عادة أهل الكرم تقديم جزء من النوال ضيافة قبل كله، وقد عودني ربي وهو أكرم الأكرمين أن يبعث نفحة ارتياح قبل تمام الفرج، فيحس المرء بنسمة فتح الباب وإن بقي أكثره موصدًا.

‏استهلاك أعمار الشباب في الجدل لا العمل تعبير عن يأس وتذمر داخلي، وهي مرحلة ما قبل ترك نصرة القضايا؛ فالمرء إذا شُلّت يده انطلقت حنجرته.

محبة تخطئة الناس وتبديعهم واتباع عيوبهم سبب خفي للخطأ والشذوذ في الفتيا

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في معرض جواب كتبه لبعض من أجاز سماع الصوفية المحدث:

"…وكنت أتخيل في الناصح أنه يكون إماما بارعا، وأفرح به للمذهب؛ لما فضله الله به من شرف بيته، وإعراق نسبه فى الإمامة، وما آتاه الله تعالى من بسط اللسان، وجراءة الجنان، وحدة الخاطر، وسرعة الجواب، وكثرة الصواب. وظننت أنه يكون فى الفتوى مبرزا على أبيه وغيره، إلى أن رأيت له فتاوى غيرُه فيها أسد جوابا، وأكثر صوابا. وظننت أنه ابتلي بذلك لمحبته تخطئة الناس، واتباعه عيوبهم. ولا يبعد أن يعاقب الله العبد بجنس ذنبه - إلى أن قال: والناصح [يعني هذا الرجل] قد شغل كثيرا من زمانه بالرد على الناس فى تصانيفهم وكشف ما استتر من خطاياهم ومحبة بيان سقطاتهم. ولا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه، أفتراه يحب لنفسه بعد موته من ينتصب لكشف سقطاته، وعيب تصانيفه وإظهار أخطائه؟ وكما لا يحب ذلك لنفسه ينبغى أن لا يحبه لغيره، سيما للأئمة المتقدمين، والعلماء المبرزين. وقد أرانا الله تعالى آية فى ذهابه عن الصواب فى أشياء تظهر لمن هو دونه".

ذيل طبقات الحنابلة ١٩٥/٢



قناة د. فهد القحطاني العلمية https://www.tg-me.com/Shatharat_DrFahd

إذا رزقك الله بصرًا في دقيق العلم وعويصه فلا تقابل نعمته بالتعالي على الخلق، اعرض علمك ولا تستعرض به، فإنّما نحن مساكين؛ نفهم عن الله، بنور الله، ولو شاء لسلب النعمة، وحلّت النقمة.

بعض الأمنيات يعز التخلي عنها؛ كأنك مُهجّر حمل بقايا أثاث منزله، وكلما حدثته نفسه بالتخفف ليطيب سيره لاح له طيف مكان، فيمني النفس أنه سيتحامل على نفسه، ويصبر على الأثقال؛ لتقل خسائره، وينعم بالمنزل الجديد.
وهكذا؛ سيظل يثقل نفسه، ويؤخر قرار التخلي حتى يقضي على أوهامه، أو تقضي عليه.

مشهد دخول الدروز نصرةً لإخوانهم في الدين بالسويداء يعلّمنا أن الأفكار الصائبة تنتظر القادر المستطيع على تطبيقها لا المفوّه المقنع في تأصيلها.
فلا معنى لحشد البراهين على وجوب نصرة إخواننا في غزة، العالم سيراه صوابًا حين تكون قادرًا، لا حين تكون مقنعًا أخلاقيًا، والأقدام الثقيلة أفصح من المبادئ النبيلة.

﴿إِذا جاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالفَتحُ * وَرَأَيتَ النّاسَ يَدخُلونَ في دينِ اللَّهِ أَفواجًا﴾

في التعقيب بدخول الناس في الدين أفواجًا بعد الفتح والنصر إشارة إلى أن المنتصر على الأرض أكثر إقناعًا من غيره، وأن برهان الأمر الواقع -وليس الإكراه الفردي- أمضى من مباحث الحجاج والجدل كلها.

نحن أمّة تتعافى بالمصائب، وتتقوى بالنكبات؛ لذا كان خوف سيد الحكماء صلى الله عليه وسلم علينا من بسط الدنيا وانفتاحها أكثر من ضيقها وشدّتها.
وكل الأمم -عبر التاريخ- كانت بداية قوتها بعد لحظة انكسار، شرط أن تستفيد من الدرس، أما الطموح إلى الرخاء المعيشي دون قوة متجددة فهي بداية الترهل، وهل الوهن في التعريف النبوي إلا حب الدنيا وأسبابها، وكراهية الموت وأسبابه!

اللهم اغفر له وارحمه وتقبله، هيه ياقلب: "خلقنا رجالًا للتجلد والأسى"

كان الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يكرر عبارة مفادها: أن حجة النحوي كالجربوع [اليربوع]؛ تحجر له من باب يخرج من باب ثاني [١]

كم نعرف من أصحاب الاستدلال اليربوعي؟
يقولون الشيء ونقيضه، ولهم في كل مرة مخرج ومستند، وفي كل مرّة يُصفّق لهم.



———
[١] وقفتُ عليها في شرحه لصحيح مسلم، وفي شرحه للآجرومية، وفي شرحه لألفية ابن مالك، ولم أتتبع وجودها قبله.

يأنف بعضنا من أي ملامة على التقصير بحق إخوانه، وينتفض ليدفع عن نفسه هذا، ويسميه جلدًا للذات، وإياك أن توقظ ضميره فيقطع انغماسه وتلذذه وترفه.
أما وقد بلغت المجاعة في غزة هذا الحال فإننا -والله- نخشى أن نكون ممن أعان عليهم، فلنعترف على الأقل بقصورنا وغفلتنا؛ فإن فاتنا السبق فلعلنا ننجو بالصدق.

كان إمام اليمن المؤيد بالله يحيى بن حمزة العلوي عالمًا ذكيًا، ألف كتب: الطراز والحاوي والمحصل وغيرها، وهو دقيق النظر في العلم، جريء الرأي في مباحثه، غزير الإنتاج العلمي مع تحمله أعباء الإمامة السياسية؛ ويروى أن كراريس تصانيفه زادت على عدد أيام عمره.
ولم يتوقف عن التحصيل والعطاء العلمي لأي ظرف؛ إلا أنه أمر بتوقيف الدروس والمظاهر العلمية تفرغًا للجهاد، حتى تعود الأمور إلى نصابها، يقول في إحدى رسائله:

"ألا وإني أعلمكم أني منعت الاشتغال بشيء من الأشغال الواجبة على الكفاية من قراءة، أو درس أو تدريس حتى نفرغ من أمر الجهاد، فإذا تمهدت قواعده بحمد الله ومنّته، ورسخت أصوله واتسقت فروعه، ورجع كلٌ إلى نصابه، وارتكز في مركزه، عدنا بحمد الله وافرين، ولدينه ناصرين، وبأعدائه ظافرين، وعلى من خالف الحق منتصرين ﴿قُل هذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾ " [١]



—————————-
[١] مجموع الإمام المؤيد برب العزة، تحقيق: قاسم بن حسن السراجي ص ٦٠١

كان الشيخ المحدّث صبحي السامرائي -رحمه الله- إذا أجاز طالبًا قال: "أجزتُ ولدي القلبي".

وهذا تعبير لطيفٌ حسن، أخبر أنه سمعه من شيخه وصار يسمعه تلاميذه.

أسعد الله من رُزق الإحساس بالنعم الصغيرة، ليس من جهة خلوّ حياته من المكدرات؛ بل لأنه كلما نغّص عليه أمر تذكر نعمةً فواسى نفسه بنفسه، وصبّرها بأن الله إن أخذ فقد أعطى، وإن أبكى فقد أضحك.