Telegram Web Link
غَنَائِمُ الدَّاعِينَ (11)
✍️أ.د. سَلْمَانُ بنُ نَصْرٍ الدَّايَه

رَابِعًا: آدَابُ الدُّعَاءِ


8. الدُّعَاءُ بَعْدَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَأَفْضَلُهُ الصَّلَاةُ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7- 8].
أَيْ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَاعَةٍ؛ فَارْتَحِلْ إِلَى أُخْرَى، فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِي الْمُثَابَرَةِ لَذَّةً تَقَرُّ بِهَا عَيْنَيْكَ، وَإِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ ارْغَبْ بِالدُّعَاءِ وَالثَّوَابِ.


وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: (جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ). [حسن، أخرجه: الترمذي/سننه(3499)(5/526)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: (أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ) وَفِي رِوَايَةٍ: (أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ) يُرِيدُ أَنَّهَا أَرْفَعُ لِلسَّمْعِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّها أَوْلَى بِالدُّعَاءِ وَأَرْجَى لِلِاسْتِجَابَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِ ضِمَادٍ حِيْنَ عَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ كَلَامًا لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ كَلَامًا أَسْمَعَ مِنْهُ، يُرِيدُ أَبْلَغَ وَلَا أَنْجَعَ فِي الْقَلْبِ. [ابن الملقن/ التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 106)]
قَالَ الْمُظْهِرِيُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: (أَسْمَعُ) أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَهُ اللهُ تَعَالَى؛ أَيْ: يَقْبَلَهُ". [المظهري/ المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 276)]
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: "أَيْ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا يَقْتَرِنُ بِالْقَبُولِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدَّرٍ إِمَّا فِي السُّؤَالِ، أَيْ: أَيُّ أَوْقَاتِ الدُّعَاءِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ؟ وَإِمَّا فِي الْجَوَابِ، أَيْ دُعَاؤُهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ". [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 929)]

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ) أَيْ: دُعَاءُ جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، وَهُوَ الْخَامِسُ مِنْ أَسْدَاسِ اللَّيْلِ، وقال ابن رجب: وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ. [انظر: القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 929)، ابن رجب/ جامع العلوم والحكم (2/ 145)]
وَقَوْلُهُ: (جَوْفُ الْلَّيْلِ) حَالٌ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الدُّعَاءِ فِي جَوْفِ الْلَّيْلِ الْآخِرِ، وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: حَالٌ مِنَ الدَّاعِي، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الدَّاعِي قَائِمَاً فِي جَوْفِ الْلَّيْلِ الْآخِرِ. [السُّيوطي/ عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد (2/ 201)]
قَالَ فَيْصَلُ الْمُبَارَكُ رحمه الله: "وَإِنَّمَا كَانَ جَوْفُ الْلَّيْلِ أَقْرَبَ لِلْإِجَابَةِ؛ لِكَمَالِ التَّوَجُّهِ، وَفَقْدِ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ، وَكَذَلِكَ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُنَاجَاةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَمَحِلُّ مَسْأَلَتِهِ مِنْ فَضْلِهِ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ يَظْهَرُ الْأَمَلُ". [فيصل المبارك/ تطريز رياض الصالحين (ص: 821)]

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ) أَيْ: عَقِيبَهَا، وَدُبُرُ كُلِّ شَيْءٍ: وَرَاؤُهُ وَعَقِبُهُ، وَالْمُرَادُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَوَاتِ. [انظر: ابن الملك/ شرح المصابيح (2/ 169)، الصنعاني/ التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 21)]
وَالْأَصَحُّ هُنَا اسْتِعْمَالُ الدُّبُرِ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ.
غَنَائِمُ الدَّاعِينَ (12)
✍️أ.د. سَلْمَانُ بنُ نَصْرٍ الدَّايَه

رَابِعًا: آدَابُ الدُّعَاءِ

9. بَدْءُ الدُّعَاءِ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى:

يُسْتَحَبُّ لِلدَّاعِي أَنْ يَبْدَأَ دُعَاءَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى قَبُولِ الدُّعَاءِ وَإِجَابَةِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ، وَأَعْظَمَهُ وَأَحْكَمَهُ دُعَاءُ الْفَاتِحَةِ: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6- 7]؛ فَإِنَّهُ إِذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ، فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ". [ابن تيمية/الحسنة والسيئة(ص83)]
وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ) ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 1]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(395)(1/296)]
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ الْمُصَلِّي حَيْثُ كَانَ مُنَاجِيًا لَهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ جَوَابَ مَا يُنَاجِيهِ بِهِ كَلِمَةً كَلِمَةً، فَأَوَّلُ الْفَاتِحَةِ حَمْدٌ، ثُمَّ ثَنَاءٌ، وَهُوَ تَثْنِيَةُ الْحَمْدِ وَتَكْرِيرُهُ، ثُمَّ تَمْجِيدٌ، وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِأَوْصَافِ الْمَجْدِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ الْعَبْدُ مِنَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ إِلَى خِطَابِ الْحُضُورِ، كَأَنَّهُ صَلُحَ حِينَئِذٍ لِلتَّقْرِيبِ مِنَ الْحَضْرَةِ فَخَاطَبَ خِطَابَ الْحَاضِرِينَ، فَقَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تَجْمَعُ سِرَّ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ إنَّمَا خُلِقُوا لِيُؤْمَرُوا بِالْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وَإِنَّمَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ لِذَلِكَ، فَالْعِبَادَةُ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لِلْعِبَادِ عَلَيْهَا بِدُونِ إِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْإِعَانَةَ مِنَ اللَّهِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ بِهِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ صِرَاطِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
فَمَنِ اسْتَقَامَ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ؛ حَصَلَ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاسْتَقَامَ سَيْرُهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ؛ فَهُوَ إمَّا مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ طَرِيقَ الْهُدَى وَلَا يَتَّبِعُهُ كَالْيَهُودِ، أَوْ ضَالٌّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى كَالنُّصَارَى وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
فَإِذَا خَتَمَ الْقَارِئُ فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ؛ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَقَالَ: (هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) وَحِينَئِذٍ تُؤَمِّنُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى دُعَاءِ الْمُصَلَّى، فَيُشْرَعُ لِلْمُصَلِّينَ مُوَافَقَتُهُمْ فِي التَّأْمِينِ مَعَهُمْ، فَالتَّأْمِينُ مِمَّا يُسْتَجَابُ بِهِ الدُّعَاءُ. [ابن رجب/ فتح الباري (7/ 102)]

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: (اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ). [أخرجه: مسلم/صحيحه(769)(1/532)]
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ رحمه الله: "هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، إذْ لَفْظُ: (الْقَيِّمِ) إشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْجَوْهَرِ وَقِوَامَهُ مِنْهُ، وَوُجُودَ (النُّورِ) إِلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ مِنْهُ، وَوُجُودَ (الْمُلْكِ) لَمَّا أَنَّهُ حَاكِمٌ فِيهَا إِيجَادًا وَإِعْدَامًا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَكُلُّ هَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ؛ فَلِهَذَا قَرَنَ كُلًّا مِنْهَا بِالْحَمْدِ، وَخَصَّ الْحَمْدَ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (أَنْتَ الْحَقُّ) إِشَارَةً إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْقَوْلِ، وَنَحْوَهُ إِلَى الْمَعَاشِ، وَ(السَّاعَةَ) إِلَى الْمَعَادِ". [العيني/ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (7/ 168)]
وَقَالَ الْقَارِي رحمه الله: "يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْحُضُورِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا، وَأَقْبَحُ الْكَذِبِ مَا يَكُونُ وَالْإِنْسَانُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ". [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 672)]
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَالْإِخْبَاتِ عِنْدَ قِيَامِهِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْإِخْلَاصِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عز وجل بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَالْإِقْرَارِ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَالتَّسْلِيمِ وَالِابْتِهَالِ. [ابن عبد البر/ التمهيد(12/ 189-190)]
وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مُوَاظَبَتهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْلَّيْلِ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ تَعَالَى بِحُقُوقِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِصِدْقِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ". [النووي/ شرحه على مسلم (6/ 56)]
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رحمه الله: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو اللهَ عز وجل فِي أَوْقَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَعِنْدَ نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ بِنَوْعٍ مِنَ الدُّعَاءِ يَصْلُحُ لِحَالِهِ تِلْكَ وَلِوَقْتِهِ ذَلِكَ". [ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (10/ 85)]
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ رحمه الله: "فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ كُلِّ مَطْلُوبٍ؛ اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم". [العيني/ عمدة القاري شرح صحيح البخاري (7/ 168)]
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "الْحَدِيثُ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى". [ابن حجر/ فتح الباري (2/230)]
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله: "فِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ اللَّهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَتَحْمِيدُهُ، وَتَمْجِيدُهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَالْخُضُوعُ لَهُ، وَالِاعْتِرَافُ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقِيَامِ السَّاعَةِ". [ابن عبد البر/ الاستذكار (2/ 535)]
وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارَاً عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ صلى الله عليه وسلم: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].
لَمَّا أَتَمَّ اللهُ لِيُوسُفَ مَا أَتَمَّ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُلْكِ، وَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، وَبَعْدَ الْعِلْمِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ؛ قَالَ مُقِرَّاً بِنِعْمَةِ اللهِ شَاكِرَاً لَهَا دَاعِيَاً بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ.
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَتَدْبِيرِهَا وَوَزِيرَاً كَبِيرَاً لِلْمَلِكَ ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ﴾ أَيْ: مِنْ تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ أَيْ: أَدِمْ عَلَيّ الْإِسْلَامَ وَثَبِّتْنِي عَلَيْهِ حَتَّى تَوَفَّانِي عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا دُعَاءً بِاسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ، ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَبْرَارِ وَالْأَصْفِيَاءِ الْأَخْيَارِ». [السعدي/تفسيره(ص406)]
وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ أَيُّوبَ صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83- 84].
أَيْ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا وَرَسُولَنَا، أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ -مُثْنِيًا مُعَظِّمًا لَهُ، رَافِعًا لِقَدْرِهِ- حِينَ ابْتَلَاهُ بِبَلَاءٍ شَدِيدٍ، فَوَجَدَهُ صَابِرًا رَاضِيًا عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ سُلِّطَ عَلَى جَسَدِهِ، ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ، وَامْتِحَانًا فَنَفَخَ فِي جَسَدِهِ، فَتَقَرَّحَ قُرُوحًا عَظِيمَةً، وَمَكَثَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَاشْتَدَّ بِهِ الْبَلَاءُ، وَمَاتَ أَهْلُهُ، وَذَهَبَ مَالُهُ، فَنَادَى رَبَّهُ: رَبِّ ﴿أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فَتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ الضُّرُّ مِنْهُ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَبِرَحْمَةِ رَبِّهِ الْوَاسِعَةِ الْعَامَّةِ؛ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَخَرَجَتْ مِنْ رَكْضَتِهِ عَيْنُ مَاءٍ بَارِدَةٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا وَشَرِبَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ مَا بِهِ مِنَ الْأَذَى، ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ﴾ أَيْ: رَدَدْنَا عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ.
﴿وَمِثْلُهُمْ مَعَهُمْ﴾ بِأَنْ مَنَحَهُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ بِهِ، حَيْثُ صَبَرَ وَرَضِيَ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ ثَوَابًا عَاجِلًا قَبْلَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ أَيْ: جَعَلْنَاهُ عِبْرَةً لِلْعَابِدِينَ، الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِبَرِ، فَإِذَا رَأَوْا مَا أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، ثُمَّ مَا أَثَابَهُ اللَّهُ بَعْدَ زَوَالِهِ، وَنَظَرُوا السَّبَبَ، وَجَدُوهُ الصَّبْرَ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ﴾ فَجَعَلُوهُ أُسْوَةً وَقُدْوَةً عِنْدَمَا يُصِيبُهُمْ الضُّرُّ». [السعدي/تفسيره(ص529)]
قَالَ الْجَزَائِرِيُّ رحمه الله: "فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ دُعَاءِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ". [الجزائري/ أيسر التفاسير (2/ 648)]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ رضي الله عنها إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنَّ فِي صَلَاتِي؟ قَالَ: (سَبِّحِي اللَّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشْرًا، وَكَبِّرِيهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ). [حسن، أخرجه: النسائي/ سننه (1299)(3/ 51)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: فِيهِ فَضْل أُمِّ سُلَيْمِ الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ رضي الله عنها، ذَاتِ الْمَنَاقِبِ الْكَثِيرَةِ، الْحَرِيصَةِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهَا: (فِي صَلَاتِي) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالْحَمْدِ، وَالتَّكْبِيرِ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالسَّلَامِ. [الإثيوبي/ ذخيرة العقبى (15/ 215)]

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (سَبِّحِي اللَّهَ عَشْرًا) أَيْ: نَزِّهِي اللَّهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، وَالْعَجْزِ وَالْلُّغُوبِ وَالنَّقْصِ وَالْعَيْبِ، وَالْمَوْتِ، وَالنَّوْمِ، وَالسِّنَةِ، وَالْفَقْرِ، وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِهَا؛ فَقَوْلِي: (سُبْحَانَ اللَّهِ) عَشْرَ مَرَّاتٍ.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (وَاحْمَدِيهِ عَشْرًا) أَيْ: وَأَثْنِي عَلَيْهِ بِالْحَمْدِ الْمُطْلَقِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُهُ، وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ فِي الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ، وَحِفِظِ عِبَادِهِ، وَكِفَايَتِهِمْ، بِقَوْلِك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) عَشْرَ مَرَّاتٍ.

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: (وَكَبِّرِيهِ عَشْرًا) أَيْ: أَثْنِي عَلَيْهِ بِالْأَكْبَرِيَّةِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ دُونَهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، بِقَوْلِكَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ) عَشْرَ مَرَّاتٍ.

السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ) أَيْ: سَلِيهِ مَا شِئْتِ مِنْ رَغَائِبِكِ، وَالْعَافِيَةَ مِنْ رَهَائِبِكِ، يَقُلْ: (نَعَمْ، نَعَمْ) جَوَابٌ لِلطَّلَبِ، أَيْ: أُعْطِيكِ مَطْلُوبَكِ، وَكُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ. [الإثيوبي/ ذخيرة العقبى (15/ 215)]، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: (قَدْ فَعَلْتُ، قَدْ فَعَلْتُ). [أخرجه: أحمد/ المسند(12207)(19/240)]
وَقَدْ دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الذِّكْرِ عَلَى الدُّعَاءِ؛ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِقَبُولِهِ. [الإثيوبي/ ذخيرة العقبى (15/ 215)]

السَّابِعَةُ: وَفِيهِ: إِبَاحَةُ التَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمَرْءِ مَسْأَلَةً حَاجَةً يَسْأَلُهَا رَبَّهُ عز وجل، وَمَا يُرْجَى فِي ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ. [الإثيوبي/ ذخيرة العقبى (15/ 215)]
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (عَجِلْتَ أَيُّهَا المُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ). قَالَ: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا المُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/ سننه (3476)(5/ 516)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: (عَجِلْتَ): بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ، وَالتَّشْدِيدُ، قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ، أَيْ: عَجِلْتُ حِينَ تَرَكْتَ التَّرْتِيبَ فِي الدُّعَاءِ، وَعَرَضْتَ السُّؤَالَ قَبْلَ الْوَسِيلَةِ. [القاري/ مرقاة المفاتيح (2/ 747)]
وَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسَارَعَةِ وَالْعَجَلَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسَارَعَةَ تُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ، أَيْ: غَالِبًا، وَفِي الشَّرِّ أَيْ: أَحْيَانًا، وَالْعَجَلَةُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا فِي الشَّرِّ، وَقِيلَ: الْمُسَارَعَةُ الْمُبَادَرَةُ فِي وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ، وَالْعَجَلَةُ الْمُبَادَرَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ. [القاري/ مرقاة المفاتيح (2/ 747)]

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (أَيُّهَا المُصَلِّي أَيُّهَا الْمُصَلِّي) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ السَّائِلِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْمَسْئُولِ مِنْهُ بِالْوَسَائِلِ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ، بِمَا يُوجِبُ الزُّلْفَى عِنْدَهُ، وَيَتَوَسَّلَ بِشَفِيعٍ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَكُونَ أَطْمَعَ فِي الْإِسْعَافِ، وَأَرْجَى بِالْإِجَابَةِ، فَمَنْ عَرَضَ السُّؤَالَ قَبْلَ الْوَسِيلَةِ فَقَدِ اسْتَعْجَلَ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم مُؤَدِّبًا لِأُمَّتِهِ: (إِذَا صَلَّيْتَ) بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ الْمُرَادِ بِهِ الْعَامُّ. [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 747)]

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (فَقَعَدْتَ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: "إِمَّا عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِذَا صَلَّيْتَ وَفَرَغْتَ فَقَعَدْتَ لِلدُّعَاءِ فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَإِمَّا عَطْفٌ عَلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ: إِذَا كُنْتَ مُصَلِّيًا فَقَعَدْتَ لِلتَّشَهُّدِ فَاحْمَدِ اللَّهَ، أَيْ: أَثْنِ عَلَيْهِ بِقَوْلِكَ التَّحِيَّاتُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ: (فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ) مِنْ كُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ، وَاشْكُرْهُ عَلَى كُلِّ عَطَاءٍ جَزِيلٍ". [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 747)]

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (وَصَلِّ عَلَيَّ): وَفِي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ صَلِّ عَلَيّ)، فَإِنِّي وَاسِطَةُ عِقْدِ الْمَحَبَّةِ، وَوَسِيلَةُ الْعِبادَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ. [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 747)]
غَنَائِمُ الدَّاعِينَ (13)
✍️أ.د. سَلْمَانُ بنُ نَصْرٍ الدَّايَه

رَابِعًا: آدَابُ الدُّعَاءِ

10. الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ الدُّعَاءِ وَآخِرَهُ:
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (عَجِلَ هَذَا)، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(3477)(5/517)]
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: "إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ، حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم". [حسن، أخرجه: الترمذي/ سننه (486) (2/ 356)]
فِي الْأَثَرِ تَأْكِيدٌ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يُرْفَعُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَتَّى يَسْتَصْحِبَ الرَّافِعُ مَعَهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]. [انظر: الطيبي/ شرح المشكاة (3/ 1049)]
وَقَالَ أَحْمد بن أبي الْحوَاري رحمه الله: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَان الدَّارَانِي رحمه الله يَقُولُ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ حَاجَتَهُ؛ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلْيَسْأَلْ حَاجَتَهُ، وَلْيَخْتِمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْبُولَةٌ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَيْنَهُمَا". [ابن القيم/ جلاء الأفهام (ص 377)]
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ رحمه الله: "هُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفَاً عَلَى عُمَرَ، فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ". [العراقي/ قوت المغتذي(1/ 212)]
غَنَائِمُ الدَّاعِينَ (14)
✍️أ.د. سَلْمَانُ بنُ نَصْرٍ الدَّايَه

رَابِعًا: آدَابُ الدُّعَاءِ


11. سُؤَالُ اللهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ:

خَيْرُ الْوَسِيلَةِ فِي قَبُولِ الدُّعَاءِ أَسْمَاءُ اللهِ وَصِفَاتُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى خَاصَّةٌ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ لَهُ تَعَالَى أَكْمَلَ الذَّاتِ، وَأَكْمَلَ الصِّفَاتِ، فَادْعُوا اللهَ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي سَمَّى بِهَا نَفْسَهُ، أَوْ سَمَّاهُ بِهَا رَسُولُهُ، وَاتْرُكُوا طَرَائِقَ الَّذِينَ يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِّ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، فَيُطْلِقُونَ أَسْمَاءَ اللهِ عز وجل عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ يُنْكِرُونَ بَعْضَ أَسْمَائِهِ الدَّالَّةَ عَلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ، أَوْ يُسَمُّونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، سَيَجْزِي الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى، عِقَابَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. [مجد مكي/ تفسير المعين (ص174)]

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 110].
أَيْ: قَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَيْكَ الدُّعَاءَ بِقَوْلِكَ: يَا اللَّهُ، يَا رَحْمَنُ، إِنَّهُمَا اسْمَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَمَّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ، أَوْ بِهَذَا الِاسْمِ، أَيًّا مِنِ اسْمَيْ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ، وَكَذَا سَائِرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ سَمَّيْتُمْ أَوْ ذَكَرْتُمْ، فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَعَانِي التَّقْدِيسِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّمْجِيدِ، فَإِذَا حَسُنَتْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا فَهَذَانَ الِاسْمَانِ مِنْهَا، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عِنْدَ تِلَاوَتِكَ الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِكَ، فَيَسْمَعُكَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَمُنَزِّلَهُ، وَلَا تَخْفِضْ صَوْتَكَ فِي صَلَاتِكَ إِلَى مُسْتَوَى الْإِسْرَارِ وَالْإِخْفَاءِ عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ، وَاطْلُبْ بَيْنَ اَلْجَهْرِ بِالصَّوْتِ فِي الصَّلَاةِ، وَبَيْنَ الْمُخَافَتَةِ فِيهَا، طَرِيقًا وَسَطًا. [مجد مكي/ تفسير المعين (ص293)]

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: الْلَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ). [صحيح، أخرجه: أبو داود/سننه(1493)(2/79)]
فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: (الْلَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ) أَيْ: يَا إِلَهِي الْمَعْبُودُ الْحَقُّ الَّذِي أَعْبُدُهُ بِغَايَةِ الْحُبِّ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِاعْتِقَادِي الْجَازِمُ، وَإِقْرَارِي الظَّاهِرِ بِوَحْدَانِيَّتِكَ فِي الْعِبَادَةِ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) نَفْيٌ لِلشَّرِيكِ وَكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]. [انظر: المغربي/ البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 462)، القاري/ مرقاة المفاتيح(4/ 1591)]

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (الْأَحَدُ) هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ الْوَاحِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ لَمْ يَقُمْ لَهُ وَاحِدٌ؛ جَازَ فِي الْمَعْنَى أَنْ يَقُومَ لَهُ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرَ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: لَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ.
وَالْأَحَدُ: الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَهُوَ الَّذِي تَوَحَّدَ بِجَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، بِحَيْثُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَبِيدِ تَوْحِيدُهُ عَقْلَاً وَقَوْلَاً وعَمَلَاً، بِأَنْ يَعْتَرِفُوا بِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَيُفْرِدُوهُ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ. [النجدي/ المنهج الأسمى (ص368)]

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (الصَّمَدُ) أَيِ: الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ وَالْمَطْلُوبُ الْحَقِيقِيُّ، فَهُوَ الْمُتَضَمِّنُ لِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ؛ فَإِنَّ الصَّمَدَ: الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ؛ بِحَيْثُ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ كُلِّهَا؛ أَيْ: يُقْصَدُ، وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ تَحْقِيقَاً إِلَّا مِمَّنْ حَازَ جَمِيعَ خِصَالِ الْكَمَالِ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ لَا يَكْمُلُ إِلَّا للهِ عز وجل؛ فَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ. [انظر: القاري/ مرقاة المفاتيح(4/ 1588)، ابن العطار/ العدة في شرح العمدة(1/ 518)]
قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: "الصَّمَدُ: هُوَ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَيُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ، إِذْ يَنْتَهِي إِلَيْهِ مُنْتَهَى السُّؤْدُدِ، وَمَنْ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى مَقْصِدَ عِبَادِهِ فِي مُهِمَّاتِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَجْرَى عَلَى يَدِهِ وَلِسَانِهِ حَوَائِجَ خَلْقِهِ؛ فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِحَظٍّ مِنْ مَعْنَى هَذَا الْوَصْفِ، لَكِنَّ الصَّمَدَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي جَمِيع الْحَوَائِج، وَهُوَ الله "سبحانه وتعالى. [الغزالي/ المقصد الأسنى (ص 134)]
وَالصَّمَدُ: الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. [الطبري/ جامع البيان (24/ 736)]
وَالصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدَدِهِ، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ عَظُمَ فِي عَظَمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ، وَالْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدَدِ. [الطبري/ جامع البيان (24/ 731)]
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: (الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ) (لَمْ يلد): لَمْ يَصْدُرْ عَنْ ذَاتِهِ ذَاتٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، (وَلَمْ يُولَدْ)؛ فَلَمْ تَصْدُرْ ذَاتُهُ عَنْ ذَاتٍ أُخْرَى اشْتُقَّ هُوَ مِنْهَا، فَهُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَالِدٌ كَانَ مِنْهُ، وَهُوَ الْآخِرُ الَّذِي لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ وَلَدٌ يِكُونُ مِنْهُ.
وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ، وَعَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللهِ.

السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أَيْ: مِثْلًا فِي ذَاتِهِ، وَشَبِيهًا فِي صِفَاتِهِ، وَنَظِيرًا فِي أَفْعَالِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]. [انظر: القاري/مرقاة المفاتيح (4/ 1588)، (4/ 1591)]
وَلَفْظُ (أَحَدٍ) اسْمُ (يَكُنْ) وَ(كُفُوًا) الْخَبَرُ، وَ(لَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِـ ﴿كُفُوًا﴾؛ لِبَيَانِ مَنْ نُفِيَتْ عَنْهُ الْمُكَافَأَةُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْمُكَافَأَةِ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَوْلَى، وَقُدِّمَ الظَّرْفُ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ مَنْ نُفِيَتْ عَنْهُ الْمُكَافَأَةُ. نَقَلَ صَاحِبُ "الِانْتِصَافِ" عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ جُفَاةِ الْعَرَبِ يَقُولُ: "وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ". وَجَرَى عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ؛ وَخَفِيَ عَنْ طَبْعِهِ لُطْفُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ اقْتَضَى تَقَدُّمُ الظَّرْفِ وَالْخَبَرِ. [المغربي/ البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 463)]

السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) السُّؤَالُ الطَّلَبُ لِلْحَاجَاتِ، وَالدُّعَاءُ أَعَمُّ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. [الصنعاني/ سبل السلام (2/ 713)]
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: "فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: (إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: (وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ)؟
قُلْتُ: الثَّانِي أَبْلَغُ، فَإِنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الدَّاعِي، وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ الْمُجِيبِ، فَيَتَضَمَّنُ أَيْضَاً قَضَاءَ حَاجَتِهِ، بِخِلَافِ السُّؤَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَذْمُومَاً، وَلِذَلِكَ ذُمَّ السَّائِلُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمُدِحَ الْمُتَعَفِّفُ عَنْهُ". [الطيبي/ شرح المشكاة (6/ 1817)]

الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: (لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ باسْمهِ الأعْظَمِ) قِيلَ الْأَعْظَمُ هُنَا يَعْنِي الْعَظِيمَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ عَظِيمٌ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ﴾ أَيْ: هَيِّنٌ، يَوَضِّحُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي، ثُمَّ دَعَا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى)، فَقَالَ: "بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ" فَكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْأَعْظَمِ وَاحِدٌ. [صحيح، أخرجه: أبو داود/ سننه (1495) (2/ 79)]، و[انظر: القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1588)، ابن الملقن/ التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 383)]
التَّاسِعَةُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَحَرِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إذَا سُئِلَ بِهَا أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهَا أَجَابَ. [الصنعاني/ سبل السلام (2/ 713)]

الْعَاشِرَةُ: اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الذِّكْرِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى. [الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 220)]

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: بَيَانُ فَضْلِ هَذَا الدُّعَاءِ، وَأَنَّ فِيهِ اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَسْتَجِيبُ بِهِ دُعَاءَ الدَّاعِي، فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ؛ حَتَّى يُسْتَجَابَ الدُّعَاءُ. [الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 221)]

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ بَعْضَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ مِنَ السِّرِّ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا عَظِيمَةً مُقَدَّسَةً، إِلَّا أَنَّ لِبَعْضِهَا تَأْثِيرًا فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَاسْتِجَابَةِ الدَّعْوَةِ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ، وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ. [الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 221)]

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي، ثُمَّ دَعَا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى). [صحيح، أخرجه: أبو داود/سننه(1495)(2/79)]

وَعَنْهُ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا ـ يَعْنِي ـ وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا، فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ لِأَصْحَابِهِ: (تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى). [صحيح، أخرجه: النسائي/ سننه (1300)(3/ 52)]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا) أَيْ: فِي آخِرِ صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَدَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَعَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ مِنَ الصَّلَاةِ. [السبكي/ المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 159)، الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 218)]
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ) أَيْ: أَسْأَلُكَ يَا اللهُ مُتَوَجِّهَاً إِلَيْكَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْكَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَالسُّؤَالُ مَحْذُوفٌ؛ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَوِ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمَسْؤُولِ. [انظر: السبكي/ المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 159)، الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 218)، العظيم آبادي/ عون المعبود وحاشية ابن القيم (4/ 254)]

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ) الْلَّامُ فِي (لَكَ) لِلِاخْتِصَاصِ، وَالْأَلِفُ وَالْلَّامُ فِي (الْحَمْدِ) تُؤْذِنُ بِالْكَمَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ صَاحِبُ الْمَحَامِدِ الْكَامِلَةِ، فَأَنْتَ وَحْدَكَ الْمَحْمُودُ حَمْدًا مُطْلَقًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ) أَيْ: كَثِيرُ الْعَطَاءِ مِنَ الْمِنَّةِ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، أَوِ النِّعْمَةِ الثَّقِيلَةِ. قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: مَنَّ عَلَيْهِ مَنًّا أَيْ أَنْعَمَ، وَالْمَنَّانُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمِنَّةِ أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَثِيرُ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ بِإِيجَادِهِمْ وَإِمْدَادِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1588)]
وقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ رحمه الله: "الْمَنَّانُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُعْطِي مِنَ الْمَنِّ الْعَطَاءِ لَا مِنَ الْمِنَّةِ وَكَثِيرًا مَا يَرِدُ الْمَنُّ فِي كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى الْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَثِيبُهُ وَلَا يَطْلُبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ، فَالْمَنَّانُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ كَالسَّفَّاكِ وَالْوَهَّابِ". [ابن الأثير/ النهاية (4/365)]
وَيُطْلَقُ الْمَنُّ أَيْضًا عَلَى تَعْدَادِ النِّعَمِ، وَهُوَ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى مَمْدُوحٌ، وَفِي جَانِبِ الْخَلْقِ مَذْمُومٌ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ الآية [البقرة: 264]. [الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 219)]

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ: مُبْدِعُهُمَا، وَقِيلَ: بَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ: اخْتَرَعْتَهُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَبَقَ. [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1585)]

السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: (يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) أَيْ: صَاحِبُ الْعَظَمَةِ وَالْمِنَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْهَيْبَةِ وَالْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى. [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1588)، السبكي/ المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 159)]
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: "أَيْ: هُوَ أَهْلٌ لِأَنْ يُكْرِمَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أُكْرِمُكَ عَنْ هَذَا، وَمِنْهُ إِكْرَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ". [القرطبي/ تفسيره (15/219)]
السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ) أَيْ: يَا دَائِمَ الْبَقَاءِ، يَا مَنْ هُوَ قَائِمٌ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، فَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ أَبَدًا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرعد: 10]، فَقَوَّمَ السَّمَاءَ وَبَسَطَ الْأَرْضَ وَجَمَلَهَا، وَأَعْطَى كُلَّ مَخْلُوقٍ مَا قَسَمَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ يَحْصُلُ لَهُ عز وجل؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]. [انظر: السبكي/ المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 159)]
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله عَنْ قَوْمٍ: "إِنَّهُ يُقَالُ حَيٌّ قَيُّومٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ. وَقِيلَ: سَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا لِصَرْفِهِ الْأُمُورَ مَصَارِيفَهَا وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ مَقَادِيرَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَيِّ الْبَاقِي.
وَ(الْقَيُّومُ) مِنْ قَامَ، أَيِ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ مَا خَلَقَ، قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ حَتَّى يُجَازِيَهَا بِعَمَلِهَا، مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ بِهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ". [القرطبي/ تفسيره (3/ 271)]

الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: (لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى) وَفِي رِوَايَةٍ: "الْأَعْظَمِ"، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَعَدُّدَ اسْمِهِ الْأَعْظَمِ. [انظر: الولوي/ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 220)، الصنعاني/ التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 54)]
وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى. [الولوي /ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 220)]

التَّاسِعَةُ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ عز وجل فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ أَكْمَلُ أَدَبًا مَعَ اللهِ، وَأَسْرَعُ فِي الْقَبُولِ عِنْدَهُ. [انظر: ابن رجب/ فتح الباري (7/ 349)]

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الحَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ، وَبِكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ). [أخرجه: البخاري/ صحيحه (7442) (9/ 132)]
أَفَادَ الْحَدِيثُ أنَّه يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْحُضُورِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا، وَأَقْبَحُ الْكَذِبِ مَا يَكُونُ وَالْإِنْسَانُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. [القاري/ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 672)]
وفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَالْإِخْبَاتِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْإِخْلَاصِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عز وجل بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَالْإِقْرَارِ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَالتَّسْلِيمِ وَالِابْتِهَالِ. [ابن عبد البر/ التمهيد(12/ 189-190)]
وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مُوَاظَبتِه صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ تَعَالَى بِحُقُوقِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِصِدْقِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ". [النووي/ شرحه على مسلم (6/ 56)]
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رحمه الله: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو اللهَ عز وجل فِي أَوْقَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَعِنْدَ نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ بِنَوْعٍ مِنَ الدُّعَاءِ يَصْلُحُ لِحَالِهِ تِلْكَ، وَلِوَقْتِهِ ذَلِكَ". [ابن بطال/ شرح صحيح البخاري (10/ 85)]
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "الْحَدِيثُ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى". [ابن حجر/ فتح الباري (2/230)]
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله: "فِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَتَحْمِيدُهُ وَتَمْجِيدُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ وَالْإِقْرَارُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ". [ابن عبد البر/ الاستذكار (2/ 535)]
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، اللهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَالْمَاءِ الْبَارِدِ اللهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ). [أخرجه: مسلم/صحيح (476)(1/ 346)]

فِي الْأَثَرِ فَوَائِدُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: (اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) أَيْ: يَا مَعْبُودِي الْحَقِّ الَّذِي أَعْبُدُهُ بِغَايَةِ حُبِّي وَذَلِّي؛ أُقِرُّ بِأَنَّكَ صَاحِبُ الْحَمْدِ الْمُطْلَقِ عَلَى أُلُوهِيَّتِكَ، وَرُبُوبِيَّتِكَ، وَأَسْمَائِكَ، وَصِفَاتِكَ، وَقَيُومِيَّتِكَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَمُلَكِكَ لِجَمِيعِ خَلْقِكَ، أَذْكُرُكَ وَأُثْنِي عَلَيْكَ بِقَوْلِي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) حَمْدًا أَرْجُو تَكْرِيرَهُ وَتَكْثِيرَهُ حَتَّى يَمْلَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكُلَّ مَكَانٍ وَفَضَاءٍ أَنْتَ تُشَاؤُهُ.

الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: "سَأَلْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ عَنْ مَعْنَى دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (الّلهُمَّ طَهِّرْنِى مِنْ خَطَايَاىَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ).
كَيْفَ يُطَهِّرُ الْخَطَايَا بِذَلِكَ؟ وَمَا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ؟ وَقَوْلُهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ "وَالْمَاءُ الْبَارِدُ" وَالْحَارُّ أَبْلَغُ فِي الْإِنْقَاءِ؟.
فَقَالَ: الْخَطَايَا تُوجِبُ لِلْقَلْبِ حَرَارَةً وَنَجَاسَةً وَضَعْفًا، فَيَرْتَخِي الْقَلْبُ وَتَضْطَّرِمُ فِيهِ نَارُ الشَّهْوَةِ وَتُنَجِّسُهُ، فَإِنَّ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَطَبِ الَّذِى يَمُدُّ النَّارَ وَيُوقِدُهَا، وَلِهَذَا كُلَّمَا كَثُرَتْ الْخَطَايَا اشْتَدَّتْ نَارُ الْقَلْبِ، وَضَعْفُهُ، وَالْمَاءُ يَغْسِلُ الْخَبَثَ وَيُطْفِئُ النَّارَ، فَإِنْ كَانَ بَارِدًا أَوْرَثَ الْجِسْمَ صَلَابَةً وَقُوَّةً، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ ثَلْجٌ وَبَرَدٌ كَانَ أَقْوَى فِي التَّبْرِيدِ وَصَلَابَةِ الْجِسْمِ وَشِدَّتِهِ، فَكَانَ أَذْهَبَ لِأَثَرِ الْخَطَايَا". [ابن القيم/ إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 57)]
2025/07/09 21:15:26
Back to Top
HTML Embed Code: