يقولون إن الناس يصدقون ما يريدون تصديقه. عبارة اختزالية، مريحة سهلة الهضم، وتُقال بثقة كبيرة في كثير من الأحيان ولكأنها قانون ثابت. لكنها لم تكن مقتنعة بذلك تمامًا. كانت تجلس في مقهى نصف مضاء، وكانت ملامحها الهادئة تحمل شيء من الدماثة حينئذ، تتأمل بشرود دوامة صغيرة من الحليب وهي تختفي في سواد قهوتها. لو كان العقل مجرد وعاء يُسكب فيه ما نرغب بتصديقه فقط، فلماذا إذن تشعر هي أحيانًا بأن الحقيقة تتسلل إليها رغمًا عنها، بلا إذن، بلا مفاضلة، بلا خيار؟
تنهدت بخفة وهي ترهف سمعها نحو الضوضاء من خلفها، الحقيقة ليست قرارًا، بل موجة بطيئة تغمر كل شيء، تتشكل، تتشظى، تتقولب، تتكسر، لكنها لا تزول.
أما أولئك الذين يفرون منها، فيعيشون في الظلال، حيث كل شيء ضبابي، طري، ناعم الحواف، مجازي لا يحتاج إلى مواجهة مباشرة. فتجدهم يستجيرون خلف قصص حاكوها بأنفسهم.
ولكنهم على أي حال لا يشكلون أي خطر سوى على أنفسهم، ظاهرون للغاية، وجوههم مألوفة، أحاديثهم مكررة، خطواتهم خفيفة، كلماتهم محسوبة. لا يواجهون ثقل الحقيقة، لم تلمس جلودهم خشونتها ولا لسعاتها بعد، ومع الوقت وحين يختلط النقد باليقين، تبدأ عقولهم في التحلل والتعفن، مثل ورقة غار تُركت تحت المطر.
في الخارج، انعكست أضواء الشارع على الزجاج المهشم قرب الرصيف. الحقيقة، حين تُترك دون تدقيق ومعالجة، تصبح مثل ذلك الزجاج تعكس ما حولها، لكن بشكل مشوه ومضلل.
ربما يصدق الآخرون ما يريدون تصديقه، لكن فقط عندما يتخلى العقل عن سلطته الأخيرة: القدرة على الحكم.
تنهدت بخفة وهي ترهف سمعها نحو الضوضاء من خلفها، الحقيقة ليست قرارًا، بل موجة بطيئة تغمر كل شيء، تتشكل، تتشظى، تتقولب، تتكسر، لكنها لا تزول.
أما أولئك الذين يفرون منها، فيعيشون في الظلال، حيث كل شيء ضبابي، طري، ناعم الحواف، مجازي لا يحتاج إلى مواجهة مباشرة. فتجدهم يستجيرون خلف قصص حاكوها بأنفسهم.
ولكنهم على أي حال لا يشكلون أي خطر سوى على أنفسهم، ظاهرون للغاية، وجوههم مألوفة، أحاديثهم مكررة، خطواتهم خفيفة، كلماتهم محسوبة. لا يواجهون ثقل الحقيقة، لم تلمس جلودهم خشونتها ولا لسعاتها بعد، ومع الوقت وحين يختلط النقد باليقين، تبدأ عقولهم في التحلل والتعفن، مثل ورقة غار تُركت تحت المطر.
في الخارج، انعكست أضواء الشارع على الزجاج المهشم قرب الرصيف. الحقيقة، حين تُترك دون تدقيق ومعالجة، تصبح مثل ذلك الزجاج تعكس ما حولها، لكن بشكل مشوه ومضلل.
ربما يصدق الآخرون ما يريدون تصديقه، لكن فقط عندما يتخلى العقل عن سلطته الأخيرة: القدرة على الحكم.
الوحش، والمنديل، وأنا.
قبل عدة أيام، فتحتُ الصندوق المخبوء أسفل السرير القديم في غرفتي القديمة. حيث كان هناك صندوق خشبي عتيق لكنه صلب، وكان مغطى بالرمال، كقبور العصافير. وعندما لمحته، بدا كما لو أنه بانتظاري، كأنه يعرف أنني لن أستطيع مقاومة نبشه. زحفتُ ببطء، مقتربةً منه، وفي طريقي إليه قابلت الوحش أسفل السرير، مجرد جثة. العناكب نسجت خيوطها حوله، الحشرات حفرت طريقها عبر الجلد المتآكل، وكان النمل الأحمر يسير فوقه في صفوفٍ عدة، كأنه يؤدي طقسًا مهمًا. وفكرت حينها أن لهذا الوحش الميت حضور أكثر مما ينبغي.
مددتُ يدي وجلستُ بالقرب من الجثة الهامدة. وضعتُ الصندوق على حجري وفتحته على مهل، خشية أن يستيقظ الوحش.
أخرجتُ المنديل الأحمر الغاني. كان هذا جرحي القديم، يا أبي. لا يزال ينزف، لا يزال نديًا، لا يزال طازجًا ومتقرحًا وعميقًا. لم أشفَ منك بعد، يا أبي.
انتشرت رائحة العتق والعدم والدم في المكان، رائحة مألوفة تشبه رائحة الليل حين يتعفن ببطء تحت جفون الأرق.
لمسته برقة، فشعرتُ بوخز دافئ تحت جلدي، وتحرك الوحش بخفة، كما تتحرك الأشباح. تجاهلته، وتجاهلتُ ذلك الألم الذي ينبض في صدري. وأعرف أن الجروح لا تختفي عندما نتجاهلها، إنها تبقى رغم ذلك، تتحرك، تتوسع، تتبعك في الطرق، تحتسي معك فناجين القهوة، تقرأ المجلات، تتسلل إلى أحلامك، ثم تستيقظ قبلك في الصباح، وتجلس على حافة السرير المبعثر بانتظارك.
تمنيتُ لو كان في جسدي جرح آخر، أبٌ آخر. تمنيتُ لو أنك كنتَ أقل قسوة… أو ربما، ربما لو كنتَ أكثر قسوة، أكثر شراسة، حتى يقتلني الرفض تمامًا ولا يتركني هكذا، نصف ميتة، نصف مشتعلة، نصف ممزقة بين عالمين.
أفكر في إبليس أحيانًا، يا أبي، ليس في صورته الملعونة، بل كروحٍ وحيدة، كروحٍ تائهة في الفراغ الصامت بعد أن أُغلقت أبواب الانتماء في وجهه. ماذا لو لم يكن غاضبًا بقدر ما كان حزينًا؟ ماذا لو أنه توقف عن التآمر وحاول أن يتذكر ذاته القديمة؟
لم أشفَ منك، يا أبي، ولا أظنني سأشفى. هناك جراح لا تندمل، لأنها تصبح نحن، تتسرب إلى جلودنا وعظامنا، إلى صوتنا حين ننادي، إلى أطراف أصابعنا حين نلمس الأشياء، إلى قلوبنا حين نحاول، بكل سخافة، أن نقع في الحب، إلى هويتنا حين نحاول أن ننتمي، إلى الأحلام التي لا تأتي.
الآن، ها أنا ذا مرة أخرى. أعيد المنديل إلى الصندوق، والصندوق إلى الوحش الذي يحرسه. أعيد كل شيء إلى عهده، كل شيء كما كان منذ أن غادرتَ أنت. كما لو أن الذاكرة يمكن طيّها، كما لو أن الجراح تركن حقًا أسفل السرير.
قبل عدة أيام، فتحتُ الصندوق المخبوء أسفل السرير القديم في غرفتي القديمة. حيث كان هناك صندوق خشبي عتيق لكنه صلب، وكان مغطى بالرمال، كقبور العصافير. وعندما لمحته، بدا كما لو أنه بانتظاري، كأنه يعرف أنني لن أستطيع مقاومة نبشه. زحفتُ ببطء، مقتربةً منه، وفي طريقي إليه قابلت الوحش أسفل السرير، مجرد جثة. العناكب نسجت خيوطها حوله، الحشرات حفرت طريقها عبر الجلد المتآكل، وكان النمل الأحمر يسير فوقه في صفوفٍ عدة، كأنه يؤدي طقسًا مهمًا. وفكرت حينها أن لهذا الوحش الميت حضور أكثر مما ينبغي.
مددتُ يدي وجلستُ بالقرب من الجثة الهامدة. وضعتُ الصندوق على حجري وفتحته على مهل، خشية أن يستيقظ الوحش.
أخرجتُ المنديل الأحمر الغاني. كان هذا جرحي القديم، يا أبي. لا يزال ينزف، لا يزال نديًا، لا يزال طازجًا ومتقرحًا وعميقًا. لم أشفَ منك بعد، يا أبي.
انتشرت رائحة العتق والعدم والدم في المكان، رائحة مألوفة تشبه رائحة الليل حين يتعفن ببطء تحت جفون الأرق.
لمسته برقة، فشعرتُ بوخز دافئ تحت جلدي، وتحرك الوحش بخفة، كما تتحرك الأشباح. تجاهلته، وتجاهلتُ ذلك الألم الذي ينبض في صدري. وأعرف أن الجروح لا تختفي عندما نتجاهلها، إنها تبقى رغم ذلك، تتحرك، تتوسع، تتبعك في الطرق، تحتسي معك فناجين القهوة، تقرأ المجلات، تتسلل إلى أحلامك، ثم تستيقظ قبلك في الصباح، وتجلس على حافة السرير المبعثر بانتظارك.
تمنيتُ لو كان في جسدي جرح آخر، أبٌ آخر. تمنيتُ لو أنك كنتَ أقل قسوة… أو ربما، ربما لو كنتَ أكثر قسوة، أكثر شراسة، حتى يقتلني الرفض تمامًا ولا يتركني هكذا، نصف ميتة، نصف مشتعلة، نصف ممزقة بين عالمين.
أفكر في إبليس أحيانًا، يا أبي، ليس في صورته الملعونة، بل كروحٍ وحيدة، كروحٍ تائهة في الفراغ الصامت بعد أن أُغلقت أبواب الانتماء في وجهه. ماذا لو لم يكن غاضبًا بقدر ما كان حزينًا؟ ماذا لو أنه توقف عن التآمر وحاول أن يتذكر ذاته القديمة؟
لم أشفَ منك، يا أبي، ولا أظنني سأشفى. هناك جراح لا تندمل، لأنها تصبح نحن، تتسرب إلى جلودنا وعظامنا، إلى صوتنا حين ننادي، إلى أطراف أصابعنا حين نلمس الأشياء، إلى قلوبنا حين نحاول، بكل سخافة، أن نقع في الحب، إلى هويتنا حين نحاول أن ننتمي، إلى الأحلام التي لا تأتي.
الآن، ها أنا ذا مرة أخرى. أعيد المنديل إلى الصندوق، والصندوق إلى الوحش الذي يحرسه. أعيد كل شيء إلى عهده، كل شيء كما كان منذ أن غادرتَ أنت. كما لو أن الذاكرة يمكن طيّها، كما لو أن الجراح تركن حقًا أسفل السرير.
لاحظت أن النقاد، بل حتى الكتّاب ونخبة المثقفين العرب شنّوا هجومًا مؤخرًا على الأدب الرديء ورّواده، وحتى أنهم أعلنوا عن أسماء يرونها شخصيات رديئة في الساحة الأدبية العربية غير أن هذا الهجوم في جوهره يثير تساؤلات فلسفية تتجاوز مسألة الجودة إلى بحث أعمق عن المعايير التي تحكم الأدب عمومًا وقيمته في الوعي الجماعي.
وإذا تأملنا في طبيعة الأحكام النقدية، نجد أنها تتشكل ضمن سياقات ثقافية وزمنية معينة، وهذه الأنماط ليست معزولة عن المنظومات الفكرية والاجتماعية التي تنتجها.
ومهما وسعنا نظرنا سنجد أن وجود الأدب الرديء لازم أو حتمي، تمامًا محتمية وجود الأدب العظيم، والذي سيحدد هذه الفواصل هي ذائقة متغيرة تخضع لشروط بعينها، ويمكننا أن نستحضر أمثلة جمة على ذلك من تاريخ الأدب، حيث وُصِف بعض الكتاب العظماء في أزمانهم بأنهم سطحيون أو حتى فوضويون، ثم وبعد فترات طويلة تم إعادة تقيمهم في ضوء معايير جديدة تمامًا.
على سبيل المثال، مالارميه، شاعر ورائد الرمزية الفرنسية، أعتبر حينها شاعرًا صعب الفهم ومبهمًا حتى بين معاصريه، وربما ذلك لانه كما ذكرت كان ينتمي الى الحركة الرمزية في بداياتها قبلت بالرفض أو حتى سوء الفهم، خصوصًا من الجمهور العام والنقاد التقليديين. كذلك "فرانز كافكا" لم يتلقَ أي اعتراف أدبي إلا بعد وفاته، فكيف يمكننا الجزم اليوم بكل هذه الصرامة، بأن الحكم الحالي على بعض الأعمال الأدبية هو حكم نهائي لا رجعة فيه ؟
ومن زاوية أخرى يمكن القول إن الهجوم على الأدب الرديء قد يعكس أزمة أعمق في المشهد الثقافي العربي، وهي أزمة تتعلق بتصور المثقف لدوره وموقعه في المجتمع، وكما يبدو لي في بعض الحوانب إن الأمر ليس مجرد رفض جمالي بقدر ما هو تعبير عن إحباط أيديولوجي أو شعور بانحسار التأثير الثقافي أمام المد الجماهيري. وقد تكون "الرداءة" في بعض تجلياتها رد فعل على نخبوية متصلبة ظلت لعقود تعيد إنتاج ذاتها. ويمكننا إتخاذ الأدب السوداني مثالاً على ذلك.
إن خطورة الهجوم غير الممنهج على ما يسمى بالأدب الرديء تكمن في إمكانية تحوله إلى نوع من الإقصاء الثقافي، و الإبداع حتى في أكثر اشكاله هشاشة يظل تعبيرًا عن التجربة الإنسانية.
وإذا كنا بحاجة ملحة إلى محاربة الأدب الرديء فنحن بحاجة إلى فهمه وفهم أبعاده أولاً، وفهم إن كان ينبغي إقصاؤه فعلاً، أم الإعتراف به جزءًا من مسار الأدب الذي يعكس تحولات المجتمع.
في النهاية، تظل الرداءة في الأدب ظاهرة ضرورية بقدر ما هي مزعجة، وذلك لأنها تعيد تشكيل الحدود بين الإبداع والابتذال، وتدفعنا بشكل مستمر إلى اعادة تعريف ماهية الأدب ذاته.
وإذا تأملنا في طبيعة الأحكام النقدية، نجد أنها تتشكل ضمن سياقات ثقافية وزمنية معينة، وهذه الأنماط ليست معزولة عن المنظومات الفكرية والاجتماعية التي تنتجها.
ومهما وسعنا نظرنا سنجد أن وجود الأدب الرديء لازم أو حتمي، تمامًا محتمية وجود الأدب العظيم، والذي سيحدد هذه الفواصل هي ذائقة متغيرة تخضع لشروط بعينها، ويمكننا أن نستحضر أمثلة جمة على ذلك من تاريخ الأدب، حيث وُصِف بعض الكتاب العظماء في أزمانهم بأنهم سطحيون أو حتى فوضويون، ثم وبعد فترات طويلة تم إعادة تقيمهم في ضوء معايير جديدة تمامًا.
على سبيل المثال، مالارميه، شاعر ورائد الرمزية الفرنسية، أعتبر حينها شاعرًا صعب الفهم ومبهمًا حتى بين معاصريه، وربما ذلك لانه كما ذكرت كان ينتمي الى الحركة الرمزية في بداياتها قبلت بالرفض أو حتى سوء الفهم، خصوصًا من الجمهور العام والنقاد التقليديين. كذلك "فرانز كافكا" لم يتلقَ أي اعتراف أدبي إلا بعد وفاته، فكيف يمكننا الجزم اليوم بكل هذه الصرامة، بأن الحكم الحالي على بعض الأعمال الأدبية هو حكم نهائي لا رجعة فيه ؟
ومن زاوية أخرى يمكن القول إن الهجوم على الأدب الرديء قد يعكس أزمة أعمق في المشهد الثقافي العربي، وهي أزمة تتعلق بتصور المثقف لدوره وموقعه في المجتمع، وكما يبدو لي في بعض الحوانب إن الأمر ليس مجرد رفض جمالي بقدر ما هو تعبير عن إحباط أيديولوجي أو شعور بانحسار التأثير الثقافي أمام المد الجماهيري. وقد تكون "الرداءة" في بعض تجلياتها رد فعل على نخبوية متصلبة ظلت لعقود تعيد إنتاج ذاتها. ويمكننا إتخاذ الأدب السوداني مثالاً على ذلك.
إن خطورة الهجوم غير الممنهج على ما يسمى بالأدب الرديء تكمن في إمكانية تحوله إلى نوع من الإقصاء الثقافي، و الإبداع حتى في أكثر اشكاله هشاشة يظل تعبيرًا عن التجربة الإنسانية.
وإذا كنا بحاجة ملحة إلى محاربة الأدب الرديء فنحن بحاجة إلى فهمه وفهم أبعاده أولاً، وفهم إن كان ينبغي إقصاؤه فعلاً، أم الإعتراف به جزءًا من مسار الأدب الذي يعكس تحولات المجتمع.
في النهاية، تظل الرداءة في الأدب ظاهرة ضرورية بقدر ما هي مزعجة، وذلك لأنها تعيد تشكيل الحدود بين الإبداع والابتذال، وتدفعنا بشكل مستمر إلى اعادة تعريف ماهية الأدب ذاته.
وقفت أمام النافذة المفتوحة. يتسلل هواء منتصف الليل الساكن كأيدٍ باردة تتحسس وجهي. وراحت المدينة تغط في صمت مريح وقداسي. تأملت السيجارة المشتعلة بين أصابعي، تتحلل ببطء ويتراقص دخانها متمايلًا نحو فراغ الفناء الخلفي.
لم أكن أدخن من قبل. ولكني صرت أدخنها مؤخرًا كلما شعرت بأن هذا القلق يفيض عن احتمالي.
أفكر... فكرت كثيرًا، في كل شيء. حتى في اللاشيء. في مستقبلي ككاتبة. هل هذا ما أريده؟ أم أنني فقط لدي ما أقوله. أشعر ببعض القلق، لو عرفت أمي أنني أصبحت أدخن ستصاب بخيبة أمل كبيرة، لا أخشى خذلانها. ولكني أكره أن أكون سببًا في تعاستها حتى ولو قليلاً.
ربما أريد أن أكون كاتبة لأنني أشعر أن هنالك شيء يصرخ في داخلي. بل هنالك أشياء كثيرة في رأسي ترفض أن تموت بصمت. تطالب بكل عنفوان أن تسرد، أن تقال، أن تُحكى، حتى ولو لجدار غرفتي أو لقطتي الصغيرة. لكن، ماذا بعد؟ الشهرة لست أريدها. لا أحبها ولا حتى بمختلف تمظهراتها الباهتة. تشعرني بالغثيان. سيعرفني كثير من الأشخاص الذين لم أقابلهم قط. سيتحدثون بلغتي. سيضعون أفكارهم في فمي كما فعلوا مع نيتشه أو سبينوزا، فأصبح اسمًا مجردًا ضمن كلمات لم أنطقها، وآراء لم أتبنها.
ولكن مهلاً، لماذا لم أقابل من قبل شخصًا نبيلًا وصادقًا بحق. لماذا يهوى الناس الكذب والتملق والتزييف؟ لعلي أبالغ في صدقي، هل أكون خاطئة إن كنت صادقة أكثر مما ينبغي؟ لا، أنا لست الطرف المخطىء هنا. بل العالم. هذا العالم المريض الذي يبتسم لك بينما يدس خنجرًا حادًا في يده.
خطر ميكافيلي في ذهني حينها، يريد أن يقول شيئًا، لعله يريد أن يسخر مني. عرفت أنه سيهجوني أنا ويمتدحهم هم. يقول هناك شيء ماكر في الكذب.
الماكرون وحدهم من صنعوا التاريخ،
أما الصدق؟ إن الصدق للخراف. امتعض وجهي، ولكني لم أكن خروفًا ولم أكن مخدوعة.
آهه، مكيافيلي أيها النفعي الأحمق، أنا أعرف أكثر منك ما الذي يتطلبه هذا العالم. أطفأت سيجارتي بضجر وأنا أفكر حينها بإنهاء هذا المونولوج.
أولئك الماكرون المخادعون. أين هم الآن؟ أين قصورهم وأين هي مؤمراتهم؟ لقد عبر التاريخ فوقهم جميعًا، طمس اسمائهم، تم نفيهم إلى بقاع العدم السرمدية، وبقيت كلماتك أنت يا مكيافيلي. نعم، بقيت. لأن فيها شيئًا من الحقيقة. الحقيقة التي قلتها أنت. يا للمفارقة، لقد أصحبت صادقًا رغمًا عنك.
"الصدق ليس للخراف، مكيافيلي" همست وأنا أخذ نفسًا عميقًا لإنعاش رئتي "بل لمن يجرؤ على حمله حتى النهاية."
لم أكن أدخن من قبل. ولكني صرت أدخنها مؤخرًا كلما شعرت بأن هذا القلق يفيض عن احتمالي.
أفكر... فكرت كثيرًا، في كل شيء. حتى في اللاشيء. في مستقبلي ككاتبة. هل هذا ما أريده؟ أم أنني فقط لدي ما أقوله. أشعر ببعض القلق، لو عرفت أمي أنني أصبحت أدخن ستصاب بخيبة أمل كبيرة، لا أخشى خذلانها. ولكني أكره أن أكون سببًا في تعاستها حتى ولو قليلاً.
ربما أريد أن أكون كاتبة لأنني أشعر أن هنالك شيء يصرخ في داخلي. بل هنالك أشياء كثيرة في رأسي ترفض أن تموت بصمت. تطالب بكل عنفوان أن تسرد، أن تقال، أن تُحكى، حتى ولو لجدار غرفتي أو لقطتي الصغيرة. لكن، ماذا بعد؟ الشهرة لست أريدها. لا أحبها ولا حتى بمختلف تمظهراتها الباهتة. تشعرني بالغثيان. سيعرفني كثير من الأشخاص الذين لم أقابلهم قط. سيتحدثون بلغتي. سيضعون أفكارهم في فمي كما فعلوا مع نيتشه أو سبينوزا، فأصبح اسمًا مجردًا ضمن كلمات لم أنطقها، وآراء لم أتبنها.
ولكن مهلاً، لماذا لم أقابل من قبل شخصًا نبيلًا وصادقًا بحق. لماذا يهوى الناس الكذب والتملق والتزييف؟ لعلي أبالغ في صدقي، هل أكون خاطئة إن كنت صادقة أكثر مما ينبغي؟ لا، أنا لست الطرف المخطىء هنا. بل العالم. هذا العالم المريض الذي يبتسم لك بينما يدس خنجرًا حادًا في يده.
خطر ميكافيلي في ذهني حينها، يريد أن يقول شيئًا، لعله يريد أن يسخر مني. عرفت أنه سيهجوني أنا ويمتدحهم هم. يقول هناك شيء ماكر في الكذب.
الماكرون وحدهم من صنعوا التاريخ،
أما الصدق؟ إن الصدق للخراف. امتعض وجهي، ولكني لم أكن خروفًا ولم أكن مخدوعة.
آهه، مكيافيلي أيها النفعي الأحمق، أنا أعرف أكثر منك ما الذي يتطلبه هذا العالم. أطفأت سيجارتي بضجر وأنا أفكر حينها بإنهاء هذا المونولوج.
أولئك الماكرون المخادعون. أين هم الآن؟ أين قصورهم وأين هي مؤمراتهم؟ لقد عبر التاريخ فوقهم جميعًا، طمس اسمائهم، تم نفيهم إلى بقاع العدم السرمدية، وبقيت كلماتك أنت يا مكيافيلي. نعم، بقيت. لأن فيها شيئًا من الحقيقة. الحقيقة التي قلتها أنت. يا للمفارقة، لقد أصحبت صادقًا رغمًا عنك.
"الصدق ليس للخراف، مكيافيلي" همست وأنا أخذ نفسًا عميقًا لإنعاش رئتي "بل لمن يجرؤ على حمله حتى النهاية."
ولكن أيها الطبيب الأحمق، تسألني: ما الخطب؟
وما أدراني؟ أنا امرأة تجيد الترتيب. ولو كنت أدري لرتبت فورًا تلك الفوضى التي تموج داخل رأسي و لوضعت لها حدودًا كما تضع المدن حدودها.
أنظر حولي: إن الناس يمشون، يتكلمون، يأكلون، ينامون، يلهون، كما لو أن الأمور تسير وفق منطق واضح ومحدد، كما لو أن العالم ليس مجرد فوضى كبرى متنكرة بسذاجة في هيئة نظام هش.
قلبي يؤلمني ورأسي يدق طوال الوقت، أسوأ مافي الأمر أنني أعرف الحقيقة، ومع ذلك، لا أستطيع إلا أن أعيش كما لو أنني لم
أعرفها.
أسمع ضجيج أفكاري، طنين، يشبه طنين نحلة محاصرة داخل زجاجة، لا مخرج لها، أهذا ما تريد سماعه؟ أنني أشعر… أشعر أنني زنزانة أيها الطبيب، أعيش داخل جسدي وكأنه قبر مفتوح. أنني, رغم محاولاتي الجامحة لترتيب الأشياء أعلم يقينًا أنني هنا في الداخل، أتحلل وأذوب ببطء، وأن هذا التنميق ليس إلا ستارًا هشًا أمام تلك الفوضى التي تزحف نحوي.
لكن لا تقلق، سأجيبك أيها الطبيب الساذج على سؤالك الصعب هذا. سأجيبك حتمًا كالفتاة المهذبة التي اعتدت عليها: لا شيء، لا شيء على الإطلاق.
وما أدراني؟ أنا امرأة تجيد الترتيب. ولو كنت أدري لرتبت فورًا تلك الفوضى التي تموج داخل رأسي و لوضعت لها حدودًا كما تضع المدن حدودها.
أنظر حولي: إن الناس يمشون، يتكلمون، يأكلون، ينامون، يلهون، كما لو أن الأمور تسير وفق منطق واضح ومحدد، كما لو أن العالم ليس مجرد فوضى كبرى متنكرة بسذاجة في هيئة نظام هش.
قلبي يؤلمني ورأسي يدق طوال الوقت، أسوأ مافي الأمر أنني أعرف الحقيقة، ومع ذلك، لا أستطيع إلا أن أعيش كما لو أنني لم
أعرفها.
أسمع ضجيج أفكاري، طنين، يشبه طنين نحلة محاصرة داخل زجاجة، لا مخرج لها، أهذا ما تريد سماعه؟ أنني أشعر… أشعر أنني زنزانة أيها الطبيب، أعيش داخل جسدي وكأنه قبر مفتوح. أنني, رغم محاولاتي الجامحة لترتيب الأشياء أعلم يقينًا أنني هنا في الداخل، أتحلل وأذوب ببطء، وأن هذا التنميق ليس إلا ستارًا هشًا أمام تلك الفوضى التي تزحف نحوي.
لكن لا تقلق، سأجيبك أيها الطبيب الساذج على سؤالك الصعب هذا. سأجيبك حتمًا كالفتاة المهذبة التي اعتدت عليها: لا شيء، لا شيء على الإطلاق.
لا شيء يتطلب الوحدة والعزلة بقدر ما تتطلبه القراءة، ومن الجلي أن هذه العزلة ليست قسرية وليست فارغة، بل على العكس إنها تشكّل امتلاءً ثقيلاً بما يفيض عن العالم. والقارئ، مثل الكاتب بحاجة إلى غرفة خاصة كما قالت فرجينيا وولف، وإلى فسحة من الصمت لأن الكلمات حينها تكتسب بُعدًا آخر؛ ووحده القارئ سيدرك أنه لا جنون في القول إن الكلمات تتحرر من الصفحة وتسبح في الفراغ من حوله.
أن تقرأ يعني أن تنفصل عن العالم دون أن تهجره حقًا. بالنسبة لي أنا شخصيًا، منحتني القراءة حياة ثانية، أو ربما حيوات لا متناهية، جردتني بكل براءة من المكان والزمان، وتركتني في حالة من التواجد والانعدام، من القرب والبعد عن كل شيء.
أن تقرأ يعني أن تنفصل عن العالم دون أن تهجره حقًا. بالنسبة لي أنا شخصيًا، منحتني القراءة حياة ثانية، أو ربما حيوات لا متناهية، جردتني بكل براءة من المكان والزمان، وتركتني في حالة من التواجد والانعدام، من القرب والبعد عن كل شيء.
أميطُ السِّتار قليلًا بيديَّ الباردتين، كأيادي الجثث، وأطلُّ من خلف النافذة وأحدق قليلاً في الأرجاء فأرى خمسة جنود يُمشِّطون الحيَّ مرةً أخرى، كانت خطواتهم المنتظمة تضرب الأرض كإيقاعِ نبضِ مريض يتردد في الهواء الكثيف، المغلف بالصمت. إنها الساعة الثالثة والنصف صباحًا، والعالم متخشب ومشدود كوترٍ مشرفٍ على الانقطاع، وكانت عيناي تأبيان الاستسلام للنعاس، رغم الإعياء الذي ينهش جسدي.
وقفت هناك، عند النافذة، بهيئتي المتعبة: عينان غائرتان، فمٌ مليء بالحديث، وأكتافٌ هابطة للأسفل.
يقول الناس إن الحرب على وشك أن تنتهي، وفور انتشار الخبر في الحي، فاحت رائحة احتفال مصطنع وكاذب. وكانت أمي هي الأخرى، قد صدّقت ذلك تمامًا، بل حتى إنها خرجت عشية البارحة وعادت محملة بأكياس الطحين والسكر، وقالت إنها ستخبز الكعك احتفالًا بهذه البشارة. ولكن أبي ظلَّ عابس الوجه، شارد الذهن، وكأن هذا الحدث لا يعنيه تمامًا. لم ينبس ببنت شفة لكن ملامحه المنقبضة كانت توحي بضجر شديد. أذكر أنه كان أكثر حماسة عندما كانت الحرب في أوجها، يقف في وسط المنزل، يسرد علينا أسماء القتلى وكأنه يروي فصولًا من حكايةٍ مروِّعة، حكاية اعتدناها حتى بات وقع الأسماء الجديدة يمرُّ على مسامعنا بلا رجفة، بلا حتى شعور بالأسى.
تزحزحت عن النافذة، وعدتُ إلى سريري الذي تناثرت فوقه الأوراق المبعثرة كأشلاء الجثث المجهولة الهوية المرمية على قارعة الطريق. أزحتُ بعضها جانبًا، ورقدت على ظهري، أحدِّق في السقف بعينين مثقلتين بالحزن.
لقد أخبرني أنه سيعود فور انتهاء الحرب، أو حتى قبل ذلك. كنت أعضُّ على شفتي وأصكُّ أسناني ببعضها في كل مرة يعلن فيها أبي قائمة موتى اليوم، ثم أتنهد بعمق عندما لا يُذكر اسمه. أحيانًا كان الخوف يلتهمني حتى أشعر بأنني على وشك أن أفقد صوابي، حتى إنني تمنيتُ للحظة أن أسمع اسمه فقط كي أتحرر من هذه الدوامة التي لا تنتهي.
لم تصلني منه رسالة واحدة منذ عشرة أشهر. وحين سألتُ أحد العائدين من الحدود، أخبروني أنه أُرسل نحو الشرق، ومنذ ذلك الحين لم يسمع أحدٌ عنه شيئًا. الشرق… يا إلهي! لقد ابتلعه الشرق اللعين، ابتلعته تلك الأرض المجهولة التي لا تُعيد من يأوون إليها.
قطع حبل أفكاري صوتُ طرقٍ خفيف، لكنه واضح، فقفزتُ من مكاني، وتيار كهربائي بارد مرَّ في عمودي الفقري. لحظةُ تردد قصيرة شلَّت أطرافي، قبل أن أندفع نحو الباب بعجلة. مدت يدي المرتعشة نحو المقبض، لكنني لم أجرؤ على فتحه فورًا. أما في الخارج، فقد كان الصمت كثيفًا، له فمًا مفتوحًا على اتساعه، على وشك ابتلاعي.
تنهدتُ ببطء، ثم دفعتُ الباب. نظرت بترقب وتدفق الدم إلى رأسي بكثافة، ولكن لم يكن يوجد أي أحد في الخارج، كان الممر فارغًا.
تنهدتُ مرة أخرى وعدتُ أدراجي، كانت أنفاسي متلاحقة، وقلبي يدقُّ بجنون. جلستُ على حافة السرير، أراقب الظلال الطويلة التي ترقص على الجدران بفعل ضوء المصباح الخافت القادم من الخارج.
ثم لاحظتُ ذلك. النافذة التي كنتُ أقف عندها قبل قليل… كانت مفتوحة.
لم أفتحها. لا أذكر أنني فعلت. اقتربت بحذر، حدَّقت في الشارع. كان الجنود قد ابتعدوا، والمكان ساكنًا كما كان. كل شيء ثابت كما كان.
لكن شيئًا ما تغيّر، شيء ما تغيّر في هذا العالم خلال هذه الثواني. عند الزاوية، على الأرض الرطبة، كانت هناك آثارُ أقدام جديدة.
وقفت هناك، عند النافذة، بهيئتي المتعبة: عينان غائرتان، فمٌ مليء بالحديث، وأكتافٌ هابطة للأسفل.
يقول الناس إن الحرب على وشك أن تنتهي، وفور انتشار الخبر في الحي، فاحت رائحة احتفال مصطنع وكاذب. وكانت أمي هي الأخرى، قد صدّقت ذلك تمامًا، بل حتى إنها خرجت عشية البارحة وعادت محملة بأكياس الطحين والسكر، وقالت إنها ستخبز الكعك احتفالًا بهذه البشارة. ولكن أبي ظلَّ عابس الوجه، شارد الذهن، وكأن هذا الحدث لا يعنيه تمامًا. لم ينبس ببنت شفة لكن ملامحه المنقبضة كانت توحي بضجر شديد. أذكر أنه كان أكثر حماسة عندما كانت الحرب في أوجها، يقف في وسط المنزل، يسرد علينا أسماء القتلى وكأنه يروي فصولًا من حكايةٍ مروِّعة، حكاية اعتدناها حتى بات وقع الأسماء الجديدة يمرُّ على مسامعنا بلا رجفة، بلا حتى شعور بالأسى.
تزحزحت عن النافذة، وعدتُ إلى سريري الذي تناثرت فوقه الأوراق المبعثرة كأشلاء الجثث المجهولة الهوية المرمية على قارعة الطريق. أزحتُ بعضها جانبًا، ورقدت على ظهري، أحدِّق في السقف بعينين مثقلتين بالحزن.
لقد أخبرني أنه سيعود فور انتهاء الحرب، أو حتى قبل ذلك. كنت أعضُّ على شفتي وأصكُّ أسناني ببعضها في كل مرة يعلن فيها أبي قائمة موتى اليوم، ثم أتنهد بعمق عندما لا يُذكر اسمه. أحيانًا كان الخوف يلتهمني حتى أشعر بأنني على وشك أن أفقد صوابي، حتى إنني تمنيتُ للحظة أن أسمع اسمه فقط كي أتحرر من هذه الدوامة التي لا تنتهي.
لم تصلني منه رسالة واحدة منذ عشرة أشهر. وحين سألتُ أحد العائدين من الحدود، أخبروني أنه أُرسل نحو الشرق، ومنذ ذلك الحين لم يسمع أحدٌ عنه شيئًا. الشرق… يا إلهي! لقد ابتلعه الشرق اللعين، ابتلعته تلك الأرض المجهولة التي لا تُعيد من يأوون إليها.
قطع حبل أفكاري صوتُ طرقٍ خفيف، لكنه واضح، فقفزتُ من مكاني، وتيار كهربائي بارد مرَّ في عمودي الفقري. لحظةُ تردد قصيرة شلَّت أطرافي، قبل أن أندفع نحو الباب بعجلة. مدت يدي المرتعشة نحو المقبض، لكنني لم أجرؤ على فتحه فورًا. أما في الخارج، فقد كان الصمت كثيفًا، له فمًا مفتوحًا على اتساعه، على وشك ابتلاعي.
تنهدتُ ببطء، ثم دفعتُ الباب. نظرت بترقب وتدفق الدم إلى رأسي بكثافة، ولكن لم يكن يوجد أي أحد في الخارج، كان الممر فارغًا.
تنهدتُ مرة أخرى وعدتُ أدراجي، كانت أنفاسي متلاحقة، وقلبي يدقُّ بجنون. جلستُ على حافة السرير، أراقب الظلال الطويلة التي ترقص على الجدران بفعل ضوء المصباح الخافت القادم من الخارج.
ثم لاحظتُ ذلك. النافذة التي كنتُ أقف عندها قبل قليل… كانت مفتوحة.
لم أفتحها. لا أذكر أنني فعلت. اقتربت بحذر، حدَّقت في الشارع. كان الجنود قد ابتعدوا، والمكان ساكنًا كما كان. كل شيء ثابت كما كان.
لكن شيئًا ما تغيّر، شيء ما تغيّر في هذا العالم خلال هذه الثواني. عند الزاوية، على الأرض الرطبة، كانت هناك آثارُ أقدام جديدة.
Rivey
أميطُ السِّتار قليلًا بيديَّ الباردتين، كأيادي الجثث، وأطلُّ من خلف النافذة وأحدق قليلاً في الأرجاء فأرى خمسة جنود يُمشِّطون الحيَّ مرةً أخرى، كانت خطواتهم المنتظمة تضرب الأرض كإيقاعِ نبضِ مريض يتردد في الهواء الكثيف، المغلف بالصمت. إنها الساعة الثالثة والنصف…
قصة قصيرة، ورغم أن القصة مليئة بالرموز وسأترك التحليل لكم ولكن حابه أشرح حاجه وحده وهي الأب هنا
هو ليس مجرد شخصية ثانوية ، بل هو تجسيد لآلة باردة تكرر ذاتها بلا توقف كما تفعل وسائل الإعلام عندما تحول الموت إلى 'أرقام'، والألم إلى خبر عاجل. الأب هو بمثابة الصوت الذي فقد معناه لكثرة تكراره، هو الوجه الذي لم يعد يعكس أي إحساس لأنه اعتاد رؤية الخراب دون أن يطرف له جفن. وفي عالم تُستهلك فيه الكوارث كما يُستهلك أي منتج آخر، يصبح وقع الفاجعة مجرد خلفية باهتة للحياة اليومية. اسمحوا لي ولكن هذا هو الواقع، واقع لا يحتاج إلى تأويل، لأنه يتجلى أمامي بوضوح، في كل شاشة، في كل عنوان، في كل نظرة لامبالية تمر على المأساة كما يمر المرء على إعلان مكرر.
هو ليس مجرد شخصية ثانوية ، بل هو تجسيد لآلة باردة تكرر ذاتها بلا توقف كما تفعل وسائل الإعلام عندما تحول الموت إلى 'أرقام'، والألم إلى خبر عاجل. الأب هو بمثابة الصوت الذي فقد معناه لكثرة تكراره، هو الوجه الذي لم يعد يعكس أي إحساس لأنه اعتاد رؤية الخراب دون أن يطرف له جفن. وفي عالم تُستهلك فيه الكوارث كما يُستهلك أي منتج آخر، يصبح وقع الفاجعة مجرد خلفية باهتة للحياة اليومية. اسمحوا لي ولكن هذا هو الواقع، واقع لا يحتاج إلى تأويل، لأنه يتجلى أمامي بوضوح، في كل شاشة، في كل عنوان، في كل نظرة لامبالية تمر على المأساة كما يمر المرء على إعلان مكرر.
ولكني هنا أتشاطر معكِ الألم، قلت للسيدة التي في المرآة. يكون الوجع أقل لوعة عندما يكون هناك شخص آخر في المشهد، نحن امرأتان وهذا الجرح واحد. كررت بتأنٍ
حاولت أن أبلع بعضًا من تلك العبرات التي كانت تجثم على فمي "غير أن كلانا يعترينا الخوف” تحدثت المرأة في المرآة أخيرًا، تبرمت وبدت لي كأنها لا ترغب في لعب الدور الذي كلفتها به. رغبت حينها بالبكاء، ولكنها بكت قبلي وتنهدت كثيرًا، ثم خلعت العقد، “إنه يخنقني، لا أريده” شكت بتوجس.
ابتلعت ريقي ورغبة عارمة بالصياح انتابتني. أردت أن أوبخها وأدينها، لكن شيئًا فيّ كان يعرف أنه يجب عليّ استمالتها قدر المستطاع. كانت ناضجة للغاية، ولكن في تلك اللحظة قد تهالكت أبعاد الزمان عندها وظهرت وكأنها قد عادت إلى أيام طفولتها، تلك الأيام التي لم تكن تعرف كيف تواجه فيها الألم.
مددت يدي بحذر، وسرت نحوها بقلق أقرب المسافة بيننا. العقود الضيقة تناسبك أكثر، شرحت وأنا أقرب أصابعي نحو عنقها وتوقفت عندما انتفضت من حركة يدي المفاجئة. تنهدت بتعب وكأن الألم يتسرب من أطراف أصابعي، كما لو أنني أقدم جزءًا مني في سبيل أن أخفف من وطأتها لعلي أريحها.
سأعطيك الجزء الصغير منه، سأخذ أنا الجزء الأكبر. جلدي غليظ يتحمل الألم. أفهم أنك لا ذنب لك في كل ذلك لكن يجب عليك مساعدتي، حاولت طمأنتها وأنا أعتصر يدي نحوها. نظرت إليها بتجهم.
ورأيتها من تحت أهدابي، تتراجع، وترفض كل شيء بشراسة. بادلتني النظر بعينيها الجاحظتين، تبحث عن شيء فيّ، شيء يشبهها، أو ربما شيء يشبه الفراغ الذي يملأنا. أو هذا الصمت الذي يتدفق بيننا.
يا له من صمتٌ ثقيل يصعب تحريكه، لم أجرؤ على التحدث، كلانا تعرف أن هذا الجرح الذي نتبادل حمله سيظل ينمو، وسنبقى قابعتين بصدورنا العارية تحت رحمته.
ولكني، أدرك شيئًا، بسيطًا، وتمنيت أن تفهمه هي دون أن أخبرها. لا يوجد شيء مشترك بيننا سوى هذا الألم الذي أصر على تقاسمه، وكلما اقتربنا منه، ابتعدنا عن أنفسنا أكثر. وأصبح هذا الألم، الذي لا نجرؤ على التخلص منه، هو الرابط الوحيد بيننا وبين العالم.
حاولت أن أبلع بعضًا من تلك العبرات التي كانت تجثم على فمي "غير أن كلانا يعترينا الخوف” تحدثت المرأة في المرآة أخيرًا، تبرمت وبدت لي كأنها لا ترغب في لعب الدور الذي كلفتها به. رغبت حينها بالبكاء، ولكنها بكت قبلي وتنهدت كثيرًا، ثم خلعت العقد، “إنه يخنقني، لا أريده” شكت بتوجس.
ابتلعت ريقي ورغبة عارمة بالصياح انتابتني. أردت أن أوبخها وأدينها، لكن شيئًا فيّ كان يعرف أنه يجب عليّ استمالتها قدر المستطاع. كانت ناضجة للغاية، ولكن في تلك اللحظة قد تهالكت أبعاد الزمان عندها وظهرت وكأنها قد عادت إلى أيام طفولتها، تلك الأيام التي لم تكن تعرف كيف تواجه فيها الألم.
مددت يدي بحذر، وسرت نحوها بقلق أقرب المسافة بيننا. العقود الضيقة تناسبك أكثر، شرحت وأنا أقرب أصابعي نحو عنقها وتوقفت عندما انتفضت من حركة يدي المفاجئة. تنهدت بتعب وكأن الألم يتسرب من أطراف أصابعي، كما لو أنني أقدم جزءًا مني في سبيل أن أخفف من وطأتها لعلي أريحها.
سأعطيك الجزء الصغير منه، سأخذ أنا الجزء الأكبر. جلدي غليظ يتحمل الألم. أفهم أنك لا ذنب لك في كل ذلك لكن يجب عليك مساعدتي، حاولت طمأنتها وأنا أعتصر يدي نحوها. نظرت إليها بتجهم.
ورأيتها من تحت أهدابي، تتراجع، وترفض كل شيء بشراسة. بادلتني النظر بعينيها الجاحظتين، تبحث عن شيء فيّ، شيء يشبهها، أو ربما شيء يشبه الفراغ الذي يملأنا. أو هذا الصمت الذي يتدفق بيننا.
يا له من صمتٌ ثقيل يصعب تحريكه، لم أجرؤ على التحدث، كلانا تعرف أن هذا الجرح الذي نتبادل حمله سيظل ينمو، وسنبقى قابعتين بصدورنا العارية تحت رحمته.
ولكني، أدرك شيئًا، بسيطًا، وتمنيت أن تفهمه هي دون أن أخبرها. لا يوجد شيء مشترك بيننا سوى هذا الألم الذي أصر على تقاسمه، وكلما اقتربنا منه، ابتعدنا عن أنفسنا أكثر. وأصبح هذا الألم، الذي لا نجرؤ على التخلص منه، هو الرابط الوحيد بيننا وبين العالم.
أنتِ شرسة…. كالنمور، هذا ما همست لي به أمي، وهي ترفع عينيها عن حافة مجلى الغسيل وراحت تحدق فيّ بشي من الأسى. صوتها عطوف هامس كما هو ولكنه مكسور كصوت الزجاج حين يسحق تحت الأقدام.
أحيانًا كثيرة أكاد أجزم بأنني وُلدت بفم مليء بالشوك. أنزف كما الأشجار كلما حاولت أن أتحدث عن نفسي. وكلما حاولت أن أهدأ وأصمت كانت أنيابي تكبر. فتشعر أمي بتلك الحمى السقيمة التي تأكلني. تمد يدها وتلمس وجهي كما لو أنها تلمس قناعًا، كانت خائفة أن تسقطه يدها فترى ما يختبئ تحته. تقول لي بشيء من الوجل :”كوني لينة كما الماء.” لكنني كما النار. أحرق ملاءتي، أحرق دفاتري، أحرق فتاوي الصبر والطاعة، أحرق حتى أفكاري وأسماء الفصول التي لا تحتضن الثورة.
النساء في عائلتي يخبئن صراخهن في أدراج المطبخ، في فناجين الشاي والقهوة، في صحون الملامين المزركشة ونشرات الأخبار وتحت مفارش الكتان المزخرفة. أما أنا، فأخيط الصراخ على أكمامي وأغزل التمرد في جديلتي.
وكل ليلة، حين تنام أمي أتحول إلى شيء آخر لا استطيع تعريفه، طائر بلا منقار. أنثى بلا مهد. نجمة تحترق في سماء ليلة مظلمة. وبمخالب نازفة أنقش اسمي على الجدران القديمة، أفتش عن وجهي، عن ظل يشبهني، وأتدرع بشراسة النمور لأنها الشيء الوحيد الذي قد ينقذني من أن لا أُمحى.
أحيانًا كثيرة أكاد أجزم بأنني وُلدت بفم مليء بالشوك. أنزف كما الأشجار كلما حاولت أن أتحدث عن نفسي. وكلما حاولت أن أهدأ وأصمت كانت أنيابي تكبر. فتشعر أمي بتلك الحمى السقيمة التي تأكلني. تمد يدها وتلمس وجهي كما لو أنها تلمس قناعًا، كانت خائفة أن تسقطه يدها فترى ما يختبئ تحته. تقول لي بشيء من الوجل :”كوني لينة كما الماء.” لكنني كما النار. أحرق ملاءتي، أحرق دفاتري، أحرق فتاوي الصبر والطاعة، أحرق حتى أفكاري وأسماء الفصول التي لا تحتضن الثورة.
النساء في عائلتي يخبئن صراخهن في أدراج المطبخ، في فناجين الشاي والقهوة، في صحون الملامين المزركشة ونشرات الأخبار وتحت مفارش الكتان المزخرفة. أما أنا، فأخيط الصراخ على أكمامي وأغزل التمرد في جديلتي.
وكل ليلة، حين تنام أمي أتحول إلى شيء آخر لا استطيع تعريفه، طائر بلا منقار. أنثى بلا مهد. نجمة تحترق في سماء ليلة مظلمة. وبمخالب نازفة أنقش اسمي على الجدران القديمة، أفتش عن وجهي، عن ظل يشبهني، وأتدرع بشراسة النمور لأنها الشيء الوحيد الذي قد ينقذني من أن لا أُمحى.