Telegram Web Link
الرَّابِعَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ غَضِّ الْبَصَرِ عَنِ الْحَرَامِ امْتِثَالَاً لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى الْقَائِلِ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ‌يَغُضُّوا ‌مِنْ ‌أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: 30]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ ‌يَغْضُضْنَ ‌مِنْ ‌أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 31]؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْبَصَرَ هُوَ الْبَابُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْقَلْبِ، وَأَسْرَعُ طُرُقِ الْحَوَاسِّ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ؛ فَعَنْ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى رحمه الله قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: «‌حِفْظُ ‌الْبَصَرِ ‌أَشَدُّ مِنْ حِفْظِ اللِّسَانِ» [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الورع(61)(62)]، وَإِنَّ إِطْلَاقَ النَّظَرِ إِلَى الْحَرَامِ يُطْمِعُهُ بِالْفَوَاحِشِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: "وَمَا كَانَ مِنْ نَظْرَةٍ؛ فَإِنَّ ‌لِلشَّيْطَانِ ‌فِيهَا ‌مَطْمَعٌ". [أخرجه: أبو داود/الزهد(125)(ص134)]
وَرَحِمَ الله الْعَلَاءَ بْنَ زِيَادٍ القَائِلَ: «لَا تُتْبِعْ بَصَرَكَ حُسْنَ رِدْفِ الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّ ‌النَّظَرَ ‌يَجْعَلُ ‌الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الورع (68)]
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: «وَوَجَبَ التَّحْذِيرُ مِنْهُ، وَغَضُّهُ وَاجِبٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلِّ مَا يُخْشَى ‌الْفِتْنَةُ ‌مِنْ ‌أَجْلِهِ». [القرطبي/الجامع لأحكام القرآن(12/ 223)]
وَلَا يَقْوَى عَلَى غَضِّ بَصَرِهِ إِلَّا مُؤْمِنٌ قَوِيُّ الْإِيمَانِ مُرَاقِبٌ للهِ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ؛ أَعْطَاهُ اللهُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ ‌النَّظْرَةَ ‌سَهْمٌ ‌مِنْ ‌سِهَامِ ‌إِبْلِيسَ ‌مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ). [ضعيف، أخرجه: الطبراني/المعجم الكبير(10362)(10/ 173)]
وَأَيَّدَهُ اللهُ بِالْفُرْقَانِ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ؛ قَالَ شَاهُ بْنُ شُجَاعٍ الكَرْمَانِيُّ رحمه الله -وَكَانَ لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ- قَالَ: ‌"مَنْ ‌عَمَّرَ ‌ظَاهِرَهُ ‌بِاتِّبَاعِ ‌السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ، وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ" [أخرجه: أبو نعيم/حلية الأولياء(10/237)]، وَأَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.
۞۞۞۞
الْكَشْفُ عَنْ صِفَاتِ مَنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ الْعَرْشِ
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ لَا يَهُولُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وَلَا يَنَالُهُمُ الْحِسَابُ، ‌هُمْ ‌عَلَى ‌كَثِيبٍ ‌مِنْ ‌مِسْكٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ: رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَأَمَّ بِهِ قَوْمًا وَهُمْ يَرْضَوْنَ بِهِ، وَدَاعٍ يَدْعُو إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَعَبْدٌ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوَالِيهِ). [ضعيف، أخرجه: الطبراني/المعجم الأوسط(9280)(9/ 113)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: الْحَدِيثُ خَبَرٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ لَا تُخِيفُهُمْ شَدَائِدُ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ حِينَ يَبْعَثُ اللَّهُ النَّاسَ مِنَ الْقُبُورِ، وَيَجْمَعُهُمْ فِي أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَيَطُولُ فِيهَا مُقَامُهُمْ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْ رُؤُسِهِمْ، وَيَبْلُغُ الْعَرَقُ مِنْهُمْ مَبْلَغَ أَعْمَالِهِمْ، وَتُنْصَبُ لَهُمْ الْمَوَازِينُ الْقِسْطُ، وَيُحَاسِبُهُمْ اللَّهُ عز وجل عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، إلَّا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ تِلْكُمُ الشَّدَائِدِ، وَيُقْعِدُهُمْ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ مِسْكٍ، أَيْ: عَلَى مُرْتَفِعٍ مِنْ الْأَرْضِ مَعْدِنُهُ مِنَ الْمِسْكِ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، لَا يَزَالُونَ فِي الْأَمَانِ مُطْمَئِنِّينَ حَتَّى يَفْرُغَ اللَّهُ مِنْ حِسَابِ عِبَادِهِ.

الثَّانِيَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ بِتَدَبَّرٍ وَإِخْلَاصٍ وَاتِّبَاعٍ، فَهُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ ‌أَهْلِينَ ‌مِنَ ‌النَّاسِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ). [صحيح، أخرجه: ابن ماجه/سننه(215)(1/ 78)]
وَإِنَّ اللهَ رَفَعَ قَدْرَهُم فِي النَّاسِ، وَجَعَلَ إِكْرَامَهُم مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ ‌إِجْلَالِ ‌اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ). [حسن، أخرجه: أبو داود/سننه(4843)(4/ 411)]
حَفِظَهُمُ اللهُ بِالْقُرْآنِ مِنَ الذُّلِّ، وَالْإِهَانَةِ، وَفِتْنَةِ الدِّينِ، وَمِنْ ذُهُولِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَرُدَّهُمْ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَجَعَلَ حَظَّهُمْ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ وَافِرَاً؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: "‌مَنْ ‌قَرَأَ ‌الْقُرْآنَ ‌لَمْ ‌يُرَدَّ ‌إِلَى ‌أَرْذَلِ ‌الْعُمُرِ ﴿لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: 5]". [صحيح، أخرجه: الحاكم/مستدركه (3952)(2/ 576)]
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌خَيْرُكُمْ ‌مَنْ ‌تَعَلَّمَ ‌الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(4739)(4/ 1919)]
الثَّالِثَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ إِمَامَةِ قَارِئِ الْقُرْآنِ بِالنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَهُمْ بِإِمَامَتِهِ رَاضُونَ، فَإِنَّ فِعْلَهُ هَذَا مُوَافِقٌ لِلْهَدْيِ النَّبَوِي؛ِّ فَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَؤُمُّ ‌الْقَوْمَ ‌أَقْرَؤُهُمْ ‌لِكِتَابِ ‌اللهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً). [أخرجه: مسلم/صحيحه(673)(2/ 133)]
وَإِنَّ رِضَى النَّاسِ بِإِمَامَتِهِ مِنْ عَاجِلِ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا ‌نَادَى ‌جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فأحِبَّه، فيُحِبُّه جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(7047)(6/ 2721)، مسلم/صحيحه (2637)(4/ ٢٠٣٠)]
وَمَا يُؤَخَّرُ لَهُ مِنَ الْأَمْنِ وَالْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُؤَمِّنُهُ مِنْ أَهْوَالِ الْمَحْشَرِ وَسُوءِ الْحِسَابِ، وَيُظِلُّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ، وَلَا يُوجَدُ إِذَّاكَ إِلَّا ظِلُّهُ، وَقَدْ خَصَّ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَأَهْلَ كِتَابِهِ، وَأَتْبَاعَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
عَلَى أَنَّ مَنْ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ؛ لِضَعْفٍ فِي الْقِرَاءَةِ*، أَوْ جَهْلٍ فِي أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ، أَوْ ضَلَالَةٍ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفَاً وَلَا عَدْلَاً؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ثَلَاثَةٌ لَا ‌تُرْفَعُ ‌صَلَاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ). [ضعيف، أخرجه: ابن ماجه/سننه(971)(1/ 311)]
[*أي: عجز اللسان عن كمال النطق كالفأفأة، والتأتأة، والألثغ، والأرت الذي يدغم حرفا في حرف على خلاف الإدغام الجائز في العربية]

الرَّابِعَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ الْمُؤَذِّنِ الْأَمِينِ الْمُحْتَسِبِ أَذَانَهُ للهِ، يُؤَذِّنُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِهِنَّ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى شُهُودِ الْجَمَاعَاتِ، فَإِنَّ الْمُؤَذِّنَ الْمُحْتَسِبَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (‌إِنَّ ‌خِيَارَ ‌عِبَادِ ‌اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالنُّجُومَ وَالْأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ عز وجل). [صحيح، أخرجه: الطبراني/الدعاء(ص524)]
وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه، قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ ‌فَارْفَعْ ‌صَوْتَكَ ‌بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ: (لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. [أخرجه: البخاري/صحيحه(609)(1/ 125)]
وَفِي رِوَايَةٍ: (‌لا ‌يَسْمَعُ ‌صَوْتَهُ جِنٌّ وَلا إنْسٌ وَلا حَجَرٌ وَلا شَجَرٌ إِلا شَهِدَ لَهُ). [ضعيف، أخرجه: البيهقي/معرفة الآثار والسنن(2506)(2/ 232)]
وَيُغْفَرُ لَهُ مُنْتَهَى صَوْتِهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (‌يُغفَرُ ‌لِلْمُؤَذِّنِ ‌مُنْتَهَى أَذَانِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ سَمِعَهُ). [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(6202)(10/ 338)]
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ ‌الْمُؤَذِّنَ ‌يُغْفَرُ ‌لَهُ ‌مَدَى صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ). [صحيح بطرقه وشواهده، أخرجه: أحمد/مسنده(7611)(13/ 52)]
وَتُصَلِّي عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌إِنَّ ‌اللهَ ‌وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَالْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ). [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(18506)(30/ 466)]
وَدَخَلَ فِي عُمُومِ مَنْ دَعَا لَهُمُ النَّبِيُّ بِالْمَغْفِرَةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤَذِّنُ ‌مُؤْتَمَنٌ، وَالْإِمَامُ ضَامِنٌ، الْلَّهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ). [صحيح، أخرجه: أبو داود/سننه(517)(1/143)]
وَهُوَ أَطْوَلُ النَّاسِ عُنُقَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌أَطْوَلُ ‌النَّاسِ ‌أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُؤَذِّنُونَ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(387)(1/290)]
وَإِذَا أَذَّنَ اثْنَي عَشْرَةَ سَنَةً؛ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (‌مَنْ ‌أَذَّنَ ‌ثِنْتَيْ ‌عَشْرَةَ ‌سَنَةً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً). [صحيح، أخرجه: ابن ماجه/سننه(728)(1/ 241)]

الْخَامِسَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ الْمَمْلُوكِ الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ الَّذِي أَدَّى حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ عِبَادَتَهُ؛ فَلَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَهْجُرِ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَفْتُرْ عَنِ الذِّكْرِ، وَأَدَّى حَقَّ سَيِّدِهِ، وَرَاقَبَ اللَّهَ  فِي أَمَانَتِهِ، فَكَانَ بَرًّا أَمِينًا صَالِحًا رَفِيقًا، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ عز وجل أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ ‌إِذَا ‌نَصَحَ ‌لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(1664)(5/ 94)]
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌الْمَمْلُوكُ ‌الَّذِي ‌يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ، لَهُ أَجْرَانِ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(2413)(2/ 901)]
وَأَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْوَالِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ مِسْكٍ، تَفَضُّلًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَلَمْ يَزَلْ فِي أَمْنٍ وَعَافِيَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ اللَّهُ مِنْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ.
۞۞۞۞
الْكَشْفُ عَنْ صِفَاتِ مَنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ الْعَرْشِ
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ

عَنْ عَمْرٍو بنِ مَيْمُونٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعَجَّلَ مُوسَى عليه السلام إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ اللهُ عز وجل: ﴿‌وَمَا ‌أَعْجَلَكَ ‌عَنْ ‌قَوْمِكَ ‌يَا مُوسَى، قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 83-84]، قَالَ: فَرَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلَاً فَعَجِبَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبُّ؟ قَالَ: لَا أُحَدِّثُكَ مَنْ هُوَ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكَ بِثَلَاثٍ فِيهِ: كَانَ ‌لَا ‌يَحْسُدُ ‌النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ، وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ". [جيد، أخرجه: البيهقي/شعب الإيمان(10606)(13/ 450)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: فِيهِ أَنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَرْقَى بِأَصْحَابِهَا إلَى ظِلِّ الْعَرْشِ، وَيَأْمَنُونَ بِهَا مِنْ أَهْوَالِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَطُولِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ لَمْ يَحْسُدِ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وَالْحَسْدُ سَخَطٌ عَلَى الْقَدَرِ، وَهُوَ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ سَعْيٌ فِي إزَالَتِهَا.
قَالَ الْكَفَوِيُّ رحمه الله: هُوَ اخْتِلَافُ الْقَلْبِ عَلَى النَّاسِ لِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْلَاكِ. [الكفوي/الكليات(ص408)]
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ رحمه الله: هُوَ شِدَّةُ الْأَسَى عَلَى الْخَيْرَاتِ، تَكُونُ لِلنَّاسِ الْأَفَاضِلِ. [الماوردي/أدب الدنيا والدين(ص270)]
وَقِيلَ: هُوَ ظُلْمُ ذِي النِّعْمَةِ بِتَمَنِّي زَوَالِهَا عَنْهُ وَصَيْرُورَتِهَا إلَى الْحَاسِدِ. [الصنعاني/ التحبير لإيضاح معاني التيسير(3/633)]
وَدَوَاعِي الْحَسَدِ ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: بُغْضُ الْمَحْسُودِ، فَيَأْسَى عَلَيْهِ بِفَضِيلَةٍ تَظْهَرُ، أَوْ مُنَقَّبَةٍ تُشْكَرُ، فَيُثِيرُ حَسَدًا قَدْ خَامَرَ بُغْضًا، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَكُونُ عَامًّا وَإِنْ كَانَ أَضَرَّ الثَّلَاثَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُبْغِضُ كُلَّ النَّاسِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْمَحْسُودِ فَضْلٌ يَعْجِزُ عَنْهُ الْحَاسِدُ، فَيَكْرَهُ تَقَدُّمَهُ فِيهِ، وَاخْتِصَاصَهُ بِهِ، فَيُثِيرُ ذَلِكَ حَسَدًا لَوْلَاهُ لَكَفَّ عَنْهُ، وَهَذَا أَوْسَطُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُدُ مِنَ الْأَكْفَاءِ مَنْ دَنَا، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِحَسَدِ مَنْ عَلَا، وَقَدْ يَمْتَزِجُ بِهَذَا النَّوْعِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُنَافَسَةِ، وَلَكِنَّهَا مَعَ عَجْزٍ؛ فَلِذَلِكَ صَارَتْ حَسَدًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاسِدِ شُحٌّ بِالْفَضَائِلِ، وَبُخْلٌ بِالنِّعَمِ وَلَيْسَتْ إلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْهَا، وَلَا بِيَدِهِ فَيَدْفَعُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مَوَاهِبُ قَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ مَنْ شَاءَ، فَيَسْخَطُ عَلَى اللَّهِ عز وجل فِي قَضَائِهِ، وَيَحْسُدُ عَلَى مَا مُنِحَ مِنْ عَطَائِهِ، وَإِنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عز وجل عِنْدَهُ أَكْثَرَ، وَمِنَحُهُ عَلَيْهِ أَظْهَرَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَسَدِ أَعَمُّهَا وَأَخْبَثُهَا، إذْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ رَاحَةٌ، وَلَا لِرِضَاهُ غَايَةٌ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِشَرٍّ وَقُدْرَةٍ كَانَ جَوْرًا وَانْتِقَامًا، وَإِنْ صَادَفَ عَجْزًا وَمَهَانَةً؛ كَانَ جُهْدًا وَسَقَامًا. [الماوردي/أدب الدنيا والدين(ص270)]
فَسَلِمَ هَذَا الْقَانِعُ الرَّاضِي بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنْ دَاءِ الْأُمَمِ الَّذِي يَحْلِقُ الدِّينَ كَمَا أَخْبَرَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ [الماوردي/أدب الدنيا والدين(176)]؛ فَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌دَبَّ إِلَيْكُمْ ‌دَاءُ ‌الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ). [حسن، أخرجه: الترمذي/سننه(2510)(4/664)]
وَأَعْطَاهُ اللَّهُ حَظًّا وَافِرًا مِنَ الْخَيْرِ مُلِئَ بِهِ قَنَاعَةً وَرِضًا، فَلَمْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَنْشَغِلْ قَلْبُهُ بِمَا عِنْدَ النَّاسِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ ضَمُرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (‌لَا ‌يَزَالُ ‌النَّاسُ ‌بِخَيْرٍ ‌مَا ‌لَمْ يَتَحَاسَدُوا). [حسن، أخرجه: الطبراني/المعجم الكبير(8157)(8/ 309)]
فَكَانَ بِالتَّقْوَى وَالْقَنَاعَةِ وَالشُّكْرِ وَالرِّضَا، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْحَسَدِ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ)، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ ‌التَّقِيُّ ‌النَّقِيُّ، ‌لَا ‌إِثْمَ ‌فِيهِ، ‌وَلَا ‌بَغْيَ، ‌وَلَا ‌غِلَّ، ‌وَلَا ‌حَسَدَ). [صحيح، أخرجه: ابن ماجه/سننه(4216)(2/ 1409)]
وَكَافَأَهُ اللَّهُ بِالْأَمْنِ مِنْ شَدَائِدِ الْحَشْرِ، وَطُولِ الْمَوْقِفِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ بِإِظْلَالِهِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلَّهُ.

الثَّانِيَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَاجْتِنَابِ عُقُوقِهِمَا، فَإِنَّ بِرَّهُمَا وَصِيَّةُ اللهِ عز وجل؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿‌وَوَصَّيْنَا ‌الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ [الأحقاف: 15].
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ ‌اللهَ عز وجل ‌يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ). [صحيح، أخرجه: ابن ماجه/سننه(3661)(2/207)]
وَإِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ عز وجل؛ فَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ -وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: (‌الصَّلَاةُ ‌عَلَى ‌وَقْتِهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. [أخرجه: البخاري/صحيحه(527)(1/112)، مسلم/صحيحه(85)(1/ 63)]
فَتَشَبَّثَ بِبِرِّهِمَا، وَحَاذَرَ عُقُوقَهُمَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْعُقُوقَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، كَمَا جَاءِ فِي الْخَبَرِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ ‌بِأَكْبَرِ ‌الْكَبَائِرِ)، ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. [أخرجه: البخاري/صحيحه(2511)(2/ 939)]
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌الْكَبَائِرُ: ‌الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6298)(6/ 2457)]
وَلِعِلْمِهِ أَنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَظَرَ الرِّضَا وَالرَّحْمَةِ لِمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ ‌لَا ‌يَنْظُرُ ‌اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ الْخَمْرَ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى). [حسن، أخرجه: أحمد/مسنده(6180)(10/321)]
وَلِعِلْمِهِ أَنَّ الْوَالِدَ أَرْحَبُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ الْوَالِدَ ‌أَوْسَطُ ‌أَبْوَابِ الْجَنَّةِ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(1900)(4/ 311)]
فَاجْتَهَدَ فِي بِرِّ أَبِيهِ، وَأَيَّدَهُ بِبِرِّ أُمِّهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرِضَا أُمِّهِ؛ فَعَنْ مُعَاوِيَةَ ابْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: (وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (ارْجِعْ فَبَرَّهَا) فكررها ثلاثا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: قَالَ: (وَيْحَكَ، الْزَمْ ‌رِجْلَهَا، ‌فَثَمَّ ‌الْجَنَّةُ). [صحيح، أخرجه: ابن ماجه/سننه(2781)(2/ 929)]

الثَّالِثَةُ: وَفِيهِ فَضْلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَكُفُّ لِسَانَهُ عَنِ الْأَذَى؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ كَلَامَهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿‌مَا ‌يَلْفِظُ ‌مِنْ ‌قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].
وَأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُورِدُ صَاحِبَهُ النَّارَ؛ فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ‌لِسَانَهُ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِصْبَعَهُ فَاسْتَرْجَعَ ‌مُعَاذٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنُؤَاخَذُ بِكُلِّ مَا نَقُولُ وَيُكْتَبُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْكِبَ ‌مُعَاذٍ مَرَّاتٍ وَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ ‌مُعَاذٍ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهُمْ؟). [حسن صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(2616)(4/ 308)]
وَبَصُرَ أَنَّ مِنْ آفَاتِ الْلِّسَانِ النَّمِيمَةَ، وَهِيَ: نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ، وَهِيَ مِنْ عَظَائِمِ الذَّنْبِ الَّتِي تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْهَا بِالْوَيْلِ؛ فَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ رحمه الله، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَخْبِرْنِي مَنْ هَذَا الَّذِي ‌نَدَبَهُ ‌اللَّهُ ‌بِالْوَيْلِ، فَقَالَ: ﴿‌وَيْلٌ ‌لِكُلِّ ‌هُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1]، قَالَ: «هُوَ الْمَشَّاءُ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِخْوَانِ، وَالْمُغْرِي بَيْنَ الْجَمِيعِ». [أخرجه: ابن أبي الدنيا/الصمت وآداب اللسان(ص157)]
وَعَلِمَ أَنَّ النَّمَّامَ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ؛ فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى) ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ ‌بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ). [حسن بشواهده، أخرجه: أحمد/مسنده(27599)(45/ 575)]
وَأَنَّهُ مِنْ أَبْغَضِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَى اللَّهِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ وَإِنَّ ‌أَبْغَضَكُمْ إِلَى اللَّهِ ‌الْمَشَّاءُونَ ‌بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِخْوَانِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ). [صحيح، أخرجه: ابن أبي الدنيا/ذم الغيبة والنميمة(ص35)]
وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ عز وجل حَرَمَهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ السَّابِقِينَ؛ فَعَنْ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (‌لَا ‌يَدْخُلُ ‌الْجَنَّةَ ‌نَمَّامٌ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(105)(1/ 71)]
فَكَافَأَهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى مُرَاقَبَةِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَحِفْظِ لِسَانِهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَحِرْصِهِ عَلَى اجْتِمَاعِ النَّاسِ، وَاجْتِنَابِ السَّعْيِ إِلَى فُرْقَتِهِمْ بِالْأَمْنِ مِنْ شَدَائِدِ الْحَشْرِ، وَطُولِ الْمَوْقِفِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ، بِإِظْلَالِهِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ.
۞۞۞۞
الْكَشْفُ عَنْ صِفَاتِ مَنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ الْعَرْشِ
الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ

عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ رحمه الله، قَالَ: قَالَ مُوسَى عليه السلام: "يَا رَبِّ، مَنْ أَهْلُكُ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ، وَالَّذِينَ يَأْوُونَ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هُمُ التَّرِبَةُ أَيْدِيهِمُ، الطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمُ، الَّذِينَ يَتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذَكَرُونِي، وَإِذَا ذَكَرُونِي ذَكَرْتُهُمْ، يُسْبِغُونَ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَيُنِيبُونَ إِلَى ذِكْرِي كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى أَوْكَارِهَا، يَكْلَفُونَ بِحُبِّي كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِحُبِّ النَّاسِ، يَغْضَبُونَ لِمَحَارِمِي إِذَا اسْتُحِلَّتْ كَمَا يَغْضَبُ النَّمِرُ إِذَا حَرَنَ". [ضعيف، أخرجه: ابن أبي الدنيا/الأولياء(ص20)]

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: عَنْ زَيْدِ بنِ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ رحمه الله: "أَنَّ مُوسَى عليه السلام سَأَلَ رَبَّهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَخْبِرْنِي بِأَهْلِكَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ، الَّذِينَ تُؤْوِيهِمْ ‌فِي ‌ظِلِّ ‌عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ، قَالَ: هُمُ الطَّاهِرُةُ قُلُوبُهُمْ، النَّدِيَّةُ أَيْدِيهِمْ، يَتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذَكَرُونِي، وَإِذَا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بِهِمْ، الَّذِينَ يُنِيبُونَ إِلَى ذِكْرِي كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى وَكْرِهَا، وَالَّذِينَ يَغْضَبُونَ لِمَحَارِمِ اللهِ إِذَا اسْتُحِلَّتْ كَمَا تَغْضَبُ النَّمِرَةُ إِذَا حَرِبَ، وَالَّذِينَ يَكْلَفُونَ بِحُبِّي كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِحُبِّ النَّاسِ". [أخرجه: أبو نعيم/حلية الأولياء(3/ 222)]
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: "قَالَ مُوسَى عليه السلام: يَا رَبِّ، أَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ، قَالَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِيِّ، الَّذِينَ ‌يَعْمُرُونَ ‌مَسَاجِدِي، وَيَسْتَغْفِرُونِي بِالْأَسْحَارِ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرُوا بِي، وَإِذَا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بِهِمْ، هُمُ الَّذِينَ يُنِيبُونَ إِلَى طَاعَتِي كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى وُكُورِهَا، الَّذِينَ إِذَا اسْتُحِلَّتْ مَحَارِمِي غَضِبُوا كَمَا يَغْضَبُ النَّمِرُ إِذَا حَرِبَ". [أخرجه: ابن المبارك/الزهد والرقائق(ص71)]

فِي الْأَثَرِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: فِيهِ أَنَّ لِلَّهِ أَهْلَيْنِ مِنَ النَّاسِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ الَّذِينَ أَحَبَّهُمْ، وَاصْطَفَاهُمْ لِنَفْسِهِ، وَأَشْغَلَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَآنَسَهُمْ بِذِكْرِهِ، وَأَذَاقَهُمْ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِهِ، وَرَطَّبَ أَلْسِنَتَهُمْ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، وَهَدَاهُمْ إلَى تَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ، وَحِفْظِ فَرَائِضِهِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ نَوَافِلِهِ، فَمَلَأَ قُلُوبَهُمْ بِحُبِّهِ، وَسَخَّرَ جَوَارِحَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ، فَلَا تَلْهَجُ أَلْسِنَتُهُمْ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا تُبْصِرُ أَعْيُنُهُمْ إلَّا حَلَالًا، وَلَا تَتَحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ إلَّا فِي الْخَيْرِ، وَزَادَهُمْ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَأَعْطَاهُمْ مَا يُحِبُّونَ، وَأَعَاذَهُمْ مِمَّا يَكْرَهُونَ، وَحَفِظَهُمْ مِنْ فِتَنِ الدُّنْيَا، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي ‌وَلِيًّا ‌فَقَدْ ‌آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6137)(5/ 2385)]
وَأَمَّنَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ.. طُولِ الْمَوْقِفِ، وَحَرِّ الشَّمْسِ، وَقَلَقِ التَّرَقُّبِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ؛ فَأَظَلَّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.
الثَانِيَةُ: قَوْلُهُ: (هُمُ التَّرِبَةُ أَيْدِيهِمُ) وَفِي رِوَايَةٍ: (الْبَرِيئَةُ أَيْدِيهِمْ) أَيْ: مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ اللهِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ارْتَقَتْ أَيْدِيهِمْ بِعَمَلِ الْفَضِيلَةِ فَزَادَ رِبْحُهَا، وَعَظُمَ خَيْرُهَا، وَعَلَتْ بِالْعَطَاءِ، وَقَوِيَتْ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَدَفْعِ الْبَاطِلِ، وَسَلِمَتْ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ تَسْفِكْ دَمَاً حَرَامَاً، وَلَمْ تُؤْذِ نَفْسَاً بَرِيئَةً، وَلَمْ تَقْطَعْ طَرِيقَاً، وَلَمْ تَسْرِقْ، وَلَمْ تَغْصِبْ، وَلَمْ تَأْكُلْ رِبَاً، وَلَمْ تَشْرَبْ خَمْرَاً، وَأَمْسَكَتْ عَنِ الْلَّهْوِ الْحَرَامِ، فَلَمْ تَلْعَبْ بِالنَّرْدِ وَلَا بِالْأَوْرَاقِ، وَلَمْ تَنْغَمِسْ فِي خَبِيثٍ، وَلَمْ تَسْأَلِ النَّاسَ حَاجَةً؛ بَلْ كَانَتْ يَدَاً عُلْيَا فِي الْخَيْرِ؛ فَعَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ: (‌الْيَدُ ‌الْعُلْيَا ‌خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(1429)(2/ 112)، مسلم/صحيحه(1033)(2/717)]
يَدٌ عَمِلَتْ بِالْحَلَالِ؛ فَأَصَابَتْ أَطْيَبَ الْكَسْبِ وَاسْتَعَفَّتْ بِهِ، وَكَفَّتْ عَنِ الْحَرَامِ، مُسْتَرْشِدَةً بِهَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدَّاعِي إِلَى الْكَسْبِ الْحَلَالِ؛ فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ ‌الْكَسْبِ ‌أَطْيَبُ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ). [حسن لغيره، أخرجه: أحمد/مسنده(17265)(28/ 502)]

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (الطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمُ) أَيْ: ومِنْ صفات أَهْلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى الْأَبْدَانِ وَالصُّوَرِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، ‌وَلَكِنْ ‌يَنْظُرُ ‌إِلَى ‌قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(2564)(8/ 11)]
فَاجْتَهَدُوا فِي عَمَلِ اَلصَّالِحَاتِ؛ لِتُطَهَّرَ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَتُزْهِرَ بِالْإِيمَانِ وَحُبِّ اَللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَدَرِهِ، وَتَطْمَئِنَّ بِذِكْرِهِ، وَتَفْرَحَ بِطَاعَتِهِ.
وَعَلِمُوا أَنَّ اَلْقُلُوبَ مُلُوكُ اَلْأَجْسَادِ تَسْتَقِيمُ بِاسْتِقَامَتِهَا، وَتَعْوَجُّ بِاعْوِجَاجِهَا؛ فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) [أخرجه: البخاري/صحيحه(52)(1/ 20)، مسلم/صحيحه (1599)(3/219)]، فَاجْتَهَدُوا عَلَى اسْتِقَامَتِهَا بِالصَّالِحَاتِ.
وَعَلِمُوا أَنَّ صَلَاحَ الْقُلُوبِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّقْوَى؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ‌يَجْعَلْ ‌لَكُمْ ‌فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29].
وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: أَنَا، قَالَ: أَنْتَ؟ لِلهِ أَبُوكَ، قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (تُعْرَضُ ‌الْفِتَنُ ‌عَلَى ‌الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(144)(1/ 89)]
مِنْ فَوَائِدِهِ: أَنَّ بَيَاضَ الْقُلُوبِ وَفُرْقَانَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، فَلَا تَزَالُ تَنْكُتُ فِي الْقَلْبِ بَيَاضًا، يَضْمَحِلُّ بِهِ الظَّلَامُ، حَتَّى يَكُونَ الْقَلْبُ كَالصَّفَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَيَعْمَلُهُ، وَيَعْرِفُ الْمُنْكَرَ وَيَتْرُكُهُ.
فَاسْتَكْثَرُوا مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَأَشْغَلُوا بِهَا الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ.
وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وَلَا تَلِينُ إلَّا بِذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ‌وَتَطْمَئِنُّ ‌قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ ‌أَحْسَنَ ‌الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23].
فَأَدَامُوا التِّلَاوَةَ وَالذِّكْرَ؛ لِتَدُومَ حَيَاةُ قُلُوبِهِمْ، وَيَدُومَ لِينُهَا وَضِيَاؤُهَا، وَتَفُوزَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَمْنِ مِنْ أَهْوَالِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ، وَحَرِّ الشَّمْسِ بِظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.

الرِّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (الَّذِينَ يَتَحَابُّونَ بِجَلَالِي) أَيْ: وَمِنْ صفات أَهْلِ اللَّهِ الَّذِي يَأْمَنُونَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْمُؤْمِنُونَ: الَّذِينَ تَحَابَّتْ قُلُوبُهُمْ تَعْظِيمًا لِلَّهِ، وَحِرْصًا عَلَى رِضَاهُ مِنْ غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، إذَا اجْتَمَعُوا فَعَلَى طَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِذَا افْتَرَقُوا فَعَلَى ذَلِكَ؛ فَكَافَأَهُمْ اللَّهُ بِحُبِّهِ؛ فَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْثُرُ عَنِ اللهِ عز وجل قَالَ: (‌وَجَبَتْ ‌مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ، وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ، وَيَتَبَاذَلُونَ فِيَّ). [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(22131)(36/ 446)]
وَأَظَلَّهُمْ بِظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ ‌الْمُتَحَابُّونَ ‌فِي ‌جَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي). [أخرجه: مسلم/صحيحه (2566) (8/ 12)]
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذَكَرُونِي، وَإِذَا ذَكَرُونِي ذَكَرْتُهُمْ) أَيْ: وَمِنْ صفات أَهْلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ، وَبَكَتْ عُيُونُهُمْ، لَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ، نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ، إذَا أَطَاعُوا اللَّهَ شَكَرُوا، وَإِذَا قَصَّرُوا فِي جَنْبِهِ نَشَجُوا، فَكَانُوا أَعْلَامَ هُدًى وَمَصَابِيحَ دُجَىً، حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، أَلْقَى اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمُ الضِّيَاءَ، وَعَلَى أَلْسِنَتِهِمْ حُلْوَ الذِّكْرِ وَالْخِطَابِ، وَعَلَى جَوَارِحِهِمْ قَوِيمَ الْعَادَاتِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِي قُلُوبِ الصَّالِحِينَ قَبُولًا، إذَا ظَهَرُوا شَدَّتْ بِرُؤْيَتِهِمْ الْعَزَائِمُ، وَنَهَضَتْ بِحُضُورِهِمُ الْهِمَمُ، وَكَانُوا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "النَّظَرُ إلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَدْعُوا إِلَى السُّنَّةِ". [القرطبي/الجامع لأحكام القرآن(7/ 141)]
وَرَحِمَ اللهُ مُحَمَّدَ بنَ سِيرِينَ؛ كَانَ إِذَا رَآهُ النَّاسُ دَاخِلَاً السُّوقَ؛ سَبَّحُوا اللهَ؛ لِمَخَايِلِ النُّورِ الَّتِي عَلَى وَجْهِهِ، قَالَ أَبُو عِوَانَة: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ سِيرِينَ فِي السُّوقِ، فَمَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا ذَكَرَ اللهَ. [الذهبي/سير أعلام النبلاء(4/ 610)]
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ رحمه الله: "أَتَيْنَا وَكِيعَاً، ‌فَخَرَجَ ‌بَعْدَ ‌سَاعَةٍ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مَغْسُولَةٌ، فَلَمَّا بَصُرْنَا بِهِ، فَزِعْنَا مِنَ النُّورِ الَّذِي رَأَيْنَاهُ يَتَلَأْلَأُ مِنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ بِجَنْبِي: أَهَذَا مَلَكٌ؟ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ ذَلِكَ النُّورِ". [الذهبي/سير أعلام النبلاء(9/ 157)]
وَقَالَ جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ رحمه الله: "كُنْتُ إِذَا وَجَدْتُ مِنْ ‌قَلْبِي قَسْوَةً، غَدَوْتُ، فَنَظَرْتُ إِلَى وَجْهِ مُحَمَّدِ ا‌بْنِ ‌وَاسِعٍ، كَانَ كَأَنَّهُ ثَكْلَى". [الذهبي/سير أعلام النبلاء (6/ 120)]
وَقَالَ عَبْدُ بنُ خَضِرٍ الرُّومِيُّ فِي شَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رحمه الله:
فَارَقْتُ مَنْ كَانَ ‌يَرْوِينِي ‌بِرُؤْيَتِهِ
إِذَا تَبَدَّى بِدَاسِرِ الْعِبَارَاتِ

يَرْوِي الْأَحَادِيثَ عَنْ سُكَّانِ كَاظِمَةٍ
فَيَطْرَبُ الْكَوْنُ مِنْ طِيبِ الرِّوَايَاتِ

وَيُطْنِبُ الذِّكْرَ فِي إِحْسَانِ حُسْنِهِمُ
فَيَرْقُصُ الْقَلْبُ شَوْقَاً نَحْوَ سَادَاتِي

أَفْضَى إِلَى اللهِ وَالْجَنَّاتُ مَسْكَنُهُ
عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَزْكَى تَحِيَّاتِ

ثُمَّ السَّلَامُ عَلَى الْمُخْتَارِ مَا هَمَعَتْ
سُحُبُ الْغَمَامِ وَجَادَتْ بِالزِّيَادَاتِ

وَالْحَمْدُ للهِ حَمْدَاً لَا انْقِطَاعَ لَهُ
أَرْجُو بِهِ مِنْ إِلَهِي مَحْوَ زَلَّاتِي.

[الألوسي/غاية الأماني في الرد على النبهاني(2/ 290)]
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: (يُسْبِغُونَ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْمَكَارِهِ) إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ: إِكْمَالُهُ وَفْقَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالْمَكَارِهُ: شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَمَشَقَّةُ الْأَسْفَارِ، وَثِقَلُ الْمَرَضِ الَّذِي لَا يَسُوؤُهُ الْمَاءُ.
وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ اللهِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ، أَتَوْا بِهِ؛ لِيُعْرِبُوا عَنْ حِرْصِهِمْ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَإِيثَارِهِمْ رِضَاهُ عَلَى رَاحَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَدَفْعِ مَشَقَّتِهِمْ، وَيُعَبِّرُوا عَنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَصِدْقِ مَحَبَّتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَمُرَاقَبَتِهِمْ لَهُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، يَرْفَعُونَ بِهِ الْحَدَثَ، وَيَدْفَعُونَ عَنِ الْعُضْوِ وَالْقَلْبِ الْخَبَثَ؛ اسْتِهْدَاءً بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ ‌إِذَا ‌أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ). [أخرجه: البخاري/صحيحه(6554)(6/ 2551)]
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ ‌فِي ‌الْمَكَارِهِ، وَإِعْمَالُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، يَغْسِلُ الْخَطَايَا غَسْلًا). [صحيح، أخرجه: أبو عبيد/الطهور(ص107)]
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌كَفَّارَاتُ ‌الْخَطَايَا، إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَإِعْمَالُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ). [صحيح، أخرجه: ابن ماجه/سننه(428)(1/ 148)]
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ‌خَرَجَتْ ‌خَطَايَاهُ ‌مِنْ ‌جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(245)(1/ 149)]
وَيَرْجُونَ أَنْ يَبْلُغُوا بِهِ أَجْرَ الرِّبَاطِ الَّذِي يَدُومُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَنَالُوا بِهِ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ مِنَ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟) قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(251)(1/ 219)]

السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (وَيُنِيبُونَ إِلَى ذِكْرِي كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى أَوْكَارِهَا) الْإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَقَدْ ذُكِرَ النَّسْرُ فِي الْأَثَرِ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى الطُّيُورِ، يَنْزِعُ بِطَبْعِهِ إِلَى الذُّرَى وَالْمَعَالِي، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ قُوَّةً فِي بَصَرِهِ يَرَى بِهَا دَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ رُغْمَ ارْتِفَاعِهِ الْمَسَافَاتِ وَاعْتِلَائِهِ قِمَمَ الْجِبَالِ وَبُلُوغِهِ غَيْمَ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى وَكْرِهِ بِغِبْطَةٍ وَارْتِيَاحٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ: بَيَانُ نُعُوتِ فَرِيقٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ الَّذِينَ قَوِيَتْ عَزَائِمُهُمْ، وَزَكَتْ نُفُوسُهُمْ، وَسَمَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَنِ الدَّنَايَا، وَسَعَتْ نَحْوَ الْمَعَالِي، عَلِمُوا بِنُورِ بَصَائِرِهِمْ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ، وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ فَأَلِفُوهُ وَأَنَابُوا إلَيْهِ بَعْدَ سَعْيِهِمْ فِي أَسْبَابِ مَعَايِشِهِمْ بِغِبْطَةٍ كَغِبْطَةِ النُّسُورِ إِذَا أَنَابَتْ إلَى أَوْكَارِهَا؛ مُمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌اذْكُرُوا ‌اللَّهَ ‌ذِكْرًا ‌كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 41-43]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ‌فَانْتَشِرُوا ‌فِي ‌الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10]، وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْمُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: (الَّذِينَ يُهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللهِ) [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(8290)(14/ 44)]. أَيِ الَّذِينَ: يُوْلَعُونَ بِذِكْرِ اللهِ وَلَا يَتَحَدَّثُونَ بِغَيْرِهِ. [الساعاتي/الفتح الرباني(1
4/ 204)]
فَهَؤُلَاءِ يُقَرِّبُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُ، وَيُظِلُّهُمْ بِظِلِّ عَرْشِهِ، وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ يُكَابِدُونَ شَدَائِدَ الْمَوْقِفِ، وَحَرَّ الشَّمْسِ، وَطُولَ الْحِسَابِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ.
الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: (يَكْلَفُونَ بِحُبِّي كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِحُبِّ النَّاسِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (بِحُبِّ أُمِّهِ) الْكَلَفُ: الْوَلَهُ وَشِدَّةُ الْحُبِّ، وَقَالُوا: هُوَ الْوَلُوعُ بِالشَّيْءِ مَعَ شَغْلِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُوْلَعُ بِحُبِّ أُمِّهِ وَيَشْغَلُ قَلْبَهُ بِهَا، وَيَؤُوبُ إلَيْهَا كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ بَدَنِهَا، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْحَقَّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَمْنُ مِنْ أَهْوَالِ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ بِظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ أَشَدَّ الْحُبِّ، حُبًّا لَا يُدَانِيهِ حُبُّ نَفْسِهِ، وَلَا حُبُّ وَلَدِهِ، وَلَا وَالِدَيْهِ، وَلَا النَّاسِ أَجْمَعِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا ‌أَشَدُّ ‌حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]، وَهُوَ مَنْزِلٌ عَزِيزٌ فِي النَّاسِ، رُغْمَ أَنَّهُ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، وَمِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ؛ فَعَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ ‌حَتَّى ‌أَكُونَ ‌أَحَبَّ ‌إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [أخرجه: البخاري/صحيحه(15)(1/ 12)، مسلم/صحيحه(44)(1/67)]، وَحُبُّ اللهِ فَوْقَ حُبِّ نَبِيِّهِ، وَآكَدُ.
عَلَى أَنَّ حُبَّ اللَّهِ هُوَ بَوَّابَةُ الْخُيُورِ، بِهِ يُبَادِرُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الصَّالِحَاتِ، وَبِهِ يُحَاذِرُ الْمَعْصِيَاتِ، وَبِهِ يَنَالُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَبِهِ يَنْجَذِبُ الْمَرْءُ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَعَقْلِهِ وَبَدَنِهِ إِلَى اللَّهِ، فَيُرَاقِبُهُ فِي أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، يَحْرِصُ عَلَى مَرَاضِيهِ، وَيُحَاذِرُ مَسَاخِطَهُ، وَلِشَرَفِهِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ رَبَّهُ بِتَكَرُّرٍ وَإِلْحَاحٍ يَقُولُ: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ‌حُبَّكَ ‌وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(3235)(5/ 369)]
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاودَ يَقُولُ: الْلَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ ‌حُبَّكَ، ‌وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، الْلَّهُمَّ اجْعلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي وَأهْلِي، وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ). [ضعيف، أخرجه: الترمذي/سننه(3490)(5/ 522)]
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ أَشَدَّ الْحُبِّ؛ فَهُوَ الْآمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْفَائِزُ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ مِنْ الْجَنَّةِ.
التَّاسِعَةُ: قوله: (يَغْضَبُونَ لِمَحَارِمِي إِذَا اسْتُحِلَّتْ كَمَا يَغْضَبُ النِّمْرُ إِذَا حَرِبَ) أَيْ: مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ: الْمُعَظِّمُونَ لِشَعَائِرِ اللَّهِ وَمَحَارِمِهِ، الْحَافِظُونَ لِفَرَائِضِهِ، وَلَا يَتَعَدَّوْنَ حُدُودَهُ، الَّذِينَ أَحَبُّو اللَّهَ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ، فَانْقَادُوا إِلَى أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، وَاشْتَدَّتْ غَيْرَتُهُمْ عَلَى دِينِهِ، يُحِبُّونَ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَيُبْغِضُونَ مَنْ يُعَانِدُهُ، إذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُهُ تَمَعَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، ودَفَعُوا الْمُنْكَرَ جُهْدَهُمْ؛ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَغْضَبُ إلَّا لِلَّهِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَادِمًا لَهُ قَطُّ وَلَا امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَهُ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ ‌مَحَارِمُ ‌اللهِ عز وجل فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ عز وجل، وَمَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الْآخَرِ إِلَّا أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْثَمًا، فَإِنْ كَانَ مَأْثَمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ». [صحيح، أخرجه: أحمد/مسنده(24034)(40/ 37)]
مَقَتُوا أَهْلَ الْعَجَاجَةِ، أَيْ: نُخَالَةَ النَّاسِ وَسَقَطَهُمْ وَأَرْاذِلَهُمْ ضُعَفَاءَ الْمُرُوءَةِ، الَّذِينَ لَا يَغَارُونَ عَلَى دِينِ اللهِ، وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِذَا اقْتَرَبَتْ نِهَايَةُ الزَّمَانِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ اللهُ ‌شَرِيطَتَهُ ‌مِنْ ‌أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَبْقَى فِيهَا عَجَاجَةٌ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا). [رجاله ثقات، أخرجه: أحمد/مسنده(6964)(11/ 551)]
هُمْ أَهْلُ الْغَيْرَةِ وَالدِّينِ، لَمْ يُجَامِلُوا أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا أَحَدًا عَلَى ضَلَالَةٍ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْخَطِيئَةَ وَلَمْ يُنْكِرْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ كَانَ شَرِيكًا لِمَنْ يَفْعَلُهَا؛ فَعَنِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا ‌عُمِلَتِ ‌الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا وَقَالَ مَرَّةً: أَنْكَرَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا). [حسن، أخرجه: أبو داود/سننه(4345)(4/ 218)]
اسْتَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ شُؤْمَ الْقُعُودِ عَنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِنْكَارِ الْبَاطِلِ؛ لِيَنْجُو مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَرَدِّ الدُّعَاءِ؛ فَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ قَوْمٍ ‌يُعْمَلُ ‌فِيهِمْ ‌بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُمْ وَأَمْنَعُ، لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا عَمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعِقَابِهِ). [حسن، أخرجه: ابن ماجه/سننه(4009)(2/ 329)]
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ‌لَتَأْمُرُنَّ ‌بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ). [حسن، أخرجه: الترمذي/سننه(2169)(4/ 468)]
۞۞ تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ وَفَضْلِهِ ۞۞
2025/07/14 00:22:25
Back to Top
HTML Embed Code: