Telegram Web Link
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ) الْقَدَرُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ: الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ فِي الْلَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْمَكْشُوفِ لِمَلَائِكَتِهِ، وَبَعْضِ خُلَّصِ عِبَادِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، لَا مِنَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأُمِّ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: (إِلَّا الدُّعَاءُ)، أَيِ: الْمُسْتَجَابُ الْمُحَقَّقُ. [القاري/مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3087)]
قَالَ الْغَزَالِيُّ ؒ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الدُّعَاءِ مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا مَرَدَّ لَهُ؟
يُقَالُ: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ رَدُّ الْبَلَاءِ وَوُجُودُ الرَّحْمَةِ؛ كَمَا أَنَّ الْبَذْرَ سَبَبٌ لِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَكَمَا أَنَّ التُّرْسَ يَدْفَعُ السَّهْمَ، كَذَلِكَ الدُّعَاءُ يَرُدُّ الْبَلَاءَ. [الغزالي/إحياء علوم الدين(1/329)]

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا) ذُكِرَ الرَّجُلُ لِلتَّغْلِيبِ وَشَرَفِ الذُّكُورِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ أَنَّ كُلَّاً مِنْهُمَا يُحْرَمُ الرِّزْقَ، أَوْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمَا بِهِ، أَوْ تَذْهَبُ عَنْهُمَا بَرَكَتُهُ بِالْمَعْصِيَةِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سبأ: 15-17]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].
5.الدَّاعِي فِي مَعِيَّةِ اللهِ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي). [أخرجه: مسلم/صحيحه (2675)(4/2067)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) يَعْنِي: إِنَّهُ إِنْ تَبَاعَدَ ظَنُّهُ فَبَلَغَ أَقْصَى مَبْلَغٍ مِنَ الْأَمَانِي الْعَرِيضَةِ وَالْآمَالِ الطَّوِيلَةِ؛ فَإِنِّي عِنْدَ ظَنِّهِ، كَمَا أَنَّهُ إِنْ جَهِلَنِي عَبْدِي فَظَنَّ فِيَّ ظَنًّا ضَعِيفًا، فَأَمَّلَنِي أَمَلًا صَغِيرًا، فَلَمْ يَتَّسِعْ أَمَلُهُ لِسُوءِ ظَنِّهِ بِجُودِي، كَانَ الْحَدُّ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ قُصُورُ نَفْسِهِ، هُوَ الَّذِي حَبَسَهُ عَنْ النِّيلِ لِمَا أَدْرَكَهُ أَهْلُ حُسْنِ الظَّنِّ. [ابن هبيرة/ الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 47)]

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي) أَيْ: أُصَاحِبُهُ تَوْفِيقِي، وَأُحِيطُهُ بِعِنَايَتِي وَرِعَايَتِي، وَأُكْرِمُهُ بِجُودِي وَإِحْسَانِي إِذَا عَبَدَنِي وَحْدِي، وَسَأَلَنِي دُونَ غَيْرِي.
#الفتاوى
الفتاوى النافعة

🔶السُّؤَالُ/ مَا حُكْمُ التُّجَّارِ الَّذِينَ يُغَالُونَ فِي الْأَسْعَارِ عَلَى الْمُؤَسَّسَاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْمُتَبَرِّعِينَ وَالدَّاعِمِينَ بِدَعْوَى أَنَّهَا مُمَوَّلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً؟

🔶 الْجَوَابُ/ الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ، وَصَحْبِهِ، وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عَنْ رِفَاعَةَ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ بُكْرَةً، فَنَادَاهُمْ: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ)، فَلَمَّا رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ، وَمَدُّوا أَعْنَاقَهُمْ، قَالَ: (إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ ‌اتَّقَى ‌وَبَرَّ ‌وَصَدَقَ) [حسن لغيره، أخرجه: ابن ماجه/سننه(2146)(3/ 277)].
هَذَا حَدِيثٌ مَخُوفٌ؛ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةٍ تُؤْذِنُ بِأَنَّ عُمُومَ التُّجَّارِ فُجَّارٌ، وَمِنَ الْفُجْرِ: الْحَلِفُ الْكَاذِبُ، وَالْغِشُّ فِي السِّلْعَةِ، وَالْغَبْنُ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِهَا عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْأَمَانَةُ، وَمِنَ الْفُجْرِ: بُيُوعُ الرِّبَا، وَالْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ؛ كَبَيْعِ الْمُنَابَذَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، وَالنَّجَشِ، وَبَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَقَدْ حُظِرَتْ كُلُّهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ.
وَأَنَّ النَّاجِينَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِه: (إِلَّا) هُمُ الْأَتْقِيَاءُ الَّذِينَ يَتَحَرَّوْنَ مَرَاضِي اللهَ، وَيَجْتَنِبُونَ مَسَاخِطَهُ، وَيُبْرِمُونَ عُقُودَ الْبَيْعِ مَبْرُورَةً؛ حِرْصَاً مِنْهُمْ عَلَى الْكَسْبِ الطَّيِّبِ، وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ ‌وَكُلُّ ‌بَيْعٍ ‌مَبْرُورٍ) [حسن لغيره، أخرجه: أحمد/مسنده(17265)(28/502)]، وَالْبَيْعُ الْمَبْرُورُ: الْخَالِي مِنَ الْغِشِّ وَالْغَرَرِ.
وَالتَّاجِرُ الصَّادِقُ: هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ قَوْلَ الْحَقِّ، وَفِعْلَ الْحَقِّ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الرِّزْقَ مُقَدَّرٌ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ صَاحِبُهُ؛ فَلَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ رَكِبَ الرِّيحَ فَارَّاً مِنْ رِزْقِهِ؛ لَرَكِبَ الرِّزْقُ الْبَرْقَ لِيَقَعَ فِي فَمِ ابْنِ آدَمَ.
وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ السُّوقَ يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ، وَيُغْرِي أَهْلَهَا بِالْحَلِفِ وَتَحْسِينِ السِّلْعَةِ؛ فَيَشُوبُهَا بِالصَّدَقَةِ؛ اسْتِهْدَاءً بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ، وَالإِثْمَ يَحْضُرَانِ البَيْعَ، فَشُوبُوا ‌بَيْعَكُمْ ‌بِالصَّدَقَةِ) [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(1208)(3/ 506)].
وَمِنَ الصِّدْقِ: الْقَنَاعَةُ فِي الرِّبْحِ، وَالسَّمَاحَةُ فِي الْبَيْعِ؛ حِرْصَاً أَنْ تُصِيبَهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللهُ رَجُلًا، ‌سَمْحًا ‌إِذَا ‌بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى) [أخرجه: البخاري/صحيحه(2076)(3/57)].
وَبَعْدَ هَذَا التَّقْدِيمِ أَقُولُ فِي الْإِجَابَةِ:
إِنَّ التَّاجِرَ الَّذِي يُغَالِي فِي أَثْمَانِ السِّلَعِ عَلَى الْمُؤَسَّسَاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ؛ قَدْ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، وَكَانَ مِنَ الْفُجَّارِ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ مَصْلَحَتَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَالتَّيْسِيرِ عَلَى الْمَنْكُوبِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا غَالَى فِي أَثْمَانِ السِّلَعِ؛ قَلَّ حَجْمُ الْمُشَتَرَى مِنْ قِبَلِ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَاتِ، وَلَوْ تَيَاسَرَ مَعَهُمْ وَالْتَزَمَ الْقَنَاعَةَ؛ لَهَيَّأَ لَهُمْ فُرْصَةً فِي زِيَادَةِ حَجْمِ الْمُشْتَرَيَاتِ الَّتِي تَنْفَعُ مِسَاحَةً أَكْبَرَ مِنَ الْمَنْكُوبِينَ، وَلِذَلِكَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ فِي غَبْنِ تِلْكَ الْمُؤَسَّسَاتِ وَالتَّغْرِيرِ بِهَا، وَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُسَاهَمَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ لِأَهْلِهِ الْمَنْكُوبِينَ.
وَيَجُوزُ لِلْمُؤَسَّسَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْغَرَرِ أَنْ تَفْسَخَ الْعَقْدَ دُونَ رِضَا الْبَائِعِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا ‌تَلَقَّوُا ‌الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ) [أخرجه: مسلم/صحيحه(1519)(5/ 5)].
وَالْجَلَبُ: الْأَجْنَبِيُّ الْجَائِي بِبِضَاعَتِهِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، فَيَتَلَقَّاهُ التَّاجِرُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِبِضَاعَتِهِ السُّوقَ، فَيَشْتَرِي مِنْهُ الْبِضَاعَةَ بِثَمَنٍ رَخِيصٍ؛ لِجَهْلِ الرَّجُلِ بِحَقِيقَةِ ثَمَنِهَا فِي أَسْوَاقِ الْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ، وَيَبِيعُ الرَّجُلُ الْبَلَدِيُّ الْبِضَاعَةَ بِأَثْمَانٍ غَالِيَةٍ، فَيَكُونُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَدْ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ مُرَكَّبٍ مِنْ مُخَالَفَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ غَبَنَ الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ، وَالثَّانِيَةَ: أَنَّهُ آثَرَ مَصْلَحَتَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ عُمُومِ التُّجَّارِ؛ فَأَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا عَلِمَ خِدَاعَ الرَّجُلِ الْبَلَدِيِّ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، وَيَسْتَرِدَّ الْبِضَاعَةَ.
وَالْمُؤَسَّسَاتُ الْخَيْرِيَّةُ فِي سُؤَالِنَا كَالْجَلَبِ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الْغَرَرِ مِنْ قِبَلِ ذَوِي الطَّمَعِ وَالْفُجُورِ، وَكَالْجَلَبِ فِي حَقِّهَا بِفَسْخِ الْعَقْدِ دُونَ رِضَا الْغَابِنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
🖋 أ.د. سلمان نصر الدايه
غَنَائِمُ الدَّاعِينَ (4)
✍️أ.د. سَلْمَانُ نَصْرُ الدَّايَه

رَابِعًا: آدَابُ الدُّعَاءِ:

لِلدُّعَاءِ آدَابٌ يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهَا؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ قَبُولِ الدُّعَاءِ وَإِجَابَةِ الْمَسْأَلَةِ، إِلَيْكَ بَيَانَهَا:

1. الْإِخْلَاص لله:
الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ أَعْوَنُ الْأَسْبَابِ عَلَى إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَكُلَّمَا زَادَ الْإِخْلَاصُ زَادَ الْقَبُولُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: 14]، أَيْ: فَاعْبُدُوا اللَّهَ، وَسَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ حَالَ كَوْنِكُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ، وَخَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ فِي مَسْلَكِهِمْ، وَلَوْ أَغْضَبَهُمْ ذَلِكَ، فَلَا تُبَالُوا بِهِمْ.
وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ). [صحيح، أخرجه: النسائي/سننه(3178)(6/45)]
قَالَ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله: النَّصْرُ: الْإِعَانَةُ وَالْإِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ إعْلَامٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّصْرَ بِطَاعَاتِ الضُّعَفَاءِ لَا بِقُوَى الْأَبْطَالِ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ جِهَادُ الضُّعَفَاءِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمَعْذُورُونَ. [الصنعاني/ التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 210)]
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَةَ الضُّعَفَاءِ وَدُعَاءَهُمْ أَشَدُّ إِخْلَاصًا لِجَلَاءِ قُلُوبِهِمْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِزُخْرُفِ الدُّنْيَا، وَجَعَلُوا هَمَّهُمْ وَاحِدٌ، فَأُجِيبَ دُعَاؤُهُمْ، وَزَكَتْ أَعْمَالُهُمُ. [العظيم آبادي/ عون المعبود وحاشية ابن القيم (7/ 184)]
وَالْحَدِيثُ صَرِيحُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، فَإِذَا أَرَادَتِ اَلْأُمَّةُ نَصْرًا؛ فَعَلَيْهَا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ [النور: 55].
أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الَّتِي أُمِرُوا أَنْ يَقُومُوا بِهَا، كَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَنَشْرِ الْأَمْنِ، وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَإِعْدَادِ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ لِلْكُفَّارِ، بِثَلَاثَةِ وُعُودٍ: الْوَعْدُ الْأَوَّلُ: لَيُوَرِّثَنَّهُمْ أَرْضَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَجْعَلَهُمْ خَلَفًا لِمُلُوكِهَا وَحُكَّامِهَا ذَوِي الْقُوَي الْمَادِّيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ الَّتِي لَا تُدَانِيهَا قُوَى الَّذِينَ آمَنُوا، كَمَا اسْتَخْلَفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِالْحُكْمِ وَالسُّلْطَانِ فِي الْأَرْضِ، وَالْوَعْدُ الثَّانِي: لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُمْ، وَيُظْهِرَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَالْوَعْدُ الثَّالِثُ: لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ آمِنًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعْطَوْنَهُ بِشَرْطِ إِخْلَاصِهِمُ الْعِبَادَةَ للهِ، وَتَجْرِيدِهَا عَنِ الشَّرِكَةِ وَالشَّرِيكِ. [مجد مكي/تفسير المعين(ص357) بتصرف]
غَنَائِمُ الدَّاعِينَ (5)
✍️أ.د. سَلْمَانُ بنُ نَصْرٍ الدَّايَه

رَابِعًا: آدَابُ الدُّعَاءِ

2. حُضُورُ الْقَلْبِ، وَحُسْنُ الرَّجَاءِ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ). [حسن، أخرجه: الترمذي/سننه(3479)(5/517)]
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ عز وجل، أَيُّهَا النَّاسُ، فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ). [حسن، أخرجه: أحمد/مسنده(6655)(11/235)]

فِي الْحَدِيثَيْنِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ) أَيِ: اسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَحَقِّقِينَ جَازِمِينَ بِالْإِجَابَةِ. [المناوي/ التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 54)]
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ ؒ: "يُؤَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ يُقَالَ: كُونُوا أَوَانَ الدُّعَاءِ عَلَى حَالَةٍ تَسْتَحِقُّونَ مَعَهَا الْإِجَابَةَ، وَذَلِكَ بِإِتْيَانِ الْمَعْرُوفِ، وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُرَاعَاةِ أَرْكَانِ الدُّعَاءِ وَآدَابِهِ؛ حَتَّى لَا تَكُونَ الْإِجَابَةُ عَلَى قَلْبِهِ أَغْلَبَ مِنَ الرَّدِّ.
وَالْآخَرُ أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ: ادْعُوهُ مُعْتَقِدِينَ لِوُقُوعِ الْإِجَابَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِي إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقَاً فِي الرَّجَاءِ لَمْ يَكُنْ رَجَاؤُهُ صَادِقًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّجَاءُ صَادِقًا؛ لَمْ يَكُنِ الدُّعَاءُ خَالِصَاً وَالدَّاعِي مُخْلِصَاً؛ فَإِنَّ الرَّجَاءَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الطَّلَبِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْعُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الْأَصْلِ". [التوربشتي/ الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 516)]
وَقَالَ الْقَارِيُّ رحمه الله: "أَيْ: كُونُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ عَلَى حَالَةٍ تَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْإِجَابَةَ مِنْ إِتْيَانِ الْمَعْرُوفِ، وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ، وَرِعَايَةِ شُرُوطِ الدُّعَاءِ كَحُضُورِ الْقَلْبِ، وَتَرَصُّدِ الْأَزْمِنَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْأَمْكِنَةِ الْمَنِيفَةِ، وَاغْتِنَامِ الْأَحْوَالِ اللَّطِيفَةِ، كَالسُّجُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى تَكُونَ الْإِجَابَةُ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَغْلَبَ مِنَ الرَّدِّ، أَوْ أَرَادَ: ادْعُوهُ وَأَنْتُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُكُمْ؛ لِسِعَةِ كَرَمِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، لِتَحَقُّقِ صِدْقِ الرَّجَاءِ وَخُلُوصِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ مَا لَمْ يَكُنْ رَجَاؤُهُ وَاثِقًا لَمْ يَكُنْ دُعَاؤُهُ صَادِقًا". [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1531)]
وَقَالَ الْمُظْهِرِيُّ رحمه الله: "الْوَاوُ فِي (وَأَنْتُمْ) وَاوُ الْحَالِ؛ يَعْنِي: لِيَكُنِ الدَّاعِي رَبَّهُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُجِيبُهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الدُّعَاءِ؛ إِمَّا لِعَجْزٍ فِي إِجَابَتِهِ، أَوْ لِعَدَمِ كَرَمٍ فِي الْمَدْعُو، أَوْ لِعَدَمِ عِلْمِ الْمَدْعُوِّ بِدُعَاءِ الدَّاعِي، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ جل جلاله عَالِمٌ كَرِيمٌ قَادِرٌ، لَا مَانِعَ لَهُ مِنَ الْإِجَابَةِ، فَإِذَا عَلِمَ الدَّاعِي أَنَّهُ لَا مَانِعَ للهِ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ فَلْيَكُنْ مُوقِنًا بِالْإِجَابَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ: إِنَّ الدَّاعِيَ لِيَكُنْ مُوقِنًا بِالْإِجَابَةِ، وَالْيَقِينُ إِنَّما يَكُونُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَنَحْنُ قَدْ نَرَى بَعْضَ الدُّعَاءِ يُسْتَجَابُ وَبَعْضُهُ لَا يُسْتَجَابُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِلدَّاعِي يَقِينٌ؟
قُلْنَا: الدَّاعِي لَا يَكُونُ مَحْرُومَاً عَنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ الْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ يُعْطَى مَا يَسْأَلُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِجَابَةُ دُعَائِهِ مُقَدَّرَةً فِي الْأَزَلِ لَا يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُ فِيمَا يَسْأَلُ، وَلَكِنْ يُدْفَعُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَ مَا يَسْأَلُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ يُعْطَى عِوَضَ مَا سَأَلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَةِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وَمَنْ عَمِلَ عِبَادَةً لَا يُجْعَلُ مَحْرُومَاً مِنَ الثَّوَابِ". [المظهري/ المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 127)]
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: "قُيِّدَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ بِالْيَقِينِ، وَالْمُرَادُ النَّهِيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا هُوَ مُنَافٍ لِلْإِيقَانِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْلَّهْوِ بِضِدِّهِمَا مِنْ إِحْضَارِ الْقَلْبِ، وَالْجِدِّ فِي الطَّلَبِ بِالْعَزْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِذَا حَصَلَا حَصَلَ الْيَقِينُ، وَنَبَّه صلى الله عليه وسلم هَذَا التَّنْبِيهَ بِقَوْلِهِ: (وَاعْلَمُوا) وَنَظِيرُهُ فِي الْكِنَايَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102] نَهَاهُمْ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى حَالَةِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْدُورِهِمْ، لَكِنَّهُ أَمْرٌ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ إِذَا أَدْرَكَهُمُ الْمَوْتُ أَدْرَكَهَمُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. [الطيبي/ شرح المشكاة (5/ 1713)]
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ) أَيْ: لَا يَسْتَجِيبُ غَالِبًا، أَوِ اسْتِجَابَةً كَامِلَة مِنْ قَلْبِ مُعْرِضٍ عَنِ اللَّهِ أَوْ غَافِلٍ عَمَّا سَأَلَهُ، مَشْغُولٍ بِغَيْرِ اللهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا. [انظر: القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1531)]
قَالَ الْمُنَاوِيُّ رحمه الله: "أَيْ: لَا يَعْبَأُ بِسُؤُالِ سَائِلٍ مَشْغُوفِ الْقَلْبِ بِمَا أَهَمَّهُ مِنْ دُنْيَاهُ". [المناوي/ التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 54)]
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ لَمْ يَنْشَأِ الدُّعَاءُ مِنْ سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِخَلْقِهِ حُظُوظًا مَخْزُونَةً عِنْدَهُ فِي سِرِّ غَيْبِهِ، وَهُمْ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَلَوْ أَبْرَزَهَا لِمَدَّتِ الْأُمَمُ أَعْيُنَهَا إِلَى تِلْكَ الْحُظُوظِ، وَظَهَرَتِ الْخُصُومَاتُ، وَاشْتَدَّتِ الْعَدَاوَاتُ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَبِيدُكَ مِنْ طِينَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَأَسَرَّ تِلْكَ الْحُظُوظَ فِي غَيْبِهِ، وَأَلْقَاهَا إِلَى الدُّعَاءِ تَخْيِيلَاً أَنَّهُمْ إِنَّمَا نَالُوهَا بِهِ. [الحكيم الترمذي/نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم (4/123-124)]
وَفِيهِ: الْحَثُّ عَلَى حُضُورِ الْقَلْبِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْكُلِيَّةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَهَذَا الْأَدَبُ عُمْدَةُ آدَابِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الْإِخْلَاصِ للهِ؛ قَالَ الرَّازِيُّ رحمه الله: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ مَعَ غَفْلَةِ الْقَلْبِ لَا أَثَرَ لَهُ. [انظر: الصنعاني/ التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 472)، المناوي/ التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 54)]
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: "اعْلَمْ أَنَّ التَّيَقُّظَ، وَالْجِدَّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ أَعْظَمِ آدَابِهِ، وَأَوْثَقِ عُرَاهُ". [الطيبي/ شرح المشكاة (5/ 1713)]
وَقَالَ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله: "يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يَدْعُو إِحْضَارَ قَلْبِهِ، وَتَدَبُّرَ مَا يَقُولُهُ، فَهَذَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْإِجَابَةِ. [الصنعاني/ التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 31)]
#الفتاوى

🔶 الفتاوى النافعة
حُكْمُ رَجْمِ الصَّوَارِيخِ
مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمَأْهُولَةِ بِالنَّاسِ
✍️أ.د. سَلْمَانُ بنُ نَصْرٍ الدَّايَه

السؤال/ ما حكم ضرب قذائف صاروخية وغيرها من أماكن تواجد الناس وأماكن نزوحهم؟

الجواب/ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
لما علم من طريقة أهل الحرب المتكررة عشرات المرات، أنهم يستهدفون الأماكن التي تطلق منها القذائف الصاروخية بقصفها المدمر، بإنذار أهلها وأمرهم بالإخلاء أحيانا، وبقصفها من غير إنذارهم ولا أمرهم بالإخلاء أحيانا أخرى، وينشأ عن ذلك هلاك في الأنفس، ودمار في البنيان وما فيها من أثاث وأموال، ونزوح ممزوج بالخوف والذعر والبكاء والألم، والكل هائم إلى أين يتوجه؟! وهل ثمة مكان يؤويه؟! وقد لا يكون أمام البعض إلا أرصفة الطرق، والأزقة في الأماكن الأوفر أمنا على ندرتها.
أقول إلى ابني الذي يخرج ليرجم الصاروخ من وسط الأحياء المأهولة:
إن مآلات فعلك وتداعياته تتنافى مع مقاصد جهادك، فما شرع الجهاد إلا لحفظ مصالح من رميت القذيفة من بين بيوتهم، فمن أس مقاصد الجهاد: ألا تفتنهم في دينهم بردة في السلوك، أو في المعتقد، أو بهلاك في الأنفس، أو دمار في البيوت المتصدعة من آثار ما ألقي على القطاع من حمم وقنابل وصواريخ.
ولتعلم أنك عبد لإله واحد، لا يجوز أن تطيع أحدا في سخطه، أو ترضي أحدا في إغضابه؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ؛ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ، سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ). [صحيح لغيره، أخرجه: ابن حبان/صحيحه(277)]
فهل يخفى على أحد معاناة النازحين في مطعمهم، ومشربهم، وفراشهم، وغطائهم، ودوائهم، وخيامهم، وكنفهم، ووضوئهم، واغتسالهم!
أما بلغك عن أولئك الذين لا يجدون الخيمة إلا بعد أيام وهم يكابدون البرد القارص؟
فهل سألت نفسك: أترضى لأمك وأختك أن تتعنى في قضاء حاجتها حيث لا كنيف يسترها، أو تبديل ثيابها، أو نومها، أو غسلها لدفع حدث حيضها ونفاسها حيث لا بيت يؤويها؟
هل استحضرت المرأة العجوز، والشيخ الكبير، والرضيع الصغير وهم يرتجفون من شدة البرد؟.
ألم يقل الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]؟
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ...). [صحيح، أخرجه: أبو داود/سننه(1368)(2/ 48)، وأصله في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه].
فعلام تعاند، وتتسبب بذل الأنفس وهلاكها، وتدمير البيوت وزوالها، وإسقام الأنفس وإضعاف أبدانها، وإثكال النساء وإبكاء أطفالها، وإذهال العقول وإجنانها؟!
أذعرتم عدوكم وكان مشغولا عنكم بقدر كبير، فجاس ديارنا، وقتل رجالنا ونساءنا وأطفالنا، وهدم بنياننا، وأفنى أموالنا، وأجاع كلنا، وبات له حضور دائم في أجزاء قطاعنا، وكلما رجمتم قذيفة أمعن في تهجيرنا، وإزهاق أرواحنا، ونسف ما بقي من قليل بنائنا، وما زلتم على طريقتكم التي يتخذ منها المبررات في تحقيق طموحه، وتصيير أهل القطاع جميعا في الخيام يكابدون أسباب الموت البطيء، والكثير منا يغبط من قضى قبل أن يتجرع هذا الذل واللوعة على مرض لا دواء له، وجوع لا مدفع له، وحزن لا كاشف له، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإن قال قائل منكم بقول علمائكم: هذا جهاد دفع لا مقصد له، والهلاك في الدفع ربح!
أقول: أيهما أخف عند العقلاء: وجود المحتل الدائم في قطاعنا مع سكون وانشغال عنا بقدر ما، أم رجمه بصاروخ يصرفه عن سكونه؛ ليجعله مشغولا بنا، ممعنا في تدميرنا ليله ونهاره، مع عجزكم عن دفعه على كل حال؛ للفارق المذهل في العدد والعتاد والإمداد؟
لقد غركم سكوت العلماء، وأنا أجزم أنهم يعلمون أن هذا التسبيب حرام بيقين، لكنها الإمعية المهينة للعلم من علماء الداخل، وتبرير عاطفي بعيد عن واقع الأحداث من علماء الخارج.
فاتقوا الله في حياء العذارى، وأنين المرضى، وارتجاف الشيوخ والعجائز، وصراخ الأطفال.
واحذروا أن تسخر قلوب المظلومين وألسنتهم عليكم بالدعاء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ رضي الله عنه: (‌وَاتَّقِ ‌دَعْوَةَ ‌المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) [أخرجه: البخاري/صحيحه(1496)(2/128)، مسلم/صحيحه(19)(1/50)]
أسأل الله أن يشرح صدوركم لقبول هذه الفتوى، وأن تحملكم على إبصار الخلل، وتقويم السلوك، وأن تتقربوا إلى الله برحمة أهليكم، والتخفيف عنهم، والتنافس في قضاء حوائجهم، وتأمينهم من آفات البرد وآثاره المسقمة للشباب، القاتلة للعجائز والشيوخ والأطفال.
وأسأل الله لأهلنا جميعا الهدى والرشاد، وكشف البلاء، والكفاية من شر عدونا؛ إنه سميع مجيب الدعاء.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
2025/07/13 04:47:52
Back to Top
HTML Embed Code: