Telegram Web Link
بلا ولا شي...
6😢4
"أكتب كمن يرتكب جريمة صغيرة كل يوم"

ليس من السهل أن أقول "أنا شاعر". كلما حاولت نطقها أمام الآخرين، أشعر بشيء من التلعثم، كأن الكلمة أكبر من فمي، أو كأنني أعتذر عن نطقها. لدي ديوانان منشوران، كم هذا محرج، دائمًا ما أشعر بأن هناك نقصًا مقصودًا أو غير مقصود في شعري. نقصًا أحيانًا أتبناه كأنه موقف مسبق من الكمال.

الذين يثنون على شعري يربكونني. الإطراء يحرجني، كما يحرجني عرض قصائدي على الملأ، كأن القصيدة ليست صالحة لأن تُعرض على الضوء، أو كأنني أراها بوضوح حين ينظر إليها الآخرون، وأكتشف فجأةً ما أُخفيه من هشاشتها، ليس هشاشتها كبنية أو كنص أدبي، بل هشاشتها أمام الحياة نفسها.

دُعيت مرةً إلى محفل شعري دولي، كانت فرصة ذهبية كما افترض البعض. ترددت كثيرًا، ثم وافقت تحت ضغط المحبين. وفي يوم الحفل، كنت على بُعد خطوات من المنصة، لكنني اختلقت عذر البرد والمرض، غيرت صوتي وافتعلت التعب، واعتذرت. شعرت براحة عميقة حين عدت أدراجي. كنت سعيدًا لأنني فوتّ الحفل عن عمد، وكأنني أنقذت قصائدي من مشنقة.

راينر ماريا ريلكه كتب في رسائله أنه لا يطمئن إلى قصائده أبدًا، كان يرى الشعر فعل تأمل طويل لا يكتمل، وأن الشاعر الذي يهرول نحو الجمهور يُفسد نضج قصيدته. أشعر أنني وريث لهذا القلق، لهذا "الإرجاء المقدّس".

لاحظت أنني أقترب أكثر من الذين يسخرون من شعري، وأشاركهم الضحك على ما أكتبه. هذا السخرية المتعمدة ليست سوى محاولة لتخفيف عبء الشعر عن كاهلي. أبحث عن رفقة لا تُعاملني كشاعر، بل كإنسان يرتكب الشعر من فرط حيرته. ت. س. إليوت كان يقول إن الشعر هروب من العاطفة لكنه ليس هروبًا من الشخصية. وهذا ما يعذبني: أنني حين أقرأ قصيدتي أمام الناس، أشعر أنني أنكشف أكثر مما أتحدث، أو أقوم بحماقة أكثر من فعل الصواب.

أجد في سيرة فرناندو بيسوا عزاءً روحيًا. كان اللعين يختبئ خلف "شعراء" مخترعين، يكتب بأسماء وأقنعة ويعبر من خلالها، لعله خجل من مواجهة ذاته. كتب مرة: "إذا كنت أكتب ما أشعر به، فهذا لأنني لا أجد وسيلة أخرى أقل ألمًا". أنا أيضًا -مع فارق الشجاعة والمنزلة وكل شيء- أكتب الشعر لأهرب من ألمه وضغطه، لكنني في كل مرة أكتشف أنني أهرب إليه.

قلة هم الذين أتعاطى معهم الشعر بجدية. مع البقية، أميل إلى التنصل، أُمارس دور المراقب الساخر الذي يُقلل من شأن قصائده أمام الآخرين، لا لأنني أحتقرها، بل لأنني أخاف منها وعليها. أدونيس قال إن كل قصيدة يكتبها هي خيانة لقصيدة أخرى حلم بها. وهذا بالضبط ما أعيشه: كلما كتبت نصًا شعريًا، أحسست أنني خنت نصًا آخر كان بإمكاني كتابته.

التفاهات اليومية تسرقني من الشعر بسهولة. أي حوار سخيف يمكنه أن يسحبني بعيدًا عن القصيدة، لكن الشعر يظل "يهجم يهجم يهجم" عليّ من الداخل، كعرق ينزف من مسام جلدي. لا أحتاج إلى أن أجلس وأقرر أن أكتب؛ الشعر يرشح رغمًا عني.

بدر شاكر السياب قال في لحظات مرضه إنه يريد من شعره أن يكون "نسيانًا لما كتبه". هذا الشعور الملعون يلازمني، كأنني أكتب كي أنسى أنني شاعر. هناك لحظات أظن فيها أن كل شاعر حقيقي يحمل بداخله نوعًا من التمرد على كونه "شاعرًا"، ليس إنكارًا للموهبة، بل رفضًا لتحويل الشعر إلى بطاقة هوية.

والت ويتمان كتبها ببساطة شديدة: "هل أنا متناقض؟ نعم. أنا واسع. أحتوي على حشود". وهذا هو الشعر كما أفهمه: احتواء للتناقض، لحشود من الأصوات الداخلية التي لا تهدأ، والتي تعنيني وحدي، أهذي بها، ثم يأتي الصوت الذي يريد أن يسمي هذا الهذيان، ويقترح أنه شعر، ولأنني لا أجد اسمًا آخر، أصدقه بغباء وبلا أدنى إحساس بالمسؤولية.

في النهاية، ربما أحتاج أن أقولها كما هي: أنا الشاعر الذي يخجل من قصيدته. ليس تواضعًا زائفًا، ولا شكًا مرضيًا، بل احترامًا للخجل نفسه. كأن الشعراء الذين أحبهم علّموني أن الخجل من القصيدة هو الوجه الآخر لصدقها ولحقيقة وجودها المضني والضاغط.

رغم هذا كله، هناك قرّاء معيّنون يجعلونني أعيد النظر في علاقتي بالشعر. قراء لا يبحثون عن "نقد شعري" أو هذياني، ولا تهمهم الكلمات المنمّقة عن البُنى والتراكيب، بل يملكون تلك القدرة النادرة: القدرة على تصديق الشعر كما هو، بلا وساطة ولا تكلّف، ولا كلمات من المعاجم والقواميس.

الأطفال، على سبيل المثال، إنهم أفضل قرّائي. ليس لأنهم يفهمون قصائدي بعمق، بل لأنهم لا يحتاجون إلى أن "يفهموا" لكي يحبّوا. الطفل لا يقرأ القصيدة، يلعب معها. يضحك من قافية مفاجئة، أو يسأل عن معنى كلمة بحماس بريء. مع الأطفال، لا أحتاج أن أكون "الشاعر"، بل يكفي أن أكون صديقًا لمفردة جديدة يكتشفونها.

ثم هناك الفتيات اللائي يبحثن عن الحب. اللائي يدخلن إلى القصيدة كما يدخلن إلى رسالة سرية، يبحثن بين السطور عن جملة كتبت لهن، وعن جملة أخرى تصف جمالهن الشخصي، وعن اعتراف غامض يخاطب هشاشتهن. أعرف هذا النوع من القارئات جيدًا.
3
لا تهمهن البلاغة، هن معنيات بطريقتي الشخصية في التعبير عن الخيبة، عن الانتظار، عن الحب الذي يطيلُ الوقوف على العتبة ولا يطرق الباب.

أما الرجال المخمورون الذين يتعاطون الخمر كأنهم يعتذرون من أنفسهم، فأولئك يقرأون شعري كما لو أنهم يقرأون مذكّراتهم الشخصية. يمرّرون أيديهم على رؤوسهم بعد كل سطر، كأن القصيدة تذكّرهم بجُملة قالوها لأنفسهم يومًا، ثم نسوها في زحام الخيبات والانغماس في العمل.

الجامع بين هؤلاء جميعًا، هو أنهم يؤمنون بالسحر الخام للكلمات. ولا يشكّكون في الشعر، بل يجعلونه حقيقيًا بمجرد أن يصدّقوه، ثم يتجاوزونه تمامًا، يتركونه يذبل كما يحصل لزهرة، أو قبلة في الهواء.

أفكر في لوركا، الذي كان يكتب للأطفال وللصعاليك وللفتيات الحالمات. كان يرى في الشعر نوعًا من "الجرح الجميل"، وقال مرة: "الشعر لا يبحث عن أتباع، بل عن عشّاق". كان يخجل من أن يتحوّل إلى شاعر رسمي، لذا ظل يكتب للحياة الهاربة من قاعات الاحتفالات.

بابلو نيرودا كذلك، كان يحمل دفتر أشعاره، ولا يخرجه إلا أمام البسطاء في أسواق تشيلي، يقرأ عليهم عن الحب والخسارات الصغيرة. كتب: "قصيدتي لا تطلب منك أن تفهمها، بل أن تسير معها في الشارع".

شارل بودلير أيضًا كان يكتب لأصدقائه المخمورين، للذين يتسكعون في الليل يبحثون عن مبرر لخيباتهم. قال في "أزهار الشر": "لا أحد يفهم أعماق السكرى سواهم". كان يدرك أن الشعر لا يُقاس بكم يفهمه الآخرون، بل بكمّ الألم الذي يشعله في قلوب من يملكون الشجاعة، وفضيلة إطراق السمع لمجرد كلمات مرصوفة، قالها شخص ليعاقب العالم على وجوده الغريب.

معاذ الله أن أكون ذكرت ما ذكرت من الشعراء على سبيل توهم المزاحمة، أو أن أعلي من شأن ما أشعر به تجاه شعري، فأنا أكتب كمن يرتكب جريمة صغيرة كل يوم. ولهذا، حين أهرب من منصة، أو أستصغر تجربتي، لا أفعل ذلك خوفًا، بل هربًا، وربما ربما كان حفاظًا على الشعر من أن يُمسك به أحد.

الناقد والكاتب السعودي د. عبدالله العقيبي
2
فلوبير وحمولاته الأدبية...
3
2025/09/30 06:09:11
Back to Top
HTML Embed Code: