Telegram Web Link
قد تُعاني من ليالي السُهاد ما يُثير غيرة أكبر المُعذبين في الأرض، إلا أن لا أحد سوف يُصدقك ما لم يبدو أثرها ظاهراً على ملامحك، في غياب الشهود لا تملك إلا أن تستمر في لعب دور الكاذب و في التمثيل كذلك لا يسعك إلا حبّك الدور والتعايش معه أفضل من أيّاً كان، إلى أن تُصبح أنتَ نفسك شريكاً للذين لا يُصدقون، وتنسى أنك أصلاً تعيش الكذبة والتمثيل واقعاً، هارباً من واقعك ومن مرارته بأي وسيلة مُمكنه حتى لو كانت كذباً، وفي لحظة تذكّر واحده تهدم كل ذلك ولا تنسى ويظهر ذلك عليك بأبشع الصور، ومن ثم تعود الى وهمك وتمثيلك وتكون غارقاً فيه حتى تُداهمك لحظة تذكّر أُخرى، وتقتلك مرةً أخرى، وتموت موتت البطل ألف مرة، وتُعيد الكرة ألف مرة، في أداء أوسكاري لا يعلمه أحداً غيرك .
مواطن فرادة الإنسان ليست بالضرورة خارقة ومدهشة، وعلى العكس لو تأمل الإنسان في نفسه لوجد أن مكمن سحره لا يتعدى كونه هو، ببساطته، وعفويته، وعاديته، التي تجعل منه مزيجاً نادراً قد يُصادف أن تتشابه بعض من تفاصيله مع غيره، لكنه يبقى بهذا التجمّع الدافئ لتلك الصفات فريداً ولا يُشبه أحداً .
أنا يا صديقي أقع بين عالمين، أستطيع أن أنعجن بقصص الناس وأذوب في حواراتهم دون أن يأخذ ذلك شيئاً من روحي، لكنني أحتاج بعد ذلك أن ألتقي بي فيما وراء العالم، حيث أفهم من أنا من جديد بعد مرور كل هؤلاء الأشخاص، أنا الإجتماعي الأكثر عزلة، الواحد بين الناس، الكثير في نفسه .
كُلّما حاولتُ أن أتخلّى عن حَذري
أعودُ إليه كمن يعودُ إلى بيته .
لقد كبرت وحدتي، لا شيء يُمكنه أن يُرعبها .
يظن أحدنا أنهُ حُر في محيطه البسيط، واختياراته العشوائية، ويمضي في حياته مُوقناً أنه سيّد ما يملكه ويُعلنه من أفكار ومواقف ووجهات نظر، رُغم أن معظمها يأتي من تبعية نفسية ما، ولو أنه يُخضع هذه الحياة لإختبار بسيط من التمدد بأي اتجاه، ستُريعه متانة القيود اللامرئية التي لا قانون مكتوب لها، ولكنها تُحرك حياته واختياراته وحتى آراءه التي يظنها ملكاً خالصاً له، وأنا حين أُفكر في هذا، أُدرك ثقل هذا الإدراك، أنني أنا أيضاً رُبما أتبع أيدولوجيةً ما لم تحصل على اسمها بعد، أن كل شيء ظننته نابعاً من فردانيتي كإنسان هو في النهاية حصيلة فكر تُسيرها منظومة العالم الكبير، أنني ربما أنا أيضاً بيدق عشوائي في رقعة الشطرنج العملاقة، تُحركها مجموعة لا تُحصى من القيود والأيديولوجيات التي لا تُرى، وربما يحتاج المرء أحياناً إلى أن يركض إلى اتجاه جديد أو مسافة أبعد حتى يدرك إذا كان هذا المحيط هو كل شيء، وليختبر إذا ما كانت قدرات الإنسان المُتفق عليها بشكل تاريخي حقيقية ودقيقة، مثلاً أن هذه هي أقصى سرعة يمكن أن يصل إليها أحد، أننا محكومون بالعطب في أجسادنا، أننا نمشي ونسبح ولا يُمكن أن نطير، أُشكك كل يوم في هذهِ الأشياء البديهية، لا لشيء ولكن أخاف أنّ الأشياء البديهية صارت بديهية من كثرة إملائها عليّ، أن هناك أغواراً أعمق لتُسبَر، وأنني لو ركضت شمالاً بإتجاه المستحيل لعرفت أن هناك احتمالات شاسعة لم يعرفها إنسان قط، لربما هناك لا مستحيل لم نُدركه لأننا نعيش وفق هذه الدائرة، لربما الحياة أكثر من دوائر ومربعات، وهذا يفسّر الغرابة التي يشعر بها كثيرون، الذين ما إن يتحلّى أحدهم ببعض الشجاعة حتى يُثبت أحقيته في قيادة هذا العالم إلى إحتمالٍ جديد و مُبهر .
أنا كل شيء من اللاشيء، أقف فوق سكة قطار لن يأتي، ووسط أغنية عالقة منذ الطفولة، أجلس فوق عشب اليأس، وأخذ استراحة من الإنتظار في مقهى القلق وأحتسي كوبًا من التفكير، أنا كل هذا، ولا تجري الأحداث عندي كباق العالم، فلا نزهة لديّ، ولا راحة، ولا أتجرّد لحظة واحدة من الخوف، أتفاخر بعقلانيتي وأنا أسبح يوميًا في حطام مشاعري، رُغم كل هذا أضعُ قلبي تحت وسادتي وأنام كل يوم على أمل انقشاع كل هذا .
قد كنتُ أتجنّب المحبة طوال حياتي، كُنت أعلم أن قلبي أكبر مني، و إنها لكارثة أن تكون شخصاً عاطفيًا ومنطقيًا في آن واحد، كلما قطعت نصف الطريق في عاطفةٍ ما صفعتني يد المنطق قائلة، عُد هذا الطريق ليس لك .
أصبحت أميل فقط لصحبة أولئك الذين يسمحون لي أن أكون من أنا، بكل ما أحمل من غرابة، وتعقيد، من يمنحوني مساحات آمنة أكون فيها ذاتي بلا تكلّف أو مبالغة أو تزييف، من ينصحون برفق إن أخطأت دون أن يعتلوا منصة الحكم على أفعالي .
كل اتكاء على جدار بشري، هو سقوط مُؤجل،
لذلك يُؤسفني إبلاغك، خفّف استنادك .
عبث الإدراك : لعنة رؤية النهايات .
يقول دوستويفسكي: "عادتي السيئة أنني دائمًا أرى نهاية الأشياء منذ بدايتها، ومع ذلك أُكمل الطريق حتى آخره لأتأكد من غبائي."
هناك فرق شاسع بين الجهل بالحتميات ومعرفتها مُسبقًا، بين أن يخدعك الطريق فتنزلق نحوه، وبين أن ترى نهايته منذ اللحظة الأولى، ورغم ذلك تمضي بإرادتك، هذا الإدراك المُسبق للنهايات ليس نعمة، بل لعنة ثقيله، تجعل كل تجربة أشبه بلعبة مكررة، حيث تُدرك مُسبقًا خسارتك، لكنك رغم ذلك تختار أن تلعب حتى النهاية، قد يُفسر هذا بالسذاجة، أو بغباءٍ نابع من رفض التعلّم، لكن الحقيقة أعمق وأكثر مأساوية : إنهُ شكل من أشكال التحدي النّفسي، حيث لا يكون الهدف تجنّب السقوط، بل معايشته بكل أبعاده، فالمعرفة وحدها مهما بلغت من وضوح، تظل ناقصة ما لم تتحول إلى تجربة ملموسة، وكأن الألم المُتوقع يُصبح ضرورة لإضفاء المعنى على التوقّع ذاته، في كل خطوة نقترب فيها من النهاية التي عرفناها منذ البداية، لا نُفاجأ، ولا نُدهش، بل نشهد تحقق النبوءة ببرودٍ ساخر، وكأننا نُعيد تمثيل مسرحية سبق أن شاهدناها عشرات المرات، ورغم ذلك هناك في العمق جزء منّا لا يزال يُراهن، ليس على النتيجة، بل على التجربة نفسها، على الألم كوسيلةٍ وحيدة لإضفاء الواقعية على الحياة، إنهُ غباء واعٍ، عبث مدروس، إختيار للمُضي لا لأننا نأمل، بل لأننا نُريد أن نتأكد أن الإدراك وحده لا يعصم الإنسان من السقوط، وأن بعض الدروس مهما بدت واضحة، لا تُفهم إلا بالسقوط فيها حتى آخرها .
لكل الناس نفس الخطأ ينتظرون أن يعيشوا، فليس لهم أن يكونوا شجعان في كل ثانية، لم لا يكشفون الكثير من الولع والحماسة ويجعلون من ذلك أبدية؟ فنحن كلنا، لا نتعلّم الحياة إلا عند اللحظة التي لم يعد لنا فيها ما ننتظره، كلما انتظرنا لا نستطيع تعلم أيّ شيء، ذلك إننا لا نُقيم في حاضر محسوس وحيوي، ولكن نُقيم في مستقبل متنائي، ومسخ، لا يجب أن ننتظر أي شيء، ما عدا الإيحاءات المستعجلة للحظة، لا ننتظر أي شيء سوى وعي الزمن خارج الحاضر، فهناك نقطة خلاص أبديّة لا يُشاهدها إلا من تمعّن بها من خلال هذا الوعي، و ذلك لأن الإنسان كائن يُحب الفوات ولا يعيش اللحظة .
لا تناقشني بعقلانية لما يكون الموضوع مزعلني، لأني أكون في صميم العاطفة، و أنت جالس ترتكب جريمة فادحة بحق قلبي، و أنا لا أرضى بالجرائم المُرتكبة في حق هذا القلب .
مؤشر نضوجك يبدأ بالصعود عندما ينهار مؤشر انبهارك الزائد بالأشخاص، حين يُصبح الجميع بعينك سواسيه، فكل من يُكرِم يُكرَم، ومن يُحسن فلنفسه، ومن يُسيء فلا حاجة إليه للأبد .
2025/07/09 17:57:33
Back to Top
HTML Embed Code: