به، فهل تصح المعاملة في هذه الحال؟ وهل وجود شرط جزائي في هذه القوائم في حالة تخلف المواطن عن إتمام عملية الشراء، مما تثبت به صفة اللزوم، مع غض النظر عن صحة هذا الشرط من عدمه؟ هذا محل نظر وبحث، والذي يظهر بادي الرأي؛ أن صفة اللزوم تثبت بوجود مثل هذا الشرط، فتكون المعاملة حينئذ عقد بيع، فيحتاج إلى النظر في صحة هذا العقد من عدمه. ولابد من التنبيه مجددا أن هذا الكلام لا يتعلق بهذه المعاملة، بل هو بحث نظري فقط.

ونعود للسؤال الأول، وهو صحة المعاملة مع هذا الافتراض من عدم ذلك، والجواب عليه يُبنى على صحة العقد الإلكتروني، وصحة مجالس البيع الإلكترونية، لا سيما إذا تضمنت هذه القوائم خيارا بتأكيد الطلب إلكترونيا أو إلغائه من قبل المواطن. وهذه المسألة - مسألة العقد الإلكتروني ومجالسه الإلكترونية- مسألة حادثة، وقد نشرت بشأنها بحوث عديدة، ولا أدري إلى أي مدى من التحقيق وصلت إليه هذه البحوث، إلا أن من الخطأ المنهجي الذي قد يعرض للباحث في هذه المسألة، وقد يحرفه عن جادة الصواب فيها هو مناقشة جميع أنواع البيوع جملة واحدة، بحيث يصل في نهاية البحث إلى حكم واحد يطلقه على جميع أنواع البيوع، سواء حكم بالمنع من هذه العقود، أو بالإباحة فيها، وهذا منهج غير سديد، فلابد من التفريق بين أنواع البيوع عند إرادة النظر في هذه المسألة.

ولشرح هذا، لابد أن أستحضر فتوى قديمة نوعا ما، سمعتها من أحد المشائخ، وقد سُئل عن رجل يقوم بعرض سلع لا يملكها عرضا إلكترونيا على منصات إلكترونية تابعة له، أو له حساب فيها، ثم إذا رغب أحد بشرائها، قام هذا البائع بشراء السلعة من مالكها الأصلي، وإعادة بيعها لمن طلبها إلكترونيا منه، وقد أجاب الشيخ بالمنع من هذه الصورة، والظاهر أنه بنى هذا الحكم على أصل النهي عن بيع الإنسان ما لا يملك، وهو صحيح، ولكن لا يكاد يصح له هذا الحكم في خصوص هذه
المسألة إلا مع الإقرار بصحة العقد الإلكتروني، وإمكان انعقاد مجلس البيع إلكترونيا، وعليه فإن لازم هذا أن يفتى بصحة البيع إذا كان هذا البائع الإلكتروني مالكا للسلعة، والقول بصحة هذا البيع في هذه الحالة فيه إشكالات عديدة:

منها أن السلعة بعد هذا البيع الإلكتروني سيكون ضمانها من المشتري، حتى قبل أن يستلمها، فإذا تعيبت أو تلفت أو فقدت من يد مندوب التوصيل، كانت الخسارة في ذلك على المشتري، إذا لم يفرط المندوب أو يتعدى، وهذا في غاية الإشكال، ويوقع في حرج شديد. إلا إذا قيل بتضمين مندوبي التوصيل فيما غابوا عليه، قياسا على تضمين علي رضي عنه للصناع، حيث قال "لا يصلح الناس إلا هذا" وهذا بحث آخر خارج عما نحن فيه. ولذا يبقى أن أصل الضمان بعد العقد الإلكتروني من المشتري وليس من البائع، وهذا محل الإشكال في بحثنا، وهو مشكل جدا كما ترى.

ومن الإشكالات أن مثل هذه البيوع تفتح باب التنازع بين المسلمين، كما هو مشاهد واقعا، وذلك أن المشتري إذا استلم السلعة، وعاينها على أرض الواقع، ربما لم تعجبه، وقد يدعي أنها على خلاف ما طلب، أو ما رأى في الصور، وقد يكون صادقا في هذه الدعوى، وقد لا يكون صادقا فيها، وكل هذا من التنازع المذموم الذي يجب منعه وتلافيه في البيوع.

إلا أن الإشكال الأهم في هذا البيع، وهو عقدة الحكم في هذا النوع من البيوع، هو غياب السلعة عن مجلس العقد، وذلك أننا نتحدث هنا عن النوع الأول من أنواع البيوع، وهو بيع المعين، وبما أن العقد هنا عقد إلكتروني، ومجلس العقد مجلس إلكتروني؛ فهذا يقضي بإستحالة وجود السلعة المعينة في مجلس العقد، وغيابها يمنع صحة العقد الإلكتروني في هذا النوع من البيوع، ويقضي بعدم انعقاد مجلس البيع الإلكتروني فيه، والقول بجواز هذه الصورة أشنع من بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع.

وبناء عليه، فإن الأوفق أن يقال أن العقد في مثل هذه الصور يجب أن يتم عند باب المستلم، بعد أن يعاين السلعة معاينة واقعية، لا إلكترونية، ويقلبها كيف يشاء، فإن شاء أتم البيع، وإن شاء امتنع عن الشراء، وقد يُلزم في حالة امتناعه على دفع أجرة التوصيل فقط.

يستثنى من ذلك، ما لو عاين المشتري السلعة على أرض الواقع، ثم عقد البيع إلكترونيا، كما لو تم العقد بالهاتف مثلا، فهذا لا يدخل فيما نحن فيه من بيع المعين الغائب عن مجلس العقد، وكذلك البيع على البرنامج، كالبيوع التي تتم بين المصانع وزبائنها، فهذه قد تصح إلكترونيا لانتفاء الغرر فيها.

وإذا قيل بذلك، أي أن بيع المعين لا ينعقد إلكترونيا، وينعقد عند توصيل السلعة، بعد معاينتها من قبل المشتري؛ فيمكن أن يقال بإمكان أن يعرض التاجر سلعا ليست في ملكه عرضا إلكترونيا؛ يخبر فيه بأنه قادر على توفير هذه السلع للراغبين في شرائها، فإذا أبدى أحد ما رغبته في شيء منها، قام بشرائها من مالكها الأصلي، وتوصيلها للطالب، وبيعها له عند الإستلام، وبإمكان هذا التاجر أن يشترط على المالك الأصلي خيار الرد، فإذا توقف الزبون عن الشراء، ردها على البائع الأول، لكي ينجو من الخسارة في ذلك. مع ملاحظة والتأكيد على أنه لا يجوز لهذا التاجر الإلكتروني اعتبار طلب الزبون للسلعة إلكترونيا عقد بيع، ولا حتى وعدا ملزما بالشراء.

وهذا - في نظري - أولى من القول بالمنع من هذا العرض الإلكتروني المجرد، مع القول بصحة العقد الإلكتروني في مثل هذا النوع من البيوع، وهو بيع المعين، وهو في هذه الصورة من بيوع الغرر كما تقدم، ولا توجد ضرورة ولا حاجة تسمح باغتفار مثل هذا الغرر. وقد أخبرني أحد المطورين لتطبيقات التجارة الإلكترونية أن أهم ما يطلبه التجار في هذه التطبيقات هو إمكانية الدفع إلكترونيا، ولا يخفى أن غرضهم من ذلك هو إلزام المشتري بشراء السلعة بمجرد طلبه لها إلكترونيا، (وهي المنابذة والملامسة التي جاء النهي عنها في الأحاديث، وإن شئت فقل ملامسة ومنابذة إلكترونية!) وحتى إذا أقالوه، ولم يلزموه بقبضها بعد أن لزمته بانعقاد البيع، فقد يتحرج هو نفسه من رد السلعة بعد أن دفع ثمنها مسبقا، وقد يضعون أمامه عراقيل كثيرة إذا أراد رد السلعة واسترجاع ماله، وربما خسر السلعة والمال معها أيضا، وربما سمحوا له بالاستبدال فقط، ورفضوا رد الثمن.

وبهذا يتبين أن القول بصحة العقد الإلكتروني في بيع المعين، قول غير سديد، والأقرب أن يقال أن البيع لا ينعقد إلا عند التسليم. قد يقول قائل: لماذا لا نجعل البيع في الصور السابقة بيع سلم، أو بيعا على الصفة؟ ومع أن هذا سيأتي بيانه عند التعرض لهذا النوع الثاني من أنواع البيوع، إلا أن هذا التكييف في الصور السابقة لا يصح؛ أولا: لأن من شرائط السلم أن يكون البيع مؤجلا، وهو قول جماهير الفقهاء، وقد اختلفوا في أقل مدة لهذا الأجل على أقوال، والبيع في الصور السابقة بيع حال.
ثانيا وهو الأهم أن العامة لا تكاد تفرق بين أنواع البيوع، وبعضهم لا يعرف ما بيع سلم، وما بيع معين، بل إن بعض طلبة العلم قد يلتبس عليهم أمر هذه البيوع، وقد رأيت فتوى لأحد المشايخ الذين لهم جهد طيب في إفتاء الناس، سُئل عن كيفية الجمع بين النهي عن بيع ما لا يملك، وبين جواز بيع السلم، مع أن البائع في السلم لا يملك السلعة حين العقد، فأجاب الشيخ بأن بيع السلم استثناء من الأصل!. هكذا فقط، دون أن يبين الفرق الحقيقي في ذلك، وجوابه هذا يعود على الأصل بالنقض، إذ لو كان السلم مجرد استثناء فقط، لجاز لكل شخص أن يبيع ما لا يملك، ويسميه بيع سلم!!

والصواب أن يقال أن بيع السلم بيع على الصفة، وهو يثبت في الذمة، ويشترط فيه أن يكون فيما يمكن أن ينضبط بالوصف، ويشترط فيه أيضا الأجل، وكذلك يشترط قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، وقد رخص المالكية في التأخر اليسير كيومين أو ثلاثة، استحسانا على خلاف الأصل.

فإذا توفرت هذه الشروط في شيئ من الصور السابقة سميناه بيع سلم، ونظرنا في صحة العقد الإلكتروني فيه من عدمه، أما مجرد إطلاق الاسم دون الاعتبار بالحقائق، وبمقاصد العاقديْن ونياتهما، فهذا لا يغير من الواقع شيئا، ولا يصحح فاسدا، ولا يقضي بفساد صحيح.

ومن خلال ما سبق، يتبين لنا أن السلعة في بيع السلم تكون ثابتة في الذمة بعد ضبطها بالوصف الدقيق المانع للنزاع فيها، وهذا يعني عدم الحاجة لوجود السلعة في مجلس العقد، وعليه يمكن القول بصحة العقد الإلكتروني وانعقاد مجلس العقد الإلكتروني في هذا النوع من البيوع، وهو بيع السلم، إذا توفرت فيه باقي الشروط، ومن أهمها ضبط المبيع بالوصف الدقيق المانع للنزاع، وقبض رأس مال السلم في مجلس العقد، وهذا الشرط الأخير هو الذي فيه نوع إشكال، لصعوبة ذلك إلكترونيا في أحايين كثيرة، أما على رأي المالكية بجواز التأخر إلى ثلاثة أيام، فقد يخف الإشكال قليلا.

وإذا اتسع أمر العقد الإلكتروني في بيوع السلم، فهو أكثر اتساعا في عقود الاستصناع وما شابهها من العقود، حيث لا يشترط في مثل هذه العقود دفع الثمن في مجلس العقد، بل يجوز تأخير كلا البدلين فيها، وعليه فيمكن القول بصحةالعقد الإلكتروني وانعقاد مجلسه إلكترونيا في هذه البيوع، وما شابهها، وأكثر ما يستعمل من هذه العقود؛ بين الشركات، وبين الموردين والمستوردين، وما إلى ذلك.

أما النوع الرابع من البيوع المتعلقة بالعقد الإلكتروني، فهي البيوع التي يشترط فيها التقابض في مجلس العقد، كالبيوع الربوية، وهذه لا يصح فيها العقد الإلكتروني، ولا ينعقد مجلسها إلكترونيا، بل لا يصح فيها ما قيل في الصورة الأولى من إمكان عرض السلع إلكترونيا، وتقبل الوعود بالشراء لها إلكترونيا، لأنه يؤدي إلى المواعدة على الصرف، ولذلك على القائمين على الصفحات الإلكترونية لمحال الذهب وما شابهها، الانتباه لهذا، وعدم قبول أي وعد بالشراء، أو طلب لحجز قطعة ما من المعروض، وما شابه هذه التصرفات، أما العرض المجرد لغرض جذب الزبائن فلا يدخل في هذا - والله تعالى أعلم- .

وكل ما يقال عن التقابض الحكمي في مثل هذه البيوع فهو محل نظر كبير، ومع عدم تحدد مفهوم القبض الحكمي بشكل قاطع، وصعوبة الاتفاق على اصطلاح واحد فيه، حيث أن البعض يدخل تصارف الذمم، والمقاصة، في القبض الحكمي، مما يجعل الحكم على كل صور القبض الحكمي حكما عاما غير صحيح، إلا أننا يجب أن نشير هنا أن التقابض الحكمي في حالة العقد الإلكتروني يكون أشد من غيره من الصور التي قيل بجواز القبض الحكمي فيها، لأن التقابض الحكمي في العقد الإلكتروني يقع من طرفي العقد، وليس من طرف واحد فقط، أما إذا لم يكن التقابض واقعا حكما من الطرفين، فلا أظن أن هذا يكون عقدا إلكترونيا، ولا مجلس العقد مجلسا إلكترونيا، لحضور أحد طرفي العقد في محل إستلام السلعة، وهذا الحضور يلغي كون المجلس مجلسا إلكترونيا صرفا، وهذه الصورة قد تصح في بعض الأحوال، لا في كلها، وذلك بحسب صحة القبض الحكمي من عدمه.

والخلاصة: أن القول بصحة العقد إلكترونيا بإطلاق قول غير سليم. وإن إشكالية العقود الإلكترونية لا تنحصر في الغياب الحقيقي للعاقديْن عن مجلس العقد، ومدى صحة الاعتياض عنه بالحضور الإلكتروني، وآلية الإيجاب والقبول بهذا الحضور، ولا في مسألة التفرق عن مجلس العقد، وطريقة ضبطه وإثباته إلكترونيا فحسب، بل إن الغياب الحقيقي للسلعة عن مجلس العقد له حظ من النظر في أحكام هذه المسألة أيضا، وعلى هذه الجزئية ينبني التفريق بين ما يصح فيه العقد الإلكتروني من البيوع مما لا يصح فيه.

هذا والله تعالى أعلم، وقد كان الغرض منه هو المذاكرة، وتوجيه النظر لهذه البحوث، والحث على العناية بها ودراستها، للوصول إلى تحريرات محققة مؤصلة بشأنها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
بسم الله الرحمن الرحيم

توضيح بشأن حكم السحب من الصراف الآلي التابع لمصرف آخر غير المصرف المصدر للبطاقة، (ومسائل أخر).

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

أما بعد،

فقد أعلنت المصارف التجارية عندنا عن خدمة جديدة، وهي توحيد جميع آلات الصراف الآلي التابعة لهذه المصارف، ليكون بإمكان حامل بطاقة الصراف الآلي السحب من أي آلة تتوفر فيها السيولة النقدية، ولو لم تكن تابعة للمصرف الذي فيه حساب حامل البطاقة.

ولكن كعادة هذه المصارف لم تبين أي شيء عن تفاصيل هذه الخدمة، حتى إنها لم تذكر ثمن هذه الخدمة، وهل هو ثمن موحد أيضا، أم إنه مختلف باختلاف المصارف، ومع إن بعض المصارف التي تضع الملصق الشهير "إسلامي" بجانب اسمها؛ تدعي أن لها لجانا شرعية تشرف على عملها، إلا أننا لا نكاد نسمع لهذه اللجان همسا، ولا نرى لهم عينا ولا أثرا، فلا أدري هل لهذه اللجان وجود حقيقي، أم هي لجان في عالم الوهم والخيال!.

وبما إن الأمر على هذا الحال من الإبهام والغموض الذي تتقصده المصارف فيما أظن، والذي لا يمكّن الناظر في هذه المعاملة من استجلاء حقيقتها، واستخراج حكمها، فقد رأيت أن أبين منهج النظر فيها: أولا؛ لكي يكون عونا للمتفقه وطالب العلم إذا سُئل عن هذه المسألة.

وثانيا، وهو الأهم؛ لكي يحذر المسلم عموما في هذا البلد من هذه المعاملة، فلا يقدموا عليها حتى يعلموا حكم الله فيها، وصدق من قال، وقد جاء ذلك عن ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﺑﻦ سيرﻳﻦ رحمهما الله تعالى : ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺇﻥ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﺼﻴﺎﺭﻓﺔ ﻷﻛﻠﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎ، ﺇﻧﻬﻢ ﺃﺫﻧﻮﺍ ﺑﺤﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ إﻣﺎﻡ ﻋﺎﺩﻝ ﻻﺳﺘﺘﺎﺑﻬﻢ، ﻓﺈﻥ ﺗﺎﺑﻮﺍ ﻭﺇﻻ ﻭﺿﻊ ﻓﻴﻬﻢ ﺍﻟﺴﻼﺡ. وقال ﻗﺘﺎﺩﺓ : ﺃﻭﻋﺪﻫﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ ﻛﻤﺎ ﺗﺴﻤﻌﻮﻥ ، ﻭﺟﻌﻠﻬﻢ بهرﺟﺎ ﺃﻳﻨﻤﺎ كانوا، ﻓﺈﻳﺎﻛﻢ ﻭﻣﺎ ﺧﺎﻟﻂ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺒﻴﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺑﺎ، ﻓﺈﻥ الله ﻗﺪ ﺃﻭﺳﻊ ﺍﻟﺤﻼﻝ ﻭﺃﻃﺎﺑﻪ، ﻓﻼ ﺗﻠﺠﺌﻨﻜﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺼﻴﺘﻪ ﻓﺎﻗﺔ."

وأخيرا، فعسى أن يصادف هذا المنشور من يملك تفاصيل هذه المعاملة من مصادرها الموثوقة، فيفيدنا بها، وله إن شاء الله، من الله المثوبة والأجر.

أما النظر في هذه المسألة، فيعتمد على استجلاء أمرين اثنين: الأول: هل تقوم المصارف بتسوية حساباتها فيما بينها كل مدة معينة، كيوم، أو أسبوع، أو شهر، أو غير ذلك، فيسقط كل مصرف ما له على المصارف الأخرى في مقابل ما عليه لتلك المصارف، ثم يَثبُت الفضل دينا على المصرف الذي سُحب على حسابه هذا الفضل، فيكون هذا المصرف مدينا للمصرف الذي ثبت له الفضل من ذلك؟.

وهذا هو الظاهر؛ لأنه من غير المعقول أن يسحب الزبون من حسابه في مصرفه عبر هذه البطاقة المربوطة بحسابه، ثم يتقاضاه من خزينة المصرف الآخر عبر الصراف الآلي، دون أن تقوم هذه المصارف بالمقاصة فيما بينها بعد ذلك، إلا إذا كان المصرف المركزي قد جعل حسابا موحدا لهذه الآلات، بحيث تخصم البطاقة من حساب حاملها في مصرفه، ومن حساب مصرفه لدى المصرف المركزي في آن واحد، ومن ثم لا يكون للمصرف صاحب الآلة أي علاقة بهذا الخصم، ولا يكون مسحوبا من خزينته، وليس عليه أي تبعة فيه.

ووجود هاذين الاحتمالين هو الذي يجعل حكم هذه المعاملة غامضا، فعلى الأول تكون المعاملة عبارة عن قرض بفائدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم في الإثم سواء.

وعلى الثاني تكون المعاملة من الحوالة بالدين، حيث يحيل المصرف، حامل هذه البطاقة بدينه، على المصرف المركزي بالدين الذي على المصرف المركزي لهذا المصرف التجاري، ومثل هذه الحوالة جائزة بشرط أن يكون ثمن هذه الخدمة موحدا بين المصارف، أو على الأقل أن يكون ثابتا في كل مصرف على جميع البطاقات على حد سواء، فلا يفاضل المصرف الواحد في هذه المعاملة بين البطاقات المختلفة باختلاف المصارف.

وهذا هو النظر الثاني الواجب في هذه المعاملة، أي النظر في قيمة هذه الخدمة، فإذا كان المصرف يأخذ على البطاقات التي ليست صادرة منه قيمة أعلى من القيمة التي يأخذها على البطاقة الصادرة من جهته، فهذا يعكر على المعاملة ويبقي شبهة القرض فيها، حتى وإن كان الخصم يتم رأسا من حسابات المصارف لدى المصرف المركزي، وإن كانت هذه الحال أخف من الحال الأولى التي تلجأ المصارف فيها إلى المقاصة وتسوية الديون الناتجة عن عمليات السحب المتبادلة فيما بينها عن طريق هذه الآلات، فهذه الأخيرة قرض صريح لا لبس فيه، والفائدة فيه هي هذه القيمة التي تقتصها المصارف كثمن لهذه الخدمة، (هذا إذا لم تكن المصارف تتعامل بالفائدة أيضا فيما بينها عند تسوية هذه الديون، وهو غير مستبعد).

فالعمولة التي تؤخذ على السحب من الصراف الآلي، بعض العلماء يجعلها ثمنا حقيقيا للخدمة، والقول بهذا يختلف عندما تكون المعاملة قرضا، عنه عندما تكون استيفاء للدين من قبل الزبون، فعندما يسحب المواطن من الصراف الآلي التابع للمصرف الذي فيه حسابه، فهو يستوفي دينه، فيجوز له أن يسقط بعض الدين للحصول عليه، أما جواز هذا للمصرف على اعتبار أنها قيمة للخدمة فهذه مسألة أخرى لا نريد أن
يتشعب الحديث إليها(*)، المهم هنا هو جواز هذا للزبون.

أما عندما يسحب الزبون من صراف آخر غير تابع لمصرفه، فإن المعاملة لا تكون استيفاء للدين، فتدخلها شبهة القرض بفائدة، فلا يعود تكييف هذا المبلغ المقطوع على أنه قيمة للخدمة تكييفا صحيحا، بل يكون من الفائدة على القرض، إلا إذا كان الخصم يتم من حسابات المصرف المركزي مباشرة، وهو النظر الأول الذي تقدم آنفا، وكانت قيمة المعاملة موحدة، أو متساوية على جميع البطاقات في كل مصرف على حدة، وهو النظر الثاني الذي تحتاجه هذه المعاملة، وقد تقدم أيضا.

ومما ينبغي ذكره هنا أيضا، أن بعض العلماء يفرق بين ما إذا كان المبلغ المقطوع كثمن لهذه الخدمة؛ نسبة من جملة المبلغ المسحوب، وبين ما إذا كان قدرا محددا مقطوعا لا علاقة له بالقدر المسحوب، وهذا التفريق ضعيف، لأنه متى كانت المعاملة استيفاء للدين جازت سواء كانت نسبة أو قيمة مقطوعة، ومتى خرجت عن هذا الحد، نظر إليها بحسب ما آلت إليه. ويزداد هذا التفريق ضعفا في الصورة الجارية عندنا الآن، لأن سقف السحب محدد بقيمة ثابتة، وهي ٥٠٠ دينار فقط، وعليه لا يكون هناك فرق بين أخذ نسبة، وأخذ قيمة مقطوعة، بل قد تكون القيمة المقطوعة أشد، لأن النسبة تقل كلما قل المبلغ المسحوب، أما القيمة المقطوعة فهي ثابتة، فإذا سحب ١٠٠ دينار فقط، فسيؤخذ منه نفس المبلغ الذي يؤخذ ممن سحب ٥٠٠ دينار كاملة.

والخلاصة: لا ينبغي للمسلم الحريص على دينه، الذي قد طرق سمعه ما أوعد الله على الربا من الوعيد الشديد، والذي يعلم ما في هذه الموبقة من الشؤم العظيم في الدنيا والآخرة، على الفرد والمجتمع معا؛ لا ينبغي له أن يقدم على هذه المعاملة حتى يعلم حكم الله فيها، وله أن يقتصر على السحب من الصراف الآلي التابع لمصرفه فقط، حتى توضح المصارف التجارية والمصرف المركزي تفاصيل هذه المعاملة. والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.




----------‐----------------------------------------------------
*- إن مما يظهر جليا في هذا الباب أن العمولات التي تفرضها المصارف على خدمات الحسابات المصرفية؛ كلها من أكل المال بالباطل، وليست في معنى البيع ولا الهبة ولا العطية ولا أي معنى من المعاني التي يجوز تداول المال بها بين المسلمين، وهذا الحكم خاص بالعمولات على خدمات الحساب المصرفي ولوازمه، كاستصدار دفتر الشيكات وما في حكمه، فإذا تجاوزت المعاملة هذا القدر فإنه ينظر في كل صورة منها بما آلت إليه، ويحكم على كل منها بحسبه.

وبعض العلماء أوجد أصلا غريبا في هذا الباب، وهو التفريق بين العمولات التي تقابل النفقات الحقيقية، وبين العمولات التي تكون لغرض الربح والتجارة، وأظن أن أكثر من يرددون هذا الكلام لم يتأملوه أبدا، ولو وجد من تأمله فعلا، فقد تأمله مع الغفلة أو الجهل بماهية البيع، وماهية التجارة... فإن ما يقولونه لا وجود له أبدا في أرض الواقع، إنما هو كلام نظري سيق للتبرير والتمرير لبعض أنشطة المصارف فقط، ولو كُلفت المصارف حقيقة باحتساب النفقات الفعلية لشيء من تلك العمولات لما قدرت على ذلك، بل ولما وجدت قانونا يسعفها على ذلك، ولو استعانت بكل أدوات الإحصاء، ثم لو قدر أنها تمكنت من احتسابها فعلا، فإن طلب الاستعاضة عن هذه الخدمات بالمال يخرجها إلى حقيقة البيع رغم أنف من يفر من ذلك، إلا أن يُطلب من الزبون رد المثل من هذه الخدمات لا القيمة، وأنى له ذلك. لو كانت هذه الخدمات تقدم من طرف ثالث يبيعها على هذه المصارف، فتشتريها وتقدمها لزبائنها، فإنه قد يصح القول حينئذ بإمكان أن تقدم المصارف هذه الخدمات بتكلفتها الحقيقية، وهو المبلغ الذي اشترت به هذه الخدمات، فيكون من باب بيع التولية، أما أن تكون المصارف هي المنتجة لهذه الخدمات بنفسها، ثم تطالَب بتقدمتها بتكلفتها الحقيقية، لئلا تؤول المعاملة إلى البيع والتربح، فهذا قول من لم يتدبر حد الربح والبيع الذي تناط به مثل هذه الأحكام الشرعية.

وعلى أية حال، فإن هذا موضوع ذو شجون، ولم نرد التطرق إليه هنا، ونسأل الله أن يعيننا ويوفقنا لما يحب ويرضى، ولكن من أغرب ما سُمع في هذا الباب، قول من يقول بجواز أن يقرض المصرف قرضا حسنا، ومع القرض الحسن فائدة!!، وهذه الفائدة بحسب ما يقولون هي النفقات الحقيقية التي خسرها المصرف على هذا القرض الحسن!!، ولو تدبرت هذا القول لوجدته يخرج من نفس المكمن الذي خرج منه القول بأن الفائدة أجرة النقود، كريع الأرض، وأجرة العامل سواء بسواء، وكل ما يمكن أن يقال في العمولات التي تفرضها المصارف على خدمات الحسابات المصرفية لون، وإباحة الربا بمثل هذا الكلام لون آخر.
فسرعان ما تحول هذا الكلام الذي لا زمام له ولا خطام، ولا يعتمد على أساس، ولا يقر له قرار، وهو القول بالتفرقة بين عمولة لغرض الربح، وأخرى لغرض استرداد النفقات الحقيقية فقط؛ سرعان ما تحول هذا القول إلى أصل تبنى عليه الأحكام، بل وإلى معارض وهادم لركن ركين من أركان فقه المعاملات المالية، ألا وهو أصل حرمة الربا، بل والمنع من ذرائعه، وسد كل ما يفضي إليه، حتى قال عمر رضي الله عنه "دعوا الربا والريبة" وجاء عن الصحابة أنهم قالوا تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا، وجاء عن عدة من الصحابة أنهم لا يقبلون الهدية ممن أقرضوه مخافة أن تكون فائدة على القرض، بل كانوا يأمرون غيرهم أن لا يقبلوا الهدية على هذا النحو، ثم يأتي في هذا العصر من يقول مثل هذا الكلام، الذي لولا المجهادة في تحسين الظن ببعض من قال هذا الكلام، لقيل إنه استخفاف بحدود الله، وعدم مبالة بما جاء في الربا من الوعيد العظيم، والتخويف والترهيب، والزجر الشديد!.

ومن العجب ما يستدلون به على استباحة مثل هذا الربا، وهو قولهم بأن المقرض محسن، وما على المحسنين من سبيل، ولا أعرف لماذا يذكرني هذا الاستدلال، باستدلالات الرافضة أخزاهم الله، كقولهم في قوله تعالى: مرج البحرين: هما علي وفاطمة، وقولهم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، هما الحسن والحسين، وقولهم (أذن واعية) هي أذن علي!!

ولذلك فإن هذا القول رغم كثرة القائلين به، لا يختلف كثيرا عن أقوال بعض المثقفين والمفكرين وأضرابهم من المتلاعبين بالدين، الذين يقولون لك نحن نؤمن بحرمة الربا، بل يقولون لو اعتقدنا حل شيء من الربا لكفرنا، ثم إذا بحثت عن حقيقة الربا الذي يؤمنون به، وجدته معنى لا يكاد يوجد أبدا في الواقع، ووجدت أن أعتى مؤسسات الربا في العالم تحرم أكثر مما يحرمون من الربا، وذلك كمن يقول إن الربا المحرم هو ربا الديون فقط، وليس كله، بل ما كان أضعافا مضاعفة فقط، مع أن أعلى نسبة فائدة في العالم اليوم قد لا تتجاوز ٢٠%، وأكثر الدول تحرم ما زاد عن ذلك، بل كثير منهم يحرمون ما هو دون ذلك، ثم يأتي من ينسب إلى شرعة الله، أعدل الشرائع وأحكمها على الإطلاق، هذا الربا، ويقول أن الفائدة لو كانت ٩٩% فإنها حلال في شرعة الله وليست من الربا.

وبعضهم يقول إن الربا هو الزيادة لأجل الإنظار بعد حلول الدين، أما إذا طُلبت الزيادة في أول العقد فلا يكون هذا من الربا!... إلى غير ذلك من الأقوال التي تكالب بها العابثون على حكم الربا في شرعة الله، وحولوه إلى صورة ميتة لا روح فيها، وإلى هباء يتلاشى بنفخة واحدة من أمثال هؤلاء، وما أكثرهم، ولقد استمعت مرة إلى مقطع مرئي لأزهري يلقب بالأزهري، وهو صوفي مخرف، قال في هذا المقطع بعد مقدمة أكد فيها على حرمة الربا، وأنه من أكبر الكبائر، بل وأكد فيها على كفر من يستحل الربا، وكأني به يحكم على نفسه بنفسه بذلك؛ قال بعد ذلك "إن الإيداع في البنوك بفائدة ليس من الربا، بل هو عقد مستحدث ليس له في الفقه الإسلامي نظير، يسمى هذا العقد الجديد عقد تمويل"!! وكأن المرابي يحنط أموال الربا ولا يتمولها ويمولها غيره ... ليصل هذا الأفاك الأثيم عبر عقد التمويل هذا، إلى أن هذا الربا الذي هو عين ربا الجاهلية صار اليوم ليس من الربا بحال من الأحوال، بل هو عقد تمويل ليس له في الفقه نظير! ألا فلعنة الله على الظالمين الأفاكين المعتدين الذين اتخذوا آيات الله هزؤا ولعبا.

وبعد؛ فإن مما نعاني منه في هذا العصر، ليس من أمثال هؤلاء فقط، بل هي السمة الظاهرة الغالبة على أكثر الناظرين في فقه المعاملات للأسف الشديد؛ هو ما يمكن أن نسميه بفقه المحاباة والطبطبة على المصارف والتعاطف الشديد معها، وهذه المحابة تتوافق مع سياسة "الابن المدلل" الذي يتعامل بها النظام الرأسمالي في الغرب مع مؤسساته المالية التي هي أساس الفساد والاضطراب في نظامه الاقتصادي، والتي كلما تخبطت وترنحت بسبب أكلها واتخامها بالربا سارعت تلك الأنظمة إلى إنقاذها وإنعاشها، لتعود أكثر شراهة ونهما لأكل الربا، ولا يخفى أن لهذا الدلال الغربي دوافع؛ ليس أباطرة المال والربا من اليهود بمنأى عنه أبدا.

أما هذا الفقه المحابي عندنا فلا يزال يصر على عدم الاعتراف بأن وظيفة البنوك وعملها تتعارض تعارضا مبدأيا مع الشريعة والفقه الإسلامي، ولهذا الإصرار أسباب عديدة لعل العمل الحزبي واحدا منها، فإن الأحزاب لم تنجح في أي جانب من الجوانب التي عملت عليها كما نجحت في الجانب الاقتصادي، ومن نظر عرف، فكأن هذه الأحزاب تقمصت دور اليهود ووظيفتهم، فصارت تنسج على منوالهم، تبتغي بذلك أن تصل إلى ما وصل إليه اليهود في الغرب، من تحكمهم واستبدادهم شبه التام بسياسات تلك الدول الغربية، وشؤونها العامة .. وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا .. ويزودك بالأخبار من لم تزود!!.
ولكن هيهات أن يتم لهذه الأحزاب ما أرادت، فإن الله جلت قدرته حفظ لهذه الأمة دينها، وإنه تبارك اسمه امتدح هذه الأمة بقوله في محكم كتابه: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). فهي ليست كالنصرانية التي باعت دينها لأفكار أرضية زخرفها لهم اليهود، وزينوها لهم في صورة العلم، فآمنوا بها، واتبعوها حتى طغت المادية عليهم، وفشى فيهم عبادة المال، وهو الأمر الذي يتفنن فيه اليهود ويتقنونه غاية الإتقان، مما مكن شذاذ الآفاق هؤلاء من التحكم في تلك الأمم الغربية التي صارت بتلك الأفكار الأرضية التي بثها اليهود بينهم مسخا مشوها في غاية القبح والانحطاط من النصرانية المحرفة أصلا.

أما أهم أسباب هذا الإصرار فهو منهج الانغلاق والتفكير داخل الصندوق، واقتفاء أثر الحضارة الرأسمالية الربوية حذو القذة بالقذة، اعتقادا أنه هو الطريق الأوحد للنهوض بالأمة، وتحقيقا لصحة القاعدة الخلدونية التي تقول إن المغلوب مولع بتقليد الغالب ... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وقصارى القول في سياسة أسلمة البنوك التي يدور عليها الفقه المعاصر، هو إما أن تتقيد فيها البنوك بقوانين الشريعة والفقه، وهذا سيؤدي حتما لاختفاء البنوك القائمة على سنن اليهود وقواعدهم، وظهور شيء جديد لا علاقة له بالبنوك التي نراها اليوم، وإما أن يُسلك في هذا الطريق بنحو ما هو قائم اليوم من فقه التلفيق والتبرير والاحتيال على الشريعة لمصالح تلك البنوك والمؤسسات المالية، وهذا لن يؤدي إلا إلى وجود ربا إسلامي!! كما احتال اليهود على دينهم وحرفوه حتى أوجدوا ربا يهودي، وكما فعل النصارى حتى أوجدوا ربا نصراني، والله بريء ورسوله من كل هذا التحريف والتبديل تحت أي اسم كان. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم


تعليق على فتوى

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد اطلعت على فتوى حديثة فيما يبدو، وهي لأحدهم في ليبيا، وقد خلط في فتواه هذه، أمرا جيدا، بآخر لا أستطيع أن أقول أنه سيء، ولكنه خطأ، أو محل نظر كبير، فرأيت التعليق على هذه الفتوى؛ تنويها بالأمر الجيد، ومباحثة ومذاكرة في الأمر الآخر. ولولا أن لصاحب الفتوى مواقف مخزية لذكرته باسمه، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به، ونسأله سبحانه أن يديم فضله علينا، وأن يسترنا بستره الجميل، وأن يتوب علينا وعليه إنه هو التواب الرحيم.

أما الأمر الجيد في هذه الفتوى، - وهي تتعلق بمعاملة شراء الدولار - فهو قوله إن الخصم للعملة الليبية لا يتم في آن واحد مع الإيداع والشحن للعملة الأجنبية، وهذا هو الذي يشترطه من يقول بالتقابض الحكمي، وبما أن هذا التقابض الحكمي لم يعد موجودا - حيث إن المصارف صارت تحجز على العملة المحلية وتخصمها من حساب المشتري، ثم يظل المشتري زمانا ينتظر الشحن لبطاقته بالدولار - فقد قال صاحب هذه الفتوى إن المعاملة لم تعد جائزة بهذه الصورة.

وللأسف الشديد فإن من أفتى بجواز هذه المعاملة في السابق، كان معتمدهم هو هذا التقابض الحكمي، ومع ذلك بإستثناء هذه الفتوى، لم نر أحدا منهم برأ ذمته أمام الله، وخرج على الناس وقال لهم إن الذي كنت أفتيكم به لم يعد يحل لكم، وإن المصارف لم تعد تلتزم بما ادعته من إجراء التصارف الحكمي في آن واحد.

وهذا يدلك أن كثيرا ممن كان يفتي في هذه المسألة، كان غرضه تحليلها، وإباحتها للناس بأي طريق، ولذلك لما استقر الأمر على ذلك، لم يعد يهمهم ما يجري في هذه المعاملة، وهل تستمر المصارف في التقيد بالشروط والضوابط أم لا، إنما كان غرضهم هو الوصول إلى الحكم بالجواز، وقد وصلوا إليه، فلم يعد التطبيق العملي يعنيهم في شيء، فما أشبهم بمن قال السلف فيهم "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان".

هذا، وإن بعض الناس يظن إن الإباحة والتساهل في التجويز في مثل هذه المعاملات، هو من التيسير على الناس، ورفع الحرج عنهم، والمنع منها، من التضييق والتشديد عليهم. ويظنون أيضا أن من يقول بالمنع، فإنه لا يمكن أن يقول بالجواز في الحالات المعينة التي تستدعي ذلك، كحالات الضرورة، وما أشبه، وهذا من قصر نظرهم، زائدا على عدم تقيدهم بالنصوص الشرعية، وأخذ الأحكام بالهوى والتشهي، الذي يلبسونه زورا ثوب مراعة المقاصد، أمران وقع منهما بلاء عظيم علينا في ليبيا، والثاني هو الأشد والأنكى.

ولذلك، فعلاوة على أن القول بالمنع، هو الموافق للنصوص والأحكام الشرعية، فهو أيضا المؤدي إلى التيسير الحقيقي على الناس، ورفع الحرج عنهم، وذلك أن من مصلحة الناس التي يمكن أن يقال إنها من الضروريات لمعاشهم، هو استقرار النقود التي هي عصب الاقتصاد، وعدم ارتفاعها وانخفاضها بهذه الوتيرة التي نراها اليوم. وهذا الاستقرار من أهم مقاصد تحريم الربا وحِكمه.

فلو مُنع الناس من هذه المعاملة، وزُجروا عنها بأبلغ الزجر، حتى تقررت حرمتها في نفوسهم، وتصورتها في أشبع الصور، التي تنفر منها طباعهم، وتشمئز منها نفوسهم، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: الربا سبعون حوبا، أدناها كأن يأتي الرجل أمه، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

لو قُررت هذه المسألة بهذا التقرير، لظلت أسعار هذه النقود على شيء من الاستقرار، ولم تكن تتعرض لمثل هذه الهزات العنيفة التي هي أضر شيء على الاقتصاد، وعلى أموال الناس، ومعائشهم، وبيعهم وشرائهم، ولما وقع ما نراه اليوم من هذه الفوضى العارمة، وتكالب الناس الشديد على هذه المعاملة، حتى من لم يكن بحاجة إليها مطلقا، بل أكثرهم لا حاجة لهم بها، بل غرضهم هو المضاربة، والتربح من فرق السعر بين سعر المصرف، وسعر السوق السوداء، وهو محض الربا والقمار.

فلو استقرت هذه الأحكام في نفوس الناس على هذا النحو، مما يؤدي إلى استقرار النقود على نحو ما ذكر أيضا، فلو أفتى أي طالب علم بعد ذلك، لعين من الناس فتوى معينة خاصة به بناء على ضرورة تستوجب ذلك، كأن يكون مضطرا للعلاج في الخارج، ويحتاج إلى هذه المعاملة للحصول على الدولار الذي يسافر به، أو لتاجر تقوم حاجته العامة مقام الضرورة، بشرط أن لا يكون ما يتاجر فيه من الأشياء الضارة، أو التي لا نفع بها؛ فلو صدرت مثل هذه الفتاوى المعينة المخصوصة بالإباحة في هذه الحدود الضيقة، بعد أن استقر الحكم بالحرمة في أذهان الناس، لما أُنكِر ذلك، ثم لما وجد هذا المضطر حرجا وعنتا شديدا في الحصول على هذه المعاملة، كما هو واقع اليوم.

ولكننا للأسف ابتلينا في ليبيا بقطاع طرق في صورة طلبة علم، فكان هؤلاء أشد تسابقا وتكالبا على هذه المعاملة من العامة، ولازلت أتذكر بعض العامة من كبار السن في بدايات ظهور هذه المعاملة، يتساءلون عنها هل هي من الربا أم لا، ويتندرون بالسلفيين الذين يسمونهم "الشيوخ" من شدة تسارعهم إليها، وهجومهم عليها دون
روية ولا تثبت!!

وليس من نافلة القول، أن هذا الرفع للحرج، والتيسير الكامن في الحكم بالمنع من مثل هذه المعاملات الربوية، ينطبق تماما على القول بعدم جواز التفاضل بين الورق النقدي، بل حاجة الأمة لهذا التيسير أشد إلحاحا.

فبعض العلماء ربما يفرّ من هذا الحكم ظنا منه أنه يجلب التضييق والحرج على الناس، مع أن العكس هو الصحيح، فلو قُرر هذا الحكم حتى على المستوى دون الرسمي والحكومي، لكان فيه خيرا عظيما جدا، ولصار مصدر قوة للعملات الوطنية في وجه العملات الإمبريالية الطاغية التي عاث أهلها في الأرض فسادا، ولكن من جهل شيئا عاداه.

أما إذا قُرر الحكم على المستوى الحكومي، واستثمرته الحكومات الاستثمار الأمثل، فهو الخير العميم، والفضل الواسع العظيم، من الله المنان الكريم، ولأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وانتشر المال انتشارا عظيما، حتى قد يُخشى على الناس منه، لا من قلته ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ).الأعراف (96). ومن ستطول به الحياة سيرى - إن شاء الله تعالى - من ذلك ما لم يكن يخطر له على بال.

ومن العجائب والعجائب جمة .. قرب الدواء وما إليه وصول.
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ .. والماء فوق رؤوسها محمول.

انتهى ما يتعلق بالأمر الجيد في تلك الفتوى، وأما الأمر الذي هو محل نظر، فهو قول صاحبها إنه اقترح على المصرف أن يعقد معهم عقد وكالة لشراء الدولار له، وقد أعد نموذجا في محرر العقود بخصوص هذه الوكالة، وقدمه إلى المصرف ظنا منه أن المعاملة قد تصح بهذه الوكالة.

ومع أن المصرف رفض هذا الاقتراح، فإن المعاملة لا يظهر أنها تصح به إذا قبله، وذلك لأن يد الوكيل يد أمانة، ويد المدين يد ضمان، ولا يمكن أن تجتمع اليدان على هذا المال في هذه الصورة، والله تعالى أعلم.

فإما أن نجعل الوكيل ضامنا بناء على الدين الذي أبرم بموجبه العقد، وهذا يؤدي إلى تربح الدائن من دينه، ويدخل هذا في القرض الذي جر نفعا، وهو محرم.

وإما أن نسقط الضمان على المدين بعقد الوكالة هذا، دون أن يكون قد قام بأي عمل يتعلق بسداد الدين، وبرآة ذمته منه، وفي هذا ظلم للدائن، وسلب لحقه في دينه، وقد يدخل هذا أيضا بيعتين في بيعة، فكأن الوكيل قال للدائن: أقبل منك هذه الوكالة، وأشتري لك ما تريد منها بشرط أن تسقط الضمان عني، وهي شبهة أيضا.

ثم إنه لا يصح للموكل أن يقول لغريمه، اقبض ديني من نفسك، فيصير المدين قابضا ومقبضا في آن واحد، وإذا لم يصح هذا، لم يصح إسقاط الضمان، ولا ما بني عليه من الوكالة.

ومالك رحمه الله يمنع من هذه المسألة، وهي أن يقوم الدائن بتوكيل المدين بشراء سلعة له بالدين الذي له عليه، ولا يجيزها إلا في صورتين: الأولى أن يكون الدائن الموكل حاضرا في مجلس العقد، وهذا بيّن، فكأن حضوره يقوم مقام قبضه لدينه، والثانية: هي أن يكون الدين من وكالة مثلها سبقتها، وذلك كأن يكتب الرجل إلى الرجل في بلد آخر، أن يشتري له سلعة ما، على أن ينقدها من عنده، فيشتريها له، ويرسل بها إليه، ويكتب له مع ذلك، أن يشتري له بثمنها سلعة من عنده هو الآخر، حيث قال مالك هذا من المعروف الذي يجب أن لا ينقطع بين الناس. ويشبه أن يكون هذا استحسانا منه رحمه الله.

والقول بالمنع من هذه المسألة هو قول المالكية، والحنابلة كما في المغني، ولم أجد مذهب الشافعية والأحناف فيها بعد بحث سريع، ولم أتمكن من إكماله للإنشغال بأمور أخرى.

وعلى أية حال، يمكن تصحيح الاقتراح السابق بأحد وجهين: الأول أن يسحب الزبون المال من المصرف، ثم يعقد عقد الوكالة مع المصرف، ويسلم لهم المال لا على أنه إيداع في حسابه، بل على أساس عقد الوكالة، ويجب أن يضع المصرف هذا المال في حساب آخر خاص بهذا، ولا يخلطه مع الحسابات المصرفية الأخرى، ولا أظن المصارف توافق على هذا الوجه، وهو غير عملي.

أما الوجه الثاني فهو أيسر، ولا يوجد ما يمنع المصارف منه إلا عدم وجود الإرادة الصادقة في تصحيح هذه المعاملة، وشعور هذه المصارف بالتحرر من واجب التقيد بالأحكام الشرعية، أو أنها تشعر بأن الأحكام الشرعية هي التي يجب أن تساير المصارف لا العكس، لا سيما مع طبطبة العلماء عليها!!.

أو إذا كانت المصارف تزيد في سعر الدولار، على سعر المصرف المركزي، فتربح من ذلك دون أن تكون قد باعت شيئا، أو ضمنته، لأن المصرف المركزي هو الذي يبيع هذا الدولار، وليس المصارف التجارية، ولذا فإن هذا التربح غير جائز لها، وقد جاء في الحديث أن الربح بالضمان.

أما هذا الوجه الثاني فهو بأن يوكل الزبون الذي يريد أن يشتري الدولار؛ المصرف بالشراء له، على أن ينقد المصرف الثمن من حسابه هو لا من حساب الزبون، وهذه وكالة صحيحة لا غبار عليها، وبمجرد أن تنفذ المصارف هذه الوكالة، ويتم البيع والقبض للدولار من قبلها، يصير الزبون مالكا للدولار، ومدينا لها بثمنه، ويصير الدولار أمانة
عندها لهذا للزبون، وبما أن الزبون دائن لها بحسابه الجاري عندها، تخصم المصارف من حسابه القيمة التي اشترت بها الدولار لصالحه.

وهذه الوكالة بهذا الوجه تخرج الزبون من إشكالية التقابض الحكمي تماما، وتجعله في سعة من أمره، متى شاء قبض الدولار، وذلك بسحبه عبر هذه الآلات، وهي كذلك لا تحتاج إلى نموذج كما جاء في الاقتراح، بل نفس النموذج الإلكتروني الذي تتعامل به المصارف الآن كاف في هذا، مع تعديل بسيط، يثبت أن هذا الطلب الذي يطلبه الزبون هو توكيل بشراء العملة الأجنبية.

وتبقى إشكالية التقابض الحكمي قائمة بين المصرف التجاري والمصرف المركزي، وبإمكانهم حلها لو أرادوا.

هذا؛ والله تعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين.
الميزان
قبس من الأنوار القرآنية 1.docx
قبس من الأنوار القرآنية على ظلمات الأشعرية الصوفية والحدادية والقطبية السرورية
تقبل الله منا ومنكم وكل عام وأنتم بخير
Audio
الميزان
Audio
مقطع من الشعر الشعبي، مملوء حكمة، ومع أنني لا أعرف قائله، ولا أظن أنه طالب علم، إلا أنه حقق في شعره هذا، ما يتهافت حوله طلاب علم كثير دون أن يغنوا فيه، أما هذا الشاعر حفظه الله إن كان حيا، ورحمه حيا وميتا إن كان قد توفاه الله؛ فقد أصاب بشعره حقيقة العلم، وأنا لا أمل سماعه، وله مقطع آخر جميل أيضا، سأنشره لاحقا إن شاء الله.

أسأل الله أن يكتب له ولنا الأجر في نشر هذا العلم، وأرجو أن تكون اللهجة مفهومة للجميع.
الميزان
قبس من الأنوار القرآنية 2.docx
نسخة تحتوي الفصل الثاني وهو يتعلق بمسألة العذر بالجهل، وهي مسألة مهمة جدا، أدت إلى فرقة واختلاف كبيرين بين المنتسبين إلى السنة، نسأل الله أن يصلح أحوالنا جميعا، وأن يجمع كلمة المنتسبين إلى السنة جميعا على الحق، إن ربنا سميع الدعاء
2024/05/09 22:57:02
Back to Top
HTML Embed Code: