Telegram Web Link
عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْمَيِّتِ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ يُبْصِرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ حَقِيقَةَ الْمَوْتِ الَّتِي لَا يُخْطِئُهَا أَحَدٌ، وَهِيَ مُنْتَهَى كُلِّ مَخْلُوقٍ حَيٍّ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظَاً) [ضعيف، أخرجه: البيهقي/شعب الإيمان(10072)(13/136)]، فَالْعَاقِلُ مَنْ يُبَادِرُ الْمَوْتَ، وَيُعَمِّرُ مَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِهِ بِالصَّالِحَاتِ، وَيَرْجُو أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِخَيْرٍ؛ مُسْتَهْدِيَاً بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِأَعْرَابِيٍّ وَهُوَ يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَا مَنْ لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ، ‌وَلَا ‌تُخَالِطْهُ ‌الظُّنُونُ، وَلَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الْحَوَادِثُ، وَلَا يَخْشَى الدَّوَائِرَ، يَعْلَمُ مَثَاقِيلَ الْجِبَالِ، وَمَكَايِيلَ الْبِحَارِ، وَعَدَدَ قَطْرِ الْأَمْطَارِ، وَعَدَدَ وَرَقِ الْأَشْجَارِ، وَعَدَدَ مَا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَأَشْرَقَ عَلَيْهِ النَّهَارُ، لَا تُوَارِي مِنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، وَلَا أَرْضٌ أَرْضًا، وَلَا بَحْرٌ مَا فِي قَعْرِهِ، وَلَا جَبَلٌ مَا فِي وَعْرِهِ، اجْعَلْ خَيْرَ عُمُرِي آخِرَهُ، وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ، وَخَيْرَ أَيَّامِى يَوْمَ أَلْقَاكَ فِيهِ، فَوَكَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَعْرَابِيِّ رَجُلًا، فَقَالَ: (إِذَا صَلَّى فَائْتِنِي بِهِ) فَلَمَّا صَلَّى أَتَاهُ، ... فَوَهَبَ لَهُ ذَهَبَاً، قَالَ: (هَلْ تَدْرِي لِمَ وَهَبْتُ لَكَ الذَّهَبَ؟) قَالَ: لِلرَّحِمِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (إِنَّ لِلرَّحِمِ حَقًّا، وَلَكِنْ وَهَبْتُ لَكَ الذَّهَبَ لِحُسْنِ ثَنَائِكَ عَلَى اللَّهِ عز وجل). [ضعيف، أخرجه: الطبراني/المعجم الأوسط(9448)(9/ 172)]
وَمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي إِذْ سَمِعْتُ مُتَكَلِّمًا يَقُولُ: "اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، ‌وَلَكَ ‌الْمُلْكُ ‌كُلُّهُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، إِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، فَأَهْلٌ أَنْ تُحْمَدَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي جَمِيعَ مَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِي، وَاعْصِمْنِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي، وَارْزُقْنِي عَمَلًا زَاكِيًا تَرْضَى بِهِ عَنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (ذَاكَ مَلَكٌ أَتَاكَ يُعَلِّمُكَ تَحْمِيدَ رَبِّكَ). [ضعيف، أخرجه: أحمد/مسنده(23355)(38/ 378)]
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (وَصَلِّ عَلَى الْجَنَائِزِ لَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يُحْزِنَكَ) الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ لِلْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ، فَإِذَا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ؛ سَقَطَ الْإِثْمُ عَنِ الْآخَرِينَ، وَصَلَاةُ الْحَيِّ عَلَى الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ يُقَابِلُهَا اللهُ عز وجل بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ؛ فَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ)، قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: (مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(1325)(2/ 88)، مسلم/صحيحه(945)(2/652)]
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ؛ فَلَهُ قِيرَاطٌ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مِثْلُ قِيرَاطِنَا هَذَا؟ قَالَ: (لَا، بَلْ مِثْلُ أُحُدٍ أَوْ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ). [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(6305)(10/ 392)]
وَفِي صَلَاةِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمَيِّتِ تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ، وَقِصَرِ الْأَجَلِ، وَوَحْشَةِ الْقَبْرِ، وَحَيَاةِ الْبَرْزَخِ، وَطُولِ الرُّقَادِ إِلَى حِينِ الْبَعْثِ، فَيَحْزَنُ الْمُؤْمِنُ عَلَى تَقْصِيرِهِ فِي حَقِّ اللهِ، وَالْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ مَا يَطْمَحُ لَهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، فَلَمْ يَزَلْ حَزِينَاً يَتَحَرَّى الطَّاعَةَ، وَيَجْتَنِبُ الْمَعْصِيَةَ حَتَّى يَلْقَى اللهَ؛ فَعَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الطِّبيبِ رحمه الله، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ، يَقُولُ: «شَغَلَ الْمَوْتُ قُلُوبَ الْمُتَّقِينَ عَنِ الدُّنْيَا، فَوَاللَّهِ مَا رَجَعُوا مِنْهَا إِلَى سُرُورٍ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِغُصَصِهِ وَكَرْبِهِ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(94)(ص70)]
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْهُجَيْمِيِّ رحمه الله، قَالَ: قَالَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ: "إِلَهِي: خَلَقْتَنِي وَلَمْ تُؤَامِرْنِي فِي خَلْقِي وَخَلَقْتَ مَعِي عَدُوًّا، وَجَعَلْتَهُ يَجْرِي مِنِّي مَجْرَى الدَّمِ، وَجَعَلْتَهُ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ، ثُمَّ قُلْتَ لِي اسْتَمْسِكْ، إِلَهِي: كَيْفَ أَسْتَمْسِكُ بِأَنْ لَمْ تُمَسِّكْنِي، إِلَهِي: فِي الدُّنْيَا الْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْعِقَابُ وَالْحِسَابُ، فَأَيْنَ الرَّاحَةُ وَالْفَرَحُ؟". [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(95)(ص70)]
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ رحمه الله، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزَّاهِدَ، يَقُولُ: «إِلَهِي: غَيَّبْتَ عَنِّي أَجَلِي، وَأَحْصَيْتَ عَلَيَّ عَمَلِي، وَلَا أَدْرِي إِلَى أَيِّ الدَّارَيْنِ تَبْعَثُنِي، فَقَدْ أَوْقَفْتَنِي مَوَاقِفَ الْمَحْزُونِينَ أَبَدًا مَا أَبْقَيْتَنِي». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(96)(ص70)]
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْحَزِينَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَتَعَرَّضُ كُلَّ خَيْرٍ) دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْحُزْنِ عَلَى فَوْتِ الصَّالِحَاتِ، وَالشُّعُورِ الدَّائِمِ بِالتَّقْصِيرِ فِي جَنْبِ رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، وَالْخَوْفِ الْمُسْتَحْكِمِ مِنَ الْإِخْفَاقِ فِي بُلُوغِ الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّاتِ، وَإِنَّهُ الْحَالُ الْمُلَازِمُ لِقُلُوبِ الْأَكَابِرِ؛ فَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ رحمه الله، قَالَ: كَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه، رَجُلًا طَوِيلَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ، وَكَانَ عَامَّةُ كَلَامِهِ: «عَائِذٌ بِالرَّحْمَنِ مِنْ فِتْنَةٍ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(35) (ص44)]
وَعَنْ يُونُسَ رحمه الله، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَاللَّهِ لَا يُصْبِحُ إِلَّا حَزِينًا، وَلَا يُمْسِي إِلَّا حَزِينًا» قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ، قَلَّ مَا تَلَقَّاهُ إِلَّا وَكَأَنَّهُ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ حَدِيثًا". [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(35)(ص45)]
وَعَنْهُ رحمه الله، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَطْوَلَ حُزْنًا مِنَ الْحَسَنِ". [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(36)(ص 45)]
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ جَعْفَرٍ رحمه الله، قَالَ: (قَالَ: وَيُسْمَعُ) قَالَ لِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: "لَوْ رَأَيْتَ الْحَسَنَ، لَقُلْتَ: قَدْ بُثَّ عَلَيْهِ حُزْنُ الْخَلَائِقِ مِنْ طُولِ تِلْكَ الدَمْعَةِ، وَكَثْرَةِ ذَلِكَ النَشِيجِ، وَلَوْ رَأَيْتَ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ، لَقُلْتَ مُبْتَلًى". [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(41)(ص 48)]
وَعَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ رحمه الله، قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ لَا يَكَادُ يَبْكِي، إِنَّمَا هُوَ مُنْتَفِضٌ أَبَدًا كَأَنَّ عَلَيْهِ حُزْنُ الْخَلْقِ". [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(43) (ص 49)]
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبَ رحمه الله، قَالَ: قَالَ دَاوُدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيْ رَبِّ أَيْنَ أَلْقَاكَ»؟ قَالَ: «تَلْقَانِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(61)(ص 56)]
وَعَنْ عُثْمَانَ أَبِي سَعِيدٍ الْبَصْرِيِّ رحمه الله، قَالَ: "سُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، عَنِ الْحُزْنِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟، قَالَ: هُوَ الْأَسَفُ، فَقِيلَ لَهُ: الْمَحْزُونُ يَتَهَنَّأُ بِمَا فِيهِ؟، قَالَ: لَا، قِيلَ: وَلِمَ ذَاكَ؟، قَالَ: لِأَنَّ الْمَحْزُونَ خَائِفٌ، وَمَنْ خَافَ اتَّقَى، وَمِنِ اتَّقَى حَذِرَ، وَمِنْ حَذِرَ حَاسَبَ نَفْسَهُ، وَسُئِلَ عَالِمٌ آخَرُ عَنِ الْحُزْنِ مَا هُوَ؟، وَمَا مَوْقِعُهُ مِنَ الْقَلْبِ؟، قَالَ: أَمَا مَوْقِعُهُ فِي الْقَلْبِ فَهُوَ مَخَافَةُ أَنْ يُقْذَفَ، وَأَمَّا مَا هُوَ فَهَمُّ التَعْظِيمِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْحَيَاءُ مِنْهُ، ثُمَّ أَرْخَى عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ مَحْزُونًا بَكَى فِي أُمَّةٍ لَرَحِمَ اللَّهُ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِبُكَائِهِ، وَسُئِلَ عَالِمٌ آخِرُ عَنِ الْمَحْزُونِينَ لِأَيِّ شَيْءٍ حَزِنُوا؟ قَالَ: حَزِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَلَهَّفُوا عَلَيْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُطَابِقَةً لِرِضَا رَبِّ الْعَالَمِينَ". [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(76)(ص 62)]
وَإِنَّ اللهَ عز وجل يُحِبُّ هَذَا الْحُزْنَ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ). [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(2)(ص 28)]
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رحمه الله، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ، يَقُولُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ طُولُ الْحُزْنِ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(104)(ص 73)]
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ رحمه الله: «الْحُزْنُ مَلَكٌ لَا يَسْكُنُ إِلَّا قَلْبًا مُطَهَّرًا، وَهُوَ أَوَّلُ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(162)(ص 95)]
وَقَالَ رحمه الله: «لَا تَغْتَمَّ إِلَّا بِمَا يَضُرُّكَ غَدًا، وَلَا تَفْرَحْ إِلَّا بِمَا يَنْفَعُكَ غَدًا». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(163)(ص 96)]
وَبِهَذَا الحُزْنِ تُمَحَّصُ السَّيِّئَاتُ، وَتَرْبُو الْحَسَنَاتُ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ ﴿‌مَنْ ‌يَعْمَلْ ‌سُوءًا ‌يُجْزَ ‌بِهِ﴾ [النساء: 123]؟، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ يُصِيبُكَ الْأَذَى؟ فَذَاكَ الَّذِي تُجْزَوْنَ بِهِ). [ضعيف، أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(86)(ص 66)]
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْخَوَّاصِ رحمه الله يَقُولُ: «الْحُزْنُ جِلَاءُ الْقُلُوبِ، بِهِ تَسْتَلِينُ مَوَاضِعُ الْفِكْرَةِ، ثُمَّ بَكَى». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(19)(ص37)]
وَعَنِ الْحَسَنِ رحمه الله، قَالَ: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِمِثْلِ طُولِ الْحُزْنِ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(21)(ص 38)]
وَعَنْهُ رحمه الله قَالَ: «إِنَّ أَكْثَرَ مَا يُرَى لِلْعَبْدِ فِي صَحِيفَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا يُسَرُّ بِهِ الْهَمُّ وَالْحُزْنُ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(22)(ص 38)]
وَعَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانِ رحمه الله، قَالَ: «الْهَمُّ وَالْحُزْنُ يَزِيدَانِ فِي الْحَسَنَاتِ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(23)(ص 39)]
وَإِنَّ بَرِيدَ حُزْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْقُرْآنُ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ فَأَتَيْتُ مُنْتَسِبًا فَانْتَسَبْتُ لَهُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا يَا ابْنَ أَخِي، بَلَغَنِي أَنَّكَ حَسَنُ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا). [ضعيف، أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(87)(ص 67)]
وَعَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ رحمه الله، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: «يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِحُزْنِهِ إِذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ، وَبِبُكَائِهِ إِذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الهم والحزن(137)(ص 86)]
وَإِنَّ حُزْنَاً كَمِثْلِ حُزْنِ الْأَخْيَارِ؛ يُقَابِلُهُ اللهُ بِالْفَرَجِ وَالْأَمَانِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَوْقِفِ، وَطُولِ الْحِسَابِ، فَيُظِلُّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ، وَيُنْزِلُهُ مِنَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ.
۞۞۞۞
الْكَشْفُ عَنْ صِفَاتِ مَنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ الْعَرْشِ
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللهَ مَعَهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ إِلَى نَفْسِهَا فَتَرَكَهَا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ أَحَبَّ بِجِلَالِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). [ضعيف، أخرجه: الطبراني/المعجم الكبير(7935)(8/ 240)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: فِيهِ فَضْلُ الْمُرَاقَبَةِ، وَهِيَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الْإِحْسَانِ؛ تَعْنِي: دَوَامَ عِلْمِ الْعَبْدِ وَتَيَقُّنِهِ بِاطِّلَاعِ الْحَقِّ سبحانه وتعالى عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. [انظر: ابن القيم/مدارج السالكين(2/68)]
قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ رحمه الله: الْمُرَاقَبَةُ دَوَامُ عِلْمِ الْقَلْبِ بِعِلْمِ اللهِ عز وجل بِمَا يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ فِي السُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ، عِلْمَاً لَازِمَاً مُقْتَرِنَاً بِصَفَاءِ الْيَقِينِ. [المحاسبي/الوصايا(ص313)]
وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ؛ فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي، فَقَالَ: (اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَى...). [حسن، أخرجه: الطبراني/المعجم الكبير(374)(20/ 175)]
فَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْمُرَاقَبَةُ فِي الْعَبْدِ؛ وَرَثَتْهُ سَلَامَةً لِقَلْبِهِ، وَاسْتِقَامَةً لِجَوَارِحِهِ، وَتَعْظِيمًا لِشَعَائِرِهِ، وَحِفْظًا لِفَرَائِضِهِ، وَحَذَرًا مِنْ اِنْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى شَيْءٍ أَوْ يُدْبِرُ عَنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي رِضَا اَللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ قَالَ ابْنُ الْقَيِمِ رحمه الله: يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَفِي الْعَمَلِ، هَلْ يُحَرِّكُهُ عَلَيْهِ هَوَى النَّفْسِ أَوْ الْمُحَرِّكُ لَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى خَاصَّةً؟ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمْضَاهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ. قَالَ الْحَسَنُ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا وَقَفَ عِنْدَ هَمِّهِ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ مَضَى، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ تَأَخَّرَ.
فَهَذِهِ مُرَاقَبَةُ اَلْعَبْدِ فِي اَلطَّاعَةِ، أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُخْلِصًا، وَمُرَاقَبَتُهُ فِي اَلْمَعْصِيَةِ تَكُونُ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ، وَمُرَاقَبَتُهُ فِي اَلْمُبَاحِ تَكُونُ بِمُرَاعَاةِ اَلْأَدَبِ وَالشُّكْرِ عَلَى اَلنِّعَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ نِعْمَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ اَلشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْلُو مِنْ بَلِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ اَلصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ اَلْمُرَاقَبَةِ. [ابن القيم/إغاثة اللهفان(1/81)]
وَلِذَا كَانَتْ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ أَعْظَمَ الْقُرُبَاتِ، وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ؛ قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ رحمه الله: "أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ: مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ". [الغزالي/إحياء علوم الدين(4/ 397)]
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ رحمه الله: "أَفْضَلُ مَا يُلْزِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: الْمُحَاسَبَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ وَسِيَاسَةُ عَمَلِهِ بِالْعِلْمِ". [الغزالي/إحياء علوم الدين(4/ 397)]
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَابِلُ أَهْلَ الْمُرَاقَبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَمْنِ الدَّائِمِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ فَيُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ وَيُكْرِمُهُمْ بِأَلْوَانِ النَّعِيمِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 112]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: 26]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات: 41 - 44].

الثَّانِيَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ مَنْ عَصَمَ فَرْجَهُ عَنِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّهُ دَلِيلُ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَخَشْيَةِ الرَّحْمَنِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَالْفُرْقَانِ، وَاسْتِصْحَابِهِ بُرْهَانَ رَبِّهِ عَلَى الدَّوَامِ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الزِّنَا مِنْ كَبَائِرِ الذَّنْبِ، بِهِ تُدَنَّسُ الْفُرُشُ، وَتَخْتَلِطُ الْأَنْسَابُ، وَتَتَفَشَّى الْعِلَلُ وَالْأَسْقَامُ، وَتَزُولُ النِّعَمُ، وَتَزِيدُ الْفِتَنُ، وَتُحْرَمُ الْأَنْفُسُ مَعِيَّةَ الرَّحْمَنِ؛ فَلَمْ يَجْنَحْ إلَيْهِ، وَلَمْ يُطَاوِعْهَا عَلَيْهِ، لَا لِعَجْزٍ فِي بَدَنِهِ، وَلَا لِضَعْفٍ فِي إِرْبِهِ، وَلَا لِقِلَّةٍ فِي مَالِهِ.. إنَّمَا خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُبًّا فِي رِضَاهُ، وَحِرْصًا أَنْ يَكُونَ ضِمْنَ قَوَافِلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاءَتْ نُعُوتُهُمْ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 11]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57 - 61].
فَلِلَّهُ دَرُّهُ مِنْ رَجُلٍ انْتَصَرَ لِلَّهِ عَلَى شَهْوَتِهِ، وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: أَنَّى لِلشَّهْوَةِ الْبَهِيمِيَّةِ أَنْ تَحْرِفَنِي عَنْ سَبِيلِ هُدَايَ، وَتَمْنَعَنِي مِنْ رِضَا مَوْلَاي.
فَهَلْ شَهْوَةُ الْفَرْجِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ ذَاتِ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ تَرْقَى عِنْدَ الْمُرَاقِبِ الْمُحِبِّ لَذَّةَ الْقُرْبِ، وَالْأُنْسَ بِالذِّكْرِ، وَحَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ وَهَلِ الْمُؤْمِنُ الْمُحِبُّ يُطِيقُ أَنْ يُغَاضِبَ اللَّهَ، وَيُؤْثِرَ شَهْوَةَ سَاعَةٍ مَعَ فَاجِرَةٍ، يَفُوتُ بِهَا الْهَنَاءُ حَالَ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ؟
وَهَلِ الْمُؤْمِنُ الْمُحِبُّ يُطِيقُ أَنْ يَكُونَ جَهُولًا خَؤُونًا يُدْخِلُ فِي النَّاسِ أَوْلَادَ الزِّنَا، وَهُوَ الَّذِي يَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي ‌كَيْدَ ‌الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: 52]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿‌وَلَا ‌تَقْرَبُوا ‌الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿قَالَ رَبِّ ‌السِّجْنُ ‌أَحَبُّ ‌إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: 33].
وَهَلِ الْمُؤْمُنُ الْمُحِبُّ يِطُيقُ أَنْ يَتَجَاهَلَ خِطَابَ نِبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَهْتِفُ بِالشَّبَابِ قَائِلَاً: (يَا مَعْشَرَ شَبَابِ قُرَيْشٍ، ‌احْفَظُوا ‌فُرُوجَكُمْ، أَلَا مَنْ حَفِظَ فَرْجَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ). [صحيح، أخرجه: الطبراني/المعجم الأوسط(6850)(7/ 61)]
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: (يا فِتْيانَ قرْيشٍ! لا تَزْنوا، فإنَّه مَنْ سَلِمَ اللهُ لَهُ شَبَابَهُ؛ دَخَلَ الجنَّةَ). [حسن، أخرجه: البيهقي/شعب الإيمان(5043)(7/ 302)]
وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الشَّبَابِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهِمْ أَشَدُّ، وَجُرْأَتَهُمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَكْثَرُ، وَإِضَافَةُ الشَّبَابِ إلَى قُرَيْشٍ؛ لِلتَّشْرِيفِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ عَامٌّ لِفِئَةِ الشَّبَابِ جَمِيعًا.
فَلِأَهْلِ الْغِفَّةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِحْسَانِ كَرَامَةٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿‌نُصِيبُ ‌بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يوسف: 56-57]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿‌إِنَّ ‌الْمُتَّقِينَ ‌فِي ‌ظِلَالٍ وَعُيُونٍ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات: 41-44].
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌مَنْ ‌حَفِظَ ‌مَا ‌بَيْنَ ‌فَقْمَيْهِ ‌وَفَخِذَيْهِ ‌دَخَلَ ‌الْجَنَّةَ) [حسن صحيح، أخرجه: الطبراني/معجمه الكبير(919)(1/ 311)]، يَعْنِي بِهَا لِسَانَهُ وَفَرْجَهُ.

الثَّالِثَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ حُبِّ الصَّالِحِينَ وَمُؤَاخَاتُهُمْ؛ تَعْظِيمَاً للهِ عز وجل، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ الرَّحْمَنِ؛ أَسْمَى مِنِ اجْتِمَاعِهَا بِبَاعِثِ الطَّبْعِ الَّذِي جُبِلَتْ عَلَيْهِ أُخُوَّةُ النَّسَبِ، أَوْ بِبَاعِثِ التِّجَارَةِ وَالْمَالِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ نُورِ بَصِيرَةٍ، وَصَفَاءِ سَرِيرَةٍ، سَمَتْ بِهِ الْقُلُوبُ إلَى أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ، فَلَمْ تُحِبَّ إِلَّا فِي اللَّهِ، وَلَمْ تُبْغِضْ إلَّا فِي اللَّهِ، مُتَّعِظَةً بِحَدِيثٍ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ) قُلْنَا: الصَّلَاةُ قَالَ: (إِنَّ الصَّلَاةَ حَسَنَةٌ وَمَا هِيَ بِهَا) فَذَكَرُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يُصِيبُونَ قَالَ: (أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ (عز وجل. [حسن بشواهده، أخرجه: أحمد/مسنده(18524)(3/ ٤٨٨)]
فَمَنَحَهُمُ اللهُ مَحَبَّتَهُ؛ فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: (حَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى الْمُتَحَابِّينَ، هُمْ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي). [حسن، أخرجه: ابن أبي الدنيا/الإخوان(9)(ص 51)]
وَأَلْقَى عَلَى وُجُوهِهِمُ النُّورَ، وَأَجْلَسَهُمْ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، وَأَمَّنَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ الْمَخُوفَاتِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَعِبَادًا يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ) قِيلَ: مَنْ هُمْ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ، قَالَ: (هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ وَهُمْ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ) ثُمَّ تَلَا: ﴿‌أَلَا ‌إِنَّ ‌أَوْلِيَاءَ ‌اللَّهِ ‌لَا ‌خَوْفٌ ‌عَلَيْهِمْ ‌وَلَا ‌هُمْ ‌يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: 62]. [حسن، أخرجه: ابن أبي الدنيا/الإخوان(5)(ص 45)]
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ؛ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهَ عز وجل عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ)، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْعَتْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: (هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ عز وجل وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللهُ عز وجل لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ؛ لِيُجْلِسَهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). [ضعيف، أخرجه: ابن أبي الدنيا/الإخوان(6)(ص 47)]
۞۞۞۞
الْكَشْفُ عَنْ صِفَاتِ مَنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ الْعَرْشِ
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ

عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ ‌فِي ‌ظِلِّ ‌العَرْشِ ‌يَوْمَ ‌القِيامَةِ ‌يَوْمَ ‌لَا ‌ظِلَّ ‌إِلَّا ظِلُّهِ: واصِلُ الرَّحِمِ يِزِيدُ الله فِي رِزْقِهِ ويَمُدُّ فِي أجَلِهِ، وامْرَأةٌ ماتَ زَوْجُها وَتَرَكَ عَلَيْهَا أَيْتَامَاً صِغَارَاً فَقَالَتْ: لَا أتَزَوَّجُ، أُقِيمُ على أيْتامِي حَتَّى يَمُوتُوا أَوْ يُغْنِيَهُمُ اللهُ، وَعَبْدٌ صَنَعَ طَعَامَاً فَأَضَافَ ضَيْفَهُ وَأَحْسَنَ نَفَقَتَهُ فَدَعَا عَلَيْهِ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ فَأَطَعَمَهُمْ لِوَجْهِ الله عز وجل). [ضعيف جداً، أخرجه: السيوطي/الجامع الصغير وزيادته(‌‌6327)(6327)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: فِيهِ فَضْلُ صِلَةِ الرَّحِمِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَآتِ ذَا ‌الْقُرْبَى ‌حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ﴾ [الإسراء: 26]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ رضي الله عنهما، أَخْبَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَاً طَوِيلَاً، حَتَّى قَالَ: (وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(7)(1/ 9)]
وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: "أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَأْخُذَنِي فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَأَوْصَانِي بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنْ أَدْبَرَتْ". [حسن، أخرجه: الطبراني/المعجم الصغير(758)(2/ 48)]
وَقَدْ حَرَّضَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ بِعَظِيمِ الْأَجْرِ، وَأَخْبَرَهُمْ: أَنَّهَا سَبِيلُ الْفَلَاحِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَآتِ ذَا ‌الْقُرْبَى ‌حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الروم: 38].
وَأَنَّهَا أَعْجَلُ الْأَعْمَالِ ثَوَابَاً عِنْدَ اللهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَيسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ فِيهِ أَعْجَلَ ثَوابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، ولَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ). [صحيح، أخرجه: البيهقي/السنن الكبرى(19898)(20/ 83)]
وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي جَيْأَةِ الْوَلَدِ، وَبَرَكَةِ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (صِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْخُلُقُ يُعَمِّرْنَ الدِّيَارَ وَيَزِدْنَ فِي الْأَعْمَارِ). [صحيح، أخرجه: البيهقي/شعب الإيمان(7599)(10/ 344)]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(2067)(3/ 56)، مسلم/صحيحه(2557)(4/982)]
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَنْ ‌سَرَّهُ ‌أَنْ ‌يُمَدَّ ‌لَهُ ‌فِي ‌عُمْرِهِ، ‌وَيُوَسَّعَ ‌لَهُ ‌فِي ‌رِزْقِهِ، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). [إسناده قوي، أخرجه: أحمد/مسنده(1213)(2/ 387)]
وَهِيَ سَبِيلٌ إِلَى الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ‌أَخْبِرْنِي ‌بِعَمَلٍ ‌يُدْخِلُنِي ‌الْجَنَّةَ، قَالَ: (مَا لَهُ مَا لَهُ)، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَرَبٌ مَا لَهُ، تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(1396)(2/ 104)، مسلم/صحيحه (13)(1/43)]

الثَّانِيَةُ: وَإِنَّ اللَّهَ يُكَافِئُ وَاصِلَ الرَّحِمِ بِإِظْلَالِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.

الثَّالِثَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَآثَرَتْ أَيْتَامَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَحَبَسَتْ نَفْسَهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ؛ لِتَرْعَى صِغَارَهَا حَتَّى يَكْبَرُوا وَيَرْشُدُوا، فَلِلَّهِ دَرُّهَا مِنْ امْرَأَةٍ فَقِهَتْ بِنُورِ بَصِيرَتِهَا قَدَاسَةَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ، وَشَرَفَ رِعَايَتِهَا، وَتَحْذِيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِضَاعَتِهَا؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ ‌حَقَّ ‌الضَّعِيفَيْنِ: ‌الْيَتِيمِ، ‌وَالْمَرْأَةِ) [حسن، أخرجه: ابن ماجه/سننه(3678)(2/ 1213)]، أَيْ: أُحَذِّرُ أَنْ يَضِيعَ حَقُّ الْيَتِيمِ؛ لِعِظَمِ الْإِثْمِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ.
وَحَرَصَتْ أَنْ تَكُونَ كَنِسَاءِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّهُنَّ حَانِيَاتٍ عَلَى صِغَارِهِنَّ، وَرَاعِيَاتٍ لِحَقِّ أَزْوَاجِهِنَّ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌خَيْرُ ‌نِسَاءٍ ‌رَكِبْنَ ‌الْإِبِلَ صَالِحُو نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(5082)(7/ 6)، مسلم/صحيحه(2527)(4/958)]
وَنَافَسَتْ عَلَى الْمَنْزِلَةِ الْأَعْلَى فِي الْآخِرَةِ أَنْ تَكُونَ فِي ظِلَالِ الْعَرْشِ، وَالْأَقْرَبِ مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ رضي الله عنه: (‌أَنَا ‌وَكَافِلُ ‌الْيَتِيمِ ‌فِي ‌الْجَنَّةِ هَكَذَا)، وَأَشَارَ بِالسَّبَابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئَاً. [أخرجه: البخاري/صحيحه(4998)(5/ 2032)]
قَالَ الْعِرَاقِيُّ رحمه الله: لَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ كَافِلِ الْيَتِيمِ يُشَبَّهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ شُبِّهَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْجَنَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّبِيِّ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ شَأْنُهُ أَنْ يُبعَثَ إلَى قَوْمٍ لَا يَعْقِلُونَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَيَكُونُ كَافِلًا لَهُمْ وَمُعَلِّمًا وَمُرْشِدًا، وَكَذَلِكَ كَافِلُ الْيَتِيمِ يَقُومُ بِكَفَالَةِ مَنْ لَا يَعْقِلُ أَمْرَ دِينِهِ بَلْ وَلَا دُنْيَاهُ، وَيُرْشِدُهُ وَيُعَلِّمُهُ وَيُحْسِنُ أَدَبَهُ فَظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ ذَلِكَ. [ابن حجر/فتح الباري(10/ 437)]
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَابَةِ وَالْوُسْطَى) قُرْبَ الْمَنْزِلَةِ حَالَةَ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ لِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَفَعَهُ: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ ‌يَفْتَحُ ‌بَابَ ‌الْجَنَّةِ، ‌فَإِذَا ‌امْرَأَةٌ ‌تُبَادِرُنِي، فَأَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ تَأَيَّمْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي). [الزرقاني/شرحه على الموطأ(4/ 534)]
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَنْ يَضُمُّ الْيَتِيمَ إلَيْهِ وَيُطْعِمُهُ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ الْبَتَّةَ، أَيْ: إدْخَالًا قَاطِعًا بِلَا شَكٍّ وَشُبْهَةٍ، إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ، الْمُرَادُ بِهِ الشِّرْكُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ...﴾ [النساء: 48]. [الطيبي/شرح المشكاة(10/187)]
فَلِلَّهِ دَرُّهَا مَا أَبْعَدَ طُمُوحَهَا، فَقَدْ حَرَصَتْ أَنْ يَكُونَ بَيْتُهَا خَيْرَ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ ‌بَيْتٍ ‌فِي ‌الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ). ثُمَّ قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ) وَهُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعَيْهِ. [ضعيف، أخرجه: ابن ماجه/سننه(3679)(2/213)]
وَحَرَصَتْ أَنْ تَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِأَعْجَلِ الْأَعْمَالِ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ؛ وَلَا يُظَنُّ فِي مِثْلِهَا أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَفْتَأْ تَحْنُو عَلَى أَيْتَامِهَا، وَتَمْسَحُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَتُفْلِيهِمْ وَتُرَجِّلُهُمْ؛ فَعَنْ أَبِي الدرْدَاء رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَشْكُو قَسْوَةَ قَلْبِهِ: (‌أَتُحِبُّ ‌أَنْ ‌يَلِينَ ‌قَلْبُكَ؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَدْنِ الْيَتِيمَ إِلَيْكَ، وَامْسَحْ بِرَأْسِهِ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ، وَتَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِكَ). [صحيح، أخرجه: البيهقي/شعب الإيمان(10174)(13/195)]
الرَّابِعَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ إِطْعَامِ الطَّعَامِ، سِيَّمَا مِمَّنْ صَنَعَ الطَّعَامَ بِكُلْفَةٍ وَإِتْقَانٍ، وَدَعَا إِلَيْهِ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ فَأَطْعَمَهُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، مُتَجَرِّدًا عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، شَاكِرًا لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِنِعْمَتِهِ، وَهَدَاهُ إلَى مَرْضَاتِهِ، وَوَفَّقَهُ إلَى رَحْمَةِ الْفَقِيرِ وَالْمَسْكِينِ، فَبَادَرَ إِلَى هَذَا الصَّنِيعِ الثَّرِيِّ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَاطِفَةِ وَالْحَنَانِ وَالْخَيْرِيَّةِ؛ فَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ) [ضعيف، أخرجه: أحمد/مسنده(23926)(39/ 348)]، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(12)(1/ 12)، مسلم/صحيحه(39)(1/65)]
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ كَسَوْتَ عُرْيَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً). [حسن لغيره، أخرجه: الطبراني/المعجم الأوسط(5081)(5/ 202)]
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعً). [حسن، أخرجه: الطبراني/المعجم الكبير(13646)(12/ 453)]
وَإِنَّ اللهَ يُنْزِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 5-9].
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ ‌تَدْخُلُوا ‌الْجَنَّةَ ‌بِسَلَامٍ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(2485)(4/ 264)]
عَلَى أَنَّ إِطْعَامَ الطَّعَامِ حَسَنٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَيَتَفَاوَتُ أَجْرُهُ؛ لِتَفَاوُتِ صَلَاحِ وَحَاجَةِ الْمُنْتَفِعِ مِنْهُ، فَإِطْعَامُ الْفَقِيرِ الصَّالِحِ أَعْظَمُ أَجْرَاً مِنْ إِطْعَامِ الْغَنِيِّ الصَّالِحِ وَالْفَقِيرِ الْفَاسِقِ، وَالْإِطْعَامُ فِي حَالَ السَّفَرِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ، وَالْإِطْعَامُ فِي حَالِ الْمَجَاعَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي حَالِ السَّعَةِ، وَالْإِطْعَامُ فِي حَالِ الْحَرْبِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي حَالِ السِّلْمِ وَالْأَمْنِ، وَيَتَفَاوَتُ الْأَجْرُ بِتَفَاوُتِ كُلْفَةِ الطَّعَامِ وَإِتْقَانِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَسَعَةِ نَفْعِهِ.
۞۞۞۞
الْكَشْفُ عَنْ صِفَاتِ مَنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ الْعَرْشِ
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا: (ثَلَاثَةٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ آمِنِينَ، وَالنَّاسُ فِي الْحِسَابِ: ‌رَجُلٌ ‌لَمْ ‌يَأْخُذْهُ ‌فِي ‌اللَّهِ ‌لَوْمَةُ ‌لَائِمٍ، وَرَجُلٌ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَرَجُلٌ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى مَا حَرُمَ عَلَيْهِ). [ضعيف، أخرجه: الأصبهاني/الترغيب والترهيب(2256)(3/ 144)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: فِيهِ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَمِّنُهُمْ اللَّهُ مِنْ مَخَاوِفِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَشَدَائِدِ الْحِسَابِ وَالنَّاسُ مِنْ غَيْرِهِمْ يُكَابِدُونَ ذَلِكَ يَوْمَ يُحْشَرُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ عَلَى أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا جِبَالٌ وَلَا قِيعَانٌ؛ فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ ‌بَيْضَاءَ ‌عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6156)(5/ 2390)، مسلم/صحيحه(2790)(4/150)]
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله: الْعُفْرَةُ بَيَاضٌ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ وَالنَّقِيِّ، وَالْحِوَارُ نَقِيٌّ مِنْ الْقِشْرِ وَالنُّخَالَةِ وَهِيَ أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا حَدَبٌ يَرُدُّ الْبَصَرَ، وَلَا بِنَاءٌ يَسْتُرُ مَا وَرَائَهُ. [الخطابي/أعلام الحديث(3 / 2268)]
وَالْحِسَابُ يَوْمَئِذٍ عَذَابٌ لَيْسَ بِالسَّهْلِ وَلَا بِالْيَسِيرِ؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌مَنْ ‌نُوقِشَ ‌الْحِسَابَ عُذِّبَ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6171)(5/ 2394)]
وَيَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ الْحَشْرِ عَلَى أَرْضٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿‌يَوْمَ ‌تُبَدَّلُ ‌الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48].
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ). فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (بَلَى). قَالَ: تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ: إِدَامُهُمْ بَالَامٌ وَنُونٌ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: (ثَوْرٌ وَنُونٌ، يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6155)(5/ 2389)، مسلم/صحيحه(2792)(4/151)]
وَعَن عِكْرِمَة رضي الله عنه قَالَ: ‌"تُبَدَّلُ ‌الْأَرْضُ ‌بَيْضَاءَ مِثْلَ الْخُبْزَةِ، يَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنَ الْحِسَابِ". [أخرجه: البيهقي/البعث والنشور(260)(ص218)]
وَيُحْشَرُونَ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تُحْشَرُونَ ‌حُفَاةً ‌عُرَاةً غُرْلًا)، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: (الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6527)(8/ 110)، مسلم/صحيحه(2859)(4/194)]
الْغُرْلُ: غَيْرُ مَخْتُونِينَ.
وَعَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يُبْعَثُ النَّاسُ ‌حُفَاةً ‌عُرَاةً غُرْلًا قَدْ أَلْجَمَهُمُ ‌الْعَرَقُ وَبَلَغَ شُحُومَ الْآذَانِ) فَقُلْتُ: يُبْصِرُ بَعْضُنَا بَعْضًا؟ فَقَالَ: (شُغِلَ النَّاسُ) ﴿‌لِكُلِّ ‌امْرِئٍ ‌مِنْهُمْ ‌يَوْمَئِذٍ ‌شَأْنٌ ‌يُغْنِيهِ﴾ [عبس: 37]. [حسن لغيره، أخرجه: الطبراني/المعجم الكبير(91)(24/ 34)]
وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ طَرَائِقُ وَأَصْنَافٌ، فَلَيْسَ الْمُتَّقُونَ كَغَيْرِهِمْ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يُحْشَرُ النَّاسُ ‌عَلَى ‌ثَلَاثِ ‌طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ. وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6157)(5/ 2390)]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى، وَعِزَّةِ رَبِّنَا. [أخرجه: مسلم/صحيحه(2806)(4/ 2161)]
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: ‌صِنْفًا ‌مُشَاةً، وَصِنْفًا رُكْبَانًا، وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: (إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَمَا إِنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ). [ضعيف، أخرجه: الترمذي/سننه(3142)(5/ 305)]
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْوَاجٍ: فَوْجٌ رَاكِبِينَ طَاعِمِينَ كَاسِينَ، وَفَوْجٌ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ، وَفَوْجٌ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَتَحْشُرُهُمْ إِلَى النَّارِ) فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: هَذَانِ قَدْ عَرَفْنَاهُمَا، فَمَا بَالُ الَّذِينَ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ؟ قَالَ: (يُلْقِي اللهُ الْآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ حَتَّى لَا يَبْقَى ظَهْرٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ الْمُعْجِبَةُ، فَيُعْطِيهَا بِالشَّارِفِ ذَاتِ الْقَتْبِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا). [إسناده قوي، أخرجه: أحمد/مسنده(21456)(35/ 360)]
أَيْ: يُلْقِي اللهُ الدَّاءَ عَلَى الدَّوَابِّ الَّتِي تُرْكَبُ، فَتَفْنَى الدَّوَابُّ أَوْ تَقِلُّ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ الْمُثْمِرَةُ يَوَدُّ لَوْ بَادَلَهَا بِالنَّاقَةِ الْهَرِمَةِ الْهَزِيلَةِ ذَاتِ الرَّحْلِ الصَّغِيرِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَيَضْطَّرُّ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْمَحْشَرِ رَاجِلَاً أَوْ سَاعِيَاً.
وَيُجْهَدُ النَّاسُ لِشِدَّةِ الْأَهْوَالِ، وَيَبْلُغُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ مَبْلَغَ الْأَعْمَالِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌يَعْرَقُ ‌النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6167)(5/ 2393)/ مسلم/صحيحه(2863)(4/196)]
وَعَنِ الْمِقْدَادِ رضي الله عنه صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ‌أُدْنِيَتِ ‌الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(2864)(4/196)، أحمد/مسنده(23813)(39/ 235)، واللفظ له]
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ ‌فَيَعْرَقُ ‌النَّاسُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عُنُقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ) وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ هَكَذَا، (وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ) وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِشَارَةً، فَأَمَرَّ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَ الرَّأْسُ دَوْرَ رَاحَتَيْهِ يَمِينَاً وَشِمَالَاً. [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده( 17439)(28/ 647)]
وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: «يَشْتَدُّ ‌كَرْبُ ‌ذَلِكَ ‌الْيَوْمِ، حَتَّى يُلْجِمَ الْكَافِرَ الْعَرَقُ، فِقيلَ لَهُ: فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُونَ؟ فَقَالَ: عَلَى كَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ، وَيُظَلِّلُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ». [حسن، أخرجه: البيهقي/البعث والنشور(299)(241)]
الثَّانِيَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ مَنْ يَنْصُرُ دِينَ اللَّهِ، فَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَقْوَى عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ إلَّا رَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَحَبَّ اللَّهَ وَأَحَبَّ دِينَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌وَالَّذِي ‌نَفْسِي ‌بِيَدِهِ ‌لَتَأْمُرُنَّ ‌بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ). [حسن، أخرجه: الترمذي/سننه(2169)(4/ 468)]
وَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ بُنُودِ بَيْعَتِهِ الَّتِي كَانَ يَأْخُذُهَا عَلَى النَّاسِ؛ فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، ‌وَأَنْ ‌لَا ‌نُنَازِعَ ‌الْأَمْرَ ‌أَهْلَهُ ‌وَأَنْ ‌نَقُومَ، أَوْ: نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ". [أخرجه: البخاري/صحيحه(6774)(6/ 2633)، مسلم/صحيحه(1709)(3/470)]
وَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُوصِي بِهَا أَصْحَابَهُ رضي الله عنهم؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: "أَوْصَانِي ‌خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم ‌بِخِصَالٍ ‌مِنَ ‌الْخَيْرِ: أَوْصَانِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا". [صحيح، أخرجه: ابن حبان/صحيحه(753)(1/ 504)]
وَعَلِمَ أَنَّهَا مَنَاطُ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿كُنْتُمْ ‌خَيْرَ ‌أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110].
فَبَادَرَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللهِ.. يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يَخْشَ فِي اللهِ لَوْمَهُمْ، وَلَا ضُرَّهُمْ، مُمَسِّكَاً بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ ‌مَخَافَةُ ‌النَّاسِ أَوْ بَشَرٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا رَآهُ أَوْ عَلِمَهُ، أَوْ رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ). [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(11428)(18/ 21)]
مُسْتَيْقِنَا أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ الضَّارُّ النَّافِعُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، وَمُسْتَهْدِيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ ‌يَمْسَسْكَ ‌اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ ‌يَمْسَسْكَ ‌اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: 17]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا غُلامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(2516)(4/ 667)]
فَمَا أَصْدَقَهُ وَأَخْلَصَه مِنْ رَجُلٍ مَضَى يَأْمُرُ وَيَنْهَى ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ رَجَاءَ الرِّضَا وَالرَّحْمَةِ وَالْفَلَاحِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عِبَادَهُ النَّاصِرِينَ لِدِينِهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿‌وَالْمُؤْمِنُونَ ‌وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ‌يَدْعُونَ ‌إِلَى ‌الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].

الثَّالِثَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ مَنِ اسْتَعَفَّ بِالْحَلَالِ عَنِ الْحَرَامِ، فَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، مُمْتَثِلَاً قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿‌وَلَا ‌تَأْكُلُوا ‌أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188].
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيْثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (طَلَبُ ‌الْحَلَالِ ‌وَاجِبٌ ‌عَلَى ‌كُلِّ مُسْلِمٍ). [حسن، أخرجه: الطبراني/المعجم الأوسط(8610)(8/ 272)]
وَمُتَّعِظَاً بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ ‌طَيِّبٌ ‌لَا ‌يَقْبَلُ ‌إِلَّا ‌طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ)، فَقَالَ: ﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ ‌كُلُوا ‌مِنَ ‌الطَّيِّبَاتِ ‌وَاعْمَلُوا ‌صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌كُلُوا ‌مِنْ ‌طَيِّبَاتِ ‌مَا ‌رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ: (الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!). [أخرجه: مسلم/صحيحه(1015)(2/703)]
وَبِحَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ رضي الله عنه، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَبْلُغُ ‌العَبْدُ ‌أَنْ ‌يَكُونَ ‌مِنَ ‌المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأْسُ). [ضعيف، أخرجه: الترمذي/سننه(2451)(4/ 634)]
2025/07/14 10:59:50
Back to Top
HTML Embed Code: