Telegram Web Link
مقاربة عمر الأربعين تجعل المرء في حالة من "جموح الاستدراك"، يسعى بلهث وعينه على ماضيه، يرى بأنّ شيئًا ما فاته، قد لا يعلم ما هو لكنه يتحسسه.
تراه يعيد ضبط حياته، يعوّض مالم يعشه في شبابه الأول، في صدره نذير باقتراب الغروب، لذا ترى الموفّق يسابق نفسه فيزداد تعبدًا، ويضاعف من ألفة الطاعات علّه يختم له بها، ويعبّ من نهر العلم ما وسعه الوقت والذهن وهدن معارك المعيشة.
يرمي سهمه الأخير لكل أمانيه؛ مالم يأتِ الآن سأحاول محاولة أخيرة، ثم أقنَع بأنه ليس لي.
وترى -البعيد- يعيد شهوات الصبا جذعة، يريد أن يعيش حياته كما يقول، فيتلبس بأحوال من السفه الذي كان يترفع عنه، وغالبًا يرافق هذا العمر قدرة مالية لم تكن حاضرة في ماضيه؛ فييسر له طريق اللهو حلاله وحرامه.
وما رماد الشيخوخة إلا من لهب ما قبلها؛ فاللهم اهدنا لأن نترك الشهوات قبل أن تتركنا.
إذا أردت أن تعرف هل طلبك العلم لله أم لغيره فانظر إلى تعبّدك أزاد أم نقص.
فعادة الطاعات أن تقود إلى طاعات أخرى؛ فإذا كان العلم طاعةً قادك ولابدّ إلى أفانين من العبادات الجديدة.
ووجهٌ آخر أدق: وهو أن علامة العلم الصحيح معرفة رتب الأشياء، فإذا تعلمت مخلصًا أثمر في قلبك تعظيم ما عظمه العلم من محاب الله، وتحقير ما حقره العلم مما سوى ذلك.
فإذا عظّمت العظيم وحقّرت الحقير فُتحت لك أبواب العبادات القلبية الشريفة؛ فالزهد في أصله تعظيم ما عظمه الله من هموم الآخرة، وتحقير ما حقره الله من الدنيا وزينتها.
والولاء والبراء كذلك؛ منشؤه تعظيم التوحيد ومن تلبس به، وتحقير الكفر وذويه.
والشجاعة والكرم والعزة وقول الحق والتوكل والخوف من الله والرجاء والإخلاص كلها تُفهم من باب تعظيم ما عظمه الله من الثواب، وتحقير ما حقره الله من فتات الدنيا ورضا الخلق وأسباب قوتهم.
ثم ينتقل المعنى للعبادات البدنية فالصلاة تعظيم لحق الله في الوقت، وتحقير لما صغره الله من تتبع للمعايش والكسب والنوم، والصوم ترك للحقير لأجل نوال العظيم، والزكاة أظهر وهكذا.
هذه قاعدة من عقلها دخل العلم وما بعده من عبادات بكلّ كلّه ولم يخرج منها إلا بخروج روحه.
المذهب نصٌ من الإمام أو قياسٌ على مأخذه:


"وكان أبو بكر الأعين يسأل الأثرم فأخذ بعض المسائل التي كان يدونها الأثرم عن أبي عبد الله فدفعها إلى صالح فعرضها على أبي عبد الله وكان فيها مسائل في الحيض فقال: أي هذا من كلامي، وهذا ليس من كلامي. فقيل للأثرم؟ فقال: إنما أقيسه على قوله.
وكذلك الخرقي على هذا عوّل عندي والله أعلم، واختار أن يقيس على قوله"

انظر: تهذيب الأجوبة لابن حامد (١/ ٣٨٤ - ٣٨٥).
من المعاني العظيمة أن المضطر إذا صارت الميتة بحقّه حلالًا فعليه ألا يتناولها برغبة، وعليه حينها واجبان؛ العمل القلبي بكراهية الوقوع فيه، والعمل البدني ألا يتعدى ما يسد رمقه.
وهذا وجه من أوجه تفسير معنى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد)
أن باغ: من البغية والرغبة والشهوة.
قال الإمام الطبري في تفسيره (٣/ ٦٢):

"وقال آخرون: تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولاعاد فوق ما لابد له منه"
ثم روى فقال:

"عن إسماعيل السُّدِّيّ -من طريق أسباط- ﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد﴾: أمّا باغٍ: فيبتغي فيه شهوته. وأما العادي: فيتعدّى في أكله؛ يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قُوتًا، ما يُمسك به نفسَه حتى يبلغ حاجته"

قلتُ:
وآية المضطر الصادق -في كل مقام- ألا يكون راغبًا فيما استحله برخصة الاضطرار، ولا زائدًا عن مقدار الحاجة الضرورية، وبعض من يدعي الاضطرار يفضحه تلذذه وأمارات رغبته.
باستقراء تراجم حنابلة الشام وسماعات مجالسهم المخطوطة نجد أن سلم تعلم في النحو عندهم: "الطرفة" للشمس ابن عبد الهادي، ثم"ملحة الإعراب" للحريري، ثم"ألفية ابن مالك".
ولشقيق ابن المبرد أحمد بن حسن شرح على الملحة اسمه: كتاب السرحة شرح الملحة .
وممن حفظ المُلحة: الحافظ ابن حجر، والقاضي أحمد بن إبراهيم بن نصر الله الكناني الحنبلي وقد حفظ نصفها في ليلة، والشيخ الشويكي مفتي الحنابلة بدمشق، وممن حفظها وحفظ معها ألفية ابن مالك= العلامة ابن قندس الحنبلي.
وإلى اليوم تجد حنابلة الشام يتواصون بحفظها؛ وممن يحفظها ويوصيني دائمًا بحفظها شيخي القاضي زين العابدين بن حسين بن عبد الله الشيباني الدمشقي الحنبلي -أطال الله عمره وجزاه عنّي خيرًا-.
والملحة إلى اليوم مدار اهتمام المتفقهة في حضرموت وزبيد كذلك.
وهي من أعذب الأنظام النحوية وأسلسها وأخفها روحًا، وهذا رابط سماعي لها بصوت الشيخ الجميل: خالد الحمدان -بارك الله له وزاده-، واختياراته في قناته وطريقة أدائه دالة على علوّ كعبه في الذوق والعلم.

https://youtu.be/Jbz7b6VMNHo
نهى الله عن إلصاق وصف الموت بالشهيد بأربعة أوجه:
الوجه الأول: النهي أن يعد الشهيد نفسه ميتًا؛ على قراءة "ولا يحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا"
الوجه الثاني: النهي أن يظن ويحسبه من حوله ميتًا؛ على قراءة "ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا"
هذان نهيان قلبيان.
الوجه الثالث: النهي عن الانتقال من النية للتلفظ بوصفه بالموت؛ "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات"
وهذا نهي للسان.
الوجه الرابع: عدم الصلاة عليه؛ لأن الصلاة دعاء وشفاعة، والشهيد موعود بغفران ذنوبه مع أول قطرة من دمه، ويشفع لغيره.
وهذا نهي بدني.
فاجتمع كون القلب واللسان والبدن متفقة على الحكم بحياته الحياة الحقيقية، ومنع أن يعامل معاملة الأموات من كل وجه.
يذكر الفقهاء تعليلات عدة لتسمية الشهيد بهذا الاسم، وهي كيفما قلبتها دالّة على شرف هذا المقام.
منها: أنه مشهود له بالجنة، أو أنه يقدُم يوم القيامة ومعه شاهد من دمه، أو أنه أشهد الخلقَ على صدقه في دعواه ومعتقده، أو أنه شاهد بمعنى الحاضر الذي لا يغيب لأنه حي عند ربه يرزق، وحي في ذاكرة من عرفه، أو أن الصالحين مطبقين على الشهادة لأهل هذا المسلك بالخير، أو أن ميتته مشهودة من الملائكة الذين يتسابقون لشرف قبض روحه، أو أن روحه تشهد الجنة قبل الأرواح الأخرى.
وإنّك لو نظرت للقرآن خليًا من أوضار الدنيا وأثقالها فلن تجد أطيب ميتة من القتل في سبيل الله.
في قوله تعالى: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون"
روي عن الحسن البصري وغيره قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم حتى لا يجترئ عليهم الفساق.

وعن إبراهيم النَّخْعي -من طريق منصور- في قوله: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾، قال: كانوا يكرَهون للمؤمنين أن يُستذلوا، وكانوا إذا قدروا عَفوا.

وعليه؛ فمن أصابه بغي وتجاوز للحد الشرعي فله الانتصار بالدعاء وغيره، دون أن يقع هو في بغي وتجاوز.
والعفو مستحب شرط أن يكون عن مقدرة لا عجز.
والذي يتأمل في عبادة الانتصاف من الظالم يجد فيها محاسن وفيرة؛ منها أن المظلوم حال دعائه يشهد اسم الله العدل واسمه المنتقم واسمه الجبار واسمه القدير.
ومنها أن المظلوم يهبّ لمواسم الطاعات ومظان الدعوات المستجابات كآخر الليل بل قد يسافر لعمرة مخصوصة للدعاء على ظالميه ويقدم بين يديها انكسارًا لعظم غبنه.
ومنها أنّ المظلوم دائم اليقظة والتعلق بالله الذي يملك حاجته في الانتصاف.
ومنها أن المظلوم متلبس بحالي الرجاء والخوف، ممتنع عن عوائق الاستجابة مما يغضب الله ليتحقق مراده.
ومنها أن المظلوم منكسر بطبعه؛ وقد يهبه هذا الانكسار إخباتًا في عبادات أخرى كالذكر وتلاوة القرآن.

ولا عجب أن تجد من سِيق إلى مدارج التعبد بسبب مظلمة وقعت عليه، فكانت شرًا في ظاهرها، خيرًا في عاجلها وآجلها.
انتهيت من هذا الكتاب الآن، وهو -برأيي- أنسب كتب الجمع بين الصحيحين للحفظ، يصلح أن تدلوا عليه طلابكم النابهين، فهو مرتب وفيه من المزايا حسب ما ظهر لي:
- تبويبه واضح مباشر جميل.
- تقديم الآيات ذات المعنى الملائم بين يدي الأحاديث، وقد اختاروا أصول الأدلة وجوامعها.
- الاقتصار على الصحابي غالبًا دون بقية الإسناد.
- التركيز على الشاهد في الأحاديث المطولة.
- إتباعه بما يشبه الحاشية لشرح الغريب من الكلمات والأماكن والمقادير والموازين.

أتوقع أن تدور عليه برامج كثيرة في الأيام القادمة.
روي عن مجاهد أنه قال: "إن القرآن يقول: إني معك ما اتبعتني، فإن لم تعمل بي اتبعتك" [١]

ومعناه: أن القرآن يحفظ العبد ما دام متبعًا، فإذا لم يعمل به تبعه القرآن في أهوائه؛ فلا يعجزه أن يستلّ لفكرته الباطلة من القرآن منزعًا، وهذا ضلال مخيف؛ ألا تحرم القرآن بل تحرم هدايته.

—————-——
[١] أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة (١/ ٤١٣)
ساق قوام السنّة الأصبهاني (ت:٥٣٥ هـ) معتقد أهل السنة، وجعل منه:

"والتهجد لقيام الليل لا سيّما لحملة القرآن"

الحجة في بيان المحجة ص٥٢٩
"وهكذا تجد من عرف نوعًا من العلم وامتاز به على العامة الذين لا يعرفونه فيبقى بجهله نافيًا لما لم يعلمه.
وبنو آدم ضلالهم فيما جحدوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به. قال تعالى: ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله﴾"



الإمام العبقري تقي الدين ابن تيمية (١٧/ ٣٣٦)
من تعبيرات الإمام الشاطبي حين وصف تأليفه كتابه الموافقات (١/ ١٠) :
"ونابذتُ الشواغل دون تهذيبه وتأليفه"

عوائق تصنيف هذا النوع من الكتب الحاجة للتركيز وتتابع الفكر دون قطع الحبل المتصل بينها.
ستنبت في قلبك معاني لا حصر لها حين تستحضر أن كليم الله كان يتأتئ مع الناس.
الندمُ عتاب النفس؛ وكما أن كثرة العتب تدمر صلتك بالناس فكذلك يصنع الندم وكثرته مع نفسك.
#أنظار_في_علم_الإيمان:


يعزم العبد على ترك معصية ألِفها، فتأتيه مصيبة فور عزمه، حينها يوسوس له الشيطان أن تركك للمعصية جلب لك الضرر والشدة.
فيشتغل قلبه بما نزل عليه من مصيبة ويترك المعصية ذهولًا عنها واشتغالًا بما حلّ به.
والحقّ أن تلك المصيبة ظاهرها الشدة وباطنها السعة والرحمة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن تركه للمعصية تحقق، فلا عذر له في ادعاء عدم القدرة على تركها، وبهذا أُعين في معركة الصبر.
الوجه الثاني: بعد زوال المصيبة يستحيي من الله أن يعود لسابق معصيته التي قد تركها وحُسمت مادة الألفة من قلبه عنها؛ وبهذا أُعين في معركة الشكر.
الوجه الثالث: أن المصيبة نوع عقوبة على ما سبق من اقترافه للمعصية قبل عزمه؛ وبهذا أُعين في معركة التوبة وتكفير الذنوب.

وبهذه الأوجه تتجلى نِعم الله علينا في ما نحب ونكره، والموفق يستنبط من بئر عقله ما يروي ظمأ شدّته حتى تزول بغيث الفرج.
الحذاؤون الجدد:

روى ابن عدي في الكامل (٢/ ٨٥) عن يحيى بن معين أنه قال: "أسيد بْن زيد الجمال كذاب، ذهبت إليه إلى الكرخ، ونزل فِي دار الحذائين، فأردت أن أقول لَهُ: يا كذاب؛ ففرقت من شفار الحذائين"

أي خفتُ من سكاكينهم.

شفار الحذائين بالأمس هي هشتاقات القطيع اليوم؛ والتترس بالعوام مستمر.
يقول النبي ﷺ:"إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي من يستشرف لها تستشرفه، فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل" [١]

استشراف الفتن يعني: التصدي والتعرض والتصدر لمعالجة الفتن بثقة وحسم ولغة قاطعة.
وتستشرفه أي تهلكه.
والفتن -كما قال الشاطبي-: "وضابطها: ما صد عن طاعة الله" [٢]
فمن مدّ يده للفتن بالتصدر، مدّت يدها له بالإشغال والتيه والهلاك.
ولا أشكّ طرفة عين أن كثيرًا من قضايا الرأي العام الدارجة إنما هي فتن بالمعنى الشاطبي الذي جعله عامًا في كل ما صدّ وأشغل.
وأن من خفة العقل أن يفرد المرء صدره -دائمًا- تحت باب: الموقف الشرعي من كذا، الأمر الفلاني في الميزان.
وأن السكوت -والله- لا علاقة له بالجبن وخوف الصدع بالحق أو ضبابية المنهج؛ بل هو كف عما ذم الله الاستشراف له، هذا في أصحاب النوايا الحسنة ممن يظن الدنيا ستتيه دون رأيه الشريف، أما من تصدر لجاه أو مال فبئس ما أورد نفسه، وإن حسب ركوب الموجات الإعلامية والأحداث الساخنة ذكاء، فصنيعه لا يقل احتيالًا عن من أكل الدنيا بالدين صراحة.
هذا في أغلب المسائل، أنا ما وجب بيانه حقًا فلا يشمله الكلام.

————-
[١] رواه البخاري (٣٦٠١) ومسلم (٢٨٨٦)
[٢] الاعتصام (٢/ ٢٣٥)
أحد الشيوخ الفضلاء يسمّي جيل الجدّات في قريته "المفطّنات"، وسبب التسمية أنهنّ يقلن دائمًا: افطنوا لفلان فهو رقيق الحال، افطنوا لفلان فهو مريض.
والمفطّن -بالدارجة والفصحى- من ينبّه غيره لأمر قد خفي عنه.
وما أحوجنا للمفطّن الذي يخبر من حوله بمكامن الخير، ومواطن البذل، ومقامات العطاء.
افطنوا لدقيق أحوال من تحبوّن، ولو كانوا -لفرط التعفف والحياء- لا ينطقون.
ختم شيخي البلاغي درس البارحة بوصية في حسن الخلق، واستشهد ببيت بالفارسية:

من تُرا حاجی بگویم
تو مُرا حاجی بگُو

أي:

قل لي أنت يا حاج
و أنا أقول لك يا حاج

وهو بيت يساق مساق المثَل، يقال في المعاملة بالمجاملة، وتمشية الحال، وفضيلة المداراة.
2025/10/24 14:03:44
Back to Top
HTML Embed Code: